تابعنا على

جور نار

قدسية المواطن … دونها سياستكم كذب وبهتان

نشرت

في

زياد الهاني: تونس ستستعيد رفاة حنبعل من تركيا وسيتم دفنه في قرطاج في جنازة  مهيبة

بكثير من التنهّد والاستسلام، ما زال بعضنا، بل معظمنا، بل كلّنا، يذكر أمثلة من هنا وهناك عن علوّ قيمة الإنسان في دول الشمال، مقابل اللاشيء واللا قيمة واللا وزن للبشر في ربوعنا … وكلما زاد سعر بضاعة ما في أسواقنا، يقول الشاري للبائع، أو البائع للشاري مستخلصا: كل شيء في غلاء، ولم يبق رخيصا إلا ابن آدم …

عبد القادر المقري Makri Abdelkader
عبد القادر المقري

قلتها مرة بدوري وأنا صغير أمام أحد الشيوخ، فزجرني زجرة خِلت أنه سيقتلني: البشر ليس رخيصا إلا إذا كان قليل أصل أو عديم تربية أو لصّا أو كذّابا … فارتعدت فرائصي الضئيلة أمام حجمه الضخم ورأسه المنذرة وتراجعت عن أقوالي فورا … وها أن السنون تكرّ، وأجدني أعود إلى تلك القاعدة الذهبية، فعلا، فالإنسان يمكن أن يكون أغلى شيء في هذا الكون، واقدس المقدسات، ولكن بشرط … أوّلا كما قال العجوز الرهيب، وثانيا أن تعتقد الحكومات ذلك وتعمل به … وهذه بالذات يلزمها كتب ومحلّدات وعناء دهر …

تفاصيل صغيرة وكبيرة بلا حصر تدحض أو تؤيد هذا الكلام … منظر مواطنيك وهم يتأبطون ما يشترونه من خبز أو يحملونه كأنهم يمسكون دجاجة أو ربطة بصل بأيديهم العارية … وذلك بعد أن قرر أحد وزراء البيئة إعفاء (ولا أقول منع) المخابز من تقديم أكياس بلاستيك لزبائنها بدعوى الحفاظ على المحيط … وحصل نفس الشيء قبلها مع المغازات الكبرى وبنفس التعلّة … وقد تبيّن بالكاشف أن العملية لا علاقة لها بسلامة البيئة بل كانت هدية للوبيات التجار والمساحات الكبرى حتى تربح أكثر على ظهورنا … بدليل أن العشرة مليمات الباقية من سعر الخبزة مثلا والتي كنا نتنازل عنها لأسياب عدة منها كلفة الكيس، هذه الزوز دورو بقيت دائما في قجر البائع، بكيس البلاستيك أو من دونه … وبدليل أيضا، أن الوزير المذكور هو الآن في الحبس أو هارب في الخارج، بعد أن نسبت إليه قضايا فساد بلا عدد، إلى درجة أن اسمه أصبح مذّاك رياض ماهيندرا …

طبعا عندما ذكرت المخابز والمتاجر لم أتحدث عن الصفوف فتلك قصة تطول … ولكن هاك صفوفا أخرى لم يعد تقريبا يذكرها أحد وهي طوابير الفيزا أمام كم قنصلية وسفارة ومكتب “تي ال اس” عافس في الكل … لا ألوم في هذه أو في غيرها المواطنين على لهفتهم ورضاهم بالهمّ فلكلّ ظروفه … ولكن هل تلاحظ حكوماتنا ذلك وتقارن بيننا وبين من يفِدون علينا بلا تأشيرة ولا طباشيرة؟ … هم يأتون من نفس البلدان التي تهيننا فنقابل سفالتها بإكرام مواطنيها غاية الإكرام … بل ونعاملهم بأسعار زهيدة في أفخر فنادقنا مع الخدمة الكاملة والنقل المكيّف من وإلى المطار … أسبوع في الحمّامات بـ 300 أو 350 يورو، يساوي حسب مداخيلهم هناك ما يعادل المائة دينار بفلوسنا … هذا إن دفعوا الثمن هنا في تونس ولم يتم ذلك في بلادهم مع الوكالة الأجنبية … في حين أن نفس الفندق يفكتر للتونسيين ثلاثة أيام (لا أسبوعا) بـ 500 دينار للفرد الواحد نصف إقامة مع حرمانه حتى من ماء الشرب … دون الحدبث عن سوء الاستقبال إن وجدت معهم مكانا أصلا …

