تابعنا على

جور نار

ضرب اليسار في مقتل … و المدّ القادم

نشرت

في

إثر تقديم مقالة الحلقة الأولى التي تطارحنا فيها تساؤلات حول لملمة شتات القوى اليسارية و عودتها إلى المد بعد الجزر التي عرفته خلال السنوات الاخيرة … و الذي كان سببا حتميا في ما طرأ عليها من انقسام إثر خلافات حادة يبدو أنها لم تكن هذه المرة ذات صبغة إيديولوجية بقدر ما كانت خلافات تنظيمية عزاها البعض إلى البيروقراطية و التفرد بتسيير الجبهة الشعبية من طرف أحد أحزابها … كما يرى طرف آخر أن السبب يكمن في الرغبة الجامحة في قيادة الجبهة أو الترشح للانتخابات الرئاسية …

محمد الزمزاري Mohamed Zemzari
محمد الزمزاري

و رغم أن اليسار قد كان حاسما بمساهمته العظيمة في ثورة 2011 التي شارك فيها الشباب اليساري في ظل ثورة أو انتفاضة تفتقد للتأطير و لقيادة واضحة المعالم يستظل بها شباب الثورة و عموم الشعب … إلا أنه يطرح السؤال بكل قوة عن الأسباب التي أدت إلى فشل اليسار من الوصول إلى الحكم أو المشاركة فيه بعد ثورته التي انتظرها أحقابا من الزمن : هل هي حملات التكفير التي قام بها خصومه التاريخيين بالمساجد و الخيام الدعوية و الأسواق الشعبية و المواسم الدينية بُعيد الثورة مباشرة؟ أم أن الأمر يتعلق أساسا بأزمة الخطاب و ضعف الممارسة الميدانية التي كانت دوما نقطة قوة لدي اليساريين في صراعهم مع السلطة لاسيما في ما بين 1963 إلى 1983؟

نحاول اليوم اعتمادا على بعض المراجع التاريخية و متابعة المد اليساري خلال بعض مراحل التاريخ المعاصر … و هي مراحل اتسمت بالإيقافات و السجون و التعذيب التي عاناها اليساريون بمختلف أصنافهم و خاصة مناضلو “برسبكتيف”(العامل التونسي)

إذا ما تصفحنا تاريخ اليسار نرى أنه برز على الساحة السياسية الوطنية بين مد و جزر منذ الأربعينات حيث بدأت الحركة الشيوعية تأخذ مكانها داخل البلاد مشاركة في الكفاح التحريري ضد المستعمر الفرنسي … كما شهدت الحركة توسعا خلال سنوات الخمسينات و الستينات بعد الاستقلال … و لعلها تميزت خلال أواخر الستينات بالاحتكاك بعموم الشعب و تجسيم ممارسة علمية صحيحة (المناضل الشيوعي “الجيلاني العزوزي” نموذجا) و الذي قام بدور كبير في محاولة نشر أدبيات و مبادىء الحركة الشيوعية … لا بالخطاب فقط بل بالممارسة البراغماتية و نشر الأطروحات الشيوعية بذكاء حاد عبر ما قدمه من خدمات جليلة لصالح تلاميذ الولايات المجاورة لمدينة قابس مثل قبلي و مدنين … كإنشاء مبيتات و مطاعم مجانية للتلاميذ الفقراء و مد البعض منهم بتساخير نقل و أدوات مدرسية و لربما العديد من ‘طارات الأمس أو اليوم يتذكرون ذلك … كما حاول كمناضل في الحزب الشيوعي التونسي آنذاك تجذير قيم العدالة و التعاون و الوطنية و مناهضة كل صور الاستغلال…

صراع الحركات اليسارية مع سلطة الحزب الواحد و البرلمان الواحد:

