تابعنا على

بنات أفكار

قراءات: الكتابة بنصل السّكّين

… أو ملامح الرّفض وتجلّياته في رواية “شقائق الشّيطان” للرّوائي التونسي نعمان الحبّاسي

نشرت

في

“شقائق الشّيطان” هو عنوان رواية للكاتب التّونسي نعمان الحبّاسي، وهي باكورة أعماله الإبداعيّة، صدرت سنة 2021، عن الدّار التونسيّة ميارة للنّشر والتّوزيع. جاءت طبعتها أنيقة الإخراج ، في 152 صفحة، من الحجم المتوسّط.

لطفي العربي البرهومي

عنوان الرواية يحيل الذّهن مباشرة على تسمية الزّهرة البريّة الجميلة شقائق النّعمان، قبل تحويل وجهة التّسمية، وما ترويه ذاكرة الأسطورة العربيّة عنها، وعن أصل حيازتها لهذا الاسم، هو أنّه أوّل ظهور لها كان على قبر النّعمان بن المنذر، ملك الحيرة، الذي مات مطحونا بأقدام الفيلة انتقاما منه، ودوسا على كبريائه العربيّ، بعد أن رفض تسليم نساء العرب كسبايا لكسرى، ملك الفرس. ما يجعلنا نستشعر، منذ البداية؛ من عتبته الأولى، أنّ الكتاب يطفح برائحة الموت، ومشاهد الخراب. لتتحوّل شقائق الحبّ والمواساة، إلى حجارة رجم، ولعبة موت؛ “شقائق الشّيطان”.

لغة الرّواية منمّقة ومنتقاة بعناية بالغة، تحيلك لحظة تطالعك، على كتّاب كبار، من ذوي السّلطة المعرفيّة، كمحمود المسعدي نثرا، وعلي أحمد سعيد، المكنّى بأدونيس، شعرا. وربما تذكّرك، أيضا، بلغة أقطاب دراويش الصوفيّة، كابن عربي وشمس الدين التّبريزي والحلّاج، وهم تحت سطوة الوجد. إلّا أنّها، في الحقيقة، ليست أيّة واحدة منها. هي لغة أخرى، عالَم لغويّ مبتكر وفريد، فالعارف ببواطن الأدب لا يتطرّق الوهم إليه، أبدا، في أصلها، وبأنّها تحمل بصمة صاحبها، وابن شرعيّ له. فهو قد سلك فيها طريقا لم يسبقه إليها أحد. إنّه طراز مستقلّ، وخصب.

ربما هي، اللغة، من تمازج عالم الكلام الرّحب ولوثة الوعي. وهنا، في رأيي، حقّق الكاتب شرطا أساسيّا، وهو من الأمور التي لا غنية عنها، كي يُضمّ ما كتب إلى عالم الإبداع. فالإبداع الأدبيّ، في النّهاية، ليس إلاّ الكتابة على غير نظام سابق. يقول الفيلسوف الفرنسي غوستاف لوبون، في كتابه ” حضارة العرب”؛ ( إنّ أصحاب الفنّ يتفلّتون حين يحلّقون في سماء الخواطر، من قيود السّنن، ولا يعرفون لأنفسهم سادة). جاء الخطّ الكتابيّ هائجا، مائجا ومستفزّا، يتحرّك في قفزات كبيرة عملاقة، لا يعطي أدنى اعتبار أو قيمة للمسافات، أو الزّمن، كصخور ضخمة مدبّبة تسقط من عل، من ذرى جبل شاهق.

إنّها بين تناصّ مع النّصّ القرآنيّ، وإحالات على كتّاب وفلاسفة كبار، من شرق وغرب؛ أحلام مستغانمي، في أسودها، والفيلسوف الأمريكي من أصل ياباني، فرانسيس فوكوياما، من خلال كتابه الذي أعلن فيه عن موت التاريخ، هذا على سبيل الذّكر لا حصر. لغة أقل ما يقال عنها إنّها حيّة، ضاجّة صاخبة وقويّة كهزيم الرّعد، تصرخ في وجه متلقّيها، بكلّ قوّة: استيقظ، ما بك .. إنّ النّهايات على المشارف!! إلى أن يتمثّل إليك الكاتب بوجه متكدّر غاضب، وهو يزمّ شفتيه بأسى عميق، فلا تجد لنفسك مهربا من أن تشاركه استياءه.

إنّه يقابل الواقع بمزاج رافض وعدائيّ، إلى أن يكاد يطلق عواء، بدل الكلام. فيبدو لك كمن هو على وشك أن يشنّ حربا، كي يقلب كلَّ شيء رأسا على عقب. فتاريخ الكتابة ليس إلّا تاريخ المحو، لا الإثبات والإقرار. يقول جوزيه ساراماغو؛ ” ما يحرّك الفنّان هو الممحاة، لا القلم، إنّه يمحو كلَّ شيء حيث يمرّ”. إنّه يروي تاريخ الخراب، بأدقّ تفاصيله؛ خراب الأرض، بعد أن كانت وديعة ومقراة، دون أن يحذف أيّ تفصيل. حين تستحيل مأساة رهط من البشر، مناسبة لسعادة رهط آخر، تغدو الثّورة على كلّ شيء، واجبا مقدّسا، بل وأمرا لا محيد عنه. ألم يقل الأوّلون؛ آخر الطّبّ الكيُّ.

لقد تقوّض القانون الإنسانيّ، والأخلاق الحميدة، والإيمان، إلى أن استحال الإنسان، هذا الكائن الغريب، الذي أعيى الفلسفة والفكر في فهمه وتحديد ماهيته، إلى طائر رخّ، ناهش للحوم بني جلدته من البشر. لقد أعاقه عماه الذّهني عن أن يدرك أن إفناء الآخرين هو إفناء لذاته أيضا، فهو لحظة يرتكب جريمته، لا يستحيل قاتلا فحسب، بل قاتلا ومقتولا. مجرما وضحيّة. هذا الذي يجور على الآخرين، بضمير هادئ ومرتاح. إنّه حريص على الجمع والمنع، إلى أن أغرق كوكب الأرض، في ظلام كلّيّ، دامس، وجعله، برعونة تصرّفه، مكانا ضيّقا تماما مثل قمقم، بل وسيّئ السّمعة أيضا.

إنّ منسوب الرّفض العالي للكاتب يجعل المتلقّي يقرأ الكتاب، بعينين جدّ مفتوحتين. أليست الكتابة، في النّهاية، حفرا في اللّحم الحيّ؟ غوصا في تجاويف الكلوم الدّامية، والقروح النّازفة، لغاية تطهيرها. إنّه لا غنى عن كشط اللّحم المتورّم بمدية ذات نصل معقوف، ووضع أصابع اليد فيها بكلّ عنف، من أجل إزالة القيح المتراكم فوقها كالصّدأ. هذا لو أراد المرء حقّا أن يرفع أكفان الجهل الثّقيل عن العقول. إنّه لا مهرب من مداواة الألم بالألم. بل مداواة الألم بالألم الأشدّ منه. إنّه قانون البعث؛ قتل الدّاء بالدّاء. إلى أن غدت لافتات الثّورة الجديدة، ثورة على الثّورة، ربما، مرئيّة بالوضوح كلّه، في هذا الكتاب.

اسمعوا لصاحب النّص، ماذا يقول، وهو يروي إحدى النّهايات، أو البدايات، ولا يدري المرء أيّهما أقرب إلى التّأويل الصّحيح” … فنفخ في السّحاب والبحر، وأمر ريح الزّلازل، فانطبقت القرية على نفسها بركام الحزن والفرح والبؤس والشّوق، والآخرة غامضة جليّة. فَقُضِيَ الأمر، وعمّ الصّمت”. ما يشعرك أن الكلمات ألسنة لهب. مطرقة نيتشة الحانقة، الغاضبة، وهي تطارد ذلك المتبقّي من الزّعانف الحيّة، تلك التي تمنّعت عن الموت، كائنات الخضوع والخنوع، وسبب الخَوَرِ والدّمار، لتتمّ الإجهاز عليها. كأنّه لا بدّ من الفناء، كي يكون هنالك بعث. ألم يقل المسيح، وهو يحدّث حوارييه؛ ” الحقّ أقول لكم، إن لم تمت حبّة الحنطة، التي تسقط على الأرض، فسوف تظلّ وحدها، لكنّها إن ماتت، فسوف تنتج حبوبا كثيرة”.

إنّ هذا الغضب العارم، غضب الكاتب، على كلّ ما هو قائم، أو بالأحرى على كلّ ما هو آيل للسقوط، انتصار، أيضا، لذلك الفذّ، ذلك النّملة الدّؤوب، المتطلّع إلى تشييد عالم أجمل، والذي غدا، في هذا الزّمن الرّاهن، قلّة قليلة، بل غدا مهملا ومجرّد هامش. بينما هو لا معنى للبرج من دون فارس نبيل يحميه. لا معنى لهذا العالم من دونه. إنّها الكتابة بنصل السّكّين، حيثما تمرّ، تترك خدوشا وآلاما. فتبدو لك الكلمات تشتغل كتفا لكتف، كي توقد أتونا حارقا. إنّها ثورة على الحاكم والمحكوم، والخاصّة والعامّة، والقاصي والدّاني. لم تستثن أحدا.

