تابعنا على

جور نار

سبعة أصناف من ذوينا تزعجها الحرب على غزّة

نشرت

في

هذه الحرب ضد أهلنا في فلسطين تُزعج بعض الأصناف من الناس أكثر من الفلسطينيين أنفسهم الذين تصالحوا مع البشاعة وتآلفوا مع العراء وتماهوْا مع الشحّ البالغ في كل المواد الأساسية من ماء وغذاء ودواء… وأصبحت تربطهم بالموت علاقة تحدّ ومواجهة وعزّة وكرامة…

منصف الخميري Moncef Khemiri
منصف الخميري

فالفلسطيني خبِر عدوّه جيدا وأدرك حقده التاريخي على لغته وألوانه ورموزه التي من دونها لا يمكن أن يستمر في الوجود. وها هو حقده وكرهه التاريخيان يبلغان البارحة حدّ التهديد باستعمال القنبلة النووية.

لا أذهب إلى حدّ وصم هؤلاء الممتعضين والمُتبرّمين  بالتواطؤ أو بالانحياز إلى صفّ القتلة، وإنما هي رغبة أرشيفية بسيطة في تسجيل “من عليّ من الذئاب ومن معي” كما يقول شاعر غزة ابن حي الشجاعية المرحوم معين بسيسو.

ومن هذه الأصناف المغتاظة والمُمتعضة:

___ الكتّاب والأدباء والمثقّفون الواقفون على خط الحياد، السّاعون إلى نيل الجوائز الإقليمية والعالمية التي يؤخذ في إسنادها بعين الاعتبار عامل “الاستقامة السياسية” والقدرة على صياغة المواقف الصابونية اللزجة المُحدِثة لرغوة كبيرة لكن لا تُمسك في صلبها إلا على ما يشبه البخار والإسفنج… هؤلاء يُبدعون في تصميم مواقف تُمسّح بلطف في اتجاه الشَّعر، من قبيل “التاريخ ليس سوى جرد للأهوال والأعمال الانتقامية التي لم تتحقق، والخسائر الفادحة لعدم قدرتنا على استحقاق العيش في سلام وفرح” (ياسمينة خضرا) أو “لا أستطيع أن أجد الكلمات لأعبّر عن مدى رعبي مما فعله مسلّحو حماس باليهود. عندما تهاجم الوحشية النساء والأطفال تصبح همجية وليس لها أي مبرر أو عذر. أشعر بالرعب لأن الصور التي رأيتها هزّت أعماق إنسانيتي” (الطاهر بن جلّون)  أو كذلك “أنا أكره مشاهد القتل والدّمار” (ألفة يوسف) … مع الملاحظ أنني أكنّ تقديرا خاصا لجميع هؤلاء في ما يتّصل بكتاباتهم الأدبية ولست مستعدّا لأن أجرّح في أيّ منهم مهما أتوا من مواقف، لأن الأصل في التعبير هو الحرية ومطلق الصدق دون حساب…تماما مثل الرياضيين الذين نتذوّق جودة لعبهم في مجالهم ولا نُقاسمهم بالضرورة مواقفهم الخاصة إزاء القضايا العامة.

___ المثقّفون (جامعيون وإعلاميون ومدوّنون …) الذين حرمهم لهيب الوضع المهيمن اليوم في وسائل الإعلام وعلى مواقع التواصل وفي المقاهي وفي الشارع وفي الكليات وفي كل المواقع، من مواصلة الاستثمار في مدارات اهتمامهم المفضّلة والتي غالبا ما تحدّدها أولويّا مراكز تأثير نائمة أو مخابر بحث أكاديمية ووكالات عابرة للقارات ومؤسسات تمويل عالمية تتغطى أحيانا بالتعاون وترويج البحث وتطويره أحيانا أخرى… وعادة ما تكون عناوين الاهتمام الأكاديمي أو البحثي المطروحة للتداول، هُلامية وحياديّة من قبيل السلم في فلسطين بين الأسطورة والواقع أو الصداقة على ضفاف المتوسط : أي فرص للتحقق ؟ أو كذلك أي دور لمجموعات الضغط في المجتمع الإسرائيلي من أجل إحلال السلام الخ…

___ المُبشِّرون بالسعادة الواهمة من رُوّاد التنمية البشرية الذين يمطروننا صباحا مساءً ببداهات ساذجة وسمِجة تقول فيما تقول إن السعادة تكمن في تحميل جُرعات الأدرينالين  وكيف تجعل الناس تحبّك في 90 ثانية والمشاركة في يوم تدريبي عن مهارات تطوير الذات بــ 400 دولار والدجاج إذا وثق بنفسه يتمكّن من الطيران متفوّقا على النسور… أتحدّاهم أن يُجرّبوا “مبادئ” التنمية البشرية ضد دبابة الميركافا التي تحرق الأخضر واليابس في طريقها نحو الحدود مع غزّة.  