بدأت معاناة الحركات اليسارية و ضرب نضالاتها في ظل كماشة الحكم الفردي لبورقيبة و قد تبلورت انطلاقا من سنة 1963 حين بدأت الحركات اليسارية تنغرس صلب الأوساط الجامعية لعل من أهم قياداتها يمكننا ذكر “بن جنات” و “صالح الزغيدي”.و خميس الشماري الذين تم ايقافهم ثم أطلق سراحهم سنة 1970 حينما بدا للسلطة الحاكمة ميل لإضفاء نفس من التفتح النسبي المحدود و المقنن تجاه اليسار إثر فشل التعاضد …..و في الفترة ذاتها برزت للوجود حركة “برسبكتيف” عبر منشوراتها على صحيفتين تصدران بفرنسا ليتم توزيعهما سريا بتونس … و جدير بالتذكير أن الصحيفتين المذكورتين تصدران باللغة الفرنسية و تستهدفان قراء الطبقة المثقفة و طلبة الجامعة …

و خلال شهر جويلية 1969 صدر أول عدد،من جريدة “العامل التونسي التي طغت على مقالاتها اللهجة الدارجة في إطار استهداف الطبقات الشعبية و عموم الشغالين ….و لعل الصراع مع السلطة قد احتد فعليا اثر مؤتمر الاتحاد العام لطلبة تونس المنعقد بمدينة قربة تلته ثورة 5 فيفري 72. عندما بدأ مناضلو “العامل التونسي”.في التقدم لاكتساح المرحلة الجديدة المتمثلة في مشاركة فاعلة في الإضرابات العمالية و تأطير تحركاتها و تنظيمها و الانتماء إلى الاتحاد العام التونسي للشغل لدعم هذه الأهداف باعتباره المؤسسة القوية في مجال الدفاع عن حقوق الطبقة الشغيلة …

لكن مثلما ذكرنا فان هذه التحركات البراغماتية المتميزة عبر العمل الميداني لمناضلي “العامل التونسي”.قد أثارت حفيظة النظام و أدت إلى تحركه بقوة لضربها و الفتك بها عن طريق العنف البوليسي خاصة لدى اضراب 2 ماي 1972 لاسيما و قد تتالت نجاحات مناضلي “العامل التونسي” حيث توسعت نشاطات حركة “برسبكتيف”و كذلك صحيفتها التي انتشرت لدى الأوساط الطلابية و العمالية و حتى الشعبية كما تمكن مناضلو برسبكتيف”(العامل التونسي) من النفاذ إلى عمق البلاد و الانطلاق في تركيز خلايا سرية نشيطة لعل أهمها في قفصة و سوسة و القيروان و صفاقس و بنزرت … كما طفت على ساحة الجامعة الصراعات مع الإسلاميين و كان على هذه الحركة و اليسار الطلابي عموما مواجهة سلطة قمعية عازمة على القضاء عليها و صراع مع إسلاميين يؤمنون بالعنف و الضرب بالسلاسل الحديدية …

(في الحلقة القادمة …إشارة بورقيبة لقمع مناضلي اليسار و رأس الحربة حركة برسبكتيف )

أكمل القراءة
انقر للتعليق

اترك تعليقا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

جور نار

ملاحظات نقديّة … على هامش تغيير النظام التأديبي المدرسي

نشرت

في

يبدُو أن وزارة التربية تشتغل خلال هذه الفترة على تنقيح النظام التأديبي المدرسي الحالي نظرا لما اعتراه من تآكل وتقادم أمام التطورات المُذهلة الحاصلة في سلوكات التلاميذ، وتغيّر ملمح هؤلاء واستفحال عديد الظواهر المُستجدّة داخل الوسط المدرسي وخارجه، وكذلك تحت وطأة التطورات السريعة المُسجّلة في مجال الرقميّات الحديثة التي تؤثّر بشكل مباشر على علاقة التلميذ بمحيطه ودروسه ومدرسته ومصادر إمتاعه ودروب إفلاته من قبضة السلطة بمختلف قُبّعاتها.

