تابعنا على

جلـ ... منار

فرنسا المأزومة قرب منحدر!

نشرت

في

الضواحي الفرنسية... سكان قلقون مع استفحال العصابات

لا تلخص الاحتجاجات العنيفة، التي اجتاحت باريس ومدنا عديدة أخرى، الأزمة الفرنسية بكامل تجلياتها
انتفاضات الضواحي وجه للأزمة، وليست الأزمة كلها
.

عبد الله السنّاوي

قد يغرى الهدوء الظاهر بعد أيام عاصفة بالغضب الجامح في الشوارع تخريبا وتدميرا وصداما مروعا بين المتظاهرين الغاضبين على مقتل شاب من أصل جزائري في السابعة عشرة من عمره برصاص ضابط شرطة أن الأزمة انقضت.
إنها النار تحت الرماد، جذوتها كامنة ومرشحة للاشتعال مرة أخرى.
الاحتجاجات بكل عنفها تعبير عن
غضب مكتوم متوارث تمددت أسبابه إلى أحدث أجيال المهاجرين، خاصة من دول المغرب العربي، الجيل الثالث أو الرابع، كلهم تحت العشرين من أعمارهم.
وفق أرقام الشرطة الفرنسية فإن (70%) من آلاف الموقوفين تحت سن الـ(17) عاما.

إرث الماضى الاستعماري ماثل بقوة تحت الجلد السياسي والاجتماعي وممتد إلى الحاضر والمستقبل.
نفي الإرث الاستعماري تجهيل ببعض حقائق الأزمة الخانقة، حيث الشعور بالغبن والتمييز وعدم المساواة متأصل ويحتاج إلى مقاربات جديدة تعترف وتعتذر عن آثام الماضي وتعمل على تصحيح العلاقات بين مواطني الدولة وفق قواعد وقيم الجمهورية الفرنسية، والكف عن لغة التعالي والإنكار.. كأن يقال: “فليعودوا إلى بلادهم”!
هذه بلادهم الآن.. نحن نتحدث عن ستة ملايين مواطن، نسبة معتبرة من السكان، لم يعودوا رقما طارئا على الحياة الفرنسية، هم الآن في صلبها ويستحيل أي حديث جدي عن المستقبل دون أن يكونوا طرفا فيه.
انتقال إرث الغضب والتهميش من جيل لآخر تعبير عن فشل سياسات الإدماج في المجتمع الفرنسي، وأنه في حاجة إلى مقاربات جديدة.

انتفاضة الضواحي، التي ضربت فرنسا عام (2005) في ولاية الرئيس “جاك شيراك”، تكررت مرة ثانية في (2023) بسيناريو مشابه تحت حكم “إيمانويل ماكرون”.
في انتفاضة (2005) شلت العاصمة تماما في (27) أكتوبر، دمرت مبان وسيارات عامة وخاصة، أعلنت حالة الطوارئ في (8) نوفمبر، واعتقل آلاف المواطنين.
اهتزت صورة الرئيس وبرزت على السطح صراعات شبه معلنة بينه وبين وزير داخليته الطموح لخلافته “نيكولا ساركوزى”.

حسب رواية الصحفي الفرنسي الأشهر “إريك رولو”، كما استمعت إليه ذات مساء على نيل القاهرة قبيل الانتخابات الرئاسية التي صعدت بـ”ساركوزى” إلى مقعد الرئاسة، بعد عامين بالضبط من انتفاضة الضواحي، أنه لم يكن يتورع عن الكلام باستخفاف عن رئيس الجمهورية أمام الصحفيين الفرنسيين.
فيما كان شيراك يلقي خطابا متلفزا بمناسبة عيد الثورة الفرنسية، طلب وزير داخليته إغلاق التلفزيون، قائلا لمرافقيه من الصحفيين: “لماذا لا يكف عن هذا الكلام الفارغ؟”!
بعد مغادرته قصر الإليزيه انتقم شيراك لنفسه في مذكراته معرضا وساخرا من وزير داخليته وخليفته.
المثير أن كليهما اتهم في ذمته المالية وجرت محاكمته.