وتراني أميل إلى الاعتقاد أنّ الكاتب لم يستثن حتّى نفسه من النّقد والشّجب، من شدّة ما نقد وشجب. إنّه شكل من الاحتجاج الصّاخب. باختصار إنّه الإيقاظ بدقّ المطارق. إنّ صاحب هذا العمل يصوغ كلماته، كمن يرشق حجارته بمقلاع. يقول في الصفحة 76 من الرّواية؛ ” يا أبناء الحرب، يا رموز الإنسان، ألستم من دمّر الأرض، وأهلك الزّرع بقسوتكم وقبحكم، وجعلتم رسالتكم في الحياة زرع بذور الشّرّ؟ أترغبون خيرا، وتزرعون سقما؟”. وتسترسل الصّفحات على نفس هذا المنوال أشواطا كثيرة، بلا هوادة أو مهادنة، في تحدّ بيّن، صارخ، معلنة عن ميلاد نفسها، أو عن قيامتها المنتظرة، كأنّما صاحبها يعلنها صراحة، ودون أدنى مواربة: إيتوا بمثل هذا، إن كنتم صادقين.

ماذا تبقّى لي لم أقله بعد؟ مازال الكثير، فأنا لم أبحث في هذا الكتاب إلا عن جانب الرّفض فحسب، وربّما أخللت في ذلك. ربّما لم أُوَفَّق في ذلك تمام التّوفيق، فالنّصّ ملغز، ومكتنز وثريّ بالمعاني، وحمّال أوجه، ولا يمكن، بأيّ حال من الأحوال، إيفاءه حقّه، في قراءة قصيرة ومبتورة مثل هذه، ومن جانب واحد منه فقط؛ جانب الرّفض. تعجبني مثل هذه الكتابات. هذه التي تحيل على تلك المتون الكبيرة. تلك التي تسعى جادّة جاهدة إلى خلق كون جديد، بل إنسان جديد. وتؤمن أنّ الإنسان، هذا الكائن الآثم والهشّ، هو أيضا عنقاء ولود، لا تنبعث إلّا من رمادها.

تلك المتون التي شغلها الإنسان من حيث هو كنه وماهية، كرواية ” التّحوّل” لفرانز كافكا، ” وسدهارتا”، لهرمان هيسه، و”وهكذا حدّث زرادشت” لفريدريك نيتشه. وكتابات أوشو، الفيلسوف الهندي الكبير. بداية واعدة، لا تَصْدُقُ إلا بالتثنية والتّثليث … و .. و.. . وها هو صاحب النّصّ قد ورّطنا في الانتظار …

أكمل القراءة
انقر للتعليق

اترك تعليقا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

بنات أفكار

بورسعيد … روح المدينة ونوستالجيا الشخصية

نشرت

في

تنفتح عتبة العنوان في رواية “سماء بلون الشفق” للروائي “إبراهيم أبو حجه” على فضاءٍ متعالٍ ينشحن بسيمياء الخطر، الحمرة /الاشتعال، فيدفع المتلقي إلى حال من الترقب والحذر فيستشرف آفاقًا من المفاجآت المتعددة. 

صالح السيد

وإذا كانت الرواية ـ كما يقول جورج لوكاتش ـ هي”سِنّ النُضج”، حيث يواجه الإنسان وحدته وإشكالياته، ليحمل مسئولية نفسه، واختياراته، وقلقه، في الاتصال بين ماضيه ومستقبله، بين ضياعه وخلقه المتجدديْن، فإن هذه  الرواية معنية  بتصوير المسار الجمالي للفرد في بحثه عن مجموع كلي ما، عن تجانس ما، عن هوية يحمل صورتها في أعماق نفسه.

ويعتمد البناء السردي  للرواية على “المونتاج” ويتعدد استخدام تكنيك “الفلاش باك” و كذلك “المنولوج الداخلي” في عرض المحتوى الداخلي أو النفسي للشخصية.

ويقوم التشكيل  السردي على  المقابلة بين صورتين للمدينة – بورسعيد – في زمانيْن مختلفيْن : الأولى في الماضي  لمدينة احترفت النضال وشهدت وقائع أسطورية وأياماً خالدة من البسالة والبطولة تؤكدها  أحداث جليلة في العدوان الثلاثي وحرب الاستنزاف، والأخرى هي في الواقع المناقض؛ حيث مدينة البضائع والعملات النقدية وواجهات المحلات “الفاترينات” اللامعة، التي تجذب الأنظار إلى عالم الموضات ،وهنا يقع السرد في  ثنائية الحضور/الغياب، فالأماكن والشخصيات الحاضرة في النص الروائي تقع في حالة تهميش، أو اغتراب واضح، وهنا يستولي على  شخصية البطل ـ علي عليوه ـ  حنين دائم وجارف إلي الصورة الأولى وجوداً وتاريخاً محفوريْن في أعماقه ومن هنا يظهر هذا الإنسان الذي يحاول توحيد ذاته المتشظية وروحه الغارقة في لُجّة الضياع، وتأتي لحظة خروج البطل  الوحيدة من المدينة إلى القاهرة إبان ثورة يناير ـ وهو الحدث الأعظم في الزمن الحاضر ـ باعتبارها إشراقة أمل واستعادة غالية لتاريخ من الحرية والمقاومة الذي عاش فيه وحلم باسترجاعه. 

الشخصية والمكان :

تتسم لغة السرد في تلك العلاقة بالغنائية والتشكيل الجمالي الشعري، فبطل الرواية “علي عليوه”   كاتب المواليد والوفيات  – وهي مهنة واقعية ذات بعد رمزي –  باعتباره  هذا الشاهد/الرقيب علي تاريخ أبناء المدينة، يظهر دائما في حالة  انغمار نفسي وعاطفي، في معية العشق و التدامج  مع المكان “بورسعيد” ويلجأ الراوي إلى ضمير المٌخاطب الذي يمنحه فرصة مراقبة الشخصية وتأملها في حركتها الدائبة، متداخلاً مع ضمير الغائب الذي يفتح مجالاً للاحتكاك بالشخصية و وصف تفاصيلها وعالمها المترامي .

كما يتسم السرد بالكثافة وينحاز إلي المجازية، ويتحكم الراوي في علاقة الشخصية بالمكان حتى يحقق تناميا سرديا تقوم فيه اللغة بدور كبير لتحقيق هذه الفاعلية الجمالية، و يعكس هذا المشهد شعرية الحالة :    

” تتهيأ بوهج أنفاسك .. وتتخذ سمتًا في الضباب .. تتحرك ثملاً .. تتحسس طلاء الحوائط، فيسقط عنها لونها نضرًا و زاهيا .. تتبدى بيوت الإفرنج بطرازها الأوربي وقد علاها التراب .. ينفخ ويمشي مسحورًا تنعكس علي المرايا المواجهة رغبته في بلوغ الميناء وما إن يبلغ شارع محمد علي آتيا من الجنوب حتي ينعطف شمالاً . الظلمة خافتة كأنها غلالة حلم تحجب الظلال في شوارع تتداخل فوقها بقع الضوء.. شوارع خلت إلاّ منه ، تداخلت بقع الضوء التي تجلت علي رصيف الميناء، نظرها بحب وهو يسير مأخوذًا، توقف وتملّى المنظر حتى دخله المعنى مجتاحًا ومستقرًا .. سأفيق على أمكنة حية ما تزال تتناوشها أسماك العمق، ينتصب في المكان العنبر المشيّد بالطوب الوردي الأملس ، أسيرا مأخوذًا، يجتذبني التراب الممغنط بدم الشهداء “.

  • المدينة والتاريخ المشرق:

تعمل تقنية الاسترجاع على تحويل السرد إلى ذاكرة حاضرة تنبش في ذاكرة قديمة وتتعدد مداراتها بين الفضاء المكاني والفضاء الاجتماعي، ففي الفضاء الاجتماعي ترصد روح المقاومة وحالة الاستنفار التي تلبست الصغار والكبار في الذود عن  المدينة و صدّ العدوان الثلاثي والدفاع عن كرامة الوطن وهو رصد لا يكشف عن حالة الخوف و الجزع الحذر؛ إنما يحتفي بحالة البهجة والسعادة والشعور بالزهو والنشوة :

 “جلسنا على حواف البالوعة الخرسانية فوق الرمل الناعم المجلوب من الشاطئ ورحنا نغني … رفعت أنت الطبق الصاج الذي كان عليك أن تحضر لهم فيه الفول المدمس للعشاء وراحت أصابعك تتدافع عليه فيخرج الإيقاع منتظماً يعلو الرنين (إيدين وبن جوريون وموليه .. جايين يحاربونا على إيه .. هو الكنال دي في أراضيهم) الإيقاع يعلو فتشتعل الحناجر التي أخذت تهدر وراءك  ونحن اندمجنا مع الحالة بالأكف الصغيرة نصفق، فيعلو الإيقاع آتياً من حواف الساحة كان ينزل علينا ليسبح وجودنا تحت وجوم الليل قريبًا من قلوبنا ومن الشرفات التي بدت معلّقة في الفضاء”.

كما يعتمد  الراوي في وصف  الفضاء المكاني  على منظوره الخاص متضافرًا مع منظور الصورة الشعرية والتي تعكس أيضاً  حالة القوة، روح الشجاعة، والبسالة، التي تلبست المكان:   

” كانت كأنها النسور، حطت على الأرض، تنشب مخالبها في الرمل، وتقف موزعة في خطوط متناسقة، تخترمها الساحات، تلك هي عمارات ناصر التي بنيت في بداية ستينيات القرن الماضي ..أخذ يحك عينيه في حوائطها الجهمة عله يجد ما خطته الروح يوم أن غرز سبابته في الرماد وخطّ : الموت للأعداء”

  • المدينة والواقع المناقض :

يتجلى انحياز الراوي القيمي والإيديولوجي من خلال رصد حالة الانتكاسة والتراجع التي أصابت المدينة ومسختها  سواء أكان على المستوى المعنوي أم المادي إذ إن سياسية الانفتاح التي اتبعها السادات، شوّهت وجه المدينة، فانزلقت بها من منعطف إلى آخر  من تاريخ للبطولة والصمود إلي سوق رائجة للبضائع من كل صنف، إنها زيفت التاريخ ومسخت الأفراد  وتاجرت بقيمهم، أو ربما أصبح المال هو قيمتهم الوحيدة :  

 ” ..أين هو الأفضل ؟؟ والأسوأ يجتاح .. يغتصب .. كهذه الموجات التي تتدافع به في نهر الشارع .. كراتين كثيرة متراصة في نهر الشارع، والبضائع بين أيدي اللاهثين تنتقل زائفة وبراقة تتخطف المتهافتين، وقد أتوا من كل حدب وصوب إلي هذه المدينة التي انفتحت بعد القرار الجمهوري الذي أصدره السادات .. ورق البنكنوت يجتاح مخرفشًا .. رنين المال خلاب .. والغالبية يرقصون إلاّ نفسه التي – فجأة –  قالت له: ماذا يعجبك في شارع أصبح لعنة حقيقية .” 