بين قوسين … في بعض البلاد العربية (لا الأوروبية فحسب) مثل مصر، ما يدفعه المواطن في المواقع السياحية هو نصف ما يدفعه الزائر من بلد آخر ولو كان عربيا … كما أن على السائح أن يدفع بالعملة الصعبة، في حين أن المواطن فقط هو الذي يمكنه الدفع بالجنيه المصري … وهذا يذكّرنا بمتاحفنا ومعالمنا الأثرية المفتوحة للأجانب بالمجّان كامل السنة، في حين أن تلاميذنا لهم الحق “مرة في الشهر” في الدخول الحرّ إلى مواقع تاريخم وحضارتهم … ونستغرب بعد ذلك حين نجد في امتحان الباكالوريا، من لا يفرّق بين حنبعل برقا وحنبعل المجبري وقناة حنبعل الفضائية …

نعود إلى السياحة، هذه الدمّلة التي تبيع كرامتنا قبل الشمس والبحر … منذ أيام كنت أتابع صديقي محمد علي الفرشيشي في جولته المعتادة بين الأسواق، ولفت نظري جناح الأسماك الخاوي إلا من بضع كعبات هزيلات لائثات … وقد برر البائع ذلك بأن معظم صيدنا البحري يذهب مباشرة إلى النزل السياحية كمّا ونوعا … طبعا … فمن أجل ملاليم العملة الصعبة التي لاتصلح إلا لتسمين حسابات لصوصنا في الخارج … نهرس عظام مواطنينا ونسلب قوتهم وننهب خيرات بلادهم ونعاملهم معاملة الحيوان التريك …

نعم ملاليم، فما تغنمه البلاد من مئات الفنادق السياحية المبنية بمالنا كذب وبلّوط … ورحم الله الشاذلي العياري الذي باح بذلك في لحظة صدق … ومداخيل تصدير قوتنا كذب قراح أيضا … فأجود ما ننتجه من قاروص وبوري ومناني و”لانغوست” يباع إلى الخارج بسعر التراب … في حين أن الكيلوغرام منه في أسواقنا يعادل شهرية موظف، وهناك منها حتى ما لا نراه إلا في الصور … وفضيحة منع صيد التن الأحمر التونسي على الصيادين، ومنع بيعه للمستهلكين التونسيين، بما أن ذلك مباح فقط للزوارق الأجنبية … وبقرار من وزير الفلاحة التونسي … وصمة عار وجريمة تستحقّون عليها الشنق والسحل في ساحة عامة …

إلى الجحيم أنتم … إلى الجحيم سياساتكم … إلى الجحيم عملتكم الصعبة … إلى الجحيم لوبياتكم التي تدللونها … إلى الجحيم خطاباتكم الخشبية عن السيادة والكرامة والشعب والجعب … لن أصدق أي حاكم منكم إلا حين يمنع تصدير سمكنا وزيتنا وفواكهنا وخضرواتنا قبل أن يشبع منها المواطن وبأسعار يقدر عليها … المجلة الجزائية مطلوب تحويرها … أقصى العقوبات لمن يعبث بإنسانيتنا ويدفعنا لاحتقار ذواتنا والبصاق على بلدنا … ومن هناك، نمضي إلى جميع المظاهر المخلّة بشرفنا الوطني، وبقدسية هذا المواطن البسيط الذي لولاه لما قامت لأي جرو منكم قائمة …

ختاما … كثيرون منا يسخرون من حماسة فائصة كهذه، ويعيدون عليك اسطوانة الانبطاح التي درجوا عليها منذ الولادة … لهؤلاء نسوق مثال الذين إذا أمطرت السماء حرية حملوا معهم مظلاّت … أو بشكل أوضح، حين يتمّ تفريق الرجولة على ناصية الطريق، ابقوا في منازلكم وابعثوا بشهادة مرض …

أكمل القراءة
انقر للتعليق

اترك تعليقا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

جور نار

كيف تُصبح طبيبا اختصاص عين الحسود بملاحظة مُشرّف جدّا … مهما كان مجموع نقاطك * ؟!