كشفت انتفاضة الضواحي الأولى عمق الشروخ في البنية الاجتماعية وعمق شروخ أخرى في بنية الحكم تحولت بمضي الوقت إلى فوالق سرعان ما انهارت بإفلاس معلن للنخبة السياسية الفرنسية بجناحيها الجمهوري والاشتراكي، اليميني واليساري معا في التوقيت نفسه.
قفز المصرفي الشاب إيمانويل ماكرون إلى الرئاسة من فوق ركام ذلك الإفلاس، على أمل ترميمها وإعادة صياغتها من جديد، لكن تجربته أكدت الإفلاس ولم تنفِه ونالت من أوزان بلاده وأدوارها في إفريقيا وداخل التحالف الغربي.بالأفكار والتوجهات فهو أقرب إلى يمين الوسط، أو الحزب الجمهوري بإرثه الديجولي.
وبالتجربة العملية، فقد اختاره الرئيس الاشتراكي الأخير “فرنسوا هولاند” لتولي حقيبة الاقتصاد.

عندما استشعر تقوض فرص هولاند في تجديد ولايته لم يتورع عن أن يرشح نفسه ويدفعه إلى الانسحاب من السباق الرئاسي.
شعر هولاند بالخذلان دون أن يكون بوسعه أن يصنع شيئا، كان كل شيء قد انتهى.
بدا صعود ماكرون تعييرا عن ضجر فرنسي من النخبة السياسية التقليدية، التي أفلست تماما وضربها الفساد.
كانت تلك أزمة جوهرية ضربت مؤسسات الدولة ونالت من الموقع الرئاسي.
لم يكن ممكنا أن يجدد ماكرون ولايته لدورة ثانية، مع التراجع الفادح في شعبيته، لولا أن الطرف الآخر فى جولة الإعادة اليمينية المتطرفة “مارين لوبان”.
بدا التصويت العام أقرب لاستفتاء على رفض “لوبان” بتوجهاتها الشعبوية ضد الاتحاد الأوروبي والمهاجرين والأقليات، على تجديد ثقة في سياسات الرئيس.

بأية قراءة موضوعية يصعب التعويل على السياسات المتبعة لتدارك أسباب ودواعي انتفاضة الضواحي الجديدة.
جرى توظيف العنف المفرط، الذي ارتكبه المحتجون، إلى إنكار أسباب الاحتجاجات، التي فجرت الأحداث، دون اعتراف بالممارسات الأمنية العنصرية التي ترتكب بحق المواطنين من أصول عربية وإفريقية، أو إبداء أدنى استعداد للتصحيح والتصويب.
في توظيف آخر للعنف الذي شاب الاحتجاجات، المدان بطبيعة الحال، تحولت القضية من أزمة تهميش إلى أزمة شغب تقتضي الضرب بيد من حديد لإعادة الاستقرار والهدوء مرة أخرى.

نسب لمسؤولين حكوميين أن ما جرى أزمة مجتمعية لا أزمة ضواحي!
الكلام يبدو متماسكا لكنه في حقيقته تهرب من مواجهة الأزمة في وجهها المباشر، أزمة تهميش وإقصاء وتفلت عنصري في بلد اكتسب هيبته التاريخية من إرثه في المساواة وإعلاء حقوق المواطنة ودولة القانون.
بمثل هذه المعالجات يصعب ألا تعود، بحادث أو آخر، انتفاضات الضواحي لتهز فرنسا من جديد.
بالنسبة لـ”ماكرون” فقد كان شاغله الأول مع اندلاع الاحتجاجات ألا يضطر إلى فرض حالة الطوارئ كما فعل “شيراك” في (2005)، أو أن تفلت الحوادث عن أية سيطرة في أوضاع اقتصادية صعبة تعانيها البلاد.