كما يتكرر خطاب الإدانة في صورة أخري علي المستوي المادي الجمالي  حيث فقدت المدينة رونقها وهويتها العمرانية وجمالها الفاتن وانزلقت دون أدنى مقاومة إلى عشوائية صارخة وربما تأتي هذه الحالة نتيجة لتخليها عن دورها ومكانتها  كما يصف الراوي:

” كلهم يتفقدون شوارع خلت مما يدلّهم علي أنفسهم، أبراج شاهقة قامت تعاركت فيما بينها، بعد الحرب لم تزل سوى بيوت قليلة، فقال مسامراً نفسه: نجح السلم في ما لم تنجح فيه الحرب .. وهو تغيير وجه المدينة فها هي الأبراج تناثرت متخللة البيوت الخشبية، ولا غير تقطيبة سؤال تواجههم في جبينه عما كانوا يحلمون به؟! ..”

  • الثورة و حالة الانعتاق :

مع  أحداث ثورة يناير تتبدى حالة الانفتاح المادي والمعنوي للرواية، فعلى المستوى المادي  يتسع المكان ليتجاوز حيز المدينة عبر أماكن أخرى في طريق السفر والعودة ومناطق  مختلفة في القاهرة ومنها ميدان التحرير، كما يظهر البطل وهو المحب للعزلة والفردية وسط حشود غفيرة من الجماهير، بينما على المستوي المعنوي فإن الذاكرة والحلم يتحولان إلي واقع مشهود فهاهي روح المقاومة والحرية ـ التي جسّدتها المدينة ـ  تسري في أرجاء الوطن كله، وهنا تشعر الشخصية بحالة الانعتاق الروحي والنفسي والعاطفي ، ويستجمع الراوي كل قوى التصوير في كاميرته ليصور هذا التحول  الخطير  حيث يتماهى مع الجموع ويتمظهر المشهد تمظهراً تشكيليا وحركياً يبرز عظمة وقداسة هذا الحدث :    

” حشود حول قلبه تضخ دفئًا آتيا من كافة أنحاء مصر جماعات كانت تمشط الشوارع (يا أهالينا يا أهلينا إحنا بنهتف ليكو ولينا) ربما ما تراكم في النفوس من قهر هو ما دفع الناس الي الميدان راح يهجس بذلك وهو منصرف وراء صوته الذي أخذ يهتف مع الهاتفين .. يخرج من داخله حماس يجعله لا يحس برد يناير القارس كانت الحشود تصب في ميدان التحرير الذي شغل فيه مجرد نقطة، تتجمع الجماعات وتسير تهتف بحماس بالغ تمشط شوارع القاهرة التي بدت له مختلفة ذلك اليوم وهو بين الحشد محشور يهتف بحماس بالغ ” . 

ـ______________________________________

الهوامش :

1- د. عبد البديع عبد الله ، الرواية الآن ، ص 75

2- د. أمينة رشيد ، حول بعض قضايا نشأة الرواية : ،مجلة فصول ،المجلد السادس 1986م، ص 99

3 – د. نبيلة إبراهيم ،قص الحداثة   ، مجلة فصول المجلد السادس 1986م  ص 111

4 –د. محمد زيدان   ، السرد والحكاية : ص 117

أكمل القراءة

بنات أفكار

الذات والموضوع، و “أصل الحكاية” … دراسة نقدية

نشرت

في

ثمة علاقة جدلية يُفترض وجودها دائما، بين الذات ــ أىّ ذات ــ، والموضوع ــ أىّ موضوع ــ في جميع المصنفات الفنية، بكافة أشكالها ومذاهبها، وإن اختلفت في شدتها من عمل إبداعي إلى آخر.

صلاح نجم

ويرجع هذا الإختلاف (في درجة العلاقة)، على الأرجح إلى مايمكن أن نطلق عليه (تاريخ الموضوع في الذات) أولا، ثم (قيمة الموضوع عند الذات) ثانيا، فبدون هذا التاريخ، وهذه القيمة، يتحول فعل الإبداع إلى عمل ميكانيكى صرف، لاروح فيه، ويصبح مجرد إدعاء أيديولوجي أجوف خلو من أبستمولوجيا الموضوع، ومن ثم يفقد الجزء الأكبر من قدرته على الوصول إلى الناس أو التأثير فيهم.
وهذه الدراسة، محاولة قراءة لبعض جوانب العلاقة القائمة بين الذات في تفاعلها النامي مع الموضوع، بغرض اكتشاف أبعاد تلك العلاقة، وفهمها في سياقها التاريخي الخاص.

ولأن الذات التي نقصدها هنا، ذات شاعر مصري صميم، دماً وروحاً ولساناً، ولأن الموضوع الذي نعنيه هو الوطن، القيمة التي لاتعلوها قيمة، فلا عجب أن تلتف حوله وتعانقه كل قصائد ديوان (أصل الحكاية)، لشاعر العامية السويسي الكبير كامل عيد رمضان، في قداس إبداعي مهيب.


فالوطن بمعناه العام والخاص هو عشقه الأول الذي يباهي به ويفاخر، وينتمي إليه بلا حدود، يغضب إذا ماتغيرت ملامحه الأصيلة ويحزن إذا ما شوهت يد الفساد والإفساد جماله المادي أو المعنوى، أو إن هى ضيعت مفرداته، يغنى له ويتغنى به في كل الأوقات، في العسر كما في اليسر، في زمن الضيق والشِّدة والألم العظيم، كما في زمن الرخاء والدعة، ويؤمن أن بناء هذا الوطن لن يكون أبدًا بالكلام وحده، ذلك لأنه كما يصف نفسه في مقدمة الديوان “الذائب في هوى مصر متشوفاً ومتشوقاً لحياة زادها الكرامة في عالم انقلبت فيه المعايير…” ، وهو القائل عن الشعر: ” هو مدخلي إلى هذا التشوف وهذا التشوق، ذلك أن الشعر في منظوري هو دفتر أحوالي”، وعن القصيدة: ” هي أنا ، وأنا هو ذلك العضو المنتمي لمجتمعه، ذائبا فيه …”، هذا هو بحق كامل عيد رمضان، الإنسان، والفنان الذي أعرفه.

على هذا النحو، نحن إذن أمام حالة نادرة من حالات الإنطباق بين: (ذات وموضوع)، (شاعر وقصيدة)، (إنسان وفنان)، حالة أقرب ما تكون بعملة ورقية وضعت في وجه الشمس، فانطبعت ملامح الظهر الخفى فوق قسمات الوجه الظاهر في تكوين بديع مضىء تتعانق فيه كل الخطوط، وتتقاطع كل الدوائر، وتتمازج كل الألوان، حالة أكثر عمقا، وأبعد أثرا من ذلك الصدق الفني الذي يتشابه علينا في كل إبداع، إنها حالة ذات عاشقة لموضوعها، وموضوع ضارب بجذوره في أعماق هذه الذات ــ قيمة وتاريخا ــ معا ، وفي آن واحد.
تصدرت الديوان عبارة “أشعار بالعامية المصرية”، ربما عن عمد وقصدية، ذلك أن العامية عند (كامل عيد رمضان)، اختيار ، لغة حياة وليست لغة للنظم، لغة ممزوجة برؤية مستوعبة لكل تفاصيل الهواجس المختبئة وراء تجاعيد الزمان، وتضاريس المكان، والقابعة داخل صدور الناس، لغة متجاوبة في إيقاعها مع نبض من حمل على عاتقه مسئولية البحث عن “دليل” يفسر لنا غياب الحس الإنساني عند البعض من الذين لم يستشعروا المعاناة التي يعيشها أبناء مدينة مصرية تقع في مرمى مدافع الأعداء.

لعب الوطن الدور الأبرز في تشكيل وعى ووجدان (كامل عيد)، وتصوراته، وعالمه الشعري الخاص في وقت مبكر، وقد تجلت ارهاصات هذا الدور بوضوح منذ لحظة (المخاض الأول) في مشواره الإبداعي الذي امتد إلى مايقرب من نصف قرن من العطاء المتواصل، وليس من المبالغة القول بأن المقدمات الأولى لهذا الدور ربما تعود إلى زمن أقدم من لحظة المخاض الأول، هو زمن (التكوين الأول)، قبل أن يبدأ رحلته الطويلة مع الكتابة الفنية، ودعونا نتأمل ــ بعد أن ننحي قضية توظيف التراث جانبا ــ لكونها ليست موضع الإهتمام في هذه الدراسة ــ كيف فرض المخزون الثقافي العام نفسه على عدد ليس بالقليل من قصائد الديوان، وإلى أي حد كان الوطن ورموزه المتتابعة عبر الزمن مركوزًا في أعماق الذات عنده.

