جور نار
رهائن في أيدي رهائن
نشرت
قبل سنتينفي

هل وصلت البلاد إلى مرحلة الخروج عن السيطرة؟ توشك أن تكون كذلك، و لو لا بقية احترام للقوانين و مظاهر الدولة في بضعة مجالات، لقلنا إننا انتقلنا إلى حال الدولة الفاشلة … أو إلى ما بشر به أحد وزراء الداخلية السابقين الذي نبهنا إلى احتمال “الصوملة”، و نسي الهُمام أن يقول لنا بأن سيادته كان من بين الحافرين لأساسها …

قبل 2011 كنا من بلاد العالم القليلة التي “لا يحدث فيها شيء” تقريبا … و هو تعبير كان يطلق طوال أيام الحرب الباردة على بلاد الكتلة الاشتراكية و أوكرانيا تحديدا … و المعنى ليس أنه لا أناس و لا حياة و لا أعمال خير أو شرّ تقع في تلك البلاد، بل أن الدولة تُطبق على كل حركة و كل من يتحرك … أي أنها الفاعل الرئيسي في كل ما يحدث و لا خبر يتسرب عن أفعالها و أفعال مواطنيها إلا ما تريد له هي أن يخرج إلى العالم و وكالات الأنباء و شاشات التلفزيون الذي لا يمكن إلا أن يكون رسميا … فالاقتصاد مخطط، و السياسة مخططة، و كذلك الثقافة و المجتمع و العلاقات و حتى نسبة النمو الديمغرافي و جنس الأجنّة الإيكوغرافي !
نعم … عشنا تلك الفترة بكل جوارحها و جوارحنا، و كم يجد المؤرخون اليوم مفارقة في تدوين تاريخنا الذي يبدو بعيده أسهل في التدوين من قريبه، و العثور على شواهد منقوشة في الحجر عن عهد قرطاج (على قلتها) و فترة الاحتلال الروماني (على كثرتها) و ما يلي ذلك من عهود مر اليوم عليها من الألف سنة فما فوق … قلنا العثور على شواهد من تلك العصور، كان أيسر من تدبير مقال أو خبر أو تحقيق يصف بأمانة حال تونس في الستين عاما الأخيرة … خاصة إذا بحثنا في أرشيف صحفنا المحلية و إذاعتنا و تلفزتنا الوحيدتين، اللهم إلا مباريات الكرة و أحوال الطقس …
تلك فترة مضت الآن، و لا فائدة في التثريب عليها و التشنيع على أصحابها، فلكل زمن أحكام و لكل ظرف مقال … و خاصة لكل مرحلة شطران من الكأس من الظلم النظر إلى أحدهما و تجاهل الآخر … و يمكن حتى الرجوع إلى أسئلة صحفيين أجانب عند بعض زيارات رئيسيْنا الأوّلين إلى العواصم الكبرى و استفهامهم حول غياب الديمقراطية عن نظامنا … و الجواب الذي كان يأتيهم تقريبا في كل مرة: “من المبكر الكلام عن ديمقراطية سياسية في مجتمع مبتلى بمخلفات قرون من الجهل و الفقر و الأمراض لعل أفتكها داء القبليات و العروشيات إلخ” …
كنا في سرّنا و في تراكننا نسخر من هذا الجواب، بل و نحنق عليه و كان منفيونا أكثر طلاقة في التعبير ضد هذا المنطق الرسمي المتكرر … و قد صدرت كتب كثيرة في المهجر عن حالنا و بأقلام تونسية لعل أجرأها كانت للمرحوم إبراهيم طوبال و الدكتور منصف المرزوقي (المفكر الحقوقي لا السياسي الساعي إلى الكراسي)، و خاصة كتاب التونسية الرائعة “صوفي بسيس” حول الزعيم بورقيبة و عهده في جزأين … و معها مجلة “جون أفريك التي كانت علاقتها مع سلطتنا القائمة تتراوح بين المد و الجزر، بين التصريح بالدخول أو الحجر …كما كانت تخرج هنا أو هناك مقالات كثيرة من منابر أجنبية أو تونسية مهاجرة، فيها ما هو لوجه الوطن، و فيها ما هو لأجل غايات لا علاقة لها بالوطن … ”