___ العارضات أزياءهنّ والنّافخات وجوههنّ نفخًا والشّاحطات قدودهنّ شحطًا مبرّحًا والشّافطات شحومهنّ شفطا من أجل استدرار الإعجابات والآهات … هذه الكائنات السيليكونية يُسيئُها جدا أن تتجه كل الأنظار نحو ما يصنعه مغول وتتار العصر الحديث بأطفالنا في فلسطين، فتتقلص مساحات حضورها ويخجل متابعوها من التعبير عن انبهارهم إزاء أجساد مكتنزة وسط مشهد الأشلاء وهُزال ما تبقى من الأحياء.

___ السياسيون الطارئون (على القضايا الكبرى) الذين لم يتجاوز مَعين تكوينهم السياسي بعض الشعارات القائلة بتحقيق التنمية الشاملة وإصلاح القضاء ومقاومة الفساد وتحقيق توازن المالية العمومية والنهوض بالفئات الاجتماعية الهشّة … فراحوا يلتحفون بالكوفيّة الفلسطينية ويهتفون صامدون وصامدون وصامدون (درويش) وهم لا يعرفون أن الملاحم التي يخطّها فلسطينيو اليوم إنّما تستمدّ عنفوانها وديمومتها من تاريخ نضالي طويل منحوت بأحرف من دم في ساحات عمّان واللدّ وبيروت وصيدا ودير ياسين وكفر قاسم وصبرا وشاتيلا وقرى الجنوب اللبناني…وكذلك من أبطال أشاوس دفعوا حياتهم ثمنا لحماية جمرة المقاومة واستمراريتها مثل أحمد موسى سلامة وسعد صايل وأبو إياد وأبو جهاد وأبو عمار وغسان كنفاني وأحمد ياسين وعزالدين القسام وأبو علي مصطفى وسناء المحيدلي ودلال المغربي وكمال عدوان…

___ الإذاعيون والتلفزيونيون الذين اعتادوا على الاستقاتة من المرح الركيك والابتذال السّميك وبيع الماعون وآلات غسل الصابون وتوظيف مصائب الناس وأحزانهم في استمالة جمهور “المُطلّين من الشرفات والفرجويّين” الذين “ينصبون النّصبة وما لازمها” مساءً أمام شاشات تسرد حكايات لا يخلو منها مجتمع لكنها تشدّ انتباه المشاهدين ويُؤثّثون بها غدهم في المقاهي الشعبية واللقاءات النسوية أمام المدارس الابتدائية. هؤلاء فاجأهم الطوفان فظلوا يراوحون مكانهم ويحاولون ركوب موجة الغضب والتعاطف العالية (ولو برداعي) من خلال استهلال مداخلاتهم بجمل مخاتلة من قبيل “رغم المرارة… ورغم ما نشعر به جميعا من أسى وحزن عميقين… سنقف دقيقة صمت ترحّما على أرواح شهدائنا في غزة ثم نعود إلى منوّعتنا …”.

___ وأخيرا هناك فئة سابعة أسمّيها فئة الناس العاديين الذين لا يدّعون في النضال باعا أو ذراعا ولا يُفرّقون كثيرا بين التحريم والتجريم والتطبيع والتطويع، ولكنّ لديهم إحساسا صادقا جدّا بأن ما يجري هناك كأنما يجري لديهم في ديارهم وأن لا أحد في العالم بقادر على إقناعهم بأن أي ردّ فلسطيني لا يمكن إلا أن يدخل في خانة الإرهاب واستهداف المدنيين وعليهم إدانته. هؤلاء متذمّرون هم الآخرون لإحساسهم بالعجز عن مناصرة إخوتهم وإسنادهم ميدانيا أولا ولشعورهم بالمرارة إزاء كافة أوجه حياتهم العادية منذ انطلاق العمليات.