فمن “المخزون المصري القديم العميق في الذات”، يستدعي “إيزيس”، “رمسيس”، “كاموس”: (انظر أصل الحكاية الصفحات 25، 72، 28)، ومن “المخزون الديني العميق في الذات”؛ يستدعي “سليمان” (انظر “أحلام الكلام” ص31)، “لقمان” (انظر “أحلام عصرية” ص38)، و “عيسى”، “أيوب”: (انظر”أيوب السويس” ص59)، ومن “المخزون المعاصر العميق في الذات”، يستدعي “النديم” (انظر “ثلاث كلمات للحب” ص13)، “سيد درويش”: (انظر “كلام لسيد درويش” ص63)، وجميعا كما هو واضع رموز زائعة ومشهورة في ثقافتنا العامة، لابد أن تكون قد أدت دورها الفاعل في تشكيل تصورات “كامل عيد”، وصياغة قناعاته فيما يخص معنى الوطن وقيمته، ونوع الحياة التى يرضاها له، قبل أن يستخدم دلالاتها المختلفة لتأصيل مفهوم علاقته بالوطن، وتأكيده في السياق الشعري.

والمتأمل لقصائد الديوان، لن تصادفه عقبة ذات بال في سبيل تتبعه أبعاد تلك العلاقة بين الشاعر والوطن، ومراحل تطورها، ابتداء من مرحلة ماقبل يونيو 67 بكل مافيها من أحلام وهواجس، ومرورا بما تلاها من مراحل؛ تأمل الشاعر وهو يحلم بوطن انساني حر سعيد بما يكفي لاستيعاب كل أحزانه (انظر: “أحلام الكلام” سبتمبر 1965 أقدم قصائد الديوان) .. يقول: (بحلم بحب وغيط ــ وببلد ــ /ملهاش بيبان /بحلم بروح انسان /باحلم بصدر حنان /باحلم بكل مكان /دفن الآهات، وبيدفن الأحزان).
لكن هذه العلاقة ، لاتلبث أن تتطور سريعا إلى ماهو أكبر من مجرد الحلم، متخذة من الأبعاد ماهو أعمق أثرا وقدرة في تشكيل ذات (كامل عيد)، بفعل الأحداث الكبار التى عاشها الوطن، وألقت بظلالها الكثيفة على عالمه الشعري، انظر ذلك الإصرار (المبكر جدا) على الصمود والتحدى في مواجهة ماجرى، وتأمل لهجة خطابه الآمرة الواثقة وهو يحذر الشهيد عشية الهزيمة في 67، في (امبارح لأ: 9 يوليو 67)، يقول: “حمدان يا ابن امي وابويا /ألف رحمه عليك /حسك تدفن راسك في الوحل /حسك تتألم أوتخجل ـ اتطمن /الأرض بتترجرج غليان /الأرض امك بتضمك /وبتغسل شرفك م الأحزان”

بهذه القوة، صهرت وقائع يونيو وما خلفته من مرارة وألم (كامل عيد) في بوتقتها اللافحة، واستنفرت فيه الهمة القابعة في الذات العاشقة الغيورة على الوطن والأرض والعرض، وأمدته بمعين لا ينضب من المستفزات الملهمات، ورغم ما وقرته الهزيمة ــ آنذاك ــ من مشاعر اليأس والإحباط والإنكسار في نفوس الجميع، بقى هو، ومنذ اللحظة الأولى ، صلب العود ، شامخ العزة، رافضا أن يرى نفسه مجرد رقم في الطابور الطويل من المنهزمين والمنسحقين، حتى وإن كنا نلمح من وقت لآخر نبرة حزن منفلتة، أو عبرة ألم توشك أن تهزمه، تأمله وهو يخاطب زوجته في المهجر بعد شهور خمسة من النكسة، لتدرك كم كان الوطن متوغلا في ذاته حتى في ذروة الألم؛ يقول لها في (جواب من السويس: 24/10/1967): “حنِّي كفوفك حنه سويسي /ابكى سويسي /نزلى دمعاتك حنيهم غنوه حزينه /لو ضحك النوار في طريقك سامحيه /مسكين سارقاه السكينه”.

لقد تحول العصفور المغرد الحالم بالسعادة والحرية في (أحلام الكلام)، والمنتمي لكل الأشياء الجميلة في (الانتماء)، إلى محرض على البكاء والغناء الحزين في (جواب من السويس)، ولِمَ لا، فقد سقط الحلم الجميل أمام عينيه سقوطا مروعا ومفاجئا ، مخلفا وراءه آهة حارة متأججة، ألما على ما ضاع، وحزنا على ماجرى؛ انظر كيف (يبكي) على ماجرى للبلد في (السويس)، وما ألم بها في (غنوة سويسي: 15/11/1967)، يقول وقلبه يفطر دما: “آهين يابلد عمري /يا باب لبحر والمصنع /ولميتي الشبك بدري / أيا بلدي”.
لكن الذات العاشقة أبدا لا تستسلم، تحاول بإصرار أن ترتفع على الألم والحزن، تبحث عن نغمة بديلة من الأمل والتفاؤل، تفتش عن ضحكة حقيقية فلا تجدها ، فلكي تعود الضحكة لابد لها من شروط، يعلنها (كامل عيد) في (ضحكتي وش البلد: أكتوبر 1969):” أبتدي أضحك بحق /لما أشوف الراية مصري زاينه سينا /واما نبقى كلنا في الحرب صحبه /نتقتل .. نقتل .. نموت”

وإن كان الشاعر قد أطلق (لاءه) الأولى في قصيدته (امبارح لأ: 1967)، فقد تلاها بـ (لاءات) أخرى كثيرة في قصائده التالية: لا للسكوت ونعم لإسترجاع الحق بالقوة (العهد، ريس البحريه: 1968)، لا للهزيمة ونعم للتطلع إلى النصر (كلام لسيد درويش: 1968)، لا للإستسلام ونعم للقتال وللجندى المقاتل صانع الصباح من العدم (بيان مصري، تسلم لنا: 1969)، لا للرضوخ للأمر الواقع أو قبول الهزيمة ونعم للإصرار على رفض الصبر وأخذ الثأر (أيوب السويس: 1969)، لا للخوف من الحرب ونعم للإصرار على خوضها مهما كان الثمن (الفجر عا الطريق: 1969)، ثم لا للا سلم واللا حرب ونعم لفتح النيران لتصحيح الخارطة، والمطالبة بالثأر من مغتصبي الأرض، وميتمي الأطفال، (انظر: “ثلاث حواديت من الجبهه: 1971”) يقول: “يا أمينه يا بنت حسين مسعود /مع إني أبوكى حسين و باعزك /لكن أبدا ماحسامح /ولا تبقي بنية أبوكى صحيح /إن شب وليدك (أحمد زين الدين عثمان) /يعرفش الحق /أو مين خلاه من صغره يتيم /لو شب الواد ولا خدش بتار الأرض؟”.


هكذا، ظلت قضية تحريرالأرض تشغل المساحة الأعظم في عمق الذات، فلم يتوقف اهتمام (كامل عيد) بها لحظة واحدة ولست سنوات كاملة هي عمر الهزيمة، توالت خلالها قصائد مناجاة المعشوقة المستباحة (سيناء)، والتي طال انتظاره لها، وما أن انطلقت إشارة العبور الأولى، وحانت لحظتها المرتقبة الحاسمة، حتى انطلق هو الآخر يسجل في دفتر أحواله تلك اللحظة المقدسة في الآن ، (انظر : مشهد العبور من أوبريت “السويس حبيبتى : 16/10/1973” ) يقول: “دفعتنى الروح بالروح جدفت /وصلت الشط /م الفرحه حضنت الأرض /حنيت بترابها إيديا عزفت / ياحبيبتى يامصر”.
لم تكن لحظة العبور عند (كامل عيد) مجرد موضوع للإبداع، أومناسبة لنظم الشعر وإلقائه فى المحافل والندوات، وإنما كانت بالنسبة له؛ لحظة العناق الطويل بين ذاته المتشوقة، وموضوعها الملهم، بعد سنوات الاغتراب الطويلة، والبطيئة، والثقيلة بآلامها وأحزانها.
لقد استمر هذا العناق طويلا، وبلا توقف، ربما لسنوات، دون أن يفقد حرارته الأولى، (انظر: “خرزه في عقد حب: ديسمبر 1974” )، (أذكركم في عيد النصر: 1975 )، (كلمه لمصر: 24/10/1976)؛ كم كان الوطن بالفعل ، وبحق ، متوغلا فى عمق ذات (كامل عيد)، حين قال في (مواويل المواويل: 30/6/1980): “من قبل مانتولد مكتوب نقابل بعض /أنا زرعه في ضفتك وانت المدد والرد /ده انا اللى شربت وأكلت من خيرك /وحاربت بيك يانيل حرب الشرف والعرض”.
لكن العلاقة بين الذات، والموضوع (متمثلا في الوطن) لا تتوقف عن هذه النقطة، بل تكتسب بعدا إضافيا عندما تتجاوز المفهوم العام والمجرد للوطن إلى نطاق أكثر تحديدا ـ رغم رحابته ـ هو النطاق المادي الواقعي له متمثلا في عنصرى المكان والناس.


انطلاقا من هذا الفهم، يصبح من الممكن تمييز هذا البعد (الإضافي) في علاقتين فرعيتين ينبثقان من ذلك البعد الأساسي المجرد، هما علاقة (الذات /المكان)، وعلاقة (الذات /الناس)، باعتبار أن المكان، والناس هما (الموضوع) المادي في العلاقة الأولى، والواقعي الحي في الثانية.
أما العلاقة الأولى (الذات /المكان)، فيمكن استجلاء ملامحها في ديوان أصل الحكاية عبر وفرة من الشواهد الشعرية التي تدلل على ما للمكان من أهمية ـ تاريخا وقيمة ـ في ذات (كامل عيد)، الذي يستخدم مستويات بلاغية ثلاثة للمكان،

المستوى الأول: اشاري صرف، كما في عناوين عدد ملحوظ من القصائد؛ نذكر منها: كلمة لمصر، أغنية للسويس، حدوتة مصرية، جواب من السويس، غنوة سويسي، أيوب السويسي، من مفكرة راجل سويسي، ثلاث حواديت من الجبهة، كلام للسويس، أوبريت السويس حبيبتي، السويس تغني.