المهم … مر شريط الزمن كما أراد و جاءت أحداث 2011 و طوى التونسيون صفحة النظام القديم بما فيها من مرّ و أيضا من حلو أغفلناه في البداية و ها أن طعمه و ذكراه يعودان إلينا مع الأيام … نقف اليوم المسافة الضرورية التي يحددها المؤرخون للحكم على أشخاص أو أحداث بأعصاب هادئة و معطيات أنضجها الوقت و أكسبها نفيا أو إثباتا … و خاصة مكّنها من أدوات تقييم عادلة لعل أصدقها عامل المقارنة بما جاء بعدها من مراحل … و للعلم، فقد أخذت دولة مثل غانا مدة 12 سنة لكي تعرف قيمة فترة زعيمها الاشتراكي”كوامي نكروما” بعد الانقلاب عليه و تحطيم كل ما بناه من إرث إيجابي و سلبي … كذا فعلت شقيقتنا الإفريقية الأخرى “بوركينا فاسو” التي تردّ الآن الاعتبار لمرحلة وطنية طويلا ما تعرضت لظلم شديد، بعد اغتيال المناضل القاري الكبير “توماس سنكارا” …
من ملامح ما بعد 2011 تونسيا، أننا انتقلنا من النقيض إلى النقيض بسرعة لا تصدق … فبعد أن كنا نعيش مع حزب واحد، أصبح عدد الأحزاب عندنا يفوق المائتين … و بعد أن كان النظام رئاسيا فرديا صار برلمانيا متطرفا لا تعرف مَن المسؤول فيه مِن غير المسؤول … و بعد أن كانت مواقفنا الخارجية تتسم بحياد مطلق يكاد يكون غيابا، أصبحنا نهاجم أجوارا و أشقاء و نتدخل في شؤون غيرنا جهارا و نصطف وراء محاور ضد محاور و نرسل حتى أبناءنا ـ بالآلاف ـ للقتال في أرض غير أرضهم و قضايا غير قضيتنا … و بعد أن كان الاقتصاد موجها مسطّرا ليس بالغني جدا و لا بالفقير جدا و يضع كامل السكان تقريبا في أرض وسطى لا تشبع و لكنها لا تجوع، أصبحنا أمام منظومة ليبرالية متوحشة تحوي أصحاب المليارات (من الدنانير) و نابشي الحاويات بحثا عن سد رمق و لأول مرة صارت لدينا جيوش من فاقدي المأوى (أس دي أف) و أطفال شوارع لا يحصيهم حصر … و بعد أن كانت الدولة تتدخل في الكبير من شؤوننا و صغيرها إلى درجة كنا نضيق بذلك، أصبحت الدولة بعيدة عنا تاركة إيانا في حال سبيلنا و كل منا يتدبر أمره يأكل أو يجوع، يعمل أو لا يعمل، يقرأ أو لا يقرأ، يُضرِب أو يَضرب أو يُضرَب … لا يهمها في ذلك شيء …
في كلمة … تحولنا من “البلد الذي لا يحدث فيه شيء”، إلى البلد الذي تحدث فيه أحداث جسام و غرائب عظام و فرجة مجانية لأواخر النشرات و طرائف صحف العالم … العالم و ضواحيه بتعبير الشاعر آدم فتحي …
اليوم الدولة تتفرج … على نفسها أولا و قد تحولت إلى أهزل الصور و أسوإ المقامات، لا يحترمها مواطن و لا تقيم لها وزن دول أخرى مهما صغُرت … و أصبح رؤساؤنا بتعدادهم اللامحدود (واحد للدولة، و واحد للبرلمان، و ثالث للحكومة و رابعون و خامسون و سادسون في الأحزاب و اللوبيات و “الغرف المظلمة” كما قال الآخر) قلت أصبح رؤساؤنا يُستقبلون في الخارج من قبَل وزير و نائب وزير و رئيس بلدية حتى … و صار منصب الوزارة في متناول أي هابّ و دابّ، إلى درجة أصبحنا لا نحفظ أسماءهم و لا حتى أسماء وزاراتهم المتقلّبة من يافطة إلى يافطة، و كان الله في عون الخطاطين و صناع الأختام و في كل شهر لهم طلبية بتغيير كل الموديلات المتعلقة بالإدارات المركزية و الجهوية و المحلية الكثيرة … بل قل كان الله في عون المتعاملين مع إداراتنا التي يتركونها بعنوان ليجدوها من الغد بعنوان آخر و وجوه أخرى تنكرهم تماما و تنكر ما تعهد به أسلافهم المغادرون …