بصياغة أخرى، نحن أمام ترحيل لأزمة الضواحي، دون اعتراف حقيقي بأسبابها ودواعيها.
الأزمة الفرنسية سياسية بالمقام الأول وتتولد منها بقية الأزمات والاضطرابات.
الخشية هنا أن تجد فرنسا نفسها مدفوعة باليأس والإحباط إلى انتخاب مرشح يميني متطرف في الانتخابات الرئاسية المقبلة.بخياراته المعادية للأجانب وسكان الضواحي والمسلمين والاتحاد الأوروبي نفسه، سوف يضع فرنسا على فوهة انفجار.
بمثل هذا السيناريو، قد تخسر فرنسا روحها ومبادئ جمهوريتها.
إذا لم تتدارك أزمتها فإن السقوط من منحدر، سيناريو لا يمكن استبعاده.

أكمل القراءة
انقر للتعليق

اترك تعليقا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

جلـ ... منار

فلسطين والأمم المتحدة… أعراف نوادي العراة

نشرت

في

الجزائر تدعم ترشح فلسطين لتصبح الدولة العضو الـ 194 في الأمم المتحدة –  جريدة الجزائر

اعتمدت الجمعية العامة للأمم المتحدة قراراً ينصّ على أنّ فلسطين مؤهلة لعضوية الأمم المتحدة، ويوصي مجلس الأمن الدولي بإعادة النظر في هذا الأمر بصفة إيجابية؛ أي على نقيض مشروع سابق في المجلس تقدمت به الجزائر، وصوتت لصالحه 12 دولة، وامتنعت بريطانيا وسويسرا عن التصويت، وأفشلته الولايات المتحدة عن طريق استخدام حقّ النقض (الفيتو) الشهير.

صبحي حديدي
صبحي حديدي

قرار الجمعية العامة حظي بأغلبية ساحقة بلغت 143 صوتاً، مقابل معارضة 9 دول، وامتناع 25 عن التصويت.ورغم أنّ القرار، على أهميته الرمزية العالية، ليست له “أسنان” تنفيذية في نهاية المطاف، ما دام الـ”فيتو” الأمريكي سيفا مسلطا على رؤوس أعضاء مجلس الأمن الدولي؛ فإنّ بعض التمعن في أصوات المعارضة والامتناع يمكن أن تمنح المرء فرصة إضافية لتأكيد ما هو مسلّم به، بصدد توازنات القوى داخل هيئات الأمم المتحدة المختلفة، وطبائع التصويت على مشاريع القرارات عموماً.

أمر مفهوم تماماً أن تكون الولايات المتحدة ودولة الاحتلال الإسرائيلي ضمن أصوات الرفض، فلا جديد هنا ولا مفاجأة ولا خبر أصلاً. مألوف، أيضاً، ومتكرر، أن تلتحق بالصفّ الأمريكي/ الإسرائيلي كيانات مثل ميكرونيزيا، ناورو، بالاو، وبابوا. مفاجئ، قليلاً فقط، أن تنضم إلى رهط الرافضين دول مثل تشيكيا وهنغاريا والأرجنتين، بالنظر إلى أنّ النهج العنصري أو الانعزالي أو الذَيْلية الأمريكية لدى بعض حكامها لا يبرر، على نحو كافٍ، هذا الخيار العدائي.