منصف الخميري Moncef Khemiri
منصف الخميري

نُسجّل في البداية أن النص القانوني اليتيم المنظّم للمسألة التأديبية في مؤسساتنا التربوية هو منشور وزير التربية والتعليم المؤرّخ في 01 أكتوبر 1991، أي مرجعية قانونية تجاوز عمرها أكثر من ثلاثين سنة (بمعنى أن القانون الذي طُبّق على تلميذ في التسعينات وأصبح وليّا فيما بعد، مازالت إجراءاته سارية على أبناء هذا الأخير اليوم !). ولست أدري ما الذي كان يمنع حوالي 14 وزيرا تعاقبوا على التربية بعد 1991 من إجراء بعض التغييرات الضرورية على منشور أفرزته ظروف لم تعد قائمة وسياق لم يعد السياق ؟

سأكتفي في هذه الورقة بالتأشير على هِنات النظام الحالي ونقائصه ومظاهر القصور في إجراءاته وترتيباته دون الخوض في ما يجب أن يكون عليه النظام المرتقب…نظرا لضيق المجال. ولكن قبل سرد بعض الملاحظات، بودّي التنبيه – درءًا لأي سوء تأويل- إلى أنني لا أدافع على مقاربة زجرية صارمة تكسِر الناشئة وتُلحق بهم شتّى أنواع العاهات النفسية والبدنية، ولا على مقاربة تُعلي”حقوق الطفل” فوق كل الاعتبارات الأخرى وتُبيح كل أنواع التجاوزات والشّرود (الشّرود هو التعبير الذي يُطلق على مخالفة التسلّل في إعلام المغرب الأقصى)… لأنه بين هذه وتلك، تتّسع المساحة لإنبات مدوّنة سلوكيّة مرِنة دون ارتخاء، وحازمة دون إيذاء في نفس الوقت.

ملاحظة أولى : الخطاب المستعمل في صياغة النص الحالي المتعلق بالنظام التأديبي تتكرر فيه مصطلحات تُحيل على سجلّ عقابي وسجني جزائي عسكري في عديد من المواقع من قبيل : الاحتراس الكامل من كل أشكال التكاسل في أداء الواجب، وترويض النفس على جد البذل والجدّ في العمل والانضباط في السلوك، واتخاذ التدابير اللازمة، ومقاومة الانحرافات، و الالتجاء الى الوسائل الردعية، وإيقاف التلميذ، ومثوله أمام المجلس، وإحباط نية الغش قبل حدوثه، والعواقب الوخيمة، والحرمان من مواصلة اجراء الاختبار، وإدانة تلميذ إلخ …ممّا يجعل الجانب الزجري والردعي مهيمنا على الجانب التربوي والتّقويمي.

ملاحظة ثانية : في المقابل لا نجد أثرا لسجلّ أو سرديّة حديثة أضحت متداولة في جل المنظومات التربوية المتطورة مثل: المرافقة والتواصل والحوار، ومكانة التلميذ وحقوقه، والتصرف في السلوكات داخل الفضاء المدرسي (بدلا من العقاب المدرسي)، والسلوكات الحميدة، وتكافؤ الفرص، والعيش معا، والتأطير والعناية والإصغاء، والتشاركية في بناء القواعد السلوكية وتطبيقها من قبل المربين، وجودة التعلم، وحسن التعامل مع التلميذ، واحترام ذات المتعلم وحفظ كرامته، والتعامل مع المتعلم كذات فاعلة جديرة بالاحترام والتقدير، وتوفير الحماية لجميع التلاميذ، وتوفير شروط توازنهم وفرحة التعلم لديهم… وهي تعابير  يسكنها كلها همّ مشترك: توازن التلميذ ونجاحه فوق اعتبار “المحافظة على النظام وضمان الانضباط والاستقامة”.

ملاحظة ثالثة : في عائلاتنا جميعا لا يوجد منشور مكتوب يُحدّد السلوكات أو قانون صريح يُنظّم العلاقات بين جميع أفراد العائلة، فكل شيء ضمني ومسكوت عنه ولكن الجميع يعلم جيدا ما له وما عليه في علاقة باستقامة الخطاب وترتيب الفضاءات واحترام الوالدين والتجمّع حول مائدة الإفطار في إبّانها ومراقبة نبرة الصوت وإجلال السّقف الذي يأوي العائلة… أما في الفضاء المدرسي فيُمضي الوليّ في مفتتح كل سنة دراسية على نظام داخلي مكتوب وتُعلّق مدوّنات حسن السلوك ومواثيق العيش معا داخل كل زاوية وكل فصل، وتوجد هياكل وأجسام تربوية تسهر على حسن تطبيق الإجراءات والتراتيب المدرسية…ولكن لا أحد يعتبر نفسه معنياّ بها. الكلمة المفتاح هنا في تقديري هي “الانتماء“. البيت بالنسبة إلى تلاميذنا هو بيتهم أما المدرسة فليست بيتا لهم. والإخوة “سند عظيم وضلع ثابت لا يميل”، أما الأقران فهم مجموعات مؤقّتة للّهو والزّهو وتحصيل بعض الشعور بالانتماء، والأبوان عنوان للقداسة والتبجيل أما الأساتذة والمعلمون فأغلبهم مُوزِّعون آليّون للأعداد وجسور عبور نفعيّة محضة. فلو نسحب القوانين “العُرفيّة” للعائلة على مجال الحياة المدرسية لاستقامت أمور مدرستنا وصلح حال ناشئتنا.