نشرت

في

مفارقة عجيبة تخترق مجتمعنا وربما سائر المجتمعات العربية مفادها عموما أنه بقدر ما يتطوّر العالم وتُجنى ثمار الذكاء البشري في كل مجالات الحياة مثل تحسين جودة النوم وجبر العِظام وتيسير الولادة ودحر الأمراض والأوبئة واختصار المسافات وإتاحة المعرفة المجانية للجميع وتوفير الفرصة أمام الأمهات لتتفقّدن بناتهن أو أبنائهن لحظة بلحظة وبالصورة والصوت والقُبل الحيّة على بعد عشرات آلاف الأميال…

منصف الخميري Moncef Khemiri
منصف الخميري

بقدر ما يجني العالم هذه الثمار ويتصاعد نسق توظيف العلم والتكنولوجيات الجديدة في تنمية رفاه الناس وتحسين ظروف عيشهم، بقدر ما نستثمر نحن بكل ما أوتينا من مخزون وجداني في إشاعة الخُرافة وتأصيل التخلف ورجم العقل وزرع الوهم المقدّس في صفوف المعوزين والمحتاجين ذهنيا وماديا. (تذكّروا جيدا آلاف الضحايا الذين أطاح بهم الجنّ العاشق على يد المشعوذ بلقاسم وصاحب البرّاد كمال المغربي، الحاصل على رخصة عمل رسمية كحكيم روحاني من وزارة الداخلية !). 

كأننا اليوم أمام مظاهر جديدة للتوجيه الجامعي الموازي نحو مراكز عالمية متخصصة في تخريج أطباء نبويّين في علاج جميع الأسحار واضطرابات الأداء الجنسي وعلاج الربط بين الزوجين، أو نحو أكاديميات مشبوهة تدّعي الخِبرة في تكوين المدرّبين والكوتشات بكفاءات عالية في اختصاصات نادرة مثل تصنيع السعادة وتوليد الأمان وتحرير الانسان.

أطباء في علاج السّحر والمسّ من أكاديمية الطب الإسلامي العالمية (فرع تونس)… في انتظار الحصول على معادلة الشهائد من التعليم العالي !

لاحظوا أولا الدقة المدروسة بعناية في اختيار الاسم المسند إلى هذه المؤسسة، فهي أكاديمية وليست مجرد مؤسسة عادية، وليست متخصصة في العلاجات التقليدية العامة أو التمريض أو مرافقة المرضى بل مُتجرّئة على ادّعاء التخصّص في الطب كأحد أرقى العلوم وأدقّها وأكثرها تمتّعا بصورة إيجابية جدا في سلّم المهن في كل المجتمعات، ثم يُزجّ بالإسلام في التسمية لدغدغة إيمان الناس ومغازلة حسّهم الديني وإضفاء نوع من القداسة على مشروعهم… قبل أن يُضاف إلى كل ذلك صفة “العالمية“من أجل الإيهام بالعظمة والكونيّة واتساع رقعة الإشعاع. ثم يُشار ثانيا إلى أن هذه المؤسسة تُسند صفة الطالب إلى مرتاديها وتُمكّنهم من شهائد تخرّج مختومة وممضاة من قِبل المدرّب الشيخ ومدير الفرع بتونس …شهائد غير منقوصة إلا من عرضها على إدارة المعادلات بوزارة التعليم العالي لنيْل المعادلة العلميّة، كما يحصل مع خرّيجي مؤسسات التعليم العالي الخاص والجامعات الأجنبية.

شعوذة بثوب ديني أحيانا أو  برداء التنمية البشرية أحيانا أخرى

هؤلاء لم يبنوا للأسف على تاريخنا المشرق في مجال الطب والعلوم بصفة عامة بل لجؤوا إلى السهولة والشعوذة وما يشبه النّصب والاحتيال في أحيان كثيرة.

وحتى يكون الجواب حائزا على أكبر قدر من الموضوعية، سألت تطبيقة “محايدة” ( تشات جي بي تي) عن أبرز أسماء الأطباء العرب والمسلمين الذي أسهموا بشكل كبير في تطوير الطب الكوني والعلوم القريبة منه (والذين تأثروا بدورهم بما كُتب في لغات أخرى مثل الفارسية واليونانية والصينية…) فأمدّتني مشكورة بقائمة طويلة من الأطباء العرب والمسلمين اكتفيت منها بالأسماء التالية :

ابن سينا الذي ظل مرجعا ثابتا في العلوم الطبية لمدة قرون بفضل تأليفه للموسوعة الطبية  “القانون في الطب”،

ابن النفيس الذي اكتشف الدورة الدموية الصغيرة قبل ويليام هارفي في أوروبا.

أبو بكر الرازي الذي تميّز خاصة في مجال الصيدلة والعقاقير.

أبو القاسم الزهراوي الذي يعتبر أبا الجراحة الحديثة، صاحب كتاب “التصريف لمن عجز عن التأليف” وهو مؤلَّفٌ في الطب والممارسة الطبية يُعدُّ مرجعا في اختصاص الجراحة.