في صفّ الامتناع عن التصويت تُفهم، أيضاً توجهات دول مثل المملكة المتحدة وألبانيا والنمسا وبلغاريا وكندا وكرواتيا وألمانيا وجورجيا وإيطاليا ولاتفيا وموناكو وهولندا ومقدونيا الشمالية ومولدوفا ورومانيا والسويد وسويسرا وأوكرانيا؛ ولكن… ما الذي يجبر دولاً مثل جزر فيجي وجزر مارشال وباراغوي وفنزويلا على اللهاث خلف الممتنعين؟ وبمعنى التراكم الدبلوماسي، النوعي والكمّي والتاريخي، لدول ذات ماضٍ في الانتماء إلى “الجنوب” أو “العالم الثالث”؛ ما الفارق المقارَن مع المكسيك ومالاوي ومنغوليا والموزامبيق… التي صوتت لصالح القرار؟

ولعلّ خلاصة أولى خلف هذا المشهد الثلاثي، بين قابل ورافض وممتنع، يمكن أن تقتفي الخطّ المعهود حول انقسام المنظمة الدولية إلى نادييَنْ، وليس إلى ثلاثة نوادٍ في الواقع: 1) الأقوياء الخمسة، أمريكا وروسيا والصين وفرنسا وبريطانيا، دائمو العضوية في مجلس الأمن الدولي وحَمَلة ذراع الـ”فيتو”؛ و2) سائر دول العالم، من القويّة بدورها إلى الضعيفة مروراً بمقام المنزلة بين المنزلتين.

هذا التشخيص الكلاسيكي لا يجبّ، مع ذلك أو بسبب منه على وجه التحديد، تلك الخصوصية الاستثنائية الفائقة التي تتمتع بها دولة الاحتلال الإسرائيلي، ضمن مفارقة ناظمة صارخة: أنّ الكيان الصهيوني وليد هيئة الأمم المتحدة، وأنه الأكثر استهتاراً بميثاق وقرارات وسياسات ومعنى وجود المنظمة الدولية. وليس من شطط كبير في الافتراض بأنّ النادي الذي تسرح فيه دولة الاحتلال وتمرح، ليس مغلقاً وحصرياً ونخبوياً ومحظوراً على العوامّ، فحسب؛ بل هو أقرب إلى ناد للعراة، فيه تُنتهك الشرعة الدولية وتُعرّى، بافتراض أنها لا تتعرى إرادياً وتلقائياً.

ولا عجب أنّ مندوب الاحتلال اعتلى منبر الجمعية العامة، وأقذع في شتم قرار أهلية فلسطين لعضوية الأمم المتحدة، وانتهى إلى تمزيق الميثاق الأممي في وصلة مسرحية مبتذلة فاقعة، وقحة وسفيهة أيضاً؛ إذْ كيف لا يفعل إذا كان رئيس حكومته، بنيامين نتنياهو، هو السابق إلى تمريغ المنظمة الدولية بأوحال أشدّ وقاحة وسفاهة، من موقعه كمندوب للكيان الصهيوني سنوات 1984ـ1988؟

ذلك لأنّ نادي العراة الذي تديره دولة الاحتلال داخل أروقة المقر الأممي في نيويورك، ليس سوى فرع واحد من سلسلة نوادٍ لا تبدأ من البيت الأبيض وحده، ولا تنتهي في الكونغرس؛ حيث تتنوّع شروط الانتساب، من دون اختلاف الأعراف المؤسِّسة!

ـ عن “القدس العربي” ـ

أكمل القراءة

جلـ ... منار

اللؤلؤة الصافية… و”أبوحسين”!

نشرت

في

Peut être une image de étendue d’eau

بيني وبين تلك البحيرة قصة عشق عمره 13 سنة،كم من المرات ألقيت بها أكواما من ضغوطي فأعادتها إليّ بهجة وسرورا.

وفاء سلطان
وفاء سلطان

تقاجئت مؤخرا أنها تحولت إلى مستنقع موحل بعد أن كانت أصفى من دمعة العين… قررت أكثر من مرّة أن أتصل ببلدية المدينة لأسألها السبب، ومتى سيتم تنظيفها، ولسبب ما لم أفعل.

اليوم وخلال رياضتي الصباحية رأيت بعض عمال التنظيف، فاقتربت من أحدهم، وسألته عن سر هذا التلوث.