يصارحونك وهم فزِعون أمام مشاهد الدمار الشامل والقتل البارد أن “كل شي مْرار” : العمل والدراسة والرياضة والضحك والأكل والتطويل في الحديث عن القضايا المحلية والتذمّر إزاء فقدان الزيت والسكّر، ولكن في نفس الوقت “مَعْلِشْ” … لأن الفلسطينيين ورغم حجم المأساة التي أغرقتهم في أوحالها متعددة الأوجه حقّقوا نصرا استراتيجيا لم يتحقّق من قبل بهذا الوهج وهذا الوضوح الدّامغ، والمتمثل في إرجاع قضيتهم المركزية إلى جدول أعمال الانسانية رغما عنها وبالشروط التي قد تتجاوز هذه المرة سقف الاتفاقيات التي أنجزت في السابق.

بالنسبة إليّ شخصيا، تقديري أنني أنتمي إلى هذا الصنف الأخير لأنني توقّفت مذّاك عن الكتابة في مواضيع التربية وما جاورها، لإحساس داخلي لديّ بأن ذلك أدنى ما يمكن أن نساهم به كتونسيين في أم المعارك وفي مواجهة التصريحات الوقحة والبشعة لأحفاد بن غوريون وغولدا مائير والتي تقول إن “إسقاط قنبلة نووية على غزّة هو حلّ ممكن كذلك” !!!  

أكمل القراءة
انقر للتعليق

اترك تعليقا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

جور نار

رسائل حسن نصر الله

نشرت

في

السيد نصر الله: لا يمكن التفكيك بين المقاومة وكربلاء.. كل ما عندنا من  عاشوراء الإمام الحسين(ع) – موقع قناة المنار – لبنان

منذ قليل انتهت الكلمة المرتقبة لزعيم المقاومة اللبنانية السيد حسن نصر الله .. ولْنقُلها مباشرة، كان خطاب نصر الله حقا في مستوى الانتظار الطويل الذي عشناه منذ 27 يوما، وأجاب عن سؤال “أين حزب الله؟” ومعه عن أسئلة أخرى طرحناها في ما بيننا … بل وأضاف عليها.

عبد القادر المقري Makri Abdelkader
عبد القادر المقري

فباستثناء نبرة الخاتمة وفقرتين قصيرتين في الكلمة المطوّلة، كان الشيخ عالي الهدوء والواقعية والحديث الموزون والكلمات المحسوبة كلمة كلمة … لم يتوعّد الخصوم بحُمم وإبادات وإلقاء في البحر، ولم يسوّق لخطاب عنصري مشتعل، أو شعارات كراهية مجتزأة من الموروث السلفي المتطرّف … لم نسمع منه لغة “اليهود” و”خيبر” و”الصليبيين” و”أحفاد كذا وكذا” و غير ذلك مما يروّجه دعاة الفضائيات والأئمة المتتلمذين عليهم … أبدا … كان الرجل يتكلم بمسؤولية وعقل ومنطق عصري وقانوني وإنساني … ولكنه مع ذلك كان على حزم بالغ وتصميم لا تخطئه العين … تكلم كرجل دولة، ولكن أيضا كقائد في معركة يواجه عدوّا (بل أعداء) ويسمّي ذلك ويبرهن عليه، ويضع الرأي العام العربي والدولي شاهدا على قوله …

استنتاجات عديدة يمكن استخلاصها من كلمة السيد نصر الله … ولكن ما قرأته بدت لي فيه جملة من الرسائل أهمّها:

  1. ما فعلته المقاومة الفلسطينية يوم 7 أكتوبر لم يكن عبثا أو مجرد خبطة إعلامية، بقدر ما كان ردّ فعل على جملة أوضاع صعبة ولا إنسانية يعيشها الشعب الفلسطيني منذ 20 عاما على الأقلّ … وفيها ما يعود إلى بدء انزراع الكيان في 48… وسط نسيان عالمي تامّ لقضية هذا الشعب وما يعانيه.
  2. المقاومة الفلسطينية سيّدة نفسها وهي التي قررت عملياتها دون وصاية أو استئذان من أحد … لا إيران ولا حزب الله ولا أي طرف حليف.
  3. يحترم بالكامل ما قررته وفعلته المقاومة (حماس تحديدا) ويعلن مساندته التامة لها
  4. على عكس ما يتصوّره أو يسوّق له الجميع، فالعدوّ أضعف مما يبدو، بدليل أنه استنجد بالقوات الأمريكية على آخرها منذ أوّل يوم
  5. بدا جليّا أن الكيان وجيشه ليسا سوى أداة تنفيذ في يد عدوّ رئيسي للشعب الفلسطيني وهو الولايات المتحدة (وهنا عاد الشيخ إلى توصيف آية الله الخميني لأمريكا بأنها “الشيطان الأكبر”)
  6. من هذا المنطلق، وأيضا من منطلق أن واشنطن أقحمت قواتها عتادا وأفرادا في المعركة وبشكل واضح ومباشر من خلال أساطيلها في البحرين المتوسط والأحمر، فإنها ومصالحها أصبحت هدفا مشروعا لنيران المقاومة وحلفاء المقاومة … في المنطقة وربما في أي مكان من العالم.
  7. هدف المقاومة الأوّل هو وقف العدوان على الشعب الفلسطيني
  8. انتصار المقاومة لن يكون انتصارا لإيران أو لحركة حماس أو جماعة الإخوان المسلمين، بل سيكون انتصارا للحق الفلسطيني وأيضا لدول المنطقة، وقد سمّى نصر الله هذه الدول بالاسم (مصر، سوريا، الأردن ولبنان) كما سيكون دفاعا عن المقدسات الإسلامية والمسيحية على حد سواء.
  9. في المقابل، فإن هزيمة المقاومة سينتج عنها سقوط مروّع لهذه الأنظمة وبؤس أشدّ منتظر لشعوبها.
  10. تهديد الأمريكان يتوسيع نطاق الحرب سينقلب عليهم بالأساس، لأن المقاومة الفلسطينية ستجد إسنادا قويّا من فصائل مقاومة أخرى في لبنان واليمن والعراق وغيرها.
  11. حزب الله بدأ بعد في المعركة ومواجهة العدوّ، وقد نتج عن ذلك سحب الاحتلال لثلاثين بالمائة من قواته من أطراف غزّة إلى حدود جنوب لبنان، وهذا في البداية فقط.
  12. بعدما فعله العدوّ من مجازر فظيعة وإبادة في حق الفلسطينيين بغزّة والضفة الغربية ولبنان، فإن كل مدن العدوّ ومواقعه عسكرية كانت أم مدنية صارت هدفا مشروعا لضربات المقاومة وحلفائها (قال حرفيا: المدني بالمدني)
  13. العدوّ وحليفته أمريكا يشترطان إطلاق سراح أسراهم قبل أي تفاوض، وهذا لن يحدث مطلقا، وقد “سبق لهم أن هددونا في 2006، ولم نرضخ لهم بل هم الذين رضخوا”
  14. على الضمير العالمي أن يصحو ويساعد على وقف العدوان، وإلا فالعواقب ستكون وخيمة على الجميع

هذا تقريبا مجمل ما فهمناه من خطاب السيد حسن نصر الله، وأكيد هناك ما يضاف عليه والمزيد المزيد مما يقال حوله … ولكن يبدو أن 7 أكتوبر ـ كما قال ـ سيكون له ما قبله وما بعده كتاريخ فاصل وفيصل في مسار القضية الفلسطينية وأوضاع المنطقة عموما.

أكمل القراءة

جور نار

كشك السجائر المسمّى جامعة عربية

نشرت

في

الجامعة العربية تعلن تسوية الخلاف التونسي المغربي - أفريكان مانجر

وأساطيل الدول العظمى وترساناتها الجرّارة تتكاتف وتتكاثف ضد رقعة أرض فلسطينية لا يتجاوز حجمها ثلثي جزيرة جربة، تندهش تمام الاندهاش وأنت ترى الأنظمة العربية تتفرج على المذبحة وكأنها تحدث في كوكب بعيد…

عبد القادر المقري Makri Abdelkader
عبد القادر المقري

لنترك جانبا معاني الانتماء فقد نجحت جهات إيديولوجية كثيرة في طمسها، وأصبح تعاطف العرب مع آلاف ضحايا غزة ـ هذا إذا تعاطفوا ـ يقتصر على الإنسانية والكونية والأخلاق والرحمة بالنساء والأطفال وكبار السن … يعني كمن ينقل الشأن الفلسطيني من مشمولات وزارات الخارجية إلى وزارة المرأة التي تشرف عليها عندنا وباجتهاد كبير الشاعرة آمال موسى … يعني أيضا أن كل فلسطيني ليس طفلا ولا امرأة ولا عجوزا في الغابرين، ليس له الحق في الحياة، فضلا عن الدفاع عن موطن وسلامة وكرامة ومستوى عيش لائق … ويعني أخيرا أنه لا يربطنا بهذا الفلسطيني سوى أننا وإياه ننتمي إلى ذات فصيلة الثدييات التي تسير على قدمين و تفكر وتتكلم … ألم يقل وزير من حكومة الاحتلال بأن هؤلاء “حيوانات”، ولا أعتقد أنه يقصد بني فلسطين حصرا …

