تابعنا على

بنات أفكار

السويس .. رواية الحرب

نشرت

في

إذا كانت السويس هي هبة الجغرافيا، فإن التاريخ حرفتها؛ فقد حفرت بإزميل بسالتها وجسارتها علامات بارزة في تاريخ مصر الخالدة .

صالح السيد

بيد أن الرواية تتسمّع هسيس الجغرافيا، و تبتعث روح التاريخ؛ إنها تستحضر في ديمومة حية: الأماكن والأشياء، الأشخاص والأحداث، الواقع والأسطورة، الحلم والحقيقة، انسراحات النماء وسكنات العدم، إرهاصات الصمت ونُذر الضجيج .. هي إبداع شجاعة، تعبر عن الوجود بالإبداع وهو ما يُكمّل هذا الوجود، فليست مجرد حكاية في زمن ما؛ إنها الحياة بقيمها المتجددة والمتنوعة.

تتبدى السويس – مدينة الحرب – في روايتيْ “الرجل والموت” للروائي محمد الراوي، و “الموت يضيء المدينة” للروائي علي المنجي، مكاناً يثير الترقب بصورة كاملة: حالات من الخوف والفزع وابتهالات من الأمل والرجاء، و صبوات من الشجاعة والتضحية. و تقوم العناصر الروائية  بصورة جوهرية على هذه الانقلابات، وعلى تلك الانفعالات الصارخة، وتستند إلى هذا التوتر الذي يتجه إلى غاية معينة.

إن مشاهد الروايتين على تنوعاتها واختلافاتها تتجاوز كيان حاضر مرئي، إلى عالم واقع ثقيل: سماء تمطر الموت، أرض تحصد الأرواح، صرخة الدمار والفناء، غريزة البطش وسفك الدماء، بشر يفرّون الى النجاة في جوف المخابئ، وآخرون يعتصمون بالشهادة في انتظار الأعداء، يتساقطون في كبرياء العاشق لقلب المدينة، أو يرسمون علامة النصر في الفصل الأخير .

تنبني عتبة العنوان علي نوع من المراوغة أو المفارقة الفنية، فبينما يتأجج الصراع بين الوجود / العدم، الإرادة / العجز، الحياة / الدمار في رواية “الرجل والموت”، يعيد العنوان “الموت يضيء المدينة”  ترتيب المعادلة على نحو مخالف؛ إذ يتحول الموت / الفداء / الشهادة إلي الزيت المقدس الذي يوقد ظلام المدينة بالحياة والإشراق . 

يتسم الخطاب الروائي في الروايتين بالاشتغال على “القصة المحكمة البناء” – والتي تستمد مرجعيتها من أحداث تاريخية وهي معارك أبناء السويس لصد هجوم الجيش الإسرائيلي قبل وأثناء وبعد 24 أكتوبر من العام 73 ،- ولذا يتصف السرد أيضا بالإحكام وينبني علي الخطّية، ويظهر الحضور الطاغي للراوي، الذي يوجه دفة السرد، ويصف وينقل خطاب الشخصيات في أغلب المرات التي تتوارى فيها المشاهد أو يغيب العرض بين الشخصيات، وهو إلى جانب ذلك يستأثر بالسرد والمعرفة، إنه يروي من منظوره الخاص لأنه سيد العالم السردي الذي يمتلك كل مفاتيحه وأسراره.    

 وتتباين علاقة السارد  بالفضاء المكاني من خلال: إمّا التصور الكلي للفضاء المكاني حيث يقوم برصد حركة المكان وهي حركة دائرية مسوّرة، حيث يتحكم المكان في حركة السرد فلا خروج بالأحداث عن المكان – المدينة – أو من خلال  التصور التفصيلي وفيه يركّز السارد علي المفردات الخاصة برؤية المكان وما تمثّله كل مفردة على حدة، وما يمكن أن تعطيه، يضاف إلي ذلك التصور الخاص بالمجاز السردي وفيه يعتمد السارد علي منظوره الخاص متضافرًا مع منظور المكان، ومنظور الصورة الشعرية التي يمكن رصدها بلاغيًا وتعمل هذه المنظورات مجتمعة علي وضع حيز بصري نفسي يتضافر مع الحيز الذي تصنعه اللغة .(4 )

وكما يسهم المكان في توجيه علاقات الحدث السردي، فإن السارد يعمد إلي حركة توسع في المكان (الشوارع – الطرقات – الميادين)، وفي المقابل هناك حركة عكسية ( تكثف ) داخل المكان الرئيس من خلال وحدات صغيرة  (البيت – المستشفى – الخندق- المقهى – قسم الأربعين) .  

1 – رواية ” الرجل والموت “:

 يعمد السارد إلي الوصف الظاهراتي الذي لا يزودنا بمعرفة وضعية للأشياء فحسب، بل يبين كيف يدرك الإنسان العالم حسياً وكيف يعرفه، في بنية نصية – تمثل إدانة للحرب – تشير إلى مشهد خرابي يولّد إحساساً عارما ً بالانهيار والسقوط والموات، كل شئ يسير إلى موت حقيقي جارف، المكان تحول إلي مقبرة كبيرة :  

عيون مفتوحة الأشداق، تضحك تصرخ، وجوه منقبضة متقلّصة منتفخة العيون، تبكي تتألم، أذرع ممدودة، أصابع متشنجة، قطع من الحجارة ملوّثة بلون الدم القاني، بقايا أبواب ونوافذ ودواليب وحقائب وشظايا زجاجات وأكواب، أحذية قديمة، صحف قديمة، تواريخ قديمة، كراسات مدرسية ممزقة وثياب بهتت ألوانها ” .

ومع تعرض المدينة للدمار والتخريب ،وهجرة أبنائها قسراً – بعد هزيمة 67- إلى مختلف  ربوع مصر ،بات المكان فراغاً مجرداً مما هو إنساني ،وهنا يمارس الراوي لعبة التبديل / الإحلال ،فتظهر الكلاب – السكان الجدد – جماعات زاحفة متحركة في أرجاء المكان، وربما تعكس هذه الحيوانات دلالة رمزية أيضا، إذ إن العلاقة العضوية مع هذا العالم تعتمد على حاسة الشم التي تمثلها الكلاب :    

تنطلق أصوات الكلاب من الدروب الجانبية، أحيانا تزحف إلى الخارج فأرى رؤوسها بارزة من تقاطعات الشوارع الجانبية من الشارع الرئيسي، تتجمع حول المخابئ القديمة المهجورة، والتجاويف المحفورة في الأنقاض، تختفي بسرعة حينما تشعر بالخطر، تتشمم الهواء ثم تقترب مني، تبحث عن طعامها، وإن كنت أعلم جيدا بأن لها مخابئ سرية تحتفظ فيها ببقايا جثث لم تكتشف بعد . ” 

لا يقف السارد  عند نموذج تشكيلي واحد حيث نشهد  هذا التنوع في رؤية المكان فتنعكس حالة  القلق، العزلة، التهديد، الانفصام، الانقسام ، الباطني / الغامض والمادي/ المكشوف، بين السارد والمكان بفعل لعنة الحرب :     

أمد بصري على طول الشارع الذي أصبح قليل المنازل وقد تعرى من الظلال، فلا أجد أحداً يناديني أو يعبر بي، هياكل البيوت المنهارة تتوالى علي جانبي الشارع، مهجورة، موحشة، بداية الشارع تتفرع من الميدان الكبير الذي لا يبدو من مكاني نهايته، لا استطيع الاقتراب منها، فعند تجاوز الانحناء الاخير ربما تواجهني طلقة رصاص واحدة تلقيني كالجوال في وسط الطريق” .