أشار بيده إلى مشروع سكني كبير يتمّ بناؤه على الهضبة الملاصقة للبحيرة، وقال: لم يكن الجدار الاستنادي الذي بنته شركة البناء حول المبنى كافيا لصد مياه المطر، فأثناء العاصفة المطرية التي ضربت المدينة جرفت المياه الهائجة الأتربة وأطنان من الرمال، وألقت بها في البحيرة،

ثم تابع:بلدية المدينة رفعت دعوى قضائية ضد شركة البناء،وأعتقد أنها ربحت القضية، لأنني سمعت أن عمليات استبدال ماء البحيرة وتنظيفها ستبدأ قريبا!

مدينتا مدينة سياحية فيها 53 مصنعا للخمور.عام 2019، أي قبيل وباء كوفيد، دخلها حوالي 3 ملايين سائح، علما بأن عدد سكانها لا يتجاوزون 120 الفا. العناية بها تفوق الخيال، ولذلك استغربت جدا وضع البحيرة حتى فهمت أن القضية وصلت إلى المحكمة، فتأخر مشروع تنظيفها.

أثناء دردشتي مع زوجي ونحن نمشي حولها، قلت له: صدقني أشعر بالأسف على شركة البناء، لقد أكلها المتعهد، وستكون المخالفة كبيرة جدا!

فردّ ببرودة أعصاب كعادته: لاااا تخافي ، هلأ بيطلع مالك الشركة لعند المساعد أبو حسين (وعا فكرة كل المسؤولين العرب عند زوجي اسمهم أبو حسين)، ويرمي له 1000 دولار على الطاولة، فيحل المشكلة.

لم أعد أذكر أي رئيس أمريكي قال:(عندما يفشل القائد هو المسؤول عن فشله،وعندما ينجح يكون الطاقم الذي يشتغل معه مسؤولا عن نجاحه)!

في بلادنا يفشل المسؤول لأن طاقمه يقتصر على اللصوص والحمير في عائلته وعشيرته، من منطلق “الأقربون أولى بالمعروف”.

نعم، إنها ثقافة الغزو وسرقة الغنائم،فكل مسؤول غازٍ، وكل منصب غنيمة.

إذ كان لهم به أسوة “حسنة”

Motif étoiles

أكمل القراءة

جلـ ... منار

من فيتنام إلى غزة.. الانتفاضات الطلابية مجددا

نشرت

في

مظاهرة أمام جامعة كولومبيا في نيويورك تضامنًا مع الطلاب المعتصمين داخلها  للمطالبة بوقف حرب غزة

بعد (56) عاما عادت جامعة كولومبيا العريقة في مدينة نيويورك إلى مركز اهتمامات الرأي العام بإلهام الاحتجاج السياسي وتأثيره على مجريات الحوادث. فى عام (1968) ولد جيل أمريكي جديد يعترض ويحتج على جرائم الحرب في فيتنام، ويرفض التجنيد في الجيش الذي يرتكبها على بعد آلاف الأميال.

عبد الله السنّاوي
عبد الله السنّاوي

كان ذلك داعيا إلى وقف تلك الحرب بعدما افتقدت ظهيرها الشعبي داخل الولايات المتحدة.

نفس الأجواء الغاضبة بنفس المكان تتكرر الآن تحت عناوين جديدة تستنكر التورط في حرب الإبادة الجماعية والتجويع المنهجي بغزة المحاصرة، تطلب وقفا مستداما لإطلاق النار ووقفا آخر لأية استثمارات في شركات تدعم إسرائيل بالتكنولوجيا العسكرية.

كان ذلك المطلب الأخير تطورا غير مسبوق في السياسة الداخلية الأمريكية يضع مستقبل العلاقات مع إسرائيل بين قوسين كبيرين.

“ليس من السهل تجاهل جثة طفل بين ذراعي أمه، ليس من السهل تجاهل الجياع وهم يتدافعون بحثا عن رغيف خبز والرصاص يطلق عليهم، وليس من السهل إزالة الحطام بعد تعرض شاحنات المساعدات لإطلاق النار ومقتل عمال إغاثة إنسانية”.