ابن الهيثم الذي نبغ في علم البصريات وطوّره تطويرا جذريا.

ابن زهر الأندلسي صاحب “كتاب التيسير في المداواة والتدبير”، ومما اشتهر به جراحة البلعوم ومعالجة أمراض الرئتين.

ابن رشد صاحب كتاب “الكليات في الطب” المترجم إلى اللاتينية تحت اسم  Colliget الخ…

(غريب أمر اللاتينيين الذين يحوّلون كليّات إلى كوليجات وابن رشد إلى أفيرواس وابن زهر إلى آفنزوار…)

وعلى هذا الإرث العظيم الذي أبهر العالم وأغناه بل وأحياه، أسّسنا طبّا وهميا أشبه ما يكون بـــ “الدڨازة وقراءة الكفّ” أهم عناوينه الرّقية والرُّقاة والعين والحسد وعالم الجن والسحر والمس والصرع والحجامة النبوية (التي تعتبر ممارسة علاجية قديمة جدا استخدمها الصينيون والمصريون قديما واليوناني أبوقراط دون الحاجة إلى إكسابها طابعا نبويّا أو امبراطوريا).

أقول ببساطة إن الطب علمٌ إنسانيّ لا دين له، وأن الدّين ليس بحاجة إلى الطب ليكون دينا، لذلك ترى على سبيل المثال أطباء تونسيين يندمجون بشكل سريع جدا في أية بيئة طبية أجنبية تضعهم فيها، وأطباء صينيين يعملون في بعض مستشفياتنا التونسية دون صعوبات تذكر رغم عائق اللغة وتباين الثقافات، ومخابر طبية عالمية تعمل فيها باقتدار عالي كفاءات علمية من كل جنسيات العالم.

دكاكين التنمية البشرية عبارة عن مركّبات جامعيّة متعدّدة الاختصاصات

من نكد حظنا أن نرى اليوم أباطرة التنمية البشرية يدْعون الشباب إلى عدم إجهاد نفسه والبحث في مسالك التعليم الأكاديمي لبناء مستقبله إذ يكفيه دفع معاليم حضور دورات تدريبية سريعة (ويصل سعر الساعة التدريبية إلى حوالي ألف دولار في بعض بلداننا العربية) يشرف عليها مُدرّبون لا شهائد عليا لهم ولا بحوث علمية أنجزوها ولا إسهامات معترف بها في الدوريّات المُحكّمة (أكبرهم حاصل على شهادة شكر من وزارة الأوقاف كما في الحالة  المصرية !!!) ولكن أغلبهم يتميّز بقدرة كبيرة على سلب عقول الحاضرين بواسطة التنويم والتنغيم وبث خطاب “ما يطلبه المستمعون” من قبيل”أنت عظيم ابحث عن الكنز الذي بداخلك” ! .

ومن أخطر ما عثرت عليه في هذا الباب وأنا أجوب صفحات التنمية البشرية على الويب، التحريض على الاستسلام ومعاداة بذل الجهد وبالتالي تبخيس العلم والمعرفة وثني الشباب عن إجهاد النفس في سبيل تحقيق مشاريعهم في الحياة. يقول أحد “المدرّبين” من مركز تونس الدولي للتنمية البشرية بتاريخ 15 سبتمبر 2020 :

إن أجمل مراحل الوعي هي السّلام.  فالحياة معركة تدور بين أناس قرروا أن يحاربوا بكل ما أوتوا من قوة لتحقيق سعادتهم، وفي النهاية لا أحد من المحاربين ينتصر، بل يكون النصر للذين لم يحاربوا من الأصل. استسلم، لا ترهق نفسك في التفكير، لا تقاوم ما يحدث لك، لا تعترض عليه، لا تنتقده، دع كل شيء يسير كما أراده الله وستفاجأ بالدنيا تأتيك وهي راغبة“.

والغريب أن كلاما مهزوما ومنكسرا مثل هذا يجد له جمهورا يُنصت إليه وينخرط بحماسة في انهزاميته ويدفع من أجله الأموال الكثيرة.   

هذه الدكاكين المزدهرة تعلّم شبابنا أنه بدلا من متابعة دراسات جامعية مُؤَهّلة أكاديميا ومشهود بصدقيّتها عالميا في علم النفس على سبيل المثال، بإمكان أي كان أن يصبح مدرّبا (كوتش أفضل لأنها معصرنة ومُغرية أكثر ) في فوائد الضحك، ولماذا يكذب الرجال وتبكي النساء وكسر العادات السيئة وكيف تصبح انسانا شجاعا لا يمكن إيقافه أو مقاومته في كل مجالات حياتك، وفن الإغواء واكتشاف القوة السحرية لتصبح ثريا (هذه كلها عناوين كتب حقيقية في التنمية البشرية مبيعاتها بملايين النسخ).