المستوى الثاني: دلالي، باستخدام المكان (كدال) بما يثيره من معنى فكري أو وجداني أو عاطفي (كمدلول) كما في (ثلاث كلمات للحب ـ كلام مصري ـ 1968)، يقول: “بحبك سواقي /بتسقي الشراقي /يموت القلق /بحبك مصانع /مداين جناين /بعقد وحلق”

المستوى الثالث: تصويري، فالمكان من منظور (كامل عيد) أبعد من هذا وأعمق، فهو لا يعبر فقط عن الصورة العيانية الساكنة للوطن (مستوى الاستخدام الإشاري للمكان)، أو حتى عن المعنى المخبوء وراء الرمز المكاني (مستوى الاستخدام الدلالي للمكان)، إنما يتخطى حدود هذين الاستخدامين إلى استخدام المكان كعنصر رئيسي في الصورة الشعرية، واعتباره كيانا حيّا يتأثر بالأحداث وينفعل لها، (انظر مثلا “بيان مصري ـ 1969”)، يقول: “اضرب، اضرب، اضرب /صحى تراب سينا الغليان”. وانظر أيضا (ثلاث حواديت للحب ـ فبراير 1971 ) ، يقول : “وش السما أحمر /وش السما دخان /وش السما غايم /قلب البلد أحزان /لكنه مش نايم”. وفي (خطابين للشعب ـ السوق ـ 24/10/1974)، يقول: “على قد ما تألمت والنصر أحياني /شفتك يابلد (الغريب) م الغربة بتعاني /على قد ما لفيت ورجعت بمعاني /شفت السويس بتئن”


أما العلاقة الفرعية الثانية (الذات /الناس) فهى نهاية المطاف، وغاية الغايات في علاقات الذات بالموضوع، فيها يمثل الناس ــ حسبما تؤيده الشواهد الشعرية في أصل الحكاية ــ الجوهر الأصيل العميق الذي تحوطه وتحتضنه وتتوحد معه ذات (كامل عيد)، إنهم دنياها وعالمها الرحيب، هم كينونتها وصيرورتها، بقاؤها وفناؤها، تحيا بهم ومن أجلهم، تحلم لهم ومعهم حلم الحياة الأجمل في بساطته، والأروع في مثاليته، تؤرقها همومهم، وتشقيها أحزانهم وآلامهم، إنها ذات عاشقة للناس، مؤمنة بقضاياهم وبلا حدود.

تمضي رحلة الذات في علاقنها مع الناس عبر شواهد شعرية لا حصر لها ويمتلىء بها ديوان (أصل الحكاية) ابتداء من (غنوة سويسي ــ 15/11/1967)، والتي تتجلى فيها حميمية تلك العلاقة، يقول: “نسجت بقلبي موالك وغنيته /مع الشغيله في المصنع /مع البمبوطي في المينا وعا المركب /مع فلاحك الضاحك على كتفك /وسار يتحاكى با مجادك”.
وتستمر الرحلة الطويلة دون توقف: فيتأسى للناس الذين يتعرضون لقصف العدو في (جواب من السويس ــ اكتوبر 1967 ـ ص 53)، ويمسح دمعات المطحونين في (سؤال ــ مايو 1968 ـ ص 84)، ويؤكد حبه لمصر عبر العامل والفارس والدارس والشاعر في (كلام مصري ـ 1968)، يقول: “أحبك عروسة /في إيد بنت عامل /بيبني البلد/بحبك حصان /بيرقص بفارس /وطالع سبق /بحبك مدارس / ودارس وشاعر /ورنة وتر ”

ويستمر (كامل عيد) في عشقه للناس، فيدعو بالسلامة لذوي الهمة، وراوي الحبة، والمدافع عن الحق في (تسلم لنا ـ فبراير 69 ـ ص 83)، ويعلق ضحكته بفرحة الناس وسعيهم في اطمئنان في (ضحكتي وش البلد ـ اكتوبر 69 ـ ص 65)، ويشيد بصناع السد وعماله في (صناع السد ـ ديسمبر 70 ـ ص 85)، ويغني للإنسان والناس الذين يتبادلون الحب والمرابطين على خط القناة دفاعا عن الوطن في (الشاعر والقضية ـ مارس 70 ـ ص 71)، وينقش بروحه النياشين للسهرانين من عمال البترول في (كلام للسويس ـ فبراير 71 ـ ص 91)، ويتألم من أصحاب الفكر المخضرمين الذين أخافوه من أن يبدع بحرّية في (حكايات السفر الطويل ـ مارس 73 ـ ص 87)، ويحفز العامل على انجازه ويباهي بفنه.

كما يسعد بعودة الناس إلى مدينة السويس للمشاركة في فرحة النصر والعودة في (السويس تغني ـ سبتمبر 74 ـ ص 97)، ويتألم من صاحبه الذي باعه بثمن زهيد، ومن الكدابين والغشاشين والمشغولين بالعرش، كما يتألم من جرح الأصحاب الأندال، ومن الغربة والأغراب في (حكايتين للشعب: السوق ـ اكتوبر 74 ـ ص 101، 103)، ويؤكد في (بكره إيه ـ اكتوبر 74) أن تحقيق حلم الغد المنتظر لا يمكن أن يكتمل بدون يقظة الناس، يقول: “بكره لجل ما يبقى أخضر /مش كفايه الحلم بيه /بكره عايز ناس ماتهدا /ألف ألف وألف عين /إيد حديد تقطع الإيد اللي تنهب”. ويلقي تحية الصباح على العامل (الأسطى)، ويدعو للحب والعمل في (سلام بالحب ـ 75 ـ ص 108 ، 109)، ويذكرنا بما قام به الناس لإستعادة الأرض في (أذكركم في عيد النصر ـ 1975)، يقول : “أنا المكتوب على قلمي هنا با املي حكاية العمر أحكيها / حكاها الدم من قلبي نسجها الدان /كتبها الناس بضوافرهم على الإسفلت والجدران /كتبها عليوه وابو خاطر وعم سويلم البقال أبو العيال / وناس مجهوله أساميهم في دنيتكم كما في دفتر الأحوال” . ويعبر عن ألمه بسبب ضيق الرزق وبسبب تراخي البعض عن أداء واجبهم اعتمادا على الآخرين في (الربيع والناي ـ مايو 77 ـ ص 32)، ويؤكد أن الشعب حى وسيظل في (في ذكرى ماجرى ـ يناير 77 ـ ص 120)، ويتأسى على ما آلت إليه أحوال الناس وتحكم المادة فيهم، ويتساءل عن سبب دموعه فيعرف أنها داء الغلابة الناتج من الأنين والسكات، ويوضح رأيه في الغربة بأنها ليست غربة السفر، وإنما هي غياب الأهل والناس في ( موواويل الموواويل ـ يونية 80 ـ ص 121)، ويتساءل في (البكاء للداخل )، يقول: “يا هلترى هجرتني روحي المؤمنه /بالحب والناس البساط /واللا أنا عفت الحياة بالغربة مزروعة بآهات”.


ولا غرابة، إن طالت رحلة الذات مع موضوعها الجوهر (الناس)، وليس ثمة تعليل يبررها سوى ماقاله (كامل عيد) نفسه في (ثلاث كلمات في الحب ـ 1968) إذ يقول: “ولإني بحب الناس /والناس بالناس تتحب /خطيت بالقم الحرف، كتبت الشعر” .

أكمل القراءة

بنات أفكار

السويس .. رواية الحرب

نشرت

في

إذا كانت السويس هي هبة الجغرافيا، فإن التاريخ حرفتها؛ فقد حفرت بإزميل بسالتها وجسارتها علامات بارزة في تاريخ مصر الخالدة .

صالح السيد

بيد أن الرواية تتسمّع هسيس الجغرافيا، و تبتعث روح التاريخ؛ إنها تستحضر في ديمومة حية: الأماكن والأشياء، الأشخاص والأحداث، الواقع والأسطورة، الحلم والحقيقة، انسراحات النماء وسكنات العدم، إرهاصات الصمت ونُذر الضجيج .. هي إبداع شجاعة، تعبر عن الوجود بالإبداع وهو ما يُكمّل هذا الوجود، فليست مجرد حكاية في زمن ما؛ إنها الحياة بقيمها المتجددة والمتنوعة.

تتبدى السويس – مدينة الحرب – في روايتيْ “الرجل والموت” للروائي محمد الراوي، و “الموت يضيء المدينة” للروائي علي المنجي، مكاناً يثير الترقب بصورة كاملة: حالات من الخوف والفزع وابتهالات من الأمل والرجاء، و صبوات من الشجاعة والتضحية. و تقوم العناصر الروائية  بصورة جوهرية على هذه الانقلابات، وعلى تلك الانفعالات الصارخة، وتستند إلى هذا التوتر الذي يتجه إلى غاية معينة.

إن مشاهد الروايتين على تنوعاتها واختلافاتها تتجاوز كيان حاضر مرئي، إلى عالم واقع ثقيل: سماء تمطر الموت، أرض تحصد الأرواح، صرخة الدمار والفناء، غريزة البطش وسفك الدماء، بشر يفرّون الى النجاة في جوف المخابئ، وآخرون يعتصمون بالشهادة في انتظار الأعداء، يتساقطون في كبرياء العاشق لقلب المدينة، أو يرسمون علامة النصر في الفصل الأخير .