كان ذلك تلخيصا إنسانيا أوردته صحيفة “نيويورك تايمز” لدواعي الغضب السياسي، الذي اجتاح الأجيال الجديدة.

في المرتين على اختلاف الأزمان والعناوين، نصبت خيام في الحرم الجامعي، جرت صدامات واقتحامات واعتقالات دون أن توقف زخم الغضب. وفي المرتين امتدت التظاهرات والاحتجاجات من كولومبيا إلى كافة جامعات النخبة الأمريكية.

نحن أمام جيل جديد يصطدم مدفوعا بمثله العليا مع مؤسسات الحكم، البيت الأبيض ومجلسي الكونغرس والمدعين العامين وحكام الولايات مستندين إلى رؤساء الجامعات، الذين أخذوا يلوحون بالقبضة الأمنية. حسب قراءة “تشارلز بلو” في الـنيويورك تايمز، فإن الجيل الغاضب على حرب فيتنام أنضجته حركة الحقوق المدنية.. والجيل الغاضب على حرب غزة اكتسب وعيه من الحركات الاحتجاجية ك”احتلوا وول ستريت” و”حياة السود مهمة”. بأثر ذلك الصدام تبدو أمريكا عند مفترق طرق في إدارة صراعاتها بالشرق الأوسط.

سوف يأخذ الصدام مداه قمعا واعتقالا وإغلاقا إداريا وعقابا للأساتذة الذين يدافعون عن حق الطلاب في التعبير عن آرائهم بحرية.

أي صدام مع المستقبل خاسر مقدما. هذه حقيقة مؤكدة. لا يوجد غضب خارج سياق مجتمعه. وهذه حقيقة أخرى. وفق استطلاع أخير في صفوف الحزب الديمقراطي فإن (53%) يعارضون إرسال المزيد من المساعدات العسكرية لإسرائيل. التطور لافت بذاته رغم ما أبدته المؤسسة التشريعية بجناحيها الجمهورى والديمقراطى من استعداد للمضي بعيدا في دعم إسرائيل وغض البصر عما يحيق بأهالي غزة من عذاب فوق طاقة بشر على التحمل.

كان دخول رئيس الوزراء الإسرائيلي “بنيامين نتنياهو” على خط المساجلات الأمريكية الداخلية باتهام الطلاب بـ”معاداة السامية” صبا للزيت على النيران المشتعلة في الصدور، فهو بشخصه وتصرفاته وجرائمه يلخص كل ما يكرهه الجيل الجديد، خاصة بأوساط اليهود الأمريكيين. بالتزامن نشأت حركة احتجاج في جامعة السوربون الفرنسية ضد تورط الرئيس “ايمانويل ماكرون” في الحرب على غزة وتعرضت للقمع.

القمع هو المحرك الأول للتصعيد. كلما أمعنت السلطات في القمع تزايدت مشاعر الغضب. الذين لا يقرأون التاريخ يرتكبون الخطأ نفسه مرة بعد أخرى. تلوح في الأفق مقدمات موجة جديدة من الحركات الطلابية بأنحاء مختلفة من العالم تكاد تقارب مستويات غضب شباب أواخر ستينات وأوائل سبعينات القرن الماضي. في عام (1968) نشأت حركات وانتفاضات طلابية، أهمها وأكثرها دويا الفرنسية والأمريكية والمصرية. اكتسبت انتفاضة مايو في فرنسا تأثيرها الواسع من الأفكار التي صاحبتها والرموز الثقافية والفكرية التي شاركت فيها، ومن الأثار الاجتماعية التي ترتبت عنها.