وبدلا من دراسة الطب لمدة تفوق عشر سنوات قبل إدراك درجة التخصّص الأوّلي، بإمكانك دراسة “سرّ الشفاء بالطاقة الحيوية“. .. إذ يكفي “ترديد لقد شفيتَ.. لقد شفيتَ! والسّرّ هو.. أن تقولها بيقين!”.

يتبيّن كذلك أنه لا فائدة من دراسة علوم التصرف وإدارة الأعمال في المدارس العليا للتصرف والتجارة، لأن التنمية البشرية تُغنيك عن ذلك فهي تُعنى بالقدرة على “تحليل الأمور والابتكار في حل المشاكل وعلاجها والقدرة على تحمل أعباء العمل الميداني والمهارات القيادية”.

والصحافة وعلوم الاتصال يُعوضها “تعلّم أصول الفصاحة والبلاغة والقدرة على الخطابة والعمل في وكالات الأنباء …” كما يدّعي شيوخ التمنيات البشرية (والّي يتمنّى خير ملّي يستنّى).  

أما شعبة التربية والتعليم، فالدعوة تكاد تكون صريحة لحجبها من عروض التكوين في التعليم العالي مادام مدرّبو التنمية الأشاوس يعلّمونك كيف “يتمّ استخدام أنماط تعلّم مختلفة : نمط التركيز، والنمط المنتشر… وكيف يجزّئ الدماغ المعلومات والتعرف على تقنيات الذاكرة ووهم الكفاءة والتعامل مع التسويف والتأجيل…”.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* عنوان هذا النص اقتراحٌ من الصديق العزيز سامي بالحبيب.

أكمل القراءة

جور نار

فلاش باك 3 ..

نشرت

في

بوتين" أمام بريكس: نسعى إلى التخلي عن الدولار والتعامل بالعملات المحلية -  بوابة دار المعارف الإخبارية.. بوابة إلكترونية تهدف إلى إثراء المحتوى الرقمي  العربي من خلال الفنون والقوالب الصحفية المتنوعة والمتميزة

توقفنا في المقال فلاش باك 2 عند الرجل الثاني الذي كان له دور كبير في تغيير المعادلة السياسية العالمية والذي هو الرئيس الروسي فلاديمير بوتين او كما يحلو للبعض تسميته “الحاج علي بوتين” ! …

عبد الكريم قطاطة
عبد الكريم قطاطة

بوتين صاحب الـ72 سنة رجل عاش حياة سياسية متقلّبة ومتشعبة الاطوار ..فهو رجل المخابرات وهو رجل التحالفات منذ عهد غورباتشوف وهو الرجل الذي اوصى به يلتسين كي يكون خليفته قبل ان يستقيل ..ويمكن تلخيص حياة بوتين سياسيا بعبارة (الرجل الغامض) ولكنّه ايضا الرجل الشرس مع خصومه في الداخل والخارج .. كاريزما واصرار رهيبان ..وويل لكلّ من يحاول خداعه او خيانته ولعلّ اغتيال رئيس عصابة فاغنر بتفجير طائرته آخر شاهد على ان لا مكان لمن يحاول ان يلعب بذيله مع الحاج بوتين …

الا انّ الاهمّ في مسيرة بوتين منذ تولّيه الحكم وهو الان يشرف على الفترة الرابعة لانتخابه والتي ستنتهي سنة 2024، هو تعامله مع الغريم التقليدي الولايات المتحدة وظهر ذلك في محورين هامين ..المحور الاول اقتصادي او هكذا يبدو ويتمثّل في العمل على ايجاد نظام عالمي مالي جديد للتخلّص من وطأة الدولار ..وبدأت الحكاية منذ 2008 ..وهو تاريح تاسيس ما يسمّى بمجموعة بريكس ..وكانت انذاك مجموعة بريك ..وتتمثّل في ضمّ دول من اوروبا وآسيا وامريكا الجنوبية وافريقيا ..اهمّ مميزات هذه الدول انها جغرافيا ذات مساحات شاسعة (هي تضمّ الان سنة 2023 .. 27 في ال100 من مساحة الكرة الارضية) ثمّ لها من الموارد تصديرا او استيرادا وزنا مهمّا مما يخلق سوقا منافسة لمجموعة السيعة الاوروبية …