الدولة صارت تتفرج أيضا على المواطنين كل يسير نحو مصير يريده أو لا يريده و البقاء للأقوى، إنهاالغابة يا مولاي … قد يلائم هذا الوضع الكواسر من ذوات الظفر و الناب، و لكن ما حال أغلبية الحيوانات الوادعة المقصوصة الجناح و اليد الضاربة؟ … و ما حال شعبك الزاخر بالكائنات السفلى قاصرات و قصّرا؟ … و من يتذكّر تلك الجهات النائية التي لا تعثر فيها بغلة عمر، بل تسقط ابنة عامل بسيط في بالوعة، و يهوي طبيب شاب في هوّة قفص أسانسير؟ … و من يستمع لأحد عشر مليون صرخة وجع، في ليلة دهماء من ليالي ديسمبر الأصمّ؟؟
الطبيعة لا تحب الفراغ، و داروين قال لنا من زمان بأن في الأدغال من لا يقتل يُقتل، و نفس الكلام قاله شاعرنا الجاهلي حول الذي لا يذود عن حوضه بسلاحه … عندما تغيب السلطة و لا تأخذ حق مظلوم فهي تقول له خذ حقك بيدك … و هذا تقريبا ما هو بصدد الحصول في شمال البلاد و جنوبها … الحق هو القوة و القوة اتفقنا منذ 3 آلاف سنة (هي عمر الدولة التونسية المستمرة) هي احتكار للدولة إلا في ما ندر من مراحل … القوة المسلحة و لكن أيضا القوة موزعة الخيرات و الأدوار و ساعات العمل و أجور العاملين و جرايات المتقاعدين و هوامش أرباح التجار و مكوس الجمارك و ضرائب الشركات و رجال الأعمال …
هذه هي الدولة التي اتفقنا عليها و رضينا بها و سلمنا لها كل شؤوننا إلى حد الاستسلام … و هي نفس الدولة التي كانت تجمعنا تحت علم واحد و نشيد و جنسية أوراق مدنية و شعب واحد بأربع و عشرين ولاية و 300 معتمدية و ألف قبيلة و ما يزيد عن مليوني عائلة و دفتر عائلي … و ما أن انفرط عقد الدولة، حتى انقسمنا من جديد و عادت إلينا غرائز التوحش و انقلبت بيوتنا إلى مغاور و طالت لحانا حتى لامست التراب و تحولت أقلام الكتابة (التي كنا نحرر بها شكاوانا إلى الإدارة السابقة المنصفة نسبيا) في أيدينا إلى هراوات غليظة و حراب مسننة بحجر الصوّان …
إن ما يحدث هذه الأيام ليس تطاولا على الدولة كما يردد البعض، فالدولة كائن متخيَّل لواقع هو نحن … إنما هو عملية انتحار جماعي بدايته لعبة مسلية و نهايته إبادة عامة أو دخول استعمار مباشر … و لا تتسرع حبيبي و لا تقل إن عهد المستعمرات قد ولّى، فها أمامك دول أقدم و أعرق تنهار و تُسلب سيادتها بأسهل مما تصوّرت هي و نتصور نحن الآن … و عادت إلى وضع التابع الخاضع المستعبَد، منذ أن حارب بعضها البعض الآخر، و قطع الرزقَ جزء منها عن جزئها الآخر، و رفض قسم منها العيش مع القسم الآخر …
في حين أن دولا أقل تاريخا و تماسكا موروثا، و لكن أقل جهلا و عماية، نجحت في التوحّد رغم أنه في بلجيكا توجد قوميتان رئيسيتان، و في سويسرا ثلاث قوميات، و في “رواندا” هوتو و توتسي بينهم ثأر بملايين الجثث … أما في الهند فمجرّة من الأقوام و الديانات و اللغات و الأحزاب و الميولات، بعدد حجارة نهر “الغانج” من المنبع إلى المصبّ ّ …
تصفح أيضا

سُعدت جدّا بالدعوة التي وجّهتها اليّ دار الثقافة ابن رشيق بتونس العاصمة احتفاء باليوم العالمي للاذاعة يوم 13 فيفري 2023 …