لكل حركة طبيعة وأسباب تختلف عن الأخرى، لكن يجمع بينها الغضب على ما هو حولها وأمامها وخلفها. انتشرت في تلك الأيام مسرحية الكاتب البريطاني جون أوسبورن:”انظر وراءك في غضب” رغم أنها كتبت في الخمسينات – كأنها بدلالات عنوانها ثورة جامحة على الماضي بكل إرثه. شاعت كتابات الفيلسوف الألماني “هربرت ماركوز” عن دور الطلاب في صناعة التاريخ، واحتلت صور الثائر الأممي “أرنستو تشي غيفارا” جدران المدن الجامعية رمزا للتمرد على سطوة النظم. بدأت تظهر مجلات الحائط على جدران الكليات الجامعية بأقلام “فلوماستر” وروح متمردة. وقد استوحيت من الثورة الثقافية في الصين.

كانت مجلات الحائط في وقتها وظروفها ثورة في حرية التعبير عما تختلج به النفوس دون رقابة، أو مصادرة. ثورة أتاحت أوسع فرص ممكنة للحوارات المفتوحة. في فبراير من ذلك العام الغاضب تبدت في مصر صدمة واسعة على خلفية أحكام مخففة بحق المتسببين في نكسة يونيو (1967) من سلاح الطيران. خرجت تظاهرات في جامعة الإسكندرية تحتج على الأحكام. تطورت مطالبها إلى تعبئة موارد البلاد لخوض حرب تحرير سيناء المحتلة وتوسيع المشاركة السياسية في صناعة القرار. وكانت التظاهرات الطلابية عام (1972)، التي انطلقت من جامعة القاهرة، بحجمها وأثرها، إعلانا مدويا عن ميلاد جيل جديد.

ارتبطت لحظة الميلاد مع نداء استعادة الأراضي المحتلة بقوة السلاح ورفض المماطلة في اتخاذ قرار الحرب. كما ارتبطت بصورة “الفدائي الفلسطينى”، الذي وجد هويته في بندقيته ـ على ما أنشدت أم كلثوم من كلمات نزار قباني. بدت الانتفاضة قوية ومباغتة كأن غضبا مكتوما قد انفجر.

بدأت الشرارة في كلية الهندسة وانتقلت بشرعية غضبها إلى كليات أخرى ومن جامعة القاهرة إلى جامعة الأزهر، ثم إلى جامعات ثالثة ورابعة وخامسة. السيناريو نفسه يكاد يتكرر الآن بحذافيره في جامعة كولومبيا، إنها الروح الجامعية الشابة في كل مكان.

في العام التالى (1973) تحركت في جامعة القاهرة انتفاضة طلابية جديدة، كما لو أنها استئناف لانتفاضة (1972). انتقلت الانتفاضة الجديدة بأجوائها إلى الجامعات المصرية الأخرى تحت نفس المطالب: تهيئة الجبهة الداخلية للحرب وتوسيع المشاركة في صنع القرار. جرت تظاهرات واعتصامات وتكرر سيناريو اقتحام قاعة الاحتفالات الكبرى بقوة الأمن المركزي واعتقال أعداد كبيرة من القيادات الطلابية، سرعان ما كان يجري الإفراج عنهم- كما جرت العادة في تلك الأيام.

أطلقت اتهامات عشوائية تصف جماعات الشباب بـ”القلة المندسة” كتلك التي تتهم الاحتجاجات الأمريكية الجديدة بأنها معادية للسامية، أو أن “حماس” تقف وراءها!! كان ذلك ادعاء لا دليل عليه، إذ تشارك جماعات يهودية عديدة فى الاحتجاجات.

بأثر التضامن الجيلي وقوة الضمير الإنساني تمددت التظاهرات واتسع نطاقها واضطر البيت الأبيض إلى استبعاد اقتراح رئيس مجلس النواب باستدعاء الحرس الوطني لقمعها. لا يمكن مصادرة المستقبل ولا الحجر على الغضب ولا الاستمرار في حرب إبادة غزة دون ردات فعل غاضبة وعواقب وخيمة.

ـ عن “الشروق” المصرية ـ

أكمل القراءة

صن نار