تنبني عتبة العنوان علي نوع من المراوغة أو المفارقة الفنية، فبينما يتأجج الصراع بين الوجود / العدم، الإرادة / العجز، الحياة / الدمار في رواية “الرجل والموت”، يعيد العنوان “الموت يضيء المدينة”  ترتيب المعادلة على نحو مخالف؛ إذ يتحول الموت / الفداء / الشهادة إلي الزيت المقدس الذي يوقد ظلام المدينة بالحياة والإشراق . 

يتسم الخطاب الروائي في الروايتين بالاشتغال على “القصة المحكمة البناء” – والتي تستمد مرجعيتها من أحداث تاريخية وهي معارك أبناء السويس لصد هجوم الجيش الإسرائيلي قبل وأثناء وبعد 24 أكتوبر من العام 73 ،- ولذا يتصف السرد أيضا بالإحكام وينبني علي الخطّية، ويظهر الحضور الطاغي للراوي، الذي يوجه دفة السرد، ويصف وينقل خطاب الشخصيات في أغلب المرات التي تتوارى فيها المشاهد أو يغيب العرض بين الشخصيات، وهو إلى جانب ذلك يستأثر بالسرد والمعرفة، إنه يروي من منظوره الخاص لأنه سيد العالم السردي الذي يمتلك كل مفاتيحه وأسراره.    

 وتتباين علاقة السارد  بالفضاء المكاني من خلال: إمّا التصور الكلي للفضاء المكاني حيث يقوم برصد حركة المكان وهي حركة دائرية مسوّرة، حيث يتحكم المكان في حركة السرد فلا خروج بالأحداث عن المكان – المدينة – أو من خلال  التصور التفصيلي وفيه يركّز السارد علي المفردات الخاصة برؤية المكان وما تمثّله كل مفردة على حدة، وما يمكن أن تعطيه، يضاف إلي ذلك التصور الخاص بالمجاز السردي وفيه يعتمد السارد علي منظوره الخاص متضافرًا مع منظور المكان، ومنظور الصورة الشعرية التي يمكن رصدها بلاغيًا وتعمل هذه المنظورات مجتمعة علي وضع حيز بصري نفسي يتضافر مع الحيز الذي تصنعه اللغة .(4 )

وكما يسهم المكان في توجيه علاقات الحدث السردي، فإن السارد يعمد إلي حركة توسع في المكان (الشوارع – الطرقات – الميادين)، وفي المقابل هناك حركة عكسية ( تكثف ) داخل المكان الرئيس من خلال وحدات صغيرة  (البيت – المستشفى – الخندق- المقهى – قسم الأربعين) .  

1 – رواية ” الرجل والموت “:

 يعمد السارد إلي الوصف الظاهراتي الذي لا يزودنا بمعرفة وضعية للأشياء فحسب، بل يبين كيف يدرك الإنسان العالم حسياً وكيف يعرفه، في بنية نصية – تمثل إدانة للحرب – تشير إلى مشهد خرابي يولّد إحساساً عارما ً بالانهيار والسقوط والموات، كل شئ يسير إلى موت حقيقي جارف، المكان تحول إلي مقبرة كبيرة :  

عيون مفتوحة الأشداق، تضحك تصرخ، وجوه منقبضة متقلّصة منتفخة العيون، تبكي تتألم، أذرع ممدودة، أصابع متشنجة، قطع من الحجارة ملوّثة بلون الدم القاني، بقايا أبواب ونوافذ ودواليب وحقائب وشظايا زجاجات وأكواب، أحذية قديمة، صحف قديمة، تواريخ قديمة، كراسات مدرسية ممزقة وثياب بهتت ألوانها ” .

ومع تعرض المدينة للدمار والتخريب ،وهجرة أبنائها قسراً – بعد هزيمة 67- إلى مختلف  ربوع مصر ،بات المكان فراغاً مجرداً مما هو إنساني ،وهنا يمارس الراوي لعبة التبديل / الإحلال ،فتظهر الكلاب – السكان الجدد – جماعات زاحفة متحركة في أرجاء المكان، وربما تعكس هذه الحيوانات دلالة رمزية أيضا، إذ إن العلاقة العضوية مع هذا العالم تعتمد على حاسة الشم التي تمثلها الكلاب :    

تنطلق أصوات الكلاب من الدروب الجانبية، أحيانا تزحف إلى الخارج فأرى رؤوسها بارزة من تقاطعات الشوارع الجانبية من الشارع الرئيسي، تتجمع حول المخابئ القديمة المهجورة، والتجاويف المحفورة في الأنقاض، تختفي بسرعة حينما تشعر بالخطر، تتشمم الهواء ثم تقترب مني، تبحث عن طعامها، وإن كنت أعلم جيدا بأن لها مخابئ سرية تحتفظ فيها ببقايا جثث لم تكتشف بعد . ” 

لا يقف السارد  عند نموذج تشكيلي واحد حيث نشهد  هذا التنوع في رؤية المكان فتنعكس حالة  القلق، العزلة، التهديد، الانفصام، الانقسام ، الباطني / الغامض والمادي/ المكشوف، بين السارد والمكان بفعل لعنة الحرب :     

أمد بصري على طول الشارع الذي أصبح قليل المنازل وقد تعرى من الظلال، فلا أجد أحداً يناديني أو يعبر بي، هياكل البيوت المنهارة تتوالى علي جانبي الشارع، مهجورة، موحشة، بداية الشارع تتفرع من الميدان الكبير الذي لا يبدو من مكاني نهايته، لا استطيع الاقتراب منها، فعند تجاوز الانحناء الاخير ربما تواجهني طلقة رصاص واحدة تلقيني كالجوال في وسط الطريق” .

 لم يقدّم الراوي وصفاً لمعارك كبيرة، إنما يصف معركة صغيرة في إشارة إلى جيوب المقاومة التي تنتشر في  أرجاء المدينة  وهي بين طرفين: الراوي المشارك وصديقاه “زكريا” و”إسماعيل”، ضد أربعة من الجنود الإسرائيليين في دهليز أحد البيوت،  ويتميز السارد بدقة الوصف وقوته وتركيزه، ويفيد من تقانة الكاميرا فكل شيء مصور أثناء الحركة، ومن مختلف الزوايا، مع تركيز نوعي على سرعة الحركة، وحالة الخوف والاضطراب وروح الفتك والافتراس التي تعتمل في صدور الشخصيات :  

في حركة واحدة قمنا من أماكننا وقفزنا عليهم، إن لم نفعل فسوف يفعلون هم، لم أعد أشعر أو أسمع إلاّ هدير الدم في عروقي، اهتزت جدران الدهليز من ثقل الأجساد المندفعة المتضاربة، من اصطدام الأيدي ببعضها البعض ومن ارتطام الحديد باللحم والعظم، اختلطت الأقدام بالأقدام، والأذرع بالأذرع، ولم تعد هناك مسافة لتمتد فيها ماسورة السلاح لتطلق الرصاص، التمعت نصال السكاكين والخناجر والسناكي، تخرج من أماكنها لتغوص ثانية من خلال الملابس في ثنايا اللحم فتصطدم بالعظم، تمتد أكف وتلتف أصابعها حول النصال فتثلمها وتنزعها بدورها مغسولة بالدم” .

كما لم يقدّم السارد  وصفاً للمعركة التي أدت إلى تدمير الدبابة الإسرائيلية، بيد أنه يشكّل لوحة مشهدية للدبابة المحترقة والجندي المقتول – في إشارة إلى تخليد ذكرى النصر الذي حقّقه أبناء السويس، وتكريس عار الهزيمة والانكسار الذي لحق بالإسرائيليين، ويمزج الوصف بين البصري والشمي (تصاعدت رائحة لحم محترق ممتزجة برائحة الملابس المحترقة) والحارة الحسية (الدم الدافئ تسرب من أسفل الدبابة):   

اختلطت رائحة الحديد المحترق برائحة كاوتش الدبابة المنفصل عن الجنزير المطروح على الأرض مع أجزاء أخرى من قطع الحديد المنصهر وقطع خشبية وحجارة وتراب، في وسط الشارع تجمعت بركة داكنة من زيت الدبابة والدم الدافئ تسرب من أسفل الدبابة، بركة داكنة لزجة، تصاعدت رائحة لحم محترق ممتزجة برائحة الملابس المحترقة، تدلى جسده من فتحة البرج يرتدي سترة داكنة ذات أزرار نحاسية، تصاعد من وراء الظهر المنحني دخان ذو رائحة ثقيلة، وسقطت الخوذة من فوق الرأس على الأرض بجوار طبنجة سوداء “

2 – رواية ” الموت يضيء المدينة ” :

 تمثل المدينة – السويس – القيمة العليا في حياة شخصيات الرواية، سواء منهم من استشهد على أرضها أو أصيب في معاركها، أو استبسل في الدفاع عنها وتحقيق النصر لها .

يصف السارد  شخصية  مصطفى قائد  منظمة سيناء العربية وأحد أبرز شهدائها  “مصطفى مهووس بالمدينة .. يعشقها .. تغنّي بالموت فوق ترابها، علّم كل تلاميذه من الفدائيين أن يموتوا وهم يقبّلون ترابها سعداء، كانت نزهة مصطفى الليلية دائما فوق صفحة القناة، منظمة سيناء هي عنوان أيامه، المقاومة وقتال العدو كانا قانون حياته ” .

 كما يجسّد السارد  مدى العشق الطاغي  للمدينة من خلال أحد أبنائها “المعلم خليفة الجزار” الذي فقد إحدى ساقيه ورغم ذلك رفض مغادرتها ” أيام حرب التراشق طارت قدم خليفة اليمين، ولم يغادر تلك المدينة اللعينة، مدينة النار والدمار، يعشقها، لم يعرف أن هناك حياة في غير تلك المدينة .. يقول روحي تخرج أهون عليّ من أن أخرج، قُطعت قدمه ورقد بالمستشفي الأميري ، … وعندما قرروا نقله لاستكمال العلاج رفض، هددهم إن أخرجوه من المدينة قتل نفسه ” .

ومع تنوع شخصيات الرواية وتباين في مستواها الاجتماعي، عباس السوداني (صاحب كشك بيع الجرائد)، خليل القهوجي ،عبد الكريم البقال، رجب الكبابجي، المعلم خليفة الجزار ، المعلم شعبان (صاحب مطعم)، سعد (ماسح الأحذية)، أحمد أفندي (موظف بالتوكيلات)، القبطان خميس، الكابتن غزالي، الشيخ سلامة، حسن (بطل الرواية)،  إلاّ أننا نجدهم علي مستوى واحد من الحماسة والوطنية تجاه قضية المقاومة والدفاع عن المدينة، وبدلاً من أن تخلق كل شخصية واقعها هي فإن المجموع العام هو الذي يخلق نفسه كنسيج حي تلقّح فيه كل خلية جارتها وتشكّلها، إن كلاً من هذه الشخصيات يصنع الأخرى دون توقف ويجمع بينهم الفضاء الخارجي للمكان وهم يتصلون بذات السارد لأنه المصدر الوحيد لعملية الإخبار عنهم .

في الوسط: الشيخ حافظ سلامة

وبرغم أن الأحداث مرتبطة بالحرب (التهجير ، حرب الاستنزاف ، وأخيرا معركة 24 أكتوبر ) إلاّ أن السارد  يعمد الى عملية تناسل ضمن متوالية حكائية سردية (حكاية داخل حكاية)، فيقدم قصة الحب بين حسن وبوليين اليونانية الأصل والسويسية لحمًا ودمًا، عباس السوداني وأمينة، المعلم خليفة والممرضة عزيزة، سعد وفهيمة ( التي يختلف الناس على حقيقة وجودها )، الحب من طرف واحد ( إبراهيم / أمينة ).

 ونلمح في فقرات عديدة التصور الخاص بالمجاز السردي وفيه يعمد الراوي الي وضع حيز بصري نفسي يتضافر مع الحيز الذي تصنعه اللغة في وصف الشخصيات، والذي يمثل إدانة عميقة للحرب والعدوان علي المدينة ” تلك الوجوه المندهشة كساها الموت، أجساد ممزقة، منكفئة، بقع من الدماء المتجلطة، عويل أطفال، هلع الرجال، صريخ النساء، الموت يمطرهم قنابل تحصد تجمعاتهم بغير رحمة ” .

 وفي الوقت الذي اتصفت به شخصيات الرواية بالصلابة والشجاعة وقوة البأس والاستماتة في الدفاع عن المدينة، يتبدى وصف السارد  للفضاء المكاني على نحو يشي بالتهدم والخراب وانسحاب الحياة من شرايين المكان ” البيوت، حطامها، بقاياها المتناثرة على جانبي الطريق، تلتوي بالتوائه، تعتدل باعتداله، خرائب ،انقاض ،أطلال ،الغبار يملأ الشوارع والاسفلت المهترئ، حفر وشظايا الحديد، أخشاب محترقة بلونها المغبر القاتم، أحجار كبيرة وصغيرة، ثمة تراب ورماد يغطي كل شئ، لا صوت غير رفيف الهواء، حفيف أوراق بالية تدحرجها رياح خفيفة، تبشير عميق بهجرة الحياة، عدمها، قلة البشر اتساع المكان على سكانه “

الخندق : 

 يرتبط  الخندق مكانياً بأحداث الحرب، وهو يتكثف دلالياً بتناقضات عديدة: إحساس خاص جداً بالزمن ،حاد ومنتبه إلى حد اللازمن – إشاعة الأمل أو الرغبة في الموت، وهو يمثل في الرواية حجرة العمليات الخاصة برجال المقاومة، كما يعد مجلسًا للنقاش والتباحث في أمور المدينة ويقدّم السارد وصفًا ماديًا للخندق والشخصيات القابعة فيه :

 ” في منتصف الخندق طاولة طويلة يغطيها مفرش أخضر، حولها عدد من المقاعد، و توجد أيضا طاولة أخرى عارية، دهان سطحها يلمع يشق عتمة المكان، النار تحت قدور المعلم شعبان متوهجة صامتة، ينعكس لهيبها فوق لمعة الطاولة العارية، يجلس وراء الطاولة الصغيرة رجل بملابسة العسكرية، وجهه صارم، وفي فوديه مشيب، جسده ينضح بالقوة، حوله رجال كثيرون، الكابتن يقف بجوار الرجل الكبير الذي يبدوا أنه قائد المجلس ” .

 وهو يشهد الخلاف بين القادة العسكريين ورجال المقاومة الشعبية من أبناء المدينة حول طريقة الدفاع عن المدينة ضد القوات الإسرائيلية القادمة، ويصف السارد  هذا الحوار بين العسكري الكبير والكابتن غزالي قائد المقاومة :

يرتفع صوت الكابتن :

  • البلد بلدنا، أكل عيشنا وولادنا، أملنا، لا مستقبل لنا غيرها، لا حياة ولا طعم للفرحة، نحن أول المدافعين، نحن الجدار الذي يحميها ..

ينظر العسكري الكبير إلى الكابتن تنفرج شفتاه عن أسنانه البيضاء :

  • ياكابتن .. البلد بلدنا كلنا .. مصر كلها هنا .. انتم مقاومة معداتكم خفيفة ، عددكم محدود ، بالنسبة للعدو اللي بيهدد بدباباته ومجنزراته ..و.. (39)

لم يعط الكابتن أي فرصة للرجل حتي يواصل كلامه ، اندفع يعترض وكأنه المسئول الأول والأخير ، يقول بصوت غاضب حازم ويشير بكفه ناحية الجالسين حول الطاولة المستطيلة :

  • قدام سيادتك عشرة رجال من قادة المقاومة ، كلهم بدون استثناء عبروا في حرب الاستنزاف وحتى قبل بدء العمليات، وبعد وقف إطلاق النار ، كلهم قتلوا وأسروا من العدو ، اندفعوا يقاتلون ويهزمون لحظة يئست مصر فيها، دفنوا إخوانا لهم سقطوا جنبهم في القتال الضاري، استشهد من استشهد وجُرح من جُرح، كلهم حملوا السلاح ساعة سقط السلاح من الجميع . (40)
كابتن غزالي

معركة النصر :

شهد هذا الفضاء المكاني (ميدان الجامع – الإسعاف  – محيط قسم الأربعين  – أمام سينما رويال)  على امتداده المعارك الطاحنة التي حدثت، والشهداء الذين تساقطوا،  والنصر العظيم الذي تحقق، تأخذ الشخصيات مواقعها أو تتحرك في ثنائيات،  إبراهيم وأحمد، عثمان وعاصم، المعلم شعبان ورجب الكبابجي، القبطان وحسن، يصف الراوي الحركة المحمومة للشخصيات بين الترقب والحذر حينًا  والإقدام والاندفاع حينا أخر ، ثمة مسح بصري للمكان، يقدم الراوي وصفا دقيقا لعمليات تدمير الدبابات والمجنزات واقتحام قسم الأربعين الذي احتمى به الجنود الإسرائيليون. فمن خلال كاميرا سينمائية يصف الراوي معركة إبراهيم مع الدبابة “يركض إبراهيم وراء الدبابة .. يتخطاها .. يندفع بأقصى سرعته، ينثني بجسده، تتقلص عضلاته، يحاول أن يتفادى محاذرا طلقات الرصاص المتناثرة حوله، يحتمي بسور السكة الحديد، تصطدم طلقة رصاص بالجدار جواره، تنفرط شظايا، أصابت شظية صدغه، أخرى استقرت في ظهر كفه اليمنى، تسيل دماؤه، لم يلتفت أو يبال بذلك، ارتكز علي ركبة واحدة فوق الأرض، مرفق يده اليمني المصابة يحاذي فخذه المنثنية، يثبت المدفع فوق كتفه اليمين بكفه اليسار، يركز عينه مخترقا عدسة المدفع، يغمض عينه الأخري اليسرى، الدبابة مندفعة داخل العدسة، ركز ، تعلم ، ومارس من قبل، أسفل منتصف الهدف، عمل حساب سرعة الريح، سرعة الدبابة، اضغط الزناد …. انطلق الصاروخ، لحظة خاطفة، وميض ،انفجرت الدبابة ،تخلخل الهواء حولها، تدور على محور مكانها، يرتخي مدفعها إلى ناحية الأرض توقف قذائفها، ارتفعت الاصوات من خلف كل ساتر : الله اكبر .. الله أكبر  ”    (52)

3 – المدينة خارج المدينة :

تصف رواية ” صباح في المخيم ” للروائية سناء فرج، عمليات التهجير القسري لأهالي السويس عقب حرب 67 ، وتعرض المدينة للقصف والدمار الشامل، وسقوط أعداد هائلة من المدنيين بين جريح وقتيل، كما تعكس هذا الانشطار النفسي الفردي / الجماعي نتيجة هذا النزوح الجبري لأبناء السويس من رحم المدينة؛ فهم يعيشون مدينتهم ؛ مدينة الطفولة والأحلام والذكريات في المنفى، ويتحسّرون عليها في الحاضر، ويتوقون إليها في المستقبل ، إنها السويس مدينة الحضور والغياب .   

يتشّيد البناء الروائي علي السرد التقليدي وتيار الوعي الذي يعتمد علي المنولوج الداخلي في عرض المحتوى الداخلي أو النفسي للشخصية، والعمليات النفسية التي تتم لديها دون الإفصاح عن ذلك على نحو كلي أو جزئي في اللحظة التي توجد فيها هذه العمليات في مستويات الوعي المختلفة قبل أن تتشكل للتعبير عنها بالكلام، كما ظهر تكنيك ” الفلاش باك ” و” المونتاج ” والعرض السريع والبطيء والقطع المفاجئ، وتتبدى الحيل الفنية للروائية في تبديل الضمائر فتارة تستخدم  ضمير الغائب، وأخرى ضمير المتكلم في عمليات السرد وهي ثنائية توازي ثنائية المكان( المخيم / المدينة ) كما تجسّد ثنائية الحضور/ الغياب .

الخروج من الديار … قبل العودة إليها

تدخل الشخصية / السارد  دائرة الذاكرة المستعادة، فتجسد مشهد الرحيل ومغادرة المدينة، عبر حركة، سريعة، مشحونة بالتوتر والغضب المكتوم، وتتبدى حالة الزحام الشديد، حيث  تتحول الشخصيات (النساء ، الأطفال) إلى أمتعة وحقائب يقذف بها من نوافذ القطار، وتكشف الشخصية عن حالة اليأس والقنوط (أغلقت نوافذ المدينة وفتحت نوافذ القطار) مقترنة بحالة الضجر والضيق والذهول التي تنتاب الجميع :   

تحاول صباح أن تتذكر، القطارات تطوي على غير قضبان؛ لكنها تتذكر هذا القطار، تتذكر كل من دخله من الأبواب والنوافذ، حملها أبوها وألقى بها من النافذة إلى داخله، دفع أمها من النافذة شأن نساء المدينة اللاتي قذف بهن من النوافذ مع الأطفال واللفائف، أغلقت نوافذ المدينة وفتحت نوافذ القطار وامتلأت، تزاحمت عليها الرؤوس واختلطت الأذرع بالسيقان والعيون زائغة ” .

يتتبع السارد  قافلة المهجّرين، ويقدم وصفًا ماديًا للمكان البديل وهي مدينة هشة (مخيمات) بلا حماية أو ستر، أو خصوصية، كما أنها تمثل اغترابًا لكينوناتهم الإنسانية (تتوالد الأشياء والأحاسيس واللغة الجديدة) :

انغرست الأرقام في مساحات عديدة لتصبح أوتادا تشد إلى الأرض خيمًا نُصّبت وتشكّلت من الداخل؛ لتسكن في كل خيمة أسرة أو مجموعة من الناس، الخيام منصوبة ومتراصة في تشكيلات خاصة، تحول المكان إلى مدينة جديدة لكنها مدينة من الخيام، مفتوحة الأبواب، وسرعان ما تعودوا على الحياة الجديدة بمسمياتها الجديدة الغريبة، ومع دوران عقارب الساعة تتوالد الأشياء والأحاسيس واللغة الجديدة التي نمت في الحواس. “

بيد أن المغتربين يتشبثون بماضيهم وذكرياتهم، هم يعيشون مدينتهم في المخيم: الأماكن، الأطعمة، الأغاني، إن هوية المكان هي هويتهم وحياة المدينة هي حيواتهم، وإن كان الحزن والأسى يشملهم جميعا :   

تحاول صباح أن تسمع الأصوات المختلطة عند المداخل، ثرثرة الذكريات البعيدة تفيض بها ألسنة الرجال يتبادلون الأحاديث عن البحر والسفن والمراكب الشراعية والأسماك، يتذكرون أنواع الأسماك، وألوان العلب المحفوظة التي كانوا يجلبونها من السفن عند الميناء .. أنواع السجائر التي دخنوها، ويتبادلونها فيما بينهم، لم تعد كل هذه الاشياء في حقائبهم التي رحلوا بها، كانت تسمع بعض الأصوات كالأغنيات فترهف سمعها،كلمات قوية تخرج من حناجرهم،أصوات يشوبها الحزن، وكانت تسمع فيها املا جائرا لكنه يخبط كأجنحة الحمام الذي يرددون اسمه في أغانيهم “

وكما أنهم لا ينعمون بالسلام الداخلي ، فهم مهددون من كل جانب، ويرصد الراوي حدثا واقعيا / رمزيا يشي باستعادة حالة العدوان / الحرب، إذ تهاجم في هدأة الليل مجموعة من الكلاب حظائرالطيور، ويصف الراوي حالة الافتراس (العض والنهش في الرقاب والبطون)، وأشلاء الضحايا (جثث الدجاج الممزقة والريش وبقع الدم) ويعيد المشهد – في ذاكرتهم الحية – أحوالهم وأحوال ذويهم من ضحايا الحرب في المدينة :   

دارت معركة رهيبة أيقظت بعض أهل المخيم، لمعت الأنياب الحادة واستمر العض والنهش في الرقاب والبطون، يتقهقهر بعضها ويهجم البعض الآخر، تتمرغ الكلاب في التراب وهي تتلوى وتنقلب، تفر بعضها بين الممرات الضيقة، تبحث عن مهرب، تجتاز بوابة المخيم الأمامية تتلاحق الكلاب الغازية في اتجاه البوابة الخلفية وتخلو ساحة المعركة من الكلاب الإ من بعض جثث الدجاج الممزقة والريش وبقع الدم” .

تتراكم مأساة شخصية البطلة ( صباح ) بين استشهاد الأب – الذي بقي في المدينة وأجبر زوجتة وابنته على الرحيل – نتيجة قصف المدينة بالطائرات واختفاء الأم في القبور بعد دفنها للزوج ،  وتعرضها – صباح –  لحادث اغتصاب في رحلة العودة بعد مراسم الدفن ..

تصف الشخصية / السارد  جثة الأب المحترقة عبر منولوج نفسي بائس مأزوم، وتتشكل صور سردية سريالية تكشف عن أزمة الوجود الانساني وبطش وقسوة الحرب، وتدخل الشخصية علي خط الإحاطة بالفضاء الاستفهامي: هل ينتسب البشر إلى الحرب أم الى الحياة :  

كان وجهه أثرًا من أنف وتجويفًا بغير عين، وشعرًا محترقًا حتى جلد الرأس … أهذا وجه أبي، أم وجه الحرب ؟ وجه الحرب بغير عينين، بغير شفتين، بغير شعر، وجه الحرب لا لون له، هل تستطيعين يا أمي ان تقولي لي : ماذا تعرفين عن وجه الحرب ؟ أخبري ابنتك صباح، هل يحمل الإنسان وجهين ؟ وجهه
الإنساني ووجها آخر للحرب ملتصقا بعظام جمجمته .” 

وإذا كانت الحرب هي تهديد صارخ للوجود الإنساني المادي والمعنوي؛ فإن الخوف هو نتاجها الخطير وطامتها الكبرى، يتسرب إلى الكيان الإنساني، يستوطن جوارحه وحواسه، أينما حلّ و أينما كان .

تنغمر الشخصية في وضع سردي مأساوي ، يتشكل الخوف في صور عديدة : شبحًا يطارها ، كسوة ترتديها ، حذاءً تنتعله ، بشراً بربريًا هو ذاته الذي اغتصبها ،ويعمل الضغط الفعلي الكبير بتشكيله الدرامي ( أمسك، تحاول، تغمض، تشعر ، تهتز، تسمع ، يعلو، يرجف، تختبئ، تحمي ،يضيق، يركض، تجري، دفع، تصرخ، تقاوم ، تتوارى، يلوثها) ،على تشكيل مجموعة من اللقطات، تكشف عن حالة الشخصية ومصيرها برهافة عالية عبر الزمن المستدعى من الذاكرة والحاضر المنكوب :   

صوتها أمسك به الخوف،تحاول أن تغمض عينيها كي تنام دون جدوى، لا تشعر بالمكان، وحيدة في خيمتها تهتز بها بين السماء والأرض، تسمع هذا الدبيب المتواصل، يعلو فوقها، تحتها، يرجف داخلها، منسية مغتربة، لوغفل عنها الألم وسكت الخوف، هل تستطيع أن تنهض وتخرج من الخيمة وتختبئ، أو تجد وسيلة تحمي بها نفسها، أو تجد مهربًا من هذا الألم، أصبح الخوف ثوبًا ترتديه، حذاء يضم قدميها، يضيق علي أصابعها، كان يركض معها في المدينة، تركها تجري وتجري، وظهر في صورة أخرى، دفع بها إلي الخندق وراح يحفر فيها وهي تقاوم، تضرب الظلام، ميز كل شئ فيها، تركها تصرخ وخرج منها وهي تتواري من نفسها وبقعة دم تلوثها .”  

بيد أن الشخصية تقرر في لحظة شوق غامر،واحتياج نفسي بالغ،و تلبية لنداء أصيل في أعماقها؛ مغادرة المخيم، وتستقل سيارة مراسل حربي،حيث تصل المدينة في لحظة العبور المنتظرة، والقوات المصرية تستعد لحرب التحرير،ومعركة الكرامة، والنصر العظيم :  

توقفت السيارة .. رأت صباح علي الجانب الآخر دبابات تطل من فتحاتها رؤوس الجنود، رأت عربات تحمل أعدادًا هائلة من الجنود ، ومدافع تجرها عربات ، وعربات مصفحة مغطاة ، كانت أفواه المدافع مشرّعة في الأفق والمطر ينهمر ، وعينا صباح مشدودتان إلى هذا المشهد ، بينما ظهر المراسل الحربي وهو يعبر الجانب الآخر ويصعد إلى السيارة ويتقدم بها ناحية المدينة ”   

 _______________________________________

الهوامش :

1 – الرواية في زمن الغضب : ممدوح القديري

2 – الرواية الفرنسية الجديدة  : نهاد التكرلي  

3 – أساليب السرد الروائي العربي : سعيد يقطين

4 – السرد والحكاية : محمد زيدان

5 – روبرت همفري ، تيار الوعي في الرواية الحديثة ، ترجمة د. محمود الربيعي

6 – رواية الرجل والموت : محمد الراوي

7- رواية الموت يضئ المدينة : علي المنجي  

8 – رواية صباح في المخيم : سناء فرج

أكمل القراءة

صن نار