مجموعة البريكس تضمّ روسيا الصين البرازيل الهند افريقيا الجنوبية وانضمّت اليها مؤخّرا مصر، الامارات، ايران، اثيوبيا، الارجنتين والسعودية … والمتأمّل لهذه الدول يلاحظ امّا عداء تاريخيا للولايات المتحدة الأمريكية من بعضها (روسيا والصين مثلا) او رغبة فعلية وفاعلة من لدن بعض البلدان في التخلّص من الحلف الغربي وبالتحديد الولايات المتحدة كالسعودية مثلا .. الخلاصة انّ هناك حلفا جديدا وهاما اسمه بريكس قد يقلب الطاولة على الغرب وعلى صندوق النقد الدولي لانّ مجموعة بريكس لها ايضا صندوقها النقدي، وتقف حسب قوانينها مع البلدان المنخرطة فيها لتمكينها من قروض خارج سقف الدولار بل وبعملتها المحلية .. والسؤال هنا هل يمكن ان نكتفي بالقول انّ مجموعة بريكس ستبقى مجموعة ذات اهتمامات اقتصادية بحتة ؟؟ في تقديري لا اظنّ ..لانّ التاريخ علّمنا انّ الاقتصاد هو اهمّ اسباب الحروب …

المحور الثاني الذي جعل من فلاديمير بوتين رجلا مهما جدا في تغيير المعادلة عالميا هو اقدامه على اجتياح اوكرانيا … حجّة بوتين كانت الدفاع عن مناطق انفصلت عن اوكرانيا واعلنت وفاءها لروسيا … ثمّ وهو الامر الاخطر طلب اوكرانيا الانضمام لحلف الناتو وهذا يعني وجود صواريخ ناتو على حدود روسيا …ولكأنّي بالغرب لم يعر اهتماما لتهديدات الحاج بوتين فاذا بهذا الروسي الشرس يقوم يوم 24 فيفري 2022 بتنفيذ تهديداته ويغزو اوكرانيا …وها هي اكثر من سنة على مرور هذا الحدث ومازال الامر وخاصة الغد في غياهب المجهول …

اختم ببعض الاسئلة واترك لكم التعليق ..

1 فترة بوتين الرابعة في حكمه لروسيا تنتهي كما اسلفت سنة 2024 … فهل فعلا لن نرى بوتين مستقبلا على شاشة الاحداث ؟؟

2 هل كانت حرب اوكرانيا فعلا حربا بين المعسكر الشرقي والمعسكر الغربي ام كانت فرصة اخرى للمعسكرين لتجربة جاهزية قواتهم واسلحتهم، حتى لا يعمّ الكساد المصاتع الحربية ويبقى في الاخير الشعب الاوكراني هو وقود المعركة لا غير ؟؟

3 هل جاءت الحرب الاوكرانية لتؤكد انّ الهيمنة الامريكية على العالم اصبحت شبه مستحيلة خاصة والتحالفات المعادية لها ذات بال (روسيا الصين وكوريا الشمالية برئاسة مجنون لا احد يعرف له توقعات) ؟؟

4 هل حان وقت ظهور التنين الاصفر الصيني خاصة والدراسات الاقتصادية تتوقعه اعظم قوة اقتصادية في العالم سنة 2030 ..اما عن قدراته الحربية فتبقى مجهولة وبنسبة كبيرة ؟؟

5 كيف سيكون مستقبل مجموعة البريكس خاصة وعديد الدول ومن ضمنها تونس والجزائر ترغب في الانضمام اليها ..؟؟

6 هل ما يحدث في افريقيا من انقلابات والتي بعد انقلاب الغابون اصبحت ثمانية، وقع بمعزل عن بوتين وحلفائه خاصة انّ الحاج بوتين كان له دور هام جدا في الوقوف ضدّ مشروع الربيع العربي الخبيث، حيث وقف مع المصري عبد الفتاح السيسي ومع الرئيس السوري بشار الأسد ضدّ الغرب واذياله ؟؟

7 اين العرب وخاصة اين تونس مما يحدث في العالم من تحوّلات اقليمية ودوليّة .؟؟ هذا هو موضوع مقال الاسبوع المقبل .. شطّبنا …

31 اوت 2023

أكمل القراءة

جور نار

ما كنت أغيّره في أسلوب التّدريس … لو يعود بي الزمن إلى سنوات الثمانين

نشرت

في

ذاك أستاذٌ في التعليم الثانوي أو في التعليم العالي يُدرّس مُتكِئًا على “أوراقه الصفراء”… هذا التعبير كان متداولا جدا بين التلاميذ والطلبة في فترات سابقة (لست متأكّدا إن كان مازال على قيد الاستعمال إلى اليوم) وكان يُرمز به إلى كل مدرّس لا يجدّد أساليبه ولا نصوصه ولا أمثلته ولا خطابه ولا حتى قصص الطفولة التي عاشها والتي يستدعيها بمناسبة وبغير مناسبة، المهم أن تكون حَكايا مُدلِّلة على نبوغه المبكّر أو رباطة جأشه أو تفوّقه الدراسي على كل أترابه.