ملاحظة رابعة : النص القانوني المعتمد منذ جيل ونصف يتحدّث عن “الإساءة لأحد أعضاء الأسرة التربوية” وكأنهم جسم متجانس يتقاسم المفاهيم والرؤى والتصورات القيميّة (في علاقة بالتلميذ نفسه وهندامه وتصرّفاته وخطابه وسلوكاته المنزاحة أحيانا…). كما يتحدّث عن “الانحرافات” وكأن هنالك إجماع طبيعي حول تعريف الانحرافات وسوء السلوك والتطاول والإساءة… وفي ذلك إصرار على تعمّد انتهاج الضبابية والتضمين وتجنب التصريح من أجل تكييف العقوبات كما يحلو لـ”أعضاء الأسرة التربوية”.

ملاحظة خامسة : نلاحظ تنصيصا وتأكيدا ملحّا على المخالفات والتجاوزات التي تستدعي الإحالة على مجلس التربية ومجلس التأديب، مقابل “صمت” أو “تغافل” أو “عدم اعتناء” بالمخالفات الصغرى أو الأخطاء الليّنة التي تبدو بسيطة ودون خطورة تذكر، لكنّ سلسلة طويلة من الأخطاء البسيطة غير “المُعالجة” في إبّانها تتحول بعد فترة إلى مخالفات خطيرة. ويُحيلنا هذا الواقع على نظرية “النوافذ المكسورة” المؤكدة على أن “ترك زجاج مكسور دون إصلاح في حيّ من الأحياء يؤدّي بالضرورة إلى كسر باقي المربّعات الزجاجية”، وعليه يصبح ممكنا تطويق المخالفات الخطيرة من خلال معاقبة المخالفات الليّنة. 

ملاحظة سابعة : هنالك نقائص مفروغ منها باعتبار ما حصل خلال العشريات السابقة من تحوّلات لم يكن بالامكان أخذها بعين الاعتبار في نص 1991، مثل الجرائم السيبرنية (هرسلة وتنمّر وابتزاز…على الشبكات) وتطويق ظواهر الإدمان والعنف المستشري في الوسط المدرسي وفي محيط المدارس واستعمال الهاتف الجوال داخل الفضاء المدرسي والتعلّمي إلخ…

ملاحظة أخيرة : غياب أية إشارة إلى نظام التقييم المعتمد حاليا خاصة في علاقة بالتلاميذ المهددين بالانقطاع أو المرتّبين بشكل سيّء، إذ يعتبر عديد المتابعين للشأن التأديبي بالوسط المدرسي أن “النتائج المدرسية السلبية” غالبا ما يتقبّلها التلاميذ المعنيون على أنها مُهينة ومُحِطّة من كرامتهم بما يدفعهم رأسا نحو المخالفة والجنوح.

أكمل القراءة

جور نار

تخميرة شعب …

نشرت

في

 تروي الحكاية الفرنسيّة أن رجلا يدعي “بانورج ” كان في رحلة بحريّة على متن سفينة. وكان على نفس السفينة تاجر الأغنام “دندونو” ومعه قطيع من الخرفان المنقولة بغرض بيعها.