 لم يقدّم الراوي وصفاً لمعارك كبيرة، إنما يصف معركة صغيرة في إشارة إلى جيوب المقاومة التي تنتشر في  أرجاء المدينة  وهي بين طرفين: الراوي المشارك وصديقاه “زكريا” و”إسماعيل”، ضد أربعة من الجنود الإسرائيليين في دهليز أحد البيوت،  ويتميز السارد بدقة الوصف وقوته وتركيزه، ويفيد من تقانة الكاميرا فكل شيء مصور أثناء الحركة، ومن مختلف الزوايا، مع تركيز نوعي على سرعة الحركة، وحالة الخوف والاضطراب وروح الفتك والافتراس التي تعتمل في صدور الشخصيات :  

في حركة واحدة قمنا من أماكننا وقفزنا عليهم، إن لم نفعل فسوف يفعلون هم، لم أعد أشعر أو أسمع إلاّ هدير الدم في عروقي، اهتزت جدران الدهليز من ثقل الأجساد المندفعة المتضاربة، من اصطدام الأيدي ببعضها البعض ومن ارتطام الحديد باللحم والعظم، اختلطت الأقدام بالأقدام، والأذرع بالأذرع، ولم تعد هناك مسافة لتمتد فيها ماسورة السلاح لتطلق الرصاص، التمعت نصال السكاكين والخناجر والسناكي، تخرج من أماكنها لتغوص ثانية من خلال الملابس في ثنايا اللحم فتصطدم بالعظم، تمتد أكف وتلتف أصابعها حول النصال فتثلمها وتنزعها بدورها مغسولة بالدم” .

كما لم يقدّم السارد  وصفاً للمعركة التي أدت إلى تدمير الدبابة الإسرائيلية، بيد أنه يشكّل لوحة مشهدية للدبابة المحترقة والجندي المقتول – في إشارة إلى تخليد ذكرى النصر الذي حقّقه أبناء السويس، وتكريس عار الهزيمة والانكسار الذي لحق بالإسرائيليين، ويمزج الوصف بين البصري والشمي (تصاعدت رائحة لحم محترق ممتزجة برائحة الملابس المحترقة) والحارة الحسية (الدم الدافئ تسرب من أسفل الدبابة):   

اختلطت رائحة الحديد المحترق برائحة كاوتش الدبابة المنفصل عن الجنزير المطروح على الأرض مع أجزاء أخرى من قطع الحديد المنصهر وقطع خشبية وحجارة وتراب، في وسط الشارع تجمعت بركة داكنة من زيت الدبابة والدم الدافئ تسرب من أسفل الدبابة، بركة داكنة لزجة، تصاعدت رائحة لحم محترق ممتزجة برائحة الملابس المحترقة، تدلى جسده من فتحة البرج يرتدي سترة داكنة ذات أزرار نحاسية، تصاعد من وراء الظهر المنحني دخان ذو رائحة ثقيلة، وسقطت الخوذة من فوق الرأس على الأرض بجوار طبنجة سوداء “

2 – رواية ” الموت يضيء المدينة ” :

 تمثل المدينة – السويس – القيمة العليا في حياة شخصيات الرواية، سواء منهم من استشهد على أرضها أو أصيب في معاركها، أو استبسل في الدفاع عنها وتحقيق النصر لها .

يصف السارد  شخصية  مصطفى قائد  منظمة سيناء العربية وأحد أبرز شهدائها  “مصطفى مهووس بالمدينة .. يعشقها .. تغنّي بالموت فوق ترابها، علّم كل تلاميذه من الفدائيين أن يموتوا وهم يقبّلون ترابها سعداء، كانت نزهة مصطفى الليلية دائما فوق صفحة القناة، منظمة سيناء هي عنوان أيامه، المقاومة وقتال العدو كانا قانون حياته ” .

 كما يجسّد السارد  مدى العشق الطاغي  للمدينة من خلال أحد أبنائها “المعلم خليفة الجزار” الذي فقد إحدى ساقيه ورغم ذلك رفض مغادرتها ” أيام حرب التراشق طارت قدم خليفة اليمين، ولم يغادر تلك المدينة اللعينة، مدينة النار والدمار، يعشقها، لم يعرف أن هناك حياة في غير تلك المدينة .. يقول روحي تخرج أهون عليّ من أن أخرج، قُطعت قدمه ورقد بالمستشفي الأميري ، … وعندما قرروا نقله لاستكمال العلاج رفض، هددهم إن أخرجوه من المدينة قتل نفسه ” .

ومع تنوع شخصيات الرواية وتباين في مستواها الاجتماعي، عباس السوداني (صاحب كشك بيع الجرائد)، خليل القهوجي ،عبد الكريم البقال، رجب الكبابجي، المعلم خليفة الجزار ، المعلم شعبان (صاحب مطعم)، سعد (ماسح الأحذية)، أحمد أفندي (موظف بالتوكيلات)، القبطان خميس، الكابتن غزالي، الشيخ سلامة، حسن (بطل الرواية)،  إلاّ أننا نجدهم علي مستوى واحد من الحماسة والوطنية تجاه قضية المقاومة والدفاع عن المدينة، وبدلاً من أن تخلق كل شخصية واقعها هي فإن المجموع العام هو الذي يخلق نفسه كنسيج حي تلقّح فيه كل خلية جارتها وتشكّلها، إن كلاً من هذه الشخصيات يصنع الأخرى دون توقف ويجمع بينهم الفضاء الخارجي للمكان وهم يتصلون بذات السارد لأنه المصدر الوحيد لعملية الإخبار عنهم .

في الوسط: الشيخ حافظ سلامة

وبرغم أن الأحداث مرتبطة بالحرب (التهجير ، حرب الاستنزاف ، وأخيرا معركة 24 أكتوبر ) إلاّ أن السارد  يعمد الى عملية تناسل ضمن متوالية حكائية سردية (حكاية داخل حكاية)، فيقدم قصة الحب بين حسن وبوليين اليونانية الأصل والسويسية لحمًا ودمًا، عباس السوداني وأمينة، المعلم خليفة والممرضة عزيزة، سعد وفهيمة ( التي يختلف الناس على حقيقة وجودها )، الحب من طرف واحد ( إبراهيم / أمينة ).

