تابعنا على

مِنْظ ... نار

كلام في “الكرونيك” و “الكرونيكور” …

ظاهرة “الكرونيكورات” غزت مشهدنا بقوة و شملت كل من هب و دبّ … و يعرّفنا الكاتب بهذا الشكل الصحفي النبيل، الذي صار لعبة بين الأرجل

نشرت

في

“جان كو” أحد أشهر كرونيكورات الصحافة الفرنسية

لنتّفق أولا أن “الكرونيك” أو العمود الصحفي، هي شكل من الأشكال الصحفيّة كما نقول الريبورتاج و التحقيق و الاستجواب و المقابلة…و كل شكل صحفي له  قواعد و أسس تجعل منه ذلك الشكل دون سواه ، فلا يمكن أن نكتب تعليقا و نقول أنجزنا ريبورتاجا و لا يمكن أن نجري استجوابا و نقول قمنا بتحقيق، كذلك الأمر بالنسبة إلى الكرونيك فلها قواعد و أسس و أسلوب كتابة تميّزها عن بقيّة الاشكال الصحفيّة… و لنتّفق ثانيا أن الكرونيكور هو بالأساس و مبدئيّا صحفيّ، مهمّته الكتابة الصحفيّة و يمكن أيضا أن يكون شخصا قادرا على الكتابة و الإجادة فيها … و بالتالي، لا يمكن أن تكون المسألة ضمن (حكّ راسك ولّي كرونيكور)ǃ

مولدي الهمامي Hamammi Mouldi
مولدي الهمّامي

و لنتّفق ثالثا أن الكرونيك هي نصّ مكتوب سواء تعلّق الأمر بالصحف أو بوسائل الإعلام المسموعة و المرئيّة، و ليست كلاما مرتجلا أو وليد اللحظة و الظرف … قد يكون ذلك، فالارتجال فنّ  و قدرة فائقة على التعبير مباشرة في حديث مسترسل و مفهوم لكنّه ليس بالكرونيك من الناحية التقنية و الشكلية… و لنتّفق رابعا أن الكرونيك ليست شكلا صحفيا جديدا أو مستحدثا و كذلك الكرونيكور فكلاهما وجد مع ظهور الصحافة المكتوبة. و العبارة مشتقّة من كلمة kronos  وهو إله الزمن عند الإغريق و منها عبارات مثل chronologie و chronomètre… فالكرونيكور هو الذي يكتب عن الأحداث اليوميّة ذات علاقة بزمن محّدد و ينتهي دورها بمرور ذلك الزمن.

نأتي الآن إلى تعريف الكلمة و أفضّل عدم تغييرها أو محاولة إيجاد الترجمة العربيّة المناسبة لها، فهي من المصطلحات التي رسخت في الأذهان بشكلها المتداول و المنطوق المعهود … لكن بقليل من البحث وجدت أن الكرونيك يقابلها تقريبا في الصحافة المكتوبة العمود الصحفي و أنّ الكرونيكور هو كاتب العمود (   column – columnist ).و كذلك قد تعني كذلك مقال الرأي ، و هي مساحة حرّة تعبّر فقط عن وجهة نظر صاحبها و لا تعكس بالضرورة الخط التحريري لوسيلة الإعلام … و هي على رأي عميد الأدب العربي طه حسين الذي تخصص في فترة ما من حياته (منتصف العشرينات من القرن الماضي) بكتابة مقال العمود من الجنس الأدبي مرّة في الأسبوع و لسنوات عديدة في اليوميّة المصرية “السياسة ” في مرحلة أولى ثم في صحف أخرى في مرحلة ثانية في فترة الثلاثينات …

عنوان العمود الذي كان ينشره كل أربعاء “حديث الأربعاء ” (اقتداء بـ “أحاديث الإثنين” للناقد الفرنسي سانت بوف)، و هي كتابات أثارت جدلا كبيرا وقتها و جُمعت فيما بعد في كتاب شيّق من أجزاء يحمل ذات العنوان … يقول طه حسين “مقال العمود يحقق الصلة بين الشعب و حياته الواقعة العامة “ و يعلّق المفكّر و الكاتب الكبير المصري جابر عصفور على تلك المقالات بقول يكاد يلخّص فيه فنّ كتابة الكرونيك، إذ ذكر في مقال له بجريدة البيان الإماراتيّة لسنة 1998 ” و تمضي الاحاديث ما بين التصريح و التلميح، الحقيقة و المجاز، التاريخ و القص”.

و انطلاقا من هذا الكلام فإنّ السؤال الذي يطرح هنا ماذا نكتب و كيف نكتب؟… هناك اتفاق لدى أهل الإختصاص ممن تحدّثوا عن الموضوع  أنّ الكرونيك  تتكوّن من ثلاثة عناصر: أولها الخبر الحقيقي الذي حدث و ليس خبرا من نسج الخيال، و ثانيا أسلوب كتابة يحتوي على عناصر انفعاليّة جادّة و تلقائيّة يفرضها الموضوع و تسلسل الافكار و ليست مصطنعة مثل السخرية و الإعجاب والنقد الشديد إلخ، و العنصر الثالث هو الذاتية أي أنّ ما يأتي في نص الكرونيك هو شخصي و يعبّر عن رأي صاحبه فقط و عن تجربته الخاصة ارتباطا بالحدث و موضوعه …

على هذا الأساس و بما أن الأمر يتعلق بإبداء الرأي في علاقة بالمتلقّي، فإن ذلك الرأي يجب أن يكون صادقا و نابعا من قناعات إيجابيّة و اطلاع متخصص ينفع النّاس و يزيد من بصيرة عقولهم و يضع أمامهم الواقع كما لم يشاهدوه من قبل … دون “روتوش ” بلغة سلسة و سهلة و نافذة إلى الأحاسيس، تحرّكها و تثير مكامنها و تدفعها إلى ردّة الفعل بالقبول أو الرفض، و تطرح أفكارا تشرح، و توضّح، و تبيّن، و تحلّل، و تعلّق بأسلوب صارم أو ساخر، أو ناصح ، يمدح حين وجب المدح و  يوبّخ حين يجب التوبيخ ، و تعاتب و تُعلم و تعلّم و لا خوف في ذلك من لومة اللائم ، ما دام الصدق هو الأساس، و التبصير و الإصلاح هو المبتغى … فالكرونيك هي في تقديري كل هذا، هي فنّ لا بدّ من إتقانه و ملكة تكتسب و لا تهدى و هي بالتالي صعبة الإدراك …

الكاتب الفرنسي الكبير غي دي موباسان Guy de Maupassant و كما عميد الأدب العربي كتب مقال العمود في صحف فرنسيّة كثيرة و تحدّث عن هذا الفن بقول أحاول أن أكون أمينا في ترجمته:  “يجب على الكرونيكور أن يكون دائما الأفضل لدى القرّاء  و يسعى لنيل إعجابهم أو إقناعهم….. و إنّه من الصعب على محرّر صحيفة كبرى أن يجد كاتب عمود، كما هو الحال بالنسبة للناشر في أن يعثر على روائي “

أكمل القراءة
3 تعليقات

3 Comments

  1. aziz.chebab@gmail.com

    30 ديسمبر 2020 في 14:54

    أنر ت وأجزت والشيء من مأتاه لا يستغرب فقد مللنا الكرونيكات وقد نحذف منهم الميكرو الأحرى أو الكرو وهنا ما يتبقى هو الموجود فعلا في أغلب وسائل الإتصال السمعي والبصري .

  2. مراد

    30 ديسمبر 2020 في 17:13

    شكرا سي المولدي على الإفادة، وهذا ما يذهب في اعتقاد العارفين بأدوات وتقنيّات العمل الصّحفي حتّى وإن لم أكن صحفيّا. فهذا الّذي يظهر علينا في كلّ مكان ويدّعي أنّه كرونيكور فقط يوهمنا أن نعتقد بالمقولة الشّعبيّة( معيز ولو طارو ).. دعهم يكرنكون سي المولدي فإنّ زمن الكرنكة آيل إلى سقوط يوم يسقط السّاقطون. وأمّا متى؟؟ فالله أعلم… مع أجمل تحيّاتي سي المولدي..

  3. سليم بن الشيخ

    30 ديسمبر 2020 في 18:03

    تحليل رائع ورائق

اترك تعليقا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مِنْظ ... نار

عندما يعتذر مجرم سفّاح … من يصدّقه؟

نشرت

في

النصب التذكاري لضحايا الإبادة الألمانية في ناميبيا

يعرف العالم الغربي عندنا بأنّه عالم متقدّم ينعم بالديمقراطيّة وبالرفاه ويحقق نسب نموّ عالية، ويعود الفضل إليه في الكثير من الاختراعات والإنجازات التي استفادت منها البشرية جمعاء،

مولدي الهمامي Hamammi Mouldi
مولدي الهمامي

وهو قبلة لكل الباحثين عن حياة أفضل، ولكلّ الهاربين من الفقر والظلم والقهر، ويجازف الآلاف بأرواحهم من أجل الوصول إليه، ويسافر إليه الآلاف من شباب العالم النامي لمواصلة دراساتهم العليا في جامعاته العريقة، وهو في الأغلب سفر بتذكرة ذهاب فقط ، إذ هم محط أنظار الشركات والمؤسّسات هناك للإستفادة من علمهم ونبوغهم… كما يسافر إلى الغرب الأثرياء والرؤساء والملوك للتداوي في مستشفياته ومصحّاته التي تتوفّر فيها أحدث تكنولوجيا الفحص والتشخيص والعلاج…

في الغرب، الشوارع نظيفة وواسعة ووسائل النقل بأنواعها توضع على ذمّة المواطنين، وتكثر المنتزهات والملاهي والمقاهي ودور السينما والمسارح، ويزدهر النشر وطباعة الكتب والمجلات والصحف، وفي الغرب القانون يسري على الجميع، والجميع يحترم القانون ، هذا هو الغرب الذي نعرف والذي نتخيّله وتلك هي الصورة التي نراها في التلفزات عن الغرب…لكن توجد صورة أخرى وراء الستار فيها من البشاعة ما لا يوصف إنّها صورة الغرب المتوحّش الذي مازال يرزح تحت ذلك الإرث الثقيل والثقيل جدّا إذ لا يستوعبه العقل البشري ولا يرى له سببا…

منذ أيام وفي حركة مفاجئة لأغلبنا تقدّمت ألمانيا الديمقراطية باعتذار رسمي إلى دولة ناميبيا عن الإبادة الجماعية التي نفّذها جنودها فيما بين سنوات 1904 و1908 والتي راح ضحيّتها قرابة 65 ألفا من قبيلة هيريرو وعشرة آلاف من قبيلة ناما وتسلّمت وبالمناسبة دولة ناميبيا جماجم لعدد من ضحايا تلك الإبادة كان الالمان يحتفظون بها في متاحف خاصّة.

وبعيدا عن التسوية التي جرت بين ألمانيا وناميبيا حول هذا الملف فإن الرئيس الفرنسي بدوره وفي حركة مفاجئة هو الآخر أقرّ بمسؤوليّة فرنسا عن الإبادة الجماعية، التي حدثت ضد قبيلة التوتسي سنة 1994.”.ليضيف خلال زيارته إلى رواندا إنّ فرنسا وإن لم يكن لها دور مباشر في عمليّة الإبادة  إلاّ انّها وقفت إلى جانب نظام قاتل وإجرامي في رواندا.. نحن كلنا تخلينا عن مئات الآلاف من الضحايا وتركناهم فريسة لهذه الدائرة الجهنمية”.

ويبدو أن التطهير العرقي وعمليات الإبادة والقتل الجماعي هي ممارسات أوجدها الغرب لبسط سيطرته بصفة كلّية على بلدان دخلها بقوّة السلاح وقهر أهلها من منطلقات عنصرية واستعمارية بحتة…لقد فعلت فرنسا ما فعلت في الجزائر الشقيقة وفي تونس والمغرب، وفي كل البلدان التي استعمرتها إذ عاثت فيها قتلا وترهيبا وجنّدت شبابها عنوة للقتال ضد أعدائها في حروب لم يختاروها وليس لهم بها أي علاقة ، ونهبت خيراتها وبنت مجدها عل كاهل مستعمراتها.

وكذلك فعلت كل البلدان الإستعمارية دون استثناء مثل هولندا وبلجيكا وغيرها، فبريطانيا العظمى حتى وهي تغادر الهند في أواخر الأربعينات من القرن الماضي عمل رئيس وزرائها تشرشل من خلال عملية رسم الحدود على تمزيق وحدة السكان والأراضي وقد جسّد فيلم ” آخر نائب للملك في الهند “ للمخرجة الهندية غورندر شادها الذي أنجز سنة 2017 تلك الحقبة المأساويّة بحرفيّة عالية،

ثمّ لا ننسى إبادة الهنود الحمر أي السكان الأصليين لأمريكا على أيدي البيض الذين سكنوها غصبا، واختطاف الآلاف من الأفارقة  وتسخيرهم كعبيد للعمل في حقول القطن بالجنوب الأمريكي، وكذلك ما جرى في دولة جنوب إفريقيا من ميز عنصري وتنكيل بالسكان الأصليين…  

 هذا الغرب الرسمي الذي بدأ يوزّع اعتذاراته هنا وهناك نجده في المقابل لم يشعر بأي حرج وهو يتحدّث عن أحقيّة الكيان الصهيوني في “الدفاع عن نفسه” ، ولم يجد أي حرج وهو الذي لعب دورا رئيسيا في أصل هذه المأساة من خلال إعطائه لمن لا يستحق ما لا يملك في الإصداع بقول الحق، وغابت عنه الكلمات لإدانة الإبادة الجماعية المتواصلة في حق الشعب الفلسطيني انطلاقا من ذات الدواعي التوسّعيّة الإستعمارية…

ومازلت شعوب عديدة في العالم تنتظر اعتذارا رسميا من الدول المستعمرة قد يساهم في التخفيف من وطأة الماضي الثقيل.. وما الذي يمنع هذا الغرب الذي مازال يدّعي أنّه يعلّمنا أسس الديمقراطية ويدرّسنا مواد حقوق الإنسان من الإعتذار ويكتب صفحة جديدة في التاريخ البشري تعيد شيئا من التوازن إلى العلاقات بين الدول.

أكمل القراءة

مِنْظ ... نار

وطني الذي لم أعد أعرف

نشرت

في

نظرت في كل الاتجاهات وسرت عبر دروب عديدة وامتطيت الهضاب وأسطح البنايات الشاهقة وأعالي الأشجار وتنقّلت بين سائر المدن والقرى والمساكن المتناثرة هنا وهناك، ومشيت في الحقول والوديان وركبت السيارات والحافلات ووسائل النقل بأنواعها وبحثت في كل الثنايا.

مولدي الهمامي Hamammi Mouldi
مولدي الهمامي

لم أعد أعرف أمكنة ألفتها حتى صارت هي أنا وأنا هي ولم أتبيّن الوجوه التي تملؤ ذاكرتي بحبّها للحياة وللعمل والبذل، فأين أنت يا وطني الذي أعرف..أين أنت يا وطني الذي ملأت كياني منذ زمن حليب أمي، أين أنت يا وطني الذي علّمتني كيف تعشق الأوطان بنسائمك وأمطارك وسحبك، بشواطئك وبحارك ووديانك، بأناسك الطيّبين هم الجود والكرم الذين حرثوا أرضك وزرعوها بعد أن نزعها الأجداد بالعزم والفداء من المستعمر الغاشم،

أين أنت يا وطني بأعراسك ومواسم أفراحك التي لا تنتهي، أين أنت يا وطنا الطبيعة فيه هبة من الله جعلت فصولنا أربعة، وفي كل فصل تجود الأرض بخيراتها فأين صيفك الذي هو الحياة وفرحتها والسماء وصفاؤها ، والشواطئ وزرقتها ، والسهرات وبهجتها ، أين صيفك يا وطني الذي تفوح منه رائحة السنابل وهي تحصد، والفاكهة وهي تطيب وتقطف، أين خريفك يا وطني خريف السواعد وهي تحرث وتزرع قوت أبنائك.

أين شتاؤك يا وطنا بسحبه وأمطاره والليالي البيض والليالي السود اللّي ينبت فيها كل عود وربيعك الذي كان يكسو أرضك يا وطني بالأقحوان والزهور وشقائق النعمان…

أين أنت يا وطني الذي لفّني في رايته الحمراء وجعل همّتي تسكن مع الأهلّة والنجوم…

أين مدرستي ومعهدي وجامعتي وأساتذتي وأقراني وزملائي … دماء الحياة في شرايينك يا وطني

أين طبرقة بمرجانها ، و نابل بأسواقها وفخارها ،والحمامات بمنتجعها ،وسوسة حيث البحر يعانق زرقة السماء، وصفاقس وزيتها وزيتونها، وقابس ورمّانها وبهاء حنائها، وجربة التي افتتن بها أوليس، وتطاوين وقصورها البربرية، أين واحات في الجريد وقفصة وقبلي معجزة الحياة في قلب الصحراء، أين القيروان وسجّادها، و تستور و مالوفها وجنانها، أين سهول جندوبة وسليانة ومرتفعات الكاف وبحيرتها، وسباسب القصرين وغلة سيدي بوزيد ، أين رائحة الفل والياسمين التي تفوح من مساكننا ومن قلوبنا، أين لياليك الزاهية،  أين أعيادك التي ترفع فيها راياتك لتعانق أشعة الشمس وترفرف في الأفق على مدى البصر، أين أعيادك التي بها نفرح   