سعادتي كانت مزخرفة بالوان عديدة .. اوّلها انّ المشرفة على التظاهرة السيّدة عربيّة بدات رحلتها معي وهي تلميذة بالخامسة ثانوي بمعهد الحمامات كمستمعة ومراسلة لبرامجي في بداية الثمانينات باذاعة صفاقس ..وها هي اليوم نبتة صالحة تعمل بوعي وجدية في الميدان الثقافي ..هنيئا لي بك عربية وشكرا لك ولدار الثقافة ابن رشيق على هذه الدعوة … اللون الثاني تمثّل في اللقاء مع مجموعة من الزملاء الاعلاميين _اذاعة وصحافة مكتوبة مارسنا معا العمل منذ اكثر من 40 عاما سواء بالاذاعة الوطنية وفروعها في الاذاعات الجهوية او في جريدة الايام ذات سنوات في بداية الثمانينات والتي بقيت اصداؤها لحدّ الان كتجربة فريدة من نوعها في تاريخ الصحافة المكتوبة ..كنا انذاك عصابة من الاعلاميين المشاغبين جدا جمعنا رئيس التحرير الزميل نجيب الخويلدي .. وكتبنا وحبّرنا عديد الصفحات بمنطق ذلك الذي لا يجامل ولا يعادي …
اللون الثالث كان في لقاء مع مجموعة من الاسماء تواصل عملها سواء اذاعيا او تلفزيا ..وكان السؤال المحوري في مداخلتنا (الاذاعة بين الامس اليوم) وتداول على المصدح وبتنشيط من زميلي حبيب جغام العديد ..الا انّي وبعد كل ما استمعت واسمعت يومها اخترت في هذه الخواطر ان اطرح السؤال الاهمّ في تقديري وهو (الاذاعات الى اين ؟) هو سؤال مأتاه ما تعيش الصحافة المكتوبة من صعوبات جمّة لمواصلة التواجد مما ادّي البعض منها الى الانقراض …وبالتالي وامام المتغيرات التي شهدتها وسائل الاتصال كيف يمكن للاذاعات مقاومة هذا الواقع الجديد وهل هي قادرة على ضمان ديمومتها في الوجود ؟؟
الاذاعي بطبيعة انتمائه لهذا العالم السحري يرفض حتى مجرّد طرح السؤال ويعتبر انقراض الاذاعات سؤالا عبثيا .. ..وبشيء من هدوء الاعصاب ها انا اصرّ على طرحه وبشكل مباشر ..امام الواقع الاتصالي الجديد هل اصبح غد الاذاعة مهددا ؟؟ الواقع الاتصالي الذي نعيشه اثبت انّه بامكان ايّ كان ان تصبح له اذاعته الخاصة ..واكبر دليل على ذلك عديد المحطات الاذاعية وخاصة تلك الموجودة على الويب وهي اذاعات لا علاقة لها بالمفهوم العلمي مهنيّا لماهيّة الاذاعة . هي في جلّها نزوات فردية يمكن حوصلتها في (هيّا نعملو اذاعة ؟؟ ايه نعملو وعلاش ما نعملوش ..يخخي هي علم اليدُن ؟؟؟) …
نعم الاذاعة علم وموهبة تصوّرا واعدادا وتنفيذا ومتابعة ….ثمّ ودائما مع الاذاعات الخاصة هل ستبقى قادرة على ديمومتها وهي تعتمد اساسا على مداخيل الاشهار لتضمن خلاص اهل الدار ؟؟ وحتى اذاعات المرفق العمومي والتي تشتغل بفيالق بشرية مهولة جلّها لا شغل لها …هل هي قادرة على ديمومتها في ظلّ منافسة الاذاعات الخاصة لها رغم اسبقيتها التاريخية في احتلال المشهد السمعي ؟؟ وامام هذه التساؤلات هل سيواصل معهد الصحافة وعلوم الاخبار مسيرته كمّا وكيفا بعد ان اصبحت الاذاعات بكلّ انواعها تعتمد في جزء كبير من المنتجين والمنشطين بها على اناس لا صلة لهم لا بالصحافة ولا بالعمل الاذاعي ؟؟؟
بتساؤل يلخّص كلّ هذه التساؤلات: هل الاذاعات اصبحت مهددة تهديدا جدّيا في وجودها ؟؟ اجيب ودائما في تقديري الخاص ..نعم …. العديد من الاذاعات وخاصّة الخاصّة منها اصبحت في حاجة اكيدة للبحث عن حلول جذرية لواقعها المادّي اي لموارد جذيدة ..دون ذلك ستبقى مهدّدة في وجودها ..لانّ كعكة الاشهار المقسّمة على الجميع لا تفي بحاجة ذلك العدد المهول من الرخص المسندة من قبل الهايكا للخواص والتي اصبحت مشكلتها الشائكة توفير الحدّ الادنى من رواتب لافواه ارانبها لضمان حدّ ادنى من مقوّمات العيش الكريم …
فيما تبقى اذاعات المرفق العمومي بحاجة ملحّة لترشيد العامل البشري وتقليصه على مراحل للنصف على الاقلّ…
16 فيفري 2023
جور نار
للحبّ عيدٌ واحدٌ… وللعدوانيّة والشّتيمة أعياد وأمجاد !