 ونلمح في فقرات عديدة التصور الخاص بالمجاز السردي وفيه يعمد الراوي الي وضع حيز بصري نفسي يتضافر مع الحيز الذي تصنعه اللغة في وصف الشخصيات، والذي يمثل إدانة عميقة للحرب والعدوان علي المدينة ” تلك الوجوه المندهشة كساها الموت، أجساد ممزقة، منكفئة، بقع من الدماء المتجلطة، عويل أطفال، هلع الرجال، صريخ النساء، الموت يمطرهم قنابل تحصد تجمعاتهم بغير رحمة ” .

 وفي الوقت الذي اتصفت به شخصيات الرواية بالصلابة والشجاعة وقوة البأس والاستماتة في الدفاع عن المدينة، يتبدى وصف السارد  للفضاء المكاني على نحو يشي بالتهدم والخراب وانسحاب الحياة من شرايين المكان ” البيوت، حطامها، بقاياها المتناثرة على جانبي الطريق، تلتوي بالتوائه، تعتدل باعتداله، خرائب ،انقاض ،أطلال ،الغبار يملأ الشوارع والاسفلت المهترئ، حفر وشظايا الحديد، أخشاب محترقة بلونها المغبر القاتم، أحجار كبيرة وصغيرة، ثمة تراب ورماد يغطي كل شئ، لا صوت غير رفيف الهواء، حفيف أوراق بالية تدحرجها رياح خفيفة، تبشير عميق بهجرة الحياة، عدمها، قلة البشر اتساع المكان على سكانه “

الخندق : 

 يرتبط  الخندق مكانياً بأحداث الحرب، وهو يتكثف دلالياً بتناقضات عديدة: إحساس خاص جداً بالزمن ،حاد ومنتبه إلى حد اللازمن – إشاعة الأمل أو الرغبة في الموت، وهو يمثل في الرواية حجرة العمليات الخاصة برجال المقاومة، كما يعد مجلسًا للنقاش والتباحث في أمور المدينة ويقدّم السارد وصفًا ماديًا للخندق والشخصيات القابعة فيه :

 ” في منتصف الخندق طاولة طويلة يغطيها مفرش أخضر، حولها عدد من المقاعد، و توجد أيضا طاولة أخرى عارية، دهان سطحها يلمع يشق عتمة المكان، النار تحت قدور المعلم شعبان متوهجة صامتة، ينعكس لهيبها فوق لمعة الطاولة العارية، يجلس وراء الطاولة الصغيرة رجل بملابسة العسكرية، وجهه صارم، وفي فوديه مشيب، جسده ينضح بالقوة، حوله رجال كثيرون، الكابتن يقف بجوار الرجل الكبير الذي يبدوا أنه قائد المجلس ” .

 وهو يشهد الخلاف بين القادة العسكريين ورجال المقاومة الشعبية من أبناء المدينة حول طريقة الدفاع عن المدينة ضد القوات الإسرائيلية القادمة، ويصف السارد  هذا الحوار بين العسكري الكبير والكابتن غزالي قائد المقاومة :

يرتفع صوت الكابتن :

  • البلد بلدنا، أكل عيشنا وولادنا، أملنا، لا مستقبل لنا غيرها، لا حياة ولا طعم للفرحة، نحن أول المدافعين، نحن الجدار الذي يحميها ..

ينظر العسكري الكبير إلى الكابتن تنفرج شفتاه عن أسنانه البيضاء :

  • ياكابتن .. البلد بلدنا كلنا .. مصر كلها هنا .. انتم مقاومة معداتكم خفيفة ، عددكم محدود ، بالنسبة للعدو اللي بيهدد بدباباته ومجنزراته ..و.. (39)

لم يعط الكابتن أي فرصة للرجل حتي يواصل كلامه ، اندفع يعترض وكأنه المسئول الأول والأخير ، يقول بصوت غاضب حازم ويشير بكفه ناحية الجالسين حول الطاولة المستطيلة :

  • قدام سيادتك عشرة رجال من قادة المقاومة ، كلهم بدون استثناء عبروا في حرب الاستنزاف وحتى قبل بدء العمليات، وبعد وقف إطلاق النار ، كلهم قتلوا وأسروا من العدو ، اندفعوا يقاتلون ويهزمون لحظة يئست مصر فيها، دفنوا إخوانا لهم سقطوا جنبهم في القتال الضاري، استشهد من استشهد وجُرح من جُرح، كلهم حملوا السلاح ساعة سقط السلاح من الجميع . (40)
كابتن غزالي

معركة النصر :

شهد هذا الفضاء المكاني (ميدان الجامع – الإسعاف  – محيط قسم الأربعين  – أمام سينما رويال)  على امتداده المعارك الطاحنة التي حدثت، والشهداء الذين تساقطوا،  والنصر العظيم الذي تحقق، تأخذ الشخصيات مواقعها أو تتحرك في ثنائيات،  إبراهيم وأحمد، عثمان وعاصم، المعلم شعبان ورجب الكبابجي، القبطان وحسن، يصف الراوي الحركة المحمومة للشخصيات بين الترقب والحذر حينًا  والإقدام والاندفاع حينا أخر ، ثمة مسح بصري للمكان، يقدم الراوي وصفا دقيقا لعمليات تدمير الدبابات والمجنزات واقتحام قسم الأربعين الذي احتمى به الجنود الإسرائيليون. فمن خلال كاميرا سينمائية يصف الراوي معركة إبراهيم مع الدبابة “يركض إبراهيم وراء الدبابة .. يتخطاها .. يندفع بأقصى سرعته، ينثني بجسده، تتقلص عضلاته، يحاول أن يتفادى محاذرا طلقات الرصاص المتناثرة حوله، يحتمي بسور السكة الحديد، تصطدم طلقة رصاص بالجدار جواره، تنفرط شظايا، أصابت شظية صدغه، أخرى استقرت في ظهر كفه اليمنى، تسيل دماؤه، لم يلتفت أو يبال بذلك، ارتكز علي ركبة واحدة فوق الأرض، مرفق يده اليمني المصابة يحاذي فخذه المنثنية، يثبت المدفع فوق كتفه اليمين بكفه اليسار، يركز عينه مخترقا عدسة المدفع، يغمض عينه الأخري اليسرى، الدبابة مندفعة داخل العدسة، ركز ، تعلم ، ومارس من قبل، أسفل منتصف الهدف، عمل حساب سرعة الريح، سرعة الدبابة، اضغط الزناد …. انطلق الصاروخ، لحظة خاطفة، وميض ،انفجرت الدبابة ،تخلخل الهواء حولها، تدور على محور مكانها، يرتخي مدفعها إلى ناحية الأرض توقف قذائفها، ارتفعت الاصوات من خلف كل ساتر : الله اكبر .. الله أكبر  ”    (52)

3 – المدينة خارج المدينة :

تصف رواية ” صباح في المخيم ” للروائية سناء فرج، عمليات التهجير القسري لأهالي السويس عقب حرب 67 ، وتعرض المدينة للقصف والدمار الشامل، وسقوط أعداد هائلة من المدنيين بين جريح وقتيل، كما تعكس هذا الانشطار النفسي الفردي / الجماعي نتيجة هذا النزوح الجبري لأبناء السويس من رحم المدينة؛ فهم يعيشون مدينتهم ؛ مدينة الطفولة والأحلام والذكريات في المنفى، ويتحسّرون عليها في الحاضر، ويتوقون إليها في المستقبل ، إنها السويس مدينة الحضور والغياب .   

يتشّيد البناء الروائي علي السرد التقليدي وتيار الوعي الذي يعتمد علي المنولوج الداخلي في عرض المحتوى الداخلي أو النفسي للشخصية، والعمليات النفسية التي تتم لديها دون الإفصاح عن ذلك على نحو كلي أو جزئي في اللحظة التي توجد فيها هذه العمليات في مستويات الوعي المختلفة قبل أن تتشكل للتعبير عنها بالكلام، كما ظهر تكنيك ” الفلاش باك ” و” المونتاج ” والعرض السريع والبطيء والقطع المفاجئ، وتتبدى الحيل الفنية للروائية في تبديل الضمائر فتارة تستخدم  ضمير الغائب، وأخرى ضمير المتكلم في عمليات السرد وهي ثنائية توازي ثنائية المكان( المخيم / المدينة ) كما تجسّد ثنائية الحضور/ الغياب .

الخروج من الديار … قبل العودة إليها

تدخل الشخصية / السارد  دائرة الذاكرة المستعادة، فتجسد مشهد الرحيل ومغادرة المدينة، عبر حركة، سريعة، مشحونة بالتوتر والغضب المكتوم، وتتبدى حالة الزحام الشديد، حيث  تتحول الشخصيات (النساء ، الأطفال) إلى أمتعة وحقائب يقذف بها من نوافذ القطار، وتكشف الشخصية عن حالة اليأس والقنوط (أغلقت نوافذ المدينة وفتحت نوافذ القطار) مقترنة بحالة الضجر والضيق والذهول التي تنتاب الجميع :   

تحاول صباح أن تتذكر، القطارات تطوي على غير قضبان؛ لكنها تتذكر هذا القطار، تتذكر كل من دخله من الأبواب والنوافذ، حملها أبوها وألقى بها من النافذة إلى داخله، دفع أمها من النافذة شأن نساء المدينة اللاتي قذف بهن من النوافذ مع الأطفال واللفائف، أغلقت نوافذ المدينة وفتحت نوافذ القطار وامتلأت، تزاحمت عليها الرؤوس واختلطت الأذرع بالسيقان والعيون زائغة ” .

يتتبع السارد  قافلة المهجّرين، ويقدم وصفًا ماديًا للمكان البديل وهي مدينة هشة (مخيمات) بلا حماية أو ستر، أو خصوصية، كما أنها تمثل اغترابًا لكينوناتهم الإنسانية (تتوالد الأشياء والأحاسيس واللغة الجديدة) :

انغرست الأرقام في مساحات عديدة لتصبح أوتادا تشد إلى الأرض خيمًا نُصّبت وتشكّلت من الداخل؛ لتسكن في كل خيمة أسرة أو مجموعة من الناس، الخيام منصوبة ومتراصة في تشكيلات خاصة، تحول المكان إلى مدينة جديدة لكنها مدينة من الخيام، مفتوحة الأبواب، وسرعان ما تعودوا على الحياة الجديدة بمسمياتها الجديدة الغريبة، ومع دوران عقارب الساعة تتوالد الأشياء والأحاسيس واللغة الجديدة التي نمت في الحواس. “

بيد أن المغتربين يتشبثون بماضيهم وذكرياتهم، هم يعيشون مدينتهم في المخيم: الأماكن، الأطعمة، الأغاني، إن هوية المكان هي هويتهم وحياة المدينة هي حيواتهم، وإن كان الحزن والأسى يشملهم جميعا :   

تحاول صباح أن تسمع الأصوات المختلطة عند المداخل، ثرثرة الذكريات البعيدة تفيض بها ألسنة الرجال يتبادلون الأحاديث عن البحر والسفن والمراكب الشراعية والأسماك، يتذكرون أنواع الأسماك، وألوان العلب المحفوظة التي كانوا يجلبونها من السفن عند الميناء .. أنواع السجائر التي دخنوها، ويتبادلونها فيما بينهم، لم تعد كل هذه الاشياء في حقائبهم التي رحلوا بها، كانت تسمع بعض الأصوات كالأغنيات فترهف سمعها،كلمات قوية تخرج من حناجرهم،أصوات يشوبها الحزن، وكانت تسمع فيها املا جائرا لكنه يخبط كأجنحة الحمام الذي يرددون اسمه في أغانيهم “

وكما أنهم لا ينعمون بالسلام الداخلي ، فهم مهددون من كل جانب، ويرصد الراوي حدثا واقعيا / رمزيا يشي باستعادة حالة العدوان / الحرب، إذ تهاجم في هدأة الليل مجموعة من الكلاب حظائرالطيور، ويصف الراوي حالة الافتراس (العض والنهش في الرقاب والبطون)، وأشلاء الضحايا (جثث الدجاج الممزقة والريش وبقع الدم) ويعيد المشهد – في ذاكرتهم الحية – أحوالهم وأحوال ذويهم من ضحايا الحرب في المدينة :   

دارت معركة رهيبة أيقظت بعض أهل المخيم، لمعت الأنياب الحادة واستمر العض والنهش في الرقاب والبطون، يتقهقهر بعضها ويهجم البعض الآخر، تتمرغ الكلاب في التراب وهي تتلوى وتنقلب، تفر بعضها بين الممرات الضيقة، تبحث عن مهرب، تجتاز بوابة المخيم الأمامية تتلاحق الكلاب الغازية في اتجاه البوابة الخلفية وتخلو ساحة المعركة من الكلاب الإ من بعض جثث الدجاج الممزقة والريش وبقع الدم” .

تتراكم مأساة شخصية البطلة ( صباح ) بين استشهاد الأب – الذي بقي في المدينة وأجبر زوجتة وابنته على الرحيل – نتيجة قصف المدينة بالطائرات واختفاء الأم في القبور بعد دفنها للزوج ،  وتعرضها – صباح –  لحادث اغتصاب في رحلة العودة بعد مراسم الدفن ..

تصف الشخصية / السارد  جثة الأب المحترقة عبر منولوج نفسي بائس مأزوم، وتتشكل صور سردية سريالية تكشف عن أزمة الوجود الانساني وبطش وقسوة الحرب، وتدخل الشخصية علي خط الإحاطة بالفضاء الاستفهامي: هل ينتسب البشر إلى الحرب أم الى الحياة :  

كان وجهه أثرًا من أنف وتجويفًا بغير عين، وشعرًا محترقًا حتى جلد الرأس … أهذا وجه أبي، أم وجه الحرب ؟ وجه الحرب بغير عينين، بغير شفتين، بغير شعر، وجه الحرب لا لون له، هل تستطيعين يا أمي ان تقولي لي : ماذا تعرفين عن وجه الحرب ؟ أخبري ابنتك صباح، هل يحمل الإنسان وجهين ؟ وجهه
الإنساني ووجها آخر للحرب ملتصقا بعظام جمجمته .” 

وإذا كانت الحرب هي تهديد صارخ للوجود الإنساني المادي والمعنوي؛ فإن الخوف هو نتاجها الخطير وطامتها الكبرى، يتسرب إلى الكيان الإنساني، يستوطن جوارحه وحواسه، أينما حلّ و أينما كان .

تنغمر الشخصية في وضع سردي مأساوي ، يتشكل الخوف في صور عديدة : شبحًا يطارها ، كسوة ترتديها ، حذاءً تنتعله ، بشراً بربريًا هو ذاته الذي اغتصبها ،ويعمل الضغط الفعلي الكبير بتشكيله الدرامي ( أمسك، تحاول، تغمض، تشعر ، تهتز، تسمع ، يعلو، يرجف، تختبئ، تحمي ،يضيق، يركض، تجري، دفع، تصرخ، تقاوم ، تتوارى، يلوثها) ،على تشكيل مجموعة من اللقطات، تكشف عن حالة الشخصية ومصيرها برهافة عالية عبر الزمن المستدعى من الذاكرة والحاضر المنكوب :   

صوتها أمسك به الخوف،تحاول أن تغمض عينيها كي تنام دون جدوى، لا تشعر بالمكان، وحيدة في خيمتها تهتز بها بين السماء والأرض، تسمع هذا الدبيب المتواصل، يعلو فوقها، تحتها، يرجف داخلها، منسية مغتربة، لوغفل عنها الألم وسكت الخوف، هل تستطيع أن تنهض وتخرج من الخيمة وتختبئ، أو تجد وسيلة تحمي بها نفسها، أو تجد مهربًا من هذا الألم، أصبح الخوف ثوبًا ترتديه، حذاء يضم قدميها، يضيق علي أصابعها، كان يركض معها في المدينة، تركها تجري وتجري، وظهر في صورة أخرى، دفع بها إلي الخندق وراح يحفر فيها وهي تقاوم، تضرب الظلام، ميز كل شئ فيها، تركها تصرخ وخرج منها وهي تتواري من نفسها وبقعة دم تلوثها .”  

بيد أن الشخصية تقرر في لحظة شوق غامر،واحتياج نفسي بالغ،و تلبية لنداء أصيل في أعماقها؛ مغادرة المخيم، وتستقل سيارة مراسل حربي،حيث تصل المدينة في لحظة العبور المنتظرة، والقوات المصرية تستعد لحرب التحرير،ومعركة الكرامة، والنصر العظيم :  

توقفت السيارة .. رأت صباح علي الجانب الآخر دبابات تطل من فتحاتها رؤوس الجنود، رأت عربات تحمل أعدادًا هائلة من الجنود ، ومدافع تجرها عربات ، وعربات مصفحة مغطاة ، كانت أفواه المدافع مشرّعة في الأفق والمطر ينهمر ، وعينا صباح مشدودتان إلى هذا المشهد ، بينما ظهر المراسل الحربي وهو يعبر الجانب الآخر ويصعد إلى السيارة ويتقدم بها ناحية المدينة ”   

 _______________________________________

الهوامش :

1 – الرواية في زمن الغضب : ممدوح القديري

2 – الرواية الفرنسية الجديدة  : نهاد التكرلي  

3 – أساليب السرد الروائي العربي : سعيد يقطين

4 – السرد والحكاية : محمد زيدان

5 – روبرت همفري ، تيار الوعي في الرواية الحديثة ، ترجمة د. محمود الربيعي

6 – رواية الرجل والموت : محمد الراوي

7- رواية الموت يضئ المدينة : علي المنجي  

8 – رواية صباح في المخيم : سناء فرج

أكمل القراءة
انقر للتعليق

اترك تعليقا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

بنات أفكار

اللغة والناقة والدبّابة (3)

نشرت

في

Mission impossible : lire au complet Don Quichotte, de Cervantès

إنّ وَصْفَةً واحدةً لمجموعة تقنيّة حديثة تتطلّبُ قرابة ستّة ملايين مرْجَع، أي مائة مرّة ما يتوفّر عليه مُعجم لغةٍ ما. وإنّ تعقيداتِ الحياة وحدَها هي ذاتُ سِعَة لا تُقارن: بين خمسة ملايين وخمسة وثلاثين مليون نوْعٍ من الكائناتِ الحيوانيّة والنباتية، حسب تقديرات (التسعينيات). فالتقنيّة تعني أننا إزاءَ لغة مُفرطة، تتخثّر داخلها أنصافُ مفرداتٍ، تمثّل بدوْرها حصُوناً لغوية. إنّ اللّغات التقليديّة الثلاثة آلاف، المُتكلّم بها على الكُرة الأرضية هي في حالة انقراضٍ، وعشراتٍ منها فقط، معترفٌ بها عالميًا، وبالتالي تراجُع الأخرى إلى المستوى الثاني. وفي هذا الوقت فإنّ اللّغة (المصطلح) التقنية تعرفُ انفجارًا هائلا، بفعلِ تعدّد الاختصاص.

عزالدين ميهوبي

يعتقدُ الباحثُ الفرنسيُّ جُورج ريُو Georges RIEU مُدير أبحاثٍ في المركز الفرنسي للبحث العلمي CNRS والمتخصص في التكنولوجيا الدقيقة وعلم الذرّة لمدّة تفوق الثلاثين عامًا، أنّه نجحَ في وضْع أساسٍ للغةِ المُستقبل، بعد سنواتٍ من التفكير والبحث، وتدخلُ ضِمن “اللغات المُخادعة” كتلك التي ابتدعَها جورج أورْويل في روايته الشهيرة “1984”. وتتمثل هذه اللغة الجديدة في ابتكار أبجديّة من 5000 حرفٍ، تمثل رُموزًا وصُورًا بسيطة قادرةً على تحقيق التّواصل بشكل أسرع، وأنّها “لغةٌ دون كلماتٍ، أو نَحْوٍ. سريعة وقويّة وخلاّقة؟”

هي اللغة الفِطرية في دماغِنا. أطلق عليها اسم “فلاشْ برين Flash Brain”، أو اللغة الذّهنيّة ذات الطّبيعة السمعيّة والبصريّة.ويقرّ ريُو أنّ تصنيفَه تعسّفيّ بعض الشيء، وأنه سيواجهُ غضبَ اللغويين واللسانيين، ومع ذلك، فإنه يشدّد على ضرُورة وجُود أداة رائعة للمنبُوذين لغويّا: “هو نظامٌ عالميٌّ يتيحُ لكل فردٍ في العالم أن يستخدِم شبكة الإنترنت على سبيل المثال. إنها ميزةُ الإبداع والخيال، إنّه يُربّي الدّماغ”. وحتّى يواجه جُورج ريُو أيّ نفُورٍ أو رفضٍ لفكرته

يقول “يمكنُ مثلاً للفرنسيين أن يضحكُوا، لكنّني على الأقلّ فعلتُ هذا من أجل الأطفالِ والصمّ والبُكم”.إن حروبًا تبدُو صامتة، لكنها أكثر ضرَاوة عندما يتعلقُ الأمر بالسيّادة اللغويّة والهُوية الثقافية، ذكرتُ بعضها في هذا المقال ليدرك النّاس أنّ التفكير السياسي يتراجع كثيرًا عندما يشعر الساسة أنّ المجتمع مهدّد في وجوده الثقافي واللغويّ. من ذلكَ أنّ الشّيء الذي لم ينتبه إليه الناسُ هو ما تشهدُهُ الولايات المتحدة من نقاشٍ حول مكانة اللغة في المُجتمع الأمريكي، إذ أنّ حربًا تدور بعيدًا عن عيُون السّاسة، يخوضُها المفكرون خاصة. فالأصواتُ ترتفع للمطالبة بدسترَة اللغة الإنكليزية، كلغةٍ رسميّة، في ظلّ الصّعود القوي للإسبانية، وحتى للغات الجاليات الأخرى.

أفرَد المُفكر الأمريكي صامُويل هانتنغتون، جزءًا كبيرا لأزمة اللغة في الولايات المتحدة، ويُبدي تشاؤمًا صريحًا بشأنها، كونها تشكّل عنصرًا حاسمّا في بناء الهُويّة “البيضاء” كما يصفُها، فيقدّم نقدا مُباشرا للهجراتِ اللاتينية الأمريكية و”السّماح بتدريس اللّغة الإسبانية واستخدامها كلغة ثانية رسميّة في العديد من المُدن في الولايات الأمريكية”، خاصّة أنهم يمثلون 12% من تعداد الشّعب الأمريكي، (والإحصاءاتُ تقول بأنهم في حدُود العام 2050 سيكونُون الأغلبيّة) فضلاً عن ارتباطِهم الوثيق بأوطانهم الأصلية القريبة من الولايات المتحدة. ولا يخفي هنتنغتون قلقَه “الذّاتي” تجاه من ينادُون بإقرار اللّغة الإسبانية لغة ثانية رسميّة، ويرَى في ذلك أحد أخطر التّهديدات الموجهة للهُوية الأمريكية لأنه ينذرُ بتحوّل أمريكا لبلد ذي هُوية لغوية ثنائية إنكليزية-إسبانية. فهو يرَى أنّ سقوط الاتحاد السوفياتي تسّببَ في عدَم تبلوُر عدوّ جديدٍ للولايات المتحدة يُسهم في التفافِ الأمريكيين حول هُويّتهم الوطنيّة، كلّ هذا أدّى إلى تراجُع مصادر الهُوية الأمريكية الرئيسَة، وهي الإثنيّة البريطانية والعِرق الأبيض والدّين المسيحي والثقافة الانكليزية – البروتستانتية.

فحسب هنتنغتون، كما جاء في مقال لعلاء بيُومي، سيكُون مستقبل أمريكا مع هُويّتها، إمّا بـ:

– فُقدان للهُويّة وتحوّل أميركا إلى مُجتمع متعدّد الثقافات والأديان مع الحفاظ على القِيم السياسية الأساسية.

تحوّل أمريكا إلى بلد ثنائيّ الهُويّة (إنكليزي-إسباني) بفعل زيادة أعدادِ ونفُوذ الهجرات اللاتينية الأمريكية.- ثورة الأمريكيين البيض لقمْع الهُويات الأخرى، وهو احتمالٌ قائم.

– إعادة تأكيد الهُويّة الأمريكية من قبل الجميع، والنظر لأمريكا كبلد مسيحيّ تعيش به أقلياتٌ أخرى تتبعُ القيم الأنكلُو-بروتستانتية والتراث الأورُوبي والعقيدة السياسية الأمريكية كأساس لوحدةِ كافة الأمريكيين.

هذه الهواجسُ، التي عبّر عنها هنتنغتون بلغة صريحة، وبطرح رُؤية لا تراعي أدنَى محاذير التنوّع العرقيّ واللغويّ والدينيّ، من ضرُورة العودة إلى سيطرة البيض على مقادير الولايات المتحدة، كحقّ استعماري (..)، فقد أصدر المعهد الملكي الإسباني (إلكانُو) تقريرًا مفصلا عن مُستقبل اللغة الاسبانية في الولايات المتحدة الأمريكية، إنْ كانَ حوارًا أم صراع ثقافات، وهل أنّ اللغتان الانكليزية والاسبانية تتنافسان على المستقبل، فيعتبر هذا التقريرُ أنّ الاسبانية هي اللغة الثانية بعد الإنكليزية. إلاّ أن هذا الوضعَ لا يعني أنّ الأمر عاديّ، فهناكَ أسئلة جريئة تُطرحُ مثل: “هل ستختَفِي اللّغة الاسبانية كلغةِ تخاطُب؟ هل ستحافظ على وجُودها كلغة مزيجَه؟ أم هل سيأتي يومٌ تكون فيه اللغة الاسبانية إلى جانب الانكليزية في مُجتمع أمريكي مُزدوج اللغة والثقافة؟”.

ويخلُص التّقرير الذي نشرتْه صحيفة الزّمان في 2004 إلى أنّه “كلّما كان الوُجود الاجتماعيُّ للشّعب الناطق بالاسبانية، في الولايات المتحدة، أقوىَ، تكون الإمكانات أفضل لصالح حُدوث المزيج بين اللغتين والثقافتين”، وقد أُطلق اسم (هيسبانغليشHespan-english) أو Spanglish. على هذا التمازُج اللغويّ. فمن يجرؤ على إيقاف غليانِ اللغة؟.

هذه بعض الأفكار، استقيتُها من كتابي “انتحار الأبجدية: من بُرج بابل إلى أبراج مانهاتن”

(من كتاب أبوليوس يهرب من ظله)

أكمل القراءة

بنات أفكار

اللغة والناقة والدبّابة (2)

نشرت

في

Le mythe de la tour de Babel | Orient cunéiforme

…فإذا قُمت بغلق الأبواب والنوافذ، ستختنق لا محالة.ولعلّ دخول العالم الزّمن الرّقمي، ربّما يساعدُ ذلك في أعادة إحياء اللغات المنتهيّة الصلاحيّة، وسيشهدُ سوقُ اللغات، موجة ابتكارٍ مهُولة،

عزالدين ميهوبي

ذلكَ أنّ العِلم والتكنولوجيا يشهدانِ تطورًا مُذهلا في مجال الذّكاء الاصطناعي، حين اكتشف كثيرٌ من خبراء وسائل الإعلام الآلي وعلماء الكومبيُوتر أن الإفراط في البرمجة والحشْو المعلوماتي نتجَ عنه ابتكار بعض أجهزة الكومبيوتر التي تتواصل فيما بينها لغاتٍ خاصة بها، لا دخل للعُنصر البشريّ فيها، ولا يمكن له أن يفكّ رموزها أو مفرداتها، وهو ما رفع من درجة المخاوف، وتمّ إيقافُ البحُوث في هذا المجال، لأنها تتجاوز قُدرة البشر، وكأن التكنولوجيا مُقبلة على ابتلاعِ الإنسان..

وتلك واحدة من النتائج المُزلزلة للثورة الرقمية.ومثلما يفكّر العالم في إيجادِ علاج للأمراض المُستعصية والأوبئة والتقلبات المناخية، وكيفية التخلص من المخزُون النووي.. فإنّه أيضا يفكر أيضًا في مُستقبل اللغات باعتبارها مفاتيح الفكرة وإعادة تشكيل العالم. كيف يكون المشهد اللّغوي بعد عشرين أو خمسين أو مائة عام. إنّها الحيرة الكبيرة.ومن دون شك، فإنّ اللّغةَ، تبقى مسألة معقّدة، من حيث إحصاء مُفرداتها. فإذا أخذنا مثلاً، أنّ عدد اللغات، كما يقول بعض المصادر، بلغ 14.500 لغة في العالم، قبل 500 عام (أي في العام 1500) ، تآكلت، وبقيَ منها النّصف في العام 2000. والسؤال كم مُفردة يُمكن أنْ تُحصَى في مجمُوع هذه اللّغات؟. إنّ العدَد سيكُون بالملايين،

ولكنّ المفارقة هيَ أنّه كلّما انقرضت لغةٌ وُلدتْ مفرداتٌ جديدة، والسبب أنّ الثورة الصّناعية، أنتجت مُعجمًا جديدًا، بفعلِ الابتكار التّقني وما يفرضُه من إنتاجٍ لمصطلحاتٍ جديدة، ضمن أنماطٍ لغويّة جديدة (الانجليزية والفرنسيّة وحتّى الصينية خاصّة)، ومع الثّورة الرّقميّة الهائلة وما يصاحبها من ذكاء اصطناعي مهول، أخذَ المعجمُ اللّغويّ شكلاً آخرَ، يتمثل في إنتاج لُغةِ رمُوزٍ وإشاراتٍ وصّور وشيفراتٍ، لأنّ وتيرة الإنتاج التقني أكثر سرعة من إنتاج مُصطلحات لغويّة لما يُنتج ويُخترع ويُبتكرُ في كل المجالات، التكنولوجيّة والعلميّة والاقتصاديّة، وكذا فيما يتعلّق بالعلوم الاجتماعية والانسانيّة.إنّ الانسانَ على مدار تعاقُب الأمم والحضارات، كان يجدّدُ عقلَه، بتغيير نمط ِحياته ووسائل إنتاجه، ويحقّق تراكُمًا مختلفًا.

يقول الكاتبان أونشتاينْ وإبرليشْ في كتابهما “عقلٌ جديد لعالم جديد” الصّادر في العام 1994 “يجب أنْ يفهمَ الجميع الدّور المحتمل للتّطوّر الحضاريّ في تجاوُز مخزُون العقل، أن يفهمُوه كما يفهمُون لغةَ حديثِهم. إنّ المعارفَ العلميّة، التي ساعدَت في تفجير المشاكل المعاصرة قد أنجبتْ أيضاً قدراً لا يُبارى من المعرفة عن الطريقة التي يدركُ بها النّاس العالم ويفهمُونه”. هذا المخزُون العقلي يمثّل التحدّي الحقيقي لمدى قدرة الإنسان في أن يوائِم بين إنتاج المَعرفة، وإنتاج اللغة، فالسّرعة التي تولّدت عن الثّورة الرقميّة، كشفت أنّ الإنسان كلّما حقّق قدرًا عاليًا من التطور والتنميّة، صارَ عاجزًا عنِ التّوصيف والتأريخ لذلك، لأنه يبتلعُ ذكاءَه وعبقريّته.

إنّ هذه الثورة الرقمية التي نعيشُها أسهمت بشكل قويّ في تضاعُف المعرفة، أيْ أن المعلومة التي تحصلُ عليها على الثّامنة صباحًا تتضاعفُ مرتين على التّاسعة. وقد أصدرَ الكاتبُ الإستشرافيّ والمعماريّ والمُبتكر الأمريكي “بوكمِينستر فولر Buckminster Fuller ” كتابًا مُهما بعنوان “المسار الحرج Critical Path” تناول فيه ما يُسمى “منحى تضاعُف المعرِفه” أي أنّ ما ينتجه الإنسان من معرفةٍ يشهدُ زيادة مُضطردة وتضاعفًا مُستمرًا، فإلى غاية 1900 كانت المعرفةُ تتضاعف كل مائة سنة، إلا أن وتيرَتَها ارتفعت بعد الحربِ العالمية الثانيه، رُبما نتيجة اهتمام الدّول بالتعليم وزيادة نسَق التنافس الصناعيّ، فوصلت مع مطلع الثمانينيات إلى أنّها تتضاعفُ كل رُبع قرن. ولأنّ التطور أضحى مرتبطا بمجالاتٍ معيّنة ودقيقة، كالعلوم والتكنولوجيا، فإنّ المعارف فيها تتضاعف بالأشهر والأيّام والسّاعات. بمعنى أنّ سرعة المعرفة، يقابلها ابتكارٌ في اللّغة، إنّما بتفاوتٍ كبير في تشكيل مصطلحاتٍ جديدة ومُبتكرة، وهو ما يتوقف عليه مُستقبل كلّ لغة. فكلما زاد التراكُم المعرفي تقلّص عددُ اللغات، وبرز احتكارُ لغاتٍ دون أخرى لوظيفة التّسمية والمُصطلح.

يقول الخبير الاستشرافي الفرنسي تيرِي غودان Thierry Gaudinفي كتابه القيّم (2100، أوديسا الأنواع) .الصّادر في العام 1993: “تهدفُ اللّغة إلى الاتصال، وتهدفُ أيضا إلى التّواري عن الاتصال. فجدران برلين الجديدة ماثلةٌ في الرُّؤوس. جُدران من الكلمات، غير مرئية وممنُوعة، تعوّض الحدُود التي كانت قائمة”. ويضيفُ “إنّ علوم الاقتصاد والاجتماع والجيوسياسية تتوفّر على قامُوس لغويّ خاص بها، يتضمّن آلاف الكلمات. وإنّ لغةً كاملة مثل الإسبانية والفرنسية والانجليزية والتّاميل والماندارينْ الصينيّة تتوفّر على حوالي ستين ألف كلمة. فالسيّارة الواحدة تتوفّر على ألفي مكوّن (قطعة)، وتضمّ أجنحة السّوق التجاري أكثر من عشرة آلاف مادّة للاستهلاك. وأهمّ الأروقة التجارية تديرُ أربعمائة ألف نوع من السلع، والجَرْدُ الخاص بقطع غيّار أسلحة الجيشِ الأمريكي يُحصِي أربعة ملايين وخمسمائة ألف مكانٍ…

ـ يتبع ـ

أكمل القراءة

بنات أفكار

اللغة والناقة والدبّابة

نشرت

في

توهج لغة الكمبيوتر المتدفقة رمز ثنائي صورة الخلفية والصورة للتنزيل المجاني  - Pngtree

لم يكن ديفيد بن غوريُون بحاجة إلى مليون كلمة ليجعلَ من العبريّة لغة كيانه الإستيطاني الطّالع من ضِلع فلسطين قبل حوالي ثمانين عامًا.. فقد أشار عليه مستشارُوه إلى أنّ لغة اليديش، شبه الميتة، في حواري اليهُود بأوروبا الشرقية كفيلة بأن تكون المُعبّر الأبرز عن هُويّة مسْخٍ سياسيّ مُبتكر كما يقول المؤرّخ المتنصّل من يهوديّته شلومُو صَاند. فاعتمدها بن غوريون وهو الذي قال هل يمكنُ للغة انتهت منذ ألفي سنة أن تُبعثَ من جديد؟.

عزالدين ميهوبي*

بدأ مُعجم العبريّة بخمسةِ آلاف وستمائة كلمة فقط، واعتمد لغويُّوها النّحو العربيّ لتطويرها، وأهابوا بقدرة العربيّة في منح اللغة العبريّة إمكاناتِ جعلهِ كيانًا مكتمل الأركان، ولم تمض سنوات حتّى كان هذا الهجين اللساني من لهجَاتِ الحواري وقامُوس التّوراة مُستخدمًا في معهد “وايزمن” للذرّة، وصار الطّفل “الاسرائيلي” عارفًا بمداخل ومخارج العبريّة في أقلّ من ثماني سنوات. وكلّ هذا يبدو أمرًا طبيعيّا، طالما هناك رغبة في استحداثِ ثوابت لكيان غير ثابت، إلاّ أنّ غير الطبيعي هو ما قرأتُه من أنّ للجمَل والنّاقة أكثر من ستّة آلاف اسم في اللغة العربيّة أو ما ارتبط به، حسب المُستشرق النّمساوي جوزيف فون هامَر بورغستال J. Von Hammer-Purgstall (1774-1856) أي قبل مائتي سنة.

وأمام هذا الرّقم، لم أجد بدّا من ضرب أخماسي بأسداسي، وأقول “أليس من العجب أن تكون أسماءُ ناقةٌ شاردة في صحراء العرب أكبرَ عددًا من مُعجم من لغة هجينَة في غيتُوهَاتٍ سجينة؟” أي أنّ العبريّة بمُعجمها لم تصل عددَ كلماتِ جَمل عربيّ من قبيل ناقة ومطيّة وفحل وبعير وبكرة وخلفة ولقحة وخلوج وهجن وهمل وراحلة وذلول وعشراء وزمل وقعود وعيس ومسوح ودوسر وبخت وقلوص وشول وشملال وقوداء ووجناء.. وغيرها كثير من الأسماء والصّفات. وهذا يعني أنّ العبريّة لا تحتملُ وزنَ أكثر من اسمٍ واحد للجمل العربيّ.وليس غريبًا أن يجعلَ اللغويون العرَب من كتاب “العين” للخليل بن أحمد مرجعًا لهم في عدد كلمات اللغة العربية، إذ أنّ نظريّة التقلِيب (أيْ قلب المعنَى بإعادة ترتيب الحرُوف، مثل كمال، كلام، ملاك، كامل..) أنتجت 12.305,412 كلمة يحالُ كثيرٌ منها على متحف اللغة كونه لا يُستعمَل أو لا معنَى له، بل إنّ الباحث العربيّ يكفيه استخدام ما بين 0.04% و 0.1% من متُون اللّسان العربي في عديد المجالات، أي 12 ألف كلمة.

والحقيقة أنّ هذه النسبة توصلتُ إليها، شخصيًا، بعد إنجاز دراسة حول الأمن اللغويّ والحُروب اللغوية في العام 2006، معتمدًا على معايير اليونيسكُو التي تشيرُ إلى أنّه يكفي الإنسان ثلاثة آلاف كلمة للتواصل، وستة آلاف كلمة للقراءة والكتابة والتّعبير، واثنتي عشرة كلمة للتفكير والتأليف والإنتاج الثقافي والعلمي. وأذكرُ أنّ ناقدًا أدبيا أحصىَ وجود 280 كلمة استخدمَها شاعرٌ جزائريُّ في ديوانٍ من مائة وعشرين صفحة. والسّبب أنّه يُكرّر المُفرداتِ نفسها في قصائده المنثُورة. وبمعنى آخر أنّ الفقر ليسَ في معجم اللغة العربيّة ولكن الشّحّ بارزٌ في مستخدميها، أي أنّهم مستثمرون سيّئُون..

أمّا الانكليزيّة فيقدّر خبراءُ اللغة أنّ قاموس أوكسفورد أحصَى مليون كلمة أقلّ من نصفِها مستوردٌ من لغاتٍ كثيرة، ومن اجتهاداتِ عصر بيل غيتس، أمّا نصفُها الآخر فهو ملكٌ لشكسبير وشُركائه في تاريخ الآداب والمعارف الانجليزيّة. ولعلّ التحوّل الذي حدث في البنية اللغوية للإنجليزيّة هو الذي دفع كثيرًا من اللغويين الانجليز إلى المُطالبة بتفعيل فكرة “الأكاديمية الملكيّة للّغة الانجليزيّة” بعد أن تحوّلت “قاتلةُ اللغات” كما يُطلق عليها إلى مجرّد “برنامج معلومَاتي” مثلما وصفها الصّناعي الفرنكُو- لبناني كارلوس غُصن. ومع هذا فهي اللغة الوحيدة التي بلغتْ سقفَ العالميّة، عكسَ اللغة الفرنسيّة التي لم تنفع معها عملياتُ حقنِها بمنشّطات ثقافيّة وسياسيّة، لتحافظ على موقعِها في العالم، إذ أنّ خبراءَها وسياسيُوها (وزارة التعليم العالي والبحث العلمي والبرلمان الفرنسي) اعترفُوا مُكرهين في ربيع 2013 أنّ جامعاتِ فرنسا لم تعُد قادرة على مواكبة وتيرة البحث العلمي بلغة فُولتير،

فاتخذت قرارًا تاريخيًا، رغم مُعارضة الأكاديميّة الفرنسيّة ومجمع الخالدين فيها، وكذا منظّمة الفرنكفُونيّة، يقضي بالسّماح للطلبة والباحثين الفرنسيين باستخدام اللغة الانجليزيّة، أو أيّ لغة أخرى، في البحث، وإلاّ فلن تجدَ فرنسا في قادم السنوات باحثًا واحدًا يتحدّث عن لاماراتين أو برُوست.. كما قالت الوزيرة فيوراسو Fioraso صاحبة القانون الذي اغتال الفرنسيّة في بيتِها.. كما قال مناوئُوها.قد يُفسّر هذا بكوْن اللغة الفرنسيّة، في وضعها الحالي، هي ضحيّة الساسة الفرنسيين الذين سنّوا قوانين “الاستثناء الثقافي” وأرسوا منطق “اللغة النقية” ورفضوا تلاقُحها مع اللغات الأخرى لتوسيع مُعجمها من المفردات والمصطلحات والتراكيب اللغوية الجديدة، كما هو الشأن بالنسبة للإنكليزية التي تأخذ من كلّ اللغات دون عُقدة، حتى قيل إنّ قاموسها يتشكّل من 60% أصلي و40% مُستورد ومُشتقّ…

ـ يتبع ـ

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

*صحفي وأديب جزائري

.

أكمل القراءة

صن نار