عبير عميش

كان “دندونو” تاجرا جشعا يمثل أسوأ ما في هذا العصر وهو غياب الإنسانية. و حدث أن وقع شجار على سطح المركب بين “بانورج” والتاجر “دندونو” صمم على أثره “بانورج” أن ينتقم من التاجر الجشع ، فقرّر شراء خروف من التاجر بسعر عال، وسط سعادة دوندونو بالصفقة الرابحة. وفي مشهد غريب أمسك “بانورج” بالخروف من قرنيه وجرّه بقوة إلى طرف السفينة ثم ألقى به في البحر ، فما كان من أحد الخرفان إلاّ أنْ تبع خطى الخروف الغريق ليلقى مصيره ، ليلحقه الثاني فالثالث والرابع وسط ذهول التاجر وصدمته ، ثم اصطفت الخرفان الباقية في “طابور مهيب” لتمارس دورها في القفز.

جُنّ جنون تاجر الأغنام “دندونو” وهو يحاول منع القطيع من القفز بالماء ، لكنّ محاولاته كلها باءت بالفشل ،فقد كان”إيمان”الخرفان بما يفعلونه على قدر من الرسوخ أكبر من أن يُقاوم  … وبدافع قوي من الجشع اندفع “دندونو” للإمساك بآخر الخرفان الأحياء آملا في إنقاذه من مصيره المحتوم ، إلّا أن الخروف “المؤمن” كان مصراً على الانسياق وراء الخرفان ، فكان أنْ سقط كلاهما في الماء ليموتا معا غرقا.

هذه القصّة للكاتب   الفرنسي  فرانسوا رابليه جعلت تعبير “خرفان بانورج” مصطلحا شائعا في اللغة الفرنسية ويعني انسياق الجماعة بلا وعي أو إرادة وراء آراء أو أفعال الآخرين.

ليس أخطر على المجتمع  من تنامي روح القطيع لديه ليس أخطر ممن ينظر إلى الحقائق بعين واحدة ، من لا يفكّر أو لا يحاول أن يفكّر خارج الصندوق خارج الوعي الجمعي و الاندفاع القطيعي … فأن تكون مع المجموعة منضبطا لنواميسها مندفعا مع نظرتها و أحكامها، أسهل من أن تتجشّم عبء التّفكير الفردي و خطر المغامرة في محاولة الفهم و التفكيك و تقليب الأمور من كلّ جوانبها، و عدم الاكتفاء بالصورة التي يقدمها الآخرون   

فالله وهبك عقلا لتحسن التفكير و تدبّر الأمور لا لتسمح للآخرين بتوجيهك و التفكير بدلا عنك،  و خلقك حرّا لتستطيع أن تكون أنت و لا تكون مجرّد تابع للآخرين، و منحك قلبا و ضميرا لترتقي بمشاعرك و لتترفّع عن الشماتة و الحقد و التّشفيّ

إنّ الهستيريا الجماعية هذه الأيام فرحا بالإيقافات، و ما نطالعه من عبارات و مواقف يجعلنا نتساءل أين العقل و الضمير و الحرّية في كلّ ما يحصل؟ تعطّش للدّماء و حفلات  شواء و رقص على جثث الموقوفين والمسجونين و المطرودين … و النّار مازالت تطالب بالمزيد و الجماهير تصفق فرحة جذلى داعية إلى حلّ الأحزاب و الجمعيّات و إغلاق المؤسسات الإعلاميّة و سجن من كانوا في الحكم و في المعارضة على السّواء و حتى طرد السفراء و الدبلوماسيين.  و قد أنستهم الّخميرة أنّ  نار الحقد  المستعرة ستحرق الجميع وأنّهم يمهدون السبيل أمام الطغيان و التّجبّر …

متى يدرك الشّعب أنّنا منذ 12 سنة نكرّر نفس الخطاب النّاقم و نفس أخطاء المحاسبة و أنّ ممارسات اليوم لا تختلف كثيرا عن ممارسات هيئة بن سدرين،  و أنّ الحساب فردي و ليس جماعيّا، وأنّ القانون يجب أن يطبّق على الجميع مساندين و معارضين،  و أنّ المحاكمات يجب أن تتمّ وفقا للأدلّة و البراهين و في فضاء القضاء النّزيه المستقل وفي كنف القانون و  على أسس المحاكمة العادلة، لا في الشوارع و المقاهي و فضاءات التواصل الاجتماعي  حيث  نصّب الكلّ نفسه خصما و حكما في نفس الوقت، و الويل كلّ الويل لمن يطالب بالتعقّل واحترام القانون و  توفير ظروف محاكمات عادلة،  سيندفع نحوه القطيع شاتِما، متّهِما، مخوِّنا  وقد نسي الجميع كلّ مشاكل البلاد و لم يعد لهم من همّ إلا رؤية الآخرين وراء القضبان