نشرت
قبل 6 أيامفي
13 فبراير 2023من قبل
منصف الخميري Moncef Khemiri
كأنني بالحبّ في ربوعنا رهن الأسر والاحتجاز منذ بداية وجودنا ككيان ثقافي وحضاري مستقل له طقوسه وتقاليده ونظرته للعالم والإنسان والأشياء. مجالات التعبير عنه محدّدة بجملة من التقييدات والتّضييقات بالشكل الذي يجعله يسقط مباشرة في المحظور، إن هو تجاوز مربّع الإفصاح عنه بشكل صريح ومباشر تجاه الوالدين والبنين والوطن… أحيانا.

تسكننا خشية تلقائية نتناقلها جينيّا جيلا بعد جيل عندما نهمّ بالتعبير عن مشاعر الحبّ والمودة تجاه شخص ما، فنسارع إلى استدعاء كلمات تشير إلى الحبّ ولا تقوله أو توحي به وترمز إليه وتغمز نحوه ولا تصرّح به وكأننا اتفقنا جميعا على الاحتفاظ ببيت واحد من مدوّنة الشعر العربية العاتية للشاعر نزار قباني عندما تحدّث عن الحب منشدا “كلماتنا فى الحب تقتل حبّنا، إن الحروف تموت حين تُقالُ“.
أعتقد أن تعابير من قبيل المحبّة والمعزّة والمودّة والتعاطف والتراحم والتعاشر في لغتنا اليومية كأننا ابتدعناها خصيصا لعدم الوقوع في فخّ “الحب” الذي لا يُحيل في مخيالنا الحر الأصيل إلا على المهالك والمفاسد.
“إن الاحتفال بعيد الحب هو من البدع المحرّمة، إذ لا أصل له في الشريعة الإسلامية، ويترتب عليه العديد من المفاسد والمحظورات كالتبرّج، والاختلاط المحرّم بين الرجل والمرأة، والعلاقات غير الشرعية، ولا يجوز بيع وشراء الهدايا والورود إذا كانت مخصصة للاحتفال بهذا اليوم…” هذا ما أفتت به اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء بالمجلس الإسلامي للإفتاء – بيت المقدس… وعليه فلا يجوز إظهار الفرح والاحتفال والتهنئة فيها أو الإعانة عليها بأي شيء سواء بالهدايا أم البيع والشراء أم تقديم الطعام وغيره، لأن ذلك من قبيل التعاون على الإثم.
إن مثل هذه الفتاوى حيال التعبير عن الحب في قاموس شيوخنا إثمٌ، والحب نفسه خطيئة والاختلاط محرّم والورود المشبوهة مَفسدة… في نبرة تقريرية باتّة لا تترك أية مساحة للتّنسيب أو التلطيف أو طلب التفهّم لهذه السلوكات في سياق معولم ألغى الحدود والاستثناءات الثقافية.
ما الذي يُزعج حماة الأخلاق في بلادنا عندما يقدّم شابّ لصديقته التي ستتحوّل (في أحيان كثيرة) إلى زوجته وأما لأبنائه، باقة من الزهور المُنعشة للقلب وللروح وخلايا الدماغ؟ وأي وجه للإساءة أو انحدار الأخلاق حين يجتهد ويكدّ الزوج المحبّ لزوجته والمقدّر لعمق أواصر “العِشرة الطيبة” بينهما من أجل تقديم ما تيسّر من عرابين المودّة ونبل المشاعر التي تجمعهما؟ وأيّ المشهدين ألطف وأجمل وأعذب في سياق التعبير عن سُمك المشاعر وعمقها: مشهد الرسائل الغرامية (نكاد نعتذر عن استعمال مثل هذه التوصيفات المسكونة بكل الدلالات الحافّة المُعيبة) التي يبذل في صياغتها كاتبها كل ما أوتي من قدرة على الترقّي والتأثير واستدرار الإعجاب من متلقّيها، أم مشهد الذبائح الفاخرة لأجود أنواع المواشي وأكوام السلاسل والخواتم والمجوهرات الذهبية التي لا يقدر عليها سوى المترفون؟ وأيّة توازنات يمكن أن تختلّ بفعل مظاهر الابتهاج في يوم يتيم في السنة تتطاير فيه القلوب الحمراء يتبادلها المحبّون ويزهو به العاشقون، مقابل باقي أيام السنة المنذورة للنّكد والتشاؤم والاكتئاب الوطني؟
هناك تقليد وطني محلي صرف يُحمل ظاهريا على الحب والمودة، ويتمثل في حصول الزوجة التونسية على ما يُعرف بـ “حقّ الملح”، وهي هدية ذهبية أو فضيّة يقدّمها الزوج لزوجته تكريما لها لقاء التعب الذي بذلته طيلة شهر رمضان في إعداد وجبات الإفطار والسّحور. هذا التقليد على نُبله الظاهري لا صلة حقيقية له بالحبّ ولا بالمشاعر ولا بطيب المعشر وإنما هو مجرد تعويض مادّي وكأنها تعويضات عن أضرار وخسائر جسيمة حصلت أثناء الحرب، لأن الزوجة-الأم ليست مُطالبة لوحدها بتحمّل مشاق الطهي والإعداد والترتيب وغسل الصحون وتحضير القهوة والمحليّات ومستلزمات السّحور… فلو يتم احتساب عدد الساعات التي تقضيها المرأة في مطبخها خلال شهر رمضان لكانت كافية لإعاشة ثكنة عسكرية بأكملها في الأيام العادية. والوضع الطبيعي هو أن يتمّ تقاسم الأعباء وتوزيع الأدوار حتى يخِفّ الحِمل … لا أن يكرس الاستعباد العائلي الزوجي ثم نبحث له عن مسوّغات وإفتاءات.