لنترك جانبا جميع الصلات التي كانت تربطنا بمواطني غزة والضفة و 48 والشتات، ولنقرأ الأحداث بمنطق ما حصل في الثلاثين سنة الأخيرة فقط … فما يقال اليوم عربيا بأنها فقط قضية بين حماس و”إسرائيل”، قيل سابقا قبل غزو العراق وتبرأ عديدون منه وتركوه وحيدا … وفيهم حتى من هرول مساعدا بقواته ضد البلد الشقيق، فماذا حصل لهم بعدها؟ … جماعة الحشد العظيم وراء الجيش الأمريكي في “حفر الباطن” السعودية على حدود العراق سنة 1991، أين هم الآن؟ أكيد ضمّتهم الولايات المتحدة إلى صفوتها وحماها ورخائها وحلفها الأطلسي وحضارتها التي لطالما تغنوا بها في تلك الأيام … أكيد، أكيد …

أكيد ثالثة … بدليل أن:

ـ حسني مبارك، الذي صوّره إعلامه وقتها على أنه الحليف الأقوى للأمريكان ولا يمكن لهم الاستغناء عن حكمته ووزنه وصداقته الأبدية … اشتغلوا به ردحا من الزمن وعند أول منعطف قذفوا به خارج السيارة كمنديل ورق مستعمل … وما تزال تلك المشاهد الذليلة له وهو وأولاده بملابس السجناء، منقول على سرير من معتقل لمعتقل ومن محكمة إلى محكمة كأي منحرف وقع في القبضة … ما تزال تلك المشاهد مسجلة محفوظة متراوحة بين كتاب العبر وشماتة من لم يشمت …

ـ حافظ الأسد وسوريا كلها من ورائه … انتقل بها من جبهة الصمود إلى قافلة حريم جورج بوش الأب ثم الإبن فماذا جنى؟ … وما حال سوريا بعد كل السنين من الانبطاح والتواطؤ والاشتراك في طعن شعب شقيق تحت طائفة من الذرائع بعضها أغرب من بعض؟ … نصف السوريين الأعزّاء اليوم مشردون في أركان العالم الأربعة، وأغلبهم عرضة لسموم أحزاب اليمين الأوروبي والغربي، ولمطاردات البوليس المجري الذي يعاملهم على حدوده معاملة المهربين الخطرين وتجّار المخدرات …

ـ السعودية التي احتضنت كل ذلك وأعطت الأرض والمال والتبرير السياسي والديني لكل ما فعلته وتفعله الأساطيل الأمريكية في المنطقة … أين هي الآن؟ … أصدروا في البداية قانونا (قانون جاستا سيء الذكر) يصنّفها ـ عمليا ـ دولة إرهابية ويشبعها ابتزازا حتى أخر قطرة بترول وآخر ورقة بترودولار … وبعد ذلك ورطوها في قضية ذلك الصحفي الشهيرة وقالوا في مسؤوليها ما لم يقله مالك في الخمر … وتلاعبوا بها مرة ضد إيران ومرة معها في “فالز” سياسي ودبلوماسي متقلّب من أعجب ما يكون … وفي النهاية ها هي تنشد السلامة وتذوب نهائيا في منطق غربي أطلسي عند التعامل مع قضية فلسطين وأية قضية أخرى … ولا أحد يضمن لها أمانا في قادم السنوات …

ولن أطيل في أفراد بقية الجوقة البائعة، فمنهم من دفع “كاش” ومنهم من يداري خيبته ويزيد في الهروب إلى الأمام ولكنه عارف قبل غيره أن المصير المحتوم قادم لا محالة …

والسؤال الذي يلحّ هو: ماذا بقي رابطا بين هؤلاء؟ وماذا بقي جامعا بين تلك الدول وهي في كل مرة تتبرأ من بعضها البعض؟ وبالذات ماذا بقي من معنى لجامعة الدول العربية؟ … هذه المؤسسة التي قامت بإرادة وزير الخارجية البريطاني “أنطوني إيدن” ذات نهاية حرب عالمية ثانية … كان اللوم عليها لسنوات طويلة بأنها “تغالي” في مطالبها (الناصرية) حول الصراع مع محتلّي فلسطين، وكاد رئيسنا بورقيبة ينسحب منها ذات ستينات … واستمر ذلك تقريبا إلى حين موقفها القاطع من اتفاقيات كامب ديفيد، وهو آخر موقف “مشرّف” اتخذته تلك الجامعة … وبعد؟