فمن مازال اليوم مثلا يناقش شروط قرض صندوق النقد الدولي، و تنقيح القانون عدد 9 لسنة  1989 المتعلّق بالمساهمات و المؤسسات و المنشآت العمومية للتمهيد لخوصصة المؤسسات العمومية والانصياع لطلبات الصندوق؟ و ما دمنا نتحدّث عن الـ “آف آ مي” و في علاقة بطرد النّقابية الأوروبية يوم أمس من بلادنا للحفاظ على سيادتنا الوطنية و رفضا للتدخّل في شؤوننا، أ لا يحقّ لنا أن نتساءل أين السيادة الوطنية و نحن نتسوّل لتمويل الميزانية ؟ و أين السيادة الوطنيّة و بلدنا يخضع لأحكام المؤسسات المالية العالمية؟ أين السيادة الوطنيّة و نحن نمتثل لقرارات الاتحاد الأوروبي و نشتغل بالمناولة حرّاسا للحوض الجنوبي للبحر الأبيض  المتوسّط ؟  أين السيادة الوطنية و شبابنا يقف طوابير أمام أبواب السّفارات الأجنبيّة ؟ أين السيادة الوطنيّة و مواطنونا يُهَرسلون في الحدود الجزائرية ؟ أين السيادة الوطنية و أبناؤنا من الحارقين يُرَحَّلون مخدّرين مغلولين ؟ …..

لقد نجحت السّلطة طيلة الأسبوع الماضي في إخراس أصوات الشعب المتململ من طوابير الانتظار و في توجيه اهتمامه نحو الإيقافات الحاصلة و لكن إلى متى ستتواصل هذه السّياسة؟ و حتى متى ستستمرّ مواجهة الفشل الاقتصادي بتحويل وجهة الرأي العام و ضرب الخصوم، و كيف ستُدارَى الخيبات الاقتصاديّة بعد إفراغ الساحة و القضاء على كلّ المعارضين و إخراس أصوات كلّ المناوئين؟ و هل سيستطيع الشّعب بعد ذلك أن يرفع صوته للمطالبة بحقوقه؟ و هل سيستطيع أن يعبّر عن رفضه لبعض القوانين والسياسات؟ و هل سيجد يومها من يدعمه و يقف معه أمام غطرسة السّلطة و جبروتها؟

أكمل القراءة

جور نار

الإذاعات إلى أين ؟؟

نشرت

في

سُعدت جدّا بالدعوة التي وجّهتها اليّ دار الثقافة ابن رشيق بتونس العاصمة احتفاء باليوم العالمي للاذاعة يوم 13 فيفري 2023 …

عبد الكريم قطاطة

سعادتي كانت مزخرفة بالوان عديدة .. اوّلها انّ المشرفة على التظاهرة السيّدة عربيّة بدات رحلتها معي وهي تلميذة بالخامسة ثانوي بمعهد الحمامات كمستمعة ومراسلة لبرامجي في بداية الثمانينات باذاعة صفاقس ..وها هي اليوم نبتة صالحة تعمل بوعي وجدية في الميدان الثقافي ..هنيئا لي بك عربية وشكرا لك ولدار الثقافة ابن رشيق على هذه الدعوة … اللون الثاني تمثّل في اللقاء مع مجموعة من الزملاء الاعلاميين _اذاعة وصحافة مكتوبة مارسنا معا العمل منذ اكثر من 40 عاما سواء بالاذاعة الوطنية وفروعها في الاذاعات الجهوية او في جريدة الايام ذات سنوات في بداية الثمانينات والتي بقيت اصداؤها لحدّ الان كتجربة فريدة من نوعها في تاريخ الصحافة المكتوبة ..كنا انذاك عصابة من الاعلاميين المشاغبين جدا جمعنا رئيس التحرير الزميل نجيب الخويلدي .. وكتبنا وحبّرنا عديد الصفحات بمنطق ذلك الذي لا يجامل ولا يعادي …