نحن ضليعون في قاموس الكراهية والاستعداء
كثيرا ما نخلط نحن العرب بين علاقتنا بالشعوب الأخرى وموقفنا إزاء دولها التي استباحت ومازالت تستبيح أراضينا وخيراتنا، وكثيرا ما نزُجّ بالعنصر الثقافي والديني في حكمنا على الآخر وبلورة موقفنا منه خاصة إذا انطلقنا من بداهات زائفة تحاول ترسيخ فكرة أننا أفضل شعوب الأرض، فنصِفُ كل أولئك الذي لا يتقاسمون معنا نفس الطقوس بالكفّار والفُجّار الذين لا يحلّ لنا “أن يقع في قلوبنا محبة ومودّة نحوهم”. وحتى في علاقاتنا بعضنا ببعض، فإن خطاب الحقد والضغينة أعلى صوتا من خطاب المحبة والمودّة وباتت الشماتة رياضة ممتعة يتعاطاها الناس وكأنهم لم يفطموا على سواها، وأقلامنا وألسنتنا مدرّبة تدريبا جيدا على الإساءة وهتك الأعراض لا على احترام الناس والاحتراس من الاقتراب من مربّعات حميميّتهم وحياتهم الخاصة. ويبلغ سيْل الحقد أحيانا حدّ الشماتة في شعوب أخرى تضربها الأعاصير والزلازل وسائر الكوارث الطبيعية ومحاولة تفسير ذلك بكونه عقاب من الله لمرتكبي المعاصي والآثام.
وحتى عندما نغادر “فيراج” الفايسبوك على سبيل المثال نحو مساحات أخرى يصنف أصحابها أنفسهم على أنهم صفوة القوم ويُفترض فيها أن تكون مُحكِّمة للعقل الهادئ ومترفّعة عن السّباب والشتيمة، تكتشف أن الخطاب المستعمل لا يخرج عن نطاق التلبيس الأخلاقي والإحالة على أكثر الدلالات عفنا واتساخا.
وعليه، فإن الاحتفال بمناسبة مستجدّة أفرزها التطور الطبيعي للمجتمعات يسمونها عيدا للحب (مثل دخلة الباكالوريا التي لم نكن نعرف مثيلا لها في الماضي وحفلات أول السنة الجامعية وسهرات توديع العزوبية قبل الزفاف …) أفضل من الانتشاء بخبر “فضيحة” علقت بفنانة أو صحفية أو أية شخصية إعلامية أو سياسية معروفة. والاحتفال بعيد الحب لا يُنبئ بأية أضرار قد تلحق المحتفلين والمستعدين لإحيائه.
إن أجمل الأغاني وأعذب النصوص وأكبر الروايات وأمتع القصص وأحلى الأفلام تغنّت بالحب ورفعت رايته ووضعته في مكانة “الماء الذي يروي عطش العالم” كما يقول الشاعر رامبو، وفي المقابل لا نجد أثرا إبداعيا واحدا يحتفي بالعنف والكراهية ونبذ الآخر (باستثناء بعض الأركان الخفيّة في المنظومات العقائدية المختلفة عندما يرتؤون استدعاءها من أجل تبرير عنف أو تشريع قتل أو إيجاد ذرائع للتنكيل بالخصوم) .