منصف الخميري Moncef Khemiri
منصف الخميري

هم لا يُجدّدون لأن التجديد مُكلفٌ (لا فقط ماديا بل ذهنيا خاصة) ولأن عقلية “عَشرة الحاكم” لا يغذّيها المتمدرسون فحسب بل يستبطنها سائر الموظفين ومنهم المدرّسون بمختلف أصنافهم.

أشعر في أحيان كثيرة بنوع من الحنين الدّافق والمتوهّج إلى مربّع القسم (ولكن بأدوات اليوم وكمّ المعارف المُلقى على ضفاف أودية الويب ومجاريه وبمستوى النضج الذي تحققه رغم أنفك مع مرور السنين ومراكمة التجارب)، فأعدّل المقاربات وأجوّد زوايا الولوج إلى النص وأستميت في استنهاض هِمم كل أولئك الذين يئسوا من اللحاق بالكوكبة الأولى، وجعلهم يستعيدون الأمل في ترويض اللغة وتليين العبور إلى مجاهلها.

فبالإضافة إلى مزيد العناية بالذين يتهدّدهم غول الارتداد إلى الأميّة وتوفير مساحات أكبر للإصغاء والتركيز على إكساب التلاميذ مهارات تواصل شفوية، في ارتباط بمشاعر يعيشونها ومخاوف يغذّونها وملذّات يتوقون إليها (وليس بالضرورة في علاقة بسياقات وثقافات قادمة إلينا من وراء البحار)… كم وددت أن تكون لي ملَكة حكي خارقة أسرد عليهم من خلالها قصصا آسرة وأساطير مُلهمة ترتبط أحداثها وحِكمها بالمحاور المبرمجة والمضامين المدرجة حسب المستويات الدراسية.

لكن لِمَ هذا الاهتمام بفنّ الحكي وفوائده البيداغوجية ؟

تتجه العلوم العرفانية الحديثة  إلى إثبات أن تنظيم المعلومات على شكل سرديّات يستحثّ الاهتمام والمعنى ويجعلها أيسر في تنظيمها واستيعابها وتتيح بشكل أفضل التذكّر وبالتالي استدامة التعلّم… الحكي -حسب الكتابات المتخصصة- يعطي معنًى وينقل أحاسيس ويساعد على شدّ الانتباه ويُسهّل تناقله بين الأفراد والأجيال.

عندما ألتقي تلاميذ أو طلبة قدامى أو متكوّنين بصفة عامة، يُذكرونني بحكايات رويتُها وطرائف حكيتها ومقولات سردتها وأبيات شعر تذكرتها وحتى ردود فعل استثنائية أتيتها في وضعيات مدرسية عشناها سويّا… أما المضامين “المقرّرة” رسميا فلا أحد يحتفظ بها أو يتذكر تفاصيلها، لأنها حسب تقديري مرتبطة باستحقاق الامتحان والعدد وليس بتعلم دروس الحياة بمراتعها الواسعة ومباهجها ومواطن الحِكمة والتجربة فيها.

من المراجعات المؤكدة التي كنت سأقوم بها لو تعود بي ماكينة الزمن إلى تجربة التدريس، هي التسلّح بأكبر قدر ممكن من الحكايات القصيرة تكون حُبلى بالمعنى والدافعية ومُحرّضة على الفعل وعدم الاستسلام … أتدرّب على سردها بشكل فيه شغف وإمتاع وقدر من المسْرحة المساعدة على الإبهار. وتكون الفائدة أكبر وأشمل عندما يحفظونها عن ظهر قلب ويتولون استرجاعها وسردها كلما تسنّى لهم ذلك.