وبعد ذلك دخلت مرحلة الفصل بين القول والفعل … وكلنا يذكر قمم التنديد والشجب التي لا يعقبها شيء إلى درجة صار ممكنا التكهن بقراراتها حتى قبل انعقادها … ومنها واحدة عشناها في مشهد فولكلوري مضحك قدّمه الراحل معمر القذافي على قناة الجزيرة ذات سنة، بل ذات قمة طارئة …

بعد ذلك … لم يعد ممكنا حتى الشجب، فالأمريكان أصبحوا يتضايقون من كلمة “تتنطوَر” هنا أو هناك وقد تتداولها الفضائيات والمواقع الاجتماعية، وتصبح في الشارع العربي (وشارع الجاليات المهاجرة) ككرة اللهب … فأصبحت تتعامل مع بياناتهم كما يتعامل رؤساء التحرير (ووزارة الإعلام) مع مقالاتنا في الثمانينات والتسعينات … صنصرة هذه الجملة وتلك الكلمة وذاك الحرف، وإلا كسرت قلمك وقطعت لسانك … وهكذا صارت تصدر البيانات حذرة معوّمة منظّفة من أي سوء …

وفي آخرة المخاير لم يعد ممكنا حتى الحياد … بل صار مطلوبا منك أن تعطي ورقة الجامعة العربية بيضاء إلى مستشاري البيت الأبيض، فيكتبون عليها ما يشاؤون وأنت فقط تضع إمضاءك … ومنذ سنوات لم تعد هناك أية إشارة إلى عدوّ أو محتلّ … وفي البيان الأخير هاهم وضعوا “طرفي النزاع” على نفس المستوى، وغدا ربما تعود لغة التنديد والشجب ولكن في اتجاه معكوس … وستطال سهامه كل من يقاوم أو يعترض أو يسمي مجرد الاحتلال …

باختصار … جامعة العرب ماتت منذ زمن ولم يعد بقاؤها سوى تقليد رمزي مثل وضع باقة سنوية على قبر الجندي المحهول … ولكن … هل مات معها هذا الشارع العربي الهادر في مدنه وفي أي مكان من العالم؟ وهل اختفى أحرار في الدنيا يذكّرونك بقضاياك كلما نسيتها؟ وهل اندثر خصوم ألدّاء يذكّرونك هم أيضا بأصلك وجنسك وثقافتك ولونك وتاريخك مرفوقة بأقذع الشتائم لأقلّ انفعال منهم أو احتكاك معهم؟ مهما هادنتهم ونافقتهم وحاولت الاندماج والذوبان فيهم …

لا أظنّ ذلك …

أكمل القراءة

جور نار

أساميها… شُو تعْبو أهاليها *

نشيد لأجمل القرى والمدائن في مواجهة التدنيس والتدليس

نشرت

في

أسماء القرى والمدن الفلسطينية المُلحقة عام 1948 بالكيان الغاصب والمُفتكّة عام 1967 والجاري تدنيسها اليوم هي الشاهد الأكبر على فلسطين البدايات، وهي بيوت الأجداد التي يحتفظ أحفادهم بمفاتيحها من وراء الأسلاك وقضبان الزنازين ومداخل المخيّمات. لا أعتقد شخصيا أنه من باب الذاتيّة الموغلة في أنانيّتها أو من قبيل التباهي النرجسي أن تكون القرى هناك حاملة لأسماء  بهيجة وفاتنة قبل أن يغيروا أسماءها إلى أسماء عبرية تبدو قميئة وعدوانية.

منصف الخميري Moncef Khemiri
منصف الخميري

ففي البدء كانت فلسطين، ليّنة في نطقها ومرنة في استدارة حروفها وينفتح اسمها على رائحة “الفل” لينغلق على أديم “الطين” الذي به قُدّت جدران المسجد الأقصى بالقدس وكنيسة المهد في بيت لحم.  أما إسرائيل فتُحيل مباشرة على الأسر والكسر (في أول اسمها الذي صُنع صنعا بعد ميلاد والدي) وتُنطق على وزن ملك الموت عزرائيل وما استفردت بعربي فلسطيني إلا وفعلت الأفاعيل.