اللون الثالث كان في لقاء مع مجموعة من الاسماء تواصل عملها سواء اذاعيا او تلفزيا ..وكان السؤال المحوري في مداخلتنا (الاذاعة بين الامس اليوم) وتداول على المصدح وبتنشيط من زميلي حبيب جغام العديد ..الا انّي وبعد كل ما استمعت واسمعت يومها اخترت في هذه الخواطر ان اطرح السؤال الاهمّ في تقديري وهو (الاذاعات الى اين ؟) هو سؤال مأتاه ما تعيش الصحافة المكتوبة من صعوبات جمّة لمواصلة التواجد مما ادّي البعض منها الى الانقراض …وبالتالي وامام المتغيرات التي شهدتها وسائل الاتصال كيف يمكن للاذاعات مقاومة هذا الواقع الجديد وهل هي قادرة على ضمان ديمومتها في الوجود ؟؟

الاذاعي بطبيعة انتمائه لهذا العالم السحري يرفض حتى مجرّد طرح السؤال ويعتبر انقراض الاذاعات سؤالا عبثيا .. ..وبشيء من هدوء الاعصاب ها انا اصرّ على طرحه وبشكل مباشر ..امام الواقع الاتصالي الجديد هل اصبح غد الاذاعة مهددا ؟؟ الواقع الاتصالي الذي نعيشه اثبت انّه بامكان ايّ كان ان تصبح له اذاعته الخاصة ..واكبر دليل على ذلك عديد المحطات الاذاعية وخاصة تلك الموجودة على الويب وهي اذاعات لا علاقة لها بالمفهوم العلمي مهنيّا لماهيّة الاذاعة . هي في جلّها نزوات فردية يمكن حوصلتها في (هيّا نعملو اذاعة ؟؟ ايه نعملو وعلاش ما نعملوش ..يخخي هي علم اليدُن ؟؟؟) …

نعم الاذاعة علم وموهبة تصوّرا واعدادا وتنفيذا ومتابعة ….ثمّ ودائما مع الاذاعات الخاصة هل ستبقى قادرة على ديمومتها وهي تعتمد اساسا على مداخيل الاشهار لتضمن خلاص اهل الدار ؟؟ وحتى اذاعات المرفق العمومي والتي تشتغل بفيالق بشرية مهولة جلّها لا شغل لها …هل هي قادرة على ديمومتها في ظلّ منافسة الاذاعات الخاصة لها رغم اسبقيتها التاريخية في احتلال المشهد السمعي ؟؟ وامام هذه التساؤلات هل سيواصل معهد الصحافة وعلوم الاخبار مسيرته كمّا وكيفا بعد ان اصبحت الاذاعات بكلّ انواعها تعتمد في جزء كبير من المنتجين والمنشطين بها على اناس لا صلة لهم لا بالصحافة ولا بالعمل الاذاعي ؟؟؟

بتساؤل يلخّص كلّ هذه التساؤلات: هل الاذاعات اصبحت مهددة تهديدا جدّيا في وجودها ؟؟ اجيب ودائما في تقديري الخاص ..نعم …. العديد من الاذاعات وخاصّة الخاصّة منها اصبحت في حاجة اكيدة للبحث عن حلول جذرية لواقعها المادّي اي لموارد جذيدة ..دون ذلك ستبقى مهدّدة في وجودها ..لانّ كعكة الاشهار المقسّمة على الجميع لا تفي بحاجة ذلك العدد المهول من الرخص المسندة من قبل الهايكا للخواص والتي اصبحت مشكلتها الشائكة توفير الحدّ الادنى من رواتب لافواه ارانبها لضمان حدّ ادنى من مقوّمات العيش الكريم …

فيما تبقى اذاعات المرفق العمومي بحاجة ملحّة لترشيد العامل البشري وتقليصه على مراحل للنصف على الاقلّ…

16 فيفري 2023

أكمل القراءة

صن نار