ومما سأسرده عليهم دون تعسّف ودون أن يكون ذلك هدفا في حد ذاته بل رافعة بيداغوجية ترتبط بمحاور البرنامج أو بحدث عاصف ما جدّ خلال تلك الأيام… أكتفي بالحكايات الثلاثة التالية :

الحكاية الأولى : الموسيقار موزار وتلميذه

يُحكى أن الموسيقار النمساوي وولفغانع أماديوس موزارت كان مُتبنّيا لشاب موهوب موسيقيا ومولع بالتأليف الموسيقي، وبعد تمارين عديدة في التلحين، سأل التلميذ معلّمه : “هل بإمكاني تأليف سمفونية ؟”

ردّ عليه موزار : ” إممممم، باستطاعتك تأليف لحن صغير على آلة البيانو”

انزعج التلميذ وأحسّ بنوع من الإهانة والاستنقاص، فذكّر موزار بكونه هو من كتب أولى سمفونياته الناجحة وهو لم يتجاوز الثانية عشر من عمره.

أجابه موزار : “نعم تماما، ولكنني لم أطلب أبدا الإذن من أي كان للإقدام على ذلك“.

… ثم يُفسح لهم المجال لالتقاط “المعنى المندسّ” واستخلاص العبرة أو العِبر من الحكاية التي يصعب نسيانها مع مرّ السنين…حتى وإن تعرضت إلى بعض تشوّهات الطريق.  

الحكاية الثانية : سقراط والمصافي الثلاث

كان سقراط يتمتع في اليونان القديمة بصورة لامعة أهمّ عناوينها الحِكمة والسعي الدائم وراء الحقيقة وهو الذي قال : “الحياة غير المختبرة لا تستحق أن تُعاش”.

ذات يوم، أتاه أحدهم ليسأله متحمّسا “هل تعلم ما الذي عرفته للتوّ عن صديقك” ؟

أجابه سقراط : “عفوا قبل أن تُكمل، بودّي أن أُخضعك لاختبار المصافي الثلاث”

تساءل مكلّمه : “المصافي الثلاث ؟”

– “نعم المصافي الثلاثة”، أجابه سقراط، “تلك هي طريقتي في تحليل ما علي أن أقوله واختبار مدى وجاهة ما يتلونه عليّ… مهلا، ستفهم قصدي بالتأكيد”

المصفاة الأولى هي مصفاة الحقيقة : هل تأكّدت من أن ما ستقوله لي هو الحقيقة ؟

أجاب الزائر : بصراحة لا. أنا ببساطة سمعت جمعا من الناس يردّدون ذلك.

حسنا أجاب سقراط: أنت لست متأكدا بالتالي إن كانت تلك هي الحقيقة. نمر إذن إلى اختبار المصفاة الثانية : ما تريد أن تُعلمني به في ما يخص صديقي، هل هو شيء جيد وجميل ؟

أجاب الزائر : “لا أعتقد ذلك بل العكس هو الصحيح”

إذن، أردف سقراط، “تريد أن تروي لي أشياء بشعة تخص صديقي والحال أنك لست متأكدا من صحتها ؟ “

غمغم زائره وحاول الردّ… لكن سقراط قاطعه قائلا :

“وفي الختام ، وهذه هي مصفاتي الثالثة : هل تعتبر أنه من المفيد إعلامي بما قد يكون فعله صديقي ؟”

“مفيد… لا أعتقد ذلك، لكن أردتك أن تعلم فقط”

هنا أقفل سقراط الحوار قائلا : “إذا كان ما ستقوله لي ليس بالحقيقة الثابتة وليس بالفعل الحسن وليس فيه أية فائدة، فلماذا ترهق نفسك على هذا النحو ؟”

الحكاية الثالثة : ذئبان يسكنان داخل كلّ واحد منا

هذه حكاية شيخ كان يحدّث أولاده بأن كل واحد فينا يسكن داخله ذئبان تدور بينهما معارك دموية طاحنة دون هوادة لا تنتهي أبدا بالتعادل بين الخصمين :

الذئب الأول هو ذئب الحِكمة والاستقامة والصّفح والمروءة.

أما الذئب الثاني فهو ذئب الضغينة والعنف والغيرة والحسد والانطواء على النفس.

سأله أولاده حينئذ : “ومن ينتصر في هذه المواجهة العنيفة بين الذئبين يا أبي” ؟

أجاب الشيخ “ينتصر دائما الذئب الذي نسهر على إطعامه”.

ولذّة الحكاية لا تكمن فقط في طرافتها وعمق معانيها بل كذلك في ما يمكن أن تفتح عليه من ديناميكية في النقاش الشفوي الذي يتلوها وفائدة التمرين الذي من الممكن أن تُفضي إليه، وهو أن يُطلب من التلاميذ تدوين الحكاية كتابيا في أسطر قليلة والتعهّد بعرضها خلال الحصة الموالية.

أكمل القراءة

صن نار