أما القرى والمدن الفلسطينية فإليكم بعض الأمثلة التي تؤكّد فكرة أن المهجة التي صنعت أسماءها كانت مغموسة برذاذ البحر في المرافئ القديمة ورحيق الليمون وذهب الزيتون، وكانت مُدبّجة بأهازيج الأعراس وأفراح الناس، وكانت مُعطّرة بالأساطير الكنعانيّة الضّاربة في التّاريخ وحكايـا الصّبايا وبيادر الفلاحين والألبسة المُطرّزة وحِكمة الصيّادين.

فهذه بيسان، إسمها مثل بستان وريحان ولمعان ينعش الناظرين والزائرين. تمرّس أهلها بالصناعات التقليدية اليدوية، خاصة صناعة الغزل والنسيج، وتعبق مروجها  بالنخيل والكروم والثمار والحبوب. وبيسان مدينة قديمة كان يطلق عليها اسم لسان الأرض، وبها عين الفلوس التي تقول عنها الأسطورة إنها من الجنة.

وتلك يافا ببرتقالها وليمونها ومنسوجاتها وأوانيها الفاخرة. قال عنها الشاعر :

إن كان لي في الدنيا رفيقة

فأنا لا أهوى في الدنيا سوى يافا العتيقة

جدرانها السود والقناطر علمتني

كيف الغزل بين عاشقٍ والعشيقة

أما حيفا مدينة التوت والقمح والأرجوان، والواقعة بين الرملة والكرمل، فقد منحها الميناء مدى كونيا لا ينتهي وأكسبها جبل الكرمل إبهارا مشهديا نادرا… هذا الجبل الذي أهدى اسمه للحوليّات وقصائد الشعراء.

والخليل، لقّنت الإنسانية دروسا في النظافة لأنها مدينة صنع الصابون منذ القدم (لما كان الغرب يغرق في فضلاته إلى غاية القرن الثامن عشر) إلى جانب تخصّص متساكنيها بغزل القطن وصناعة الزجاج ودباغة الجلود. وهل ثمة مفردة في العربية تنبض بمعاني الصداقة والودّ والألفة والمحبة والخلّة والمعاشرة كما تنبض بها كلمة الخليل ؟

من ناحيتها تتفرّد القدس بكونها رمز للقداسة والطهورية والجلالة وهي أرض الأنبياء والقدّيسين.

وصاحبات الجلالة جنين وعكا وصفد وطبرية والرملة والناصرة وطولكرم هي أسماء مرجانية صيغت على مهل في بيئة مستقرة يتكئ أصحابها على علاقة وجدانية بالأرض وانغراس عميق في تجاعيد الجبال وتماه مطلق مع خصوصيات الأرض والتلال.

أنظروا أجداد الفلسطينيين كيف كانوا يسمّون قراهم ومداشرهم : كفر برعم وكفر عنان وكويكات والمنشية والمنصورة والأشرفية والبيرة وعرب الصفا وكوكب الهوا وبعلين وبيت دارس …أسماء ناعمة تُغريك أصالتها وتتمنى زيارتها عندما تنقلب الموازين وتنزع عنها أسماءها الفاحشة التي كُتبت حروفها بالدم ودقيق عظام الأطفال المطحونة.

 في قطاعات أخرى من فلسطين، تعترضك قرى ثانية بأسماء أخّاذة وساحرة مثل تل الترمس وحمامة وسمسم وكوكبا والمجدل والمسمية الصغيرة ونجد وياصور وأم الزينات وأم الشوف وبلد الشيخ ودالية الروحاء والريحانية والسنديانة والسوامير والطيرة وعين غزال والمزار والنغنغية… ربما لم تعترضنا هذه الأسماء البتّة من قبل، لكن مجرد نطقها يعطيك الانطباع بأنها مألوفة وتربطنا بها صلة وجدانية خفيّة إلى درجة يخيّل إليك أنه لو كان التواصل الجغرافي مباشرا بين فلسطين وتونس لأنهينا تعداد هذه القائمة بأسماء قرى من هنا من قبيل ريحانة وجبل السرج وزهرة مدين وفرنانة والحبيبية ومحبوبين وعين سلطان ووادي الزبيب وكاف الحمام، إلخ…

وننهي بهذه السلسلة الأخيرة من العناوين المحفورة بعناية في سجلاّت الذاكرة الجماعية والشاهدة على أن الحبر الذي كتبوا به الأسماء الجديدة ليس من النوع السرمدي الذي لا يمّحي لأنه حبر زائف وزائل بمجرد غروب قبّة الهواء التي تحمي صانعيه. لقد صنع الأجداد أسماء نقيّة مثل تل الصافي وزيتا والقبيبة في قضاء الخليل والعباسية وبيار عدس والحرم ورنتيّة وإجليل الشمالية في قضاء يافا، والقسطل ودير ياسين وعين كارم ودير الهوى في قضاء القدس، واللجون والمزار ونورس في قضاء جنين، والمجيدل ومعلول في قضاء الناصرة… أسماء ستعود حتما إلى أوكارها يوما، فــ “بيوتهم قشّ وزجاجهم هشّ …وإن شرّدوا طيرا يمضي له العشُّ” كما قال شاعرنا الأبيّ أولاد أحمد.

أسماء المستوطنات، لا جمال فيها ولا محسّنات

مقابل  أسمائنا الملطّفة والمنتقاة حروفها من أكاليل الزهور وطيب الزعتر والرمّان، نجد أسماء خشنة بأحرف جارحة وبمعان لا ندركها لكنها لا تبعث على الاطمئنان، لأن مجرد سماعها يخدش الأذن ويدعونا للاستنفار وكأنها صفّارات للإنذار، مثل أرجمان وأفيقيم وإيليعازر وتكواع وآلون شيفوت وبنيامين بكعوت وأليشا ناحال واين هوجلا وعيناف وأفخين عضرطوط وعيتص إفراييم وجفعوت وجفعون حاداشا وقرنية شمرون وكوخاف هشاحر وجفعات زئيف وغاديد ونتسار حازاني الخ… (كلها أسماء حقيقية لمغتصبات صهيونية في الأراضي الفلسطينية المحتلة).

أعترف أيضا، ودائما، وبلا هوادة، بأن هذه النظرة التي غذّيتها في هذه الورقة إزاء الأسماء التاريخية للقرى والمناطق الفلسطينية والأسماء الطارئة عليها، هي نظرة منحازة وغير حياديّة بالمرة وتخيّرت فيها ما شئت من الأسماء وفقا لمزاج آنيّ ملتاع، لكنها رؤية فيها شيء من الموضوعية والوجاهة لأن الأسماء لها ماض وتاريخ وهي مثل الصخر تماما يصقلها هبوب الرياح ويُرقّقها جريان المياه على مرّ السنين… فتغدو نِتاجا طبيعيا لجملة من الاعتمالات والانفعالات لا يمكن أن تكون حاضرة لدى “شخص بولوني الجنسية من أم أوكرانية الأصل وأب مجري استقدموه ليصبح مستغلا فلاحيا في كيبوتزات الكيان” على أرض لم يتربّ على نسغ أشجارها وإنشاد طيورها ورمل شواطئها ولا  نجوم سمائها وشُهُبها.

لتأكيد ذلك، إليكم ما قاله بول كلاين في مقال له بعنوان “تغيير الأسماء في إسرائيل” الصادر بالمجلة العالمية لدراسة أسماء الأعلام Revue Internationale d’Onomastique في ديسمبر 1951 :

“منذ الأيام الأولى لوجودها، أمرت الحكومة المؤقتة لدولة إسرائيل المواطنين الذين يحملون أسماء أجنبية بالتخلي عنها والاتصال فورا بمصلحة مختصة في وزارة التربية والثقافة من أجل تخيّر اسم أنيق وملائم ويكفي من أجل ذلك توجيه مطلب إلى وزارة الهجرة مقابل رسوم  زهيدة تُدفع مرة واحدة بالنسبة إلى كل عائلة…”

وهي حقائق تؤكد أن معركة الأسماء هي معركة موازية رافقت كامل مسار الاحتلال والاستيطان وأن أقدم اسم لديهم لا يتجاوز مداه التاريخي عُمُر كتاب أبو القاسم الشابي “أغاني الحياة” أو ملزومة “الصبر لله والرجوع لربّي” للشاعر عبد الرحمان الكافي لدينا.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* مستلهمة من أغنية تؤدّيها فيروز من كلمات جوزيف حرب وألحان فيلمون وهبة:

أسامينا
شو تعبوا أهالينا تلاقوها
وشو افتكروا فينا.

أكمل القراءة

صن نار