تابعنا على

جور نار

المستوطنة

نشرت

في

جمل الصحراء، الخلفية, صحراء, جمل, اللاما صورة الخلفية للتحميل مجانا

لن نغفر لأجدادنا ما تركوه لنا من فقر وجهل وأعباء تخلّف تنوء بها الجبال … ذات يوم قالت نوّارة نجم لأبيها الشاعر: لقد تركتني رضيعة ثم طفلة ثم شابة ورحت تنطّ بين السجون وصالونات الشعر ومدرّجات الجامعات، غير عابئ بما يمكن أن أصير أو يقع لي… بحق السماء لمَ أنجبتني؟

عبد القادر المقري Makri Abdelkader
عبد القادر المقري

الحكاية حقيقية، ويقال إن رفيق درب الشيخ إمام وجم ولم يحر جوابا … وبعد مدة صاغ سؤالها مع رد (أو تبرير) في أغنية يفتتح بها مسلسل “حضرة المتهم أبي” … هذا مجرّد مثال لا يمسّ من تقديرنا للشاعر العظيم وقضايانا التي حملها شامخا على كتفيه … نتوقف فقط عند معنى الأبوّة والمسؤولية … فقط، فقط … ما أصعب أن يسألك ابنك عن تقصير أو رهن لمصيره أو لامبالاة تامة بأحواله عامين أو عشرة أو ثلاثين … أجدادنا اليوم نترحّم عليهم بكل البِرّ ونذكر زمنهم بالخير وفينا من يفني عمره مستعرضا أمجادا وبطولات خوال … أما أنا وحين أرى ما يحصل لفلسطين وما يأتي من عربدة بضعة كلاب ضالة وما يفوه به عجوز أمريكي وزوج عجوز فرنسية وخادم هندي لدولة بريطانيّة عجوز هي الأخرى … عندما أرى وأسمع الإهانة والشماتة وقلة الحياء علنا من قادة دول في حقّنا، لا أجد لأجدادنا مبررا لكي أفتخر بهم أو أقول فيهم خيرا … وأسكت هنا حتى لا أنهال على ذكرهم بما لا يستطاب …

الحديث عن الأجداد لا يعني جدك للأب أو الأم بالضرورة … بل سلسالا من الأسلاف على مدى ألف سنة وأكثر، قل فقط في القرنين الأخيرين … ولا يستثنينا نحن أجداد أجيال الغد … فقد أنجزت الدول الغربية (وحتى الشرقية القصوى) ثورتها الصناعية الأولى والثانية، وترسخت لديها مؤسسات ديمقراطية ودول قانون ونشر واسع للعلم والتعليم والبحث العلمي، وتحررت دول جنوب عدة منها دول عربية كمصر … فيما كانت دولة عربية مترامية الأطراف كالسعودية خالية من الغزو الأجنبي وحتى العثمانيون انهزموا واستراحت منهم … ومع ذلك يقي التواكل والتخلف والعجز عن بناء مؤسسات عصرية ودولة متينة الأركان، بقي ذلك عندنا قائما جاثما نائما … حتى مشاريع النهضة التي طرحها بعض الرواد مطلع ذلك القرن، واعتمدتها في القاهرة ثورة 19 … حتى هذه وئدت سريعا بظهور تيارات فكرية قروسطية تكفّر العصر وترجع إلى أنماط القرن الأول للهجرة وتدعو لإحياء الخلافة … وعرفت دعما عجيبا ونموّا فلكيّا عصف بأيّ أمل في تحديث وخلق قوّة ومضاهاة مردة العصر …

حتى الاستقلالات التي حصلت بعد ثلاثة عقود، أي مع بشائر الخمسينات … حتى هذه لم تزد عن كونها قشور فرح ووهما بالسيادة، وسرعان ما تكشّفت عن كيانات عربية متنافسة في الصغارة والفقر والاستبداد والفساد وعبادة زعماء أنصاف آلهة في كل بلد … بل واتضح أن الشعوب خرجت من الاستعمار لتقع في شراك التبعية، وهاتوا بلدا عربيا واحدا لم يبق على أوثق الصلات بمحتلّه السابق … فرنسا، ، أنكلترا، إيطاليا وحتى إسبانيا … اقتصاديّا وثقافيا وطبّيا، نعم وكم من زعيم “مستقلّ” يهرع به أهله لأقلّ وعكة إلى مستشفيات باريس ولندن وروما … ولم تتغيّر المعادلة كثيرا بحلول زائريْن جديديْن وقتها، واشنطن إلى اليوم وموسكو في زمن من الأزمان …

كل هذا والإذاعات تردد عشرات الأناشيد الحماسية في تواريخ تتبدّل بحسب تبدّل الزعماء واختيارهم على أيام سعد تلائم جلوسهم على العرش … أناشيد حماسية قوامها طبعا تأليه صاحب السلطة على أنه خير من تسعى به قدم … والفخار بهذا الوطن الذي تحرر وأطرد الاستعمار مع الشتائم المناسبة لهذا الاستعمار الذي انتصرنا عليه … والتباهي بحالة الازدهار التي تعمّ تلك البلاد منذ تولّي الزعيم الملهم دفّة قيادتها … والمحافل الدولية التي قتلها الانبهار بمسيرة التنمية واللحاق بركب العالم المتقدّم … إلخ، إلخ … وتصدّق غالبا ما يقال في إذاعة بلادك عن بلادك، ولكن يصادف أن تسمع إداعات شقيقة أخرى، أو مراسلة من دولة شقيقة تبثها إذاعتك الوطنية … فتفغر فاك حين تلقط ما يقال عن زعيمهم المفدّى وأحوالهم الرخيّة هناك، فإذا به نسخة بالألوان عمّا يذاع عن زعيمك وأحوالك هنا …

تصدّق وتمشي مزهوّ الصدر والكبرياء … ثمّ تشكّ قليلا جرّاء التشابه الذي ذكرناه سالفا، ثمّ يزيد شكّك حين تطّلع على مصادر أجنبية محايدة تصفك وتصف أجوارك وأشقّاءك بأنكم جميعا عالم ثالث … وتصنّفك وتصنّفهم ضمن الدول التي تعتاش على القروض والمساعدات، أو على ريع ثروة باطنية لا فضل لإنسان فيها، أو على تصدير اليد العاملة الرخيصة، أوعلى تحويلات المهاجرين، أو على سياحة فقراء أوروبا، أو على ما تجود به النخلة والزيتونة كما كان منذ ألفي سنة … وتصنّف جامعاتك وجامعات أشقائك خارج أي تصنيف دولي محترم، لا ضمن الخمسمائة ولا صمن الألف … مهما ادّعت إذاعتك وتلفزتك ومهما تنافخ وزراء تربيتك وتعليمك العالي … نفس الشيء بالنسبة إلى منظومتك الصحية، ونسيجك الصناعي، وفلاحتك، وثقافتك التي لا يسمع بها أحد كيلومترا واحدا خارج حدودك وحدود أقربائك في أحسن الأحوال … ويتعرّى كل شيء بالكامل حين تحصل أزمة (دبلوماسية خاصة) مع الدول الكبرى، فإذا بقرصة أذن واحدة كقطع النزويد بالقمح مثلا، تُدخل بلادك في مذلّة بلا مثيل …

في الأثناء تحررت شعوب كثيرة، في أوّل القرن العشرين وأيضا في وسطه … تحررت فعلا لا خطابة وبنت نفسها بجدّ وتحوّلت إلى نمور وأسود رغم أنّها استقلّت معك وربما بعدك … وفيها دول مثل ماليزيا بدأت نهضتها بعد استقلالنا بربع قرن أي في الثمانينات … وفيها دول مثل كوريا الجنوبية هي عبارة عن نصف دولة … وفيها دول كسنغافورة هي عبارة عن جزيرة مثل جربة، ولكن دخلها الوطني الخام يفوق البلاد العربية مجتمعة … بلا بترول ولا غاز ولا مرجان ولا ترتان … وتحولت إلى دول منيعة لا يقدر أحد على إزعاجها أو إزعاج أجوارها وأشقائها … ويكفي التذكير بما حصل من أزمة ظرفية عاشها اقتصاد دول “آسيان” (جنوب شرقي آسيا) سنة 1997 … إذ ركب الرعب عواصم أوروبية وغربية عظمى، والسبب البطالة التي هددت مئات آلاف العمّال الغربيين الذين تشغّلهم مصانع ومتاجر وماركات الدول الآسياوية تلك !

وفي الأثناء أيضا … تسلل الذين لا أسمّيهم إلى فلسطين فردا ففردا، مجموعة فمجموعة، باخرة فباخرة، واغتصبوا أرضا شقيقة عزيزة وكوّنوا من عصاباتهم جيشا، ومن جيشهم دولة، ومن دولتهم قوّة هزمتنا في كل المعارك رغم حسن نوايانا وعدالة قضيتنا … طبعا هناك دعم دولي لهم رهيب، وهناك مؤامرة كبرى تحاك منذ مؤتمر بال، ومنذ سايكس بيكو، ومنذ وعد بلفور، ومنذ قرار التقسيم ومنذ ومنذ ومنذ … ولكن …

هل نحن (أو بعض مِن “نحن”) غرباء تماما عن تلك المؤامرات أبرياء منها؟ … هل الدعم الخارجي وحده يمكن أن يرجّح قوة على قوّة؟ … هل هناك ما يمنع أن يكون لك نفوذ في الخارج يعادل على الأقلّ نفوذهم؟ هل لهم مال وليس لك مال؟ هل لهم جاليات مبثوثة في كبريات العواصم وليست لك جاليات هناك؟ أسأل ثانيا … هل حالهم الداخلي، مستوى مؤسساتهم، قيمة جامعاتهم، أقلّ أو أكثر أو في مستوى ما هو عندنا؟ … أخاف أن أجيب فتنهال على الرأس حجارة مولْوِلة زاعقة يتطاير منها الشرر … شرر خير أمة أخرجت للناس …

والسؤال الأخير … لماذا وكيف ومتى ينتهي تفوّق “مستوطنة” على وطن بريح لا تكاد تغرب عنه الشمس؟

أكمل القراءة
انقر للتعليق

اترك تعليقا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

جور نار

بسبب سياسة رئيسها المنحرفة عن العقلانية الديغولية … فرنسا تخسر مواقعها بالدول العربية بعد إفريقيا

نشرت

في

نتنياهو سيزور فرنسا في 2 فبراير للقاء ماكرون، في ثاني جولة له إلى الخارج  منذ عودته إلى الحكم - تايمز أوف إسرائيل

أثناء جولته الشرق أوسطية التي استهلها بالكيان المحتل خيب الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون ظن حتى بعض مواطنيه حين لم يشر إلى مذابح الدولة الصهيونية وتقتيل الأطفال و تهجير المدنيين و تدمير البيوت على سكانها … مع قطع الماء و الكهرباء و المعاش عن الباقين على قيد الحياة بقطاع غزة و الاعتداءات المتكررة و قتل الأبرياء بالضفة الغربية أيضا…

محمد الزمزاري Mohamed Zemzari
محمد الزمزاري

بل ذهب إلى اكثر من ذلك مقترحا حشد ائتلاف يجمع الدول الغربية (وهو يقصد الناتو ضمنيا) ضد المقاومة الفلسطينية … ويساند الاحتلال بكل قوّة مقتفيا آثار الأمريكي بايدن، كما يعوّل على مشاركة مفترضة من البلدان العربية ضمن التكتل المشار اليه وتجديد حشر “حماس” كمنظمة إرهابية مع داعش، لتبرير إبادة الشعب الفلسطيني تحت هذا الستار … هذا المقترح يثبت تواطؤ سلطة فرنسية كانت تاريخيا ومنذ مطلع الجمهورية الخامسة مع الجنرال ديغول ورغم قربها من الدولة الصهيونية، تتعامل بحذر وتعقّل مع أطراف الصراع ولا تعلن انحيازا مفضوحا للكيان الغاصب مثلما يفعل ماكرون ..

لذلك أمكن تصنيف زيارة ساكن الإيليزيه الثانية للضفة الغربية ضمن الزيارات غير المرغوب فيها بل كانت في انتظاره مظاهرات رفض ناتجة عن قناعة بأن حضوره استفزاز ومضيعة للوقت … وفعلا فحتى لدى لقائه بعباس لم ينبس باي تنديد او تلميح تجاه المجازر الصهيونية بغزة و الضفة الغربية … فلم تعد تهمّ الشعب الفلسطيني اية مبادرة صادرة عن رئيس فرنسا الذي كرر دعمه و مساندته للكيان الإرهابي، و لا يمكن قبوله كشريك في اية مفاوضات مفترضة.

الواضح للمحللين إن ماكرون الذي خسر عديد المواقع و فشل فشلا ذريعا أمام الثورات الأفريقية التي نسجت تقاربا كبيرا مع روسيا و الصين على حساب مواقعه وسياسته المسكونة بالعقلية الاستعمارية، هاهو ذا يكرر سياسته الخرقاء مع قضية العرب وشعوب العرب ودول العرب … ومن شأن هذه السياسة ستكون في انتظاره أيام صعبة سواء على مستوى الشارع الفرنسي او البرلمان حيث يتربص به عديد السياسيين و الاحزاب و النقابات.

كما أن ماكرون سيحصد غضب الشعوب العربية و كتلة المهاجرين المغاربيين خاصة وربما قد يصل الأمر إلى مراجعة شكل العلاقات مع دول شمال أفريقيا مثل ” كنس:” اللغة الفرنسية من قطاعات التعليم والإدارة لتعويضها باللغة الإنكليزية المجدية والأكثر انتشارا، وهو الأمر الذي تتحمل فرنسا الطاعون ولا تتحمله.

سيواصل ماكرون مسرحيته بالأردن و ربما مصر ليجتر دوره الكاريكاتوري الموجه اساسا لتغطية فشله المدقع داخل فرنسا و خارجها، ووقتها لن تنفعه إسرائيل ولا أمريكا.

أكمل القراءة

جور نار

أفِق صديقي كلود… صديقُك الفلسطيني حنظلة ينتفض ويخرج عن صمته !

نشرت

في

صديقي الفرنسي كلود ألف رحمة على روحه الطاهرة كان كأغلب الفرنسيين الأسوياء نقديّا ومُحترزا تجاه ما تتداوله وسائل الإعلام الغربية بشأن ما يحدث خارج حدودهم وبصفة خاصة على أرض فلسطين ولكن أبدا إلى درجة الإقرار ببشاعة ما حدث في 1947.

منصف الخميري Moncef Khemiri
منصف الخميري

لم يكن عنصريّا مطلقا وكان مؤمنا بقيم إنسانية نبيلة تُمجّد السلام والتحابب بين الشعوب، لكنه كان يعتبر أن توطين اليهود الذين نكّلت بهم النازية وغيرها عبر التاريخ في مكان ما من العالم يمكن أن يكون تصحيحا تاريخيا لأخطاء قصوى مارسها الغرب ضد هذه الفئة من الناس. وكان يردّ عليّ كلّما قلت له “لا ندري من أين جاء هؤلاء، فهم لهم جنسيّات أصلية، فيهم الفرنسي والروسي والبولوني والأثيوبي والتونسي والعراقي الخ…ويتعلمون العبرية (العنصر الأهم في تكوّن هويّة شعب) فقط عندما يهبونهم أرضا ليست لهم في فلسطين…” كان يردّ عليّ مازحًا “حتى أنتم اليساريون لكم أوطان تحتلّونها وتقيمون فيها بسلام مثل الصين والاتحاد السوفياتي وكوبا…”.

وظل الموضوع الفلسطيني منطقة منزوعة التبادل بيننا إلى أن تمّ اغتيال رسّام الكاريكاتور الفلسطيني ناجي العلي في انكلترا صائفة 1987 (والتي دُفن بها ضدّ رغبته لأنه كان يريد أن يُدفن إلى جانب والده في عين الحلوة)… فلاحظتَ سريعا وأنت المنتبهُ دائما إلى تفاصيل يومي، خاصة أننا كنا متعاهدين على تبادل رسائل مطوّلة ومنتظمة نأتي فيها على تفاصيل الحياة بين الضفّتين، أنني كنت مهموما باستشهاد ناجي العلي لا سيما أمام احتمال استهدافه من قِبل قيادات فلسطينية و/أو عربية بعينها لم تحتمل لهيب النقد والتهكّم الموجه ضدّها بصورة يومية على صفحات أكثر الجرائد اللبنانية انتشارا، وهو سيناريو انتشر في عديد الأوساط آنذاك بالرغم من أن السيناريو الآخر يظل قائما لأن أحفاد بن غوريون اعتادوا لا فقط اغتيال من يحملون البنادق بل من يحملون الأقلام وريشات الرسم أيضا. (كان قاتل ناجي العلي دون ملامح تقريبا باستثناء صورة تقريبية نشرتها الشرطة البريطانية إلى جانب صورة للمسدس الذي استخدمه)

إنشاء نشرية لروح ناجي العلي بعنوان حنظلة

في أواخر ثمانينات القرن الماضي لم يكن التواصل يسيرا كما هو اليوم، ولم تكن الكتابة والنشر متاحين بنفس ما تتيحه مواقع التواصل المختلفة والمتنوعة اليوم، لم أعد أذكر من الذي استحضر فكرة إصدار نشرية سنوية صغيرة باللغة الفرنسية تحتفي بهذه العلامة الفارقة في تاريخ فن الكاريكاتور المقاوم في العالم، وتتبنّى حنظلة (الابن الشرعي لناجي العلي) الذي ظل يتيما بعد اغتيال من أوجده وأعطاه روحا واختزل فيه أرضا وقضية وهوية، ولكن ولدت الفكرة هكذا وكان لها رواج واسع جدا في صفوف التلاميذ والأساتذة آنذاك.

وكان المُبهر في هذه التجربة البسيطة أنها أفسحت المجال أمام أناس كثيرين من الضفّتين ليتعرّفوا عمّا صنع تميّز رسوم ناجي العلي وأبعادها الرمزية، وخاصة نجاح الرسام في التفرّد بتوقيع رسومه على نحو لم يسبقه إليه أحد (أو على الأقل كان من القلائل جدا أن وقّعوا رسومهم كما وقّعها هو) وأن يعبّروا كل بطريقته عن تضامنهم مع شعب هُجّر قسرا وأُبعد قهرا عن زيتونِه وليمونِه وجذورِه في أرض ظلّ يفلحها منذ آلاف السنين.

وكان المُلفت أيضا أن الجميع اجتهد في تفكيك رمزيّة حنظلة والدلالات التي قصدها ناجي (والتي لم يقصدها ربما) من خلال نحت هذه الشخصية السرديّة المرافقة لكل إنتاجاته : فهو صبيّ في العاشرة من عمره تقريبا، أدار ظهره للعالم بعد أن تخلّى عنه الجميع، وشرّعوا باسم الشرعية الدولية تقسيم وطنه وإبعاد أجداده عنه، وهو الضمير الجمعي الشاهد الثابت مكانه على ما تمارسه جحافل القتل القادمة من كل أصقاع الدنيا ضد شعبه الذي لا يمتلك مؤسسات رسمية للتوثيق والتسجيل، وهو الطفل الذي – بلباسه المرقّع وساقيه الحافيتين- يختزل حالة البؤس المادي المدقع الذي يستوطن كامل القرى والمدن والتجمّعات والمخيّمات الفلسطينية. وهو نبتة الحنظل Coloquinte أو ما يعرف بالتفاح المرّ حيث يقول ناجي العلي “وقد أسميته حنظلة كرمز للمرارة“. .. وحنظلة، هوَ كلّ هذا دفعة واحدة !

وكان المُدهش أيضا في هذه التجربة أن الحواسيب مازالت آنذاك في تلعثماتها الأولى، لكن صديقي الفرنسي طوّع لوحة مفاتيحه لكتابة بعض التعاليق باللغة العربية، الشيء الذي كان يُعتبر في تلك السنوات إنجازا خارقا سبق الميكروسوفت وشركات إنتاج تطبيقات الكتابة الالكترونية وبرمجياتها… وكنت متأكدا أن تعاطفه مع حنظلة ومع جميع من يتماهون مع هذه الشخصية التي أسرت قلوب ملايين العرب والمتابعين من العالم هو الذي دفعه إلى “تفجير الحروف العربية” من كهوف الرموز والعلامات.

وكان من ضمن ما كتبت أنت أيضا :

“…يجب أن أعترف بأنني أحبُّ هذا الصبي عندما يتحرّك وربّما هو يشدّني إليه أكثر من “حنظلة الثابت” الذي لا يتحرّك ولا يردّ الفعل. ثمّ – وهنا، الفرنسي هو الذي يتكلم – إن الاحتفاء بحنظلة الذي يرمي حجرا يجب أن يُحمل على أنه دليل أكبر على الالتزام والانحياز لأن ذلك يفترض تفكيرا مسبقا وتمشّيا واختيارا. وإذا أعلنّا أننا نحب حنظلة، فذلك يقتضي أن نُمسك به في كل أبعاده. ويجب الاعتراف أيضا بأن صورة السلام التي يجسّدها يصيبها شيء من الانطفاء ولكننا إذا نظرنا إلى المشهد عن قرب، ندرك سريعا أن السلام هو شيء يُبنى ويُستحق لا مجرد شعار يروّج للاستهلاك العام.”

وكانت البداهات هي من دعتك إلى بناء فهم جديد حول فلسطين :

كانت علاقتك بتونس وبالتونسيين حاسمة في تغيّر نظرتك لما يحدث في فلسطين، لكن الحقائق البديهية التي تتكتّم عليها وسائل الإعلام المتنفذة في العالم هي التي جعلتنا نتبنّى حنظلة معا ونحتضنه ونوزّعه على نطاق واسع لا على معنى “التشريد” كما يفعل الصهاينة بل على معنى “التغريد” الإيجابي بما يُعيد الحقّ التاريخي إلى أصحابه ويُعيد الوافدين الرحّل إلى أوطانهم الأصلية حيث صُلِبوا وأُحرقوا ونُكّل بهم …والله يشهد أن الفلسطيني في حِلّ مما حدث لهم قبل الحرب العالمية الثانية.

من هذه البداهات، ما قالته الجامعية الفلسطينية حنان العشراوي “نحن الشعب الوحيد في العالم الذي يُطالَبُ بالمحافظة على أمن من يحتلّ أرضه، بينما إسرائيل هي الهوية الوحيدة في العالم التي تزعم حماية نفسها من ضحاياها”.

ومن هذه البداهات أيضا : أن المَجَري تيودور هرتزل الأب الروحي للصهيونية السياسية فكّر في توطين اليهود بأوغندا ثم بالأرجنتين قبل أرض فلسطين بما يعني أن مشروع التوطين لا ينبني على معطيات تاريخية وجذور ديموغرافية وجغرافية مزعومة بل هو مشروع سياسي استعماري استيطاني صرف كان من الممكن تنفيذه في التشاد أو في الهونولولو !

والبداهة الثالثة (وليست الأخيرة) أن ذاكرة الأحياء بيننا اليوم (وليس ذاكرة الأرشيف البعيد)  مازالت تحتفظ بأسماء قرى ومدن فلسطينية تحوّلت خلال السنوات القليلة الماضية إلى كيبوتزات ومستعمرات صهيونية بأسماء اجترحوها من حائط مبكاهم الكاذب… فتحولت طولكرم إلى عيناف وبيت لحم إلى بيتار عيليت وبيت جالا إلى هار جيلو …

وكنت أُمازح صديقي الفرنسي دائما بالقول : تصوّر لو تتحول بعد خمسين سنة فقط مدينة روان الفرنسية إلى قطاع نحتلّه ونطلق عليه “إقليم الشراردة” أو نسطو على مدينة غراس (الشهيرة بالعطور المستخلصة) ونطلق عليها  اسم “تل الزعتر” !

أكمل القراءة

جور نار

في غزّة… الشهيد ابن الشهيد حفيد الشهيد …

نشرت

في

كنت أتابع عبر هاتفي تسجيلا لبعض المسيرات التي شهدتها أغلب العواصم والمدن العربية دعما لأهل غزّة حين استمعت إلى بعضهم وهم يصرخون بـــ”الشعب يريد تحرير فلسطين”…فضحكت…واستغربت غباء الشعوب العربية التي لا تزال إلى يومنا هذا تصدّق أكاذيب وشطحات حكامها…

محمد الأطرش
محمد الأطرش

كأني بهذه الشعوب تنتظر هروبا للكيان من أرض فلسطين بمجرّد سماعه لخطاب حماسي ناسف، عنقودي الكلمات ومبيد المفردات من حاكم عربي يرفع على الاعناق بمجرّد الانتهاء من خطابه ويصبح عند بعض أتباعه زعيما لا مثيل له…وكأني بجنود الكيان ستترك أسلحتها وتهرب بمجرّد سماعها لهذه الشعارات الغبية التي ترفع في المسيرات الداعمة لشعب يئن ويتوجع منذ أكثر من سبعين عاما…وكأن هذه الشعارات ستصبح رصاصات تخترق أجساد جنود المحتلّ…أهكذا تريدون دعم القضيّة التي تعتبرونها قضيّتكم الأم…أظنّ أننا جميعا أخطأنا الطريق وأن حالنا لن يصلح ما لم نرتق بأفكارنا وندرك حقيقتنا…حقيقتنا التي تقول اننا شعوب تفاخر بما ليس فيها وبما لا تمتلكه…

نرفع شعارات ضدّ التمييز وكل بلاد العرب اوكار للتمييز وللعنصرية…نرفع شعارات تنادي بالديمقراطية ونحن لا نعرف ما تعنيه الكلمة ولا وجود لها أصلا في كل البلاد العربية…نرفع شعارات تنادي بحقوق الانسان ونحن نهين الانسان وننكّل بالإنسان أينما كان في البلاد العربية…وكأني بالشعوب العربية لم تدرك إلى يومنا هذا أن فلسطين لن يقع تحريرها ممن هم حولها من الشعوب العربية وغيرها…شعب فلسطين هو الوحيد القادر على تحرير أرضه ولا أحد من الشعوب العربية سيفعل ذلك نيابة عنه…وهو ليس في حاجة إلى هذه الشعارات التي نرفعها لأنها لن تخيف الكيان ولن تدمّر مدن الكيان…في حاجة فقط أن نقول جميعا “لا” للكيان ما لم يترك الأرض لأصحابها…

منذ سنة 1948 وحكام العرب يكذبون على شعوبهم وعلى بعضهم البعض…جميعهم يهددون الكيان بالويل والثبور وهم يرتعشون خوفا بمجرّد سماع صوت رصاصة…جميعهم يفاخرون بقوّة جبّارة وسلاح مدمّر وفي الأخير يموتون شرّ ميتة برصاصة من أسلحتهم التي كدسوها، ولم يفكروا يوما في شعوبهم وحياة شعوبهم وتركوها تعاني الفقر والتخلّف والويلات …هاتوا لي زعيما عربيا واحد أو ما شابهه كان عقلانيا في قضيّة فلسطين باستثناء بورقيبة الذي قالوا فيه ما لم يقله مالك في “السلتيا” وقذفوه بكل أنواع حبّات الطماطم …

جميعهم وعدوا شعوبهم في خطب حارقة حماسية تشتعل نارا ووقودا وشحنوا شعوبهم بأمل كاذب باسم القومية العربية وغيرها من الشعارات الكاذبة التي لم تجلب يوما خيرا واحدا للأمة العربية…جميعهم كبّلوا شعوبهم في أقفاص أيديولوجية لا نفع من ورائها غير تأليه من وضعها… وجميعهم وهنا اقصد دول المواجهة يكدسون السلاح خوفا على كراسيهم وعلى حكمهم من خصومهم ومن شعوبهم التي قد تثور عليهم يوم تكتشف خداعهم…يوم يجوع افرادها…وينتهي مخزونهم من الصبر…فلا أحد منه الحكام يكدّس السلاح لأجل شعب فلسطين أو من أجل تحرير أرض فلسطين…

هل حرروا شبرا واحدا من الأراضي المحتلّة بعد حرب السادات؟ أكانت حرب أكتوبر من أجل فلسطين أم من أجل استعادة الأراضي المصرية والسورية التي احتلت في حرب 67؟ هل أرسلوا يوما عتادا عسكريا أو رصاصة واحدة لفصائل التحرير؟ لا…هم اليوم أو لنقل بعضهم يشعرون بالدوار والغثيان لمجرّد سماعهم أن من نجحوا في كسر حاجز الخوف من الكيان هم من فصيلة خصومهم السياسيين الذين حاربوهم في بلادهم …فبعض حكام دول المواجهة لم يفاخروا بما اتته فصائل غزّة ولم يصفّقوا لها، فقط لأن من قاموا بها هم من خصومهم السياسيين…فصيل لا يفوق عدد أفراده الثلاثة آلاف نجح في ما لم تنجح فيه اية دولة عربية منذ 1948…

أغلب الحكام العرب إن لم نقل كلهم جعلوا من قضيّة فلسطين ملهاة ومجرّد فقرة في خطاب عنقودي الكلمات…وناسف المعاني لأهداف انتخابية…جميعهم يطربون ويرقصون لعملية فدائية لا تكسب القضية من ورائها شيئا غير تيتيم أبناء من قام ومات في العملية، ولا يتكفلون بيتيم واحد من يتامى الأرض المحتلة…جميعهم يبحثون عن لقب “الزعامة” وهم يخطبون في شعوبهم خطبا مليئة بحقوق الانسان والحريات والكرامة والعدالة والديمقراطية، وهم يفاخرون في نشرات الأخبار ببرنامج “سجن في كل قرية”…

في غزّة تموت الشهيدة إيلين بنت الشهيد باسل الخياط والشهيدة هديل ابو الروس وحفيدة الشهيد محمود الخياط والشهيدة رجاء فخري أبو الروس…وعلى بعد بعض مئات الكيلومترات منها يقع ختان الأمير ابن الأمير والأميرة وحفيد الأمير والأميرة أبناء الملك والملكة وتصرف ملايين الدولارات من أجل الحدث …فشتّان بين دولة تنجب الشهداء ودولة تنجب الأمراء ونصف شعبها من الفقراء…

أكمل القراءة

صن نار