أقول أيضا إن الحب طاقة حيوية ثمينة تُبقينا دائما على قيد الأمل في أناس نركن إلى أحضانهم زمن الشدائد، وأناس من حولنا لا نخشاهم وأصدقاء- إخوة يُوسّعون دائرة عائلاتنا الصغيرة وأناس، يلجؤون إلينا فنُبهجهم ونخفف آلامهم ونُيسّر مبتغياتهم ما استطعنا. فلا شيء يُضاهي في تقديري فرحا – مهما كان بسيطا-ـ نهبُه للآخرين وطمأنة ننثرها من حولنا وذراعا حاضنة نفتحها أمام التائهين.

مشاهد مروعة تطالعنا من تركيا و سوريا… أحياء بأكملها مسحت من على وجه الأرض … منازل انهارت على سكانها و عمارات خُسفت بآهليها .. و آلاف القتلى و المصابين و ملايين المشرّدين

و لكنّ الزلزال مثلما كشف عورات الأرض و أخرج ما فيها، كشف عورات النفوس و نفاق البلدان و فضح دعوات المتشدقين بالديمقراطية و حقوق الإنسان و سياسة الكيل بمكيالين … ثلج و برد وزلزال و موتى و مصابون و بلدان منكوبان ، بلد يهرع نحوه العالم كل العالم، و بلد يُترك شعبه لمصير قاتم …
سوريا التي زلزلها مهندسو النظام العالمي الجديد فأغرقوها بجحافل الدواعش و جماعة النصرة و أشباههم من المتطرفين… مازالت تلملم جراحها و تحاول أن تشفى من الخونة و المتآمرين .. غير أن الزلزال لم يرحمها و أثخن جراحها النازفة من زمان ..
سوريا التاريخ و الثقافة و الفن و الجمال ، التي تحالف ضدها العالم طيلة سنوات و لم يرسل لها غير الإرهابيين و جعلها تغرق في بحور من الدم ، هاهو اليوم ينساها و يتحالف ضدها من جديد .
فهل ننتظر المساعدة ممّن يتلذذون بآلام المشردين و المعذبين… ممن يستغلون حاجتهم و بردهم وجوعهم و قلة حيلتهم للضغط على النظام و مزيد تشويهه ؟ جسور جوّية امتدّت نحو تركيا و قوافل مساعدات و أطبّاء و مختصين و فرق إنقاذ من كلّ الدّول في حين لم يلتفت إلى سوريا إلا القلّة القليلة من البلدان بحجّة أنّ المناطق المتضررة خارجة عن سيطرة النّظام و أنّ المساعدات لن تصل إلى المحتاجين حقا …
فكيف يدّعي الديمقراطيّة والدفاع عن حقوق الإنسان من ينساهما في أوّل امتحان و من يعامل شعبا بخطيئة قائديه ؟ فحتّى الزلزال لم يزلزل ضمائرهم …
سوريا ليست بشار الأسد و الشعب السوري ليس الحزب الحاكم و النظام ليس البلد …
خبر الزلزال هزّ العالم بأسره و النّاس إلى اليوم يكتمون أنفاسهم و هم يتابعون فيديوهات الإنقاذ و خبر العثور على أحياء رغم مرور خمسة أيام على الكارثة … أما في تونس فالنّقاش يحتدم كالعادة و الكلّ يدّعي امتلاك حقيقة أسباب وقوع الزلازل بين التّفسيرات العلمية والتفسيرات الماورائيّة … فمن حديث عن غضب إلهي بسبب فجورنا و عراء نسائنا و تشبّهنا بالغرب و احتفالاتنا و ابتعادنا عن ديننا و عصياننا لتعاليم نبيّنا …إلى حديث عن حركة الصفائح التكتونيّة و الضغط على طبقات الصّخور الواقعة بين الصّفائح و خطوط الصّدع العالميّة و تحرّك القشرة الأرضيّة.
و كالعادة يتبادل المعسكران السبّ و الشّتم في انتظار معركة جديدة لن يطول انتظارها كثيرا فليس أكثر في هذا البلد من الجدل …
و إذا كان لسوريا و تركيا زلزالها الطبيعي و هزّاته الارتداديّة فلتونس زلازل من نوع آخر … أو هكذا يدّعي بعضهم …
“الزلزال قادم …” هكذا عنون أحد المدونين الفايسبوكيين تدوينة تحدث فيها عن إيقافات بالجملة ستشمل في الأيام القادمة مجموعة من الشخصيّات السّياسيّة ’ هذا بعد إيقاف كل من خيام التركي صبيحة الأمس وكمال لطيف بعده بساعات .. دون أن يخرج أي مصدر رسمي (على الأقل إلى حد كتابة هذه العبارات) ليبيّن أسباب الإيقاف و ما علاقة الطرفين ببعضهما البعض و بغيرهما من الموقوفين أمثال القيادي السّابق في حركة النّهضة عبد الحميد الجلاصي و مجموعة من الأمنيين …
و رغم أن لا أحد يعرف يقينا أسباب الإيقاف بمن في ذلك محاميا الموقوفين فإن كمّ شماتة رهيبا انطلق في صفحات التواصل الاجتماعي و أتحدى أغلب الشامتين إن كانوا يعرفون التركي أو اللطيف (هذا الاسم / الشبح الذي يتردد منذ 2011 إلى اليوم) أو تعاملوا معهما أو تضرروا مباشرة منهما … بل أتحداهم أن يعرفوا حتى من يكونان على وجه الدقة أو ماذا يفعلان أو ما هي التّهم الموجّهة إليهما …
لكننا هكذا، شعب ديدنه التّشفّي و الحقد و الكراهية، يتلذذ بمآسي الآخرين و يسنّ سكاكينه لتقطيع لحومهم.
إنّ محاسبة الفاسدين و الإرهابيين و المجرمين في حق الدّولة و الشعب هو مطلب أساسي من أجل تحقيق العدالة لكن على أن يتمّ ذلك في كنف القانون و وفق شروط المحاكمات العادلة (محامي التركي لا يعرف مكان موكّله و محامي اللطيّف مُنع من حضور التحقيق) … فهل هي محاسبة أم تصفية حسابات ؟؟ فكل من تقدم بمبادرة سياسيّة في الفترة الأخيرة يبدو ملاحقا من الرئيس ابتداء بالاتحاد وانتهاء بإيقافات الأمس التي لا نعلم إن كانت ناتجة عن قضايا حقيقية لم يحن وقت استكمال البحث فيها إلاّ الآن، أم أنها تدخل في إطار ما عبر عنه “شومسكي” بإستراتيجية الإلهاء لتحويل انتباه الشعب على فشل الحكومة في عديد الملفات و أهمّها الملفّ الاقتصادي، أو للتغطية على الأزمة بين تونس و الجزائر و ما صاحبها من إذلال للتونسيين و انتهاك لحقوقهم…
أم هي أيضا للتغطية على الصورة التي جمعت أنصار نظام 25 جويلية بممثلي 24 جويلية و هم بصدد قطع الكعكة في مقر السفارة الإيرانية و ما فيها من إحراج للسلطة القائمة … أم أنّها تطبيق حرفيّ لإملاءات السيد الرئيس في لقائه مساء الجمعة بوزيرة العدل حيث شدّد حسب ما ورد في بيان صفحة الرئاسة على “ضرورة محاسبة كل من أجرم على قدم المساواة فمن غير المعقول أن يبقى خارج دائرة المحاسبة من له ملف ينطق بإدانته قبل نطق المحاكم، فالأدلة ثابتة وليست مجرّد قرائن” …
و كأنّي به فتح الباب على مصراعيه للمحاكمات الشّعبية أو كأنّها كلمة السّر للانطلاق في الإيقافات على الشّبهة، خاصّة أنّ وضع الاستثناء مازال قائما إضافة إلى التمديد في حالة الطوارئ .

عبد النور حسن يتألّق في مصر

جلمة … النسر يحلق عاليا، و يتوج ببطولة الخريف

بين منتجي الحضارة ومستهلكيها

انطلاق أشغال “مجسم الثورة” بقيمة تناهز المليون دينار

الأسرى يواصلون “العصيان” … ويعتصمون في ساحات السجون
استطلاع

صن نار
- ثقافياقبل 25 دقيقة
عبد النور حسن يتألّق في مصر
- رياضياقبل 13 ساعة
جلمة … النسر يحلق عاليا، و يتوج ببطولة الخريف
- جلـ ... منارقبل 15 ساعة
بين منتجي الحضارة ومستهلكيها
- داخلياقبل يوم واحد
انطلاق أشغال “مجسم الثورة” بقيمة تناهز المليون دينار
- فلسطينيّاقبل يوم واحد
الأسرى يواصلون “العصيان” … ويعتصمون في ساحات السجون
- اقتصادياقبل يوم واحد
ضغوط كبيرة تجبر رئيس البنك الدولي على الاستقالة
- صن نارقبل يوم واحد
روسيا … تفجير الأنابيب عمل إرهابي وراءه واشنطن !
- صن نارقبل يوم واحد
فضيحة الفساد في البرلمان الأوروبي … رفض الإفراج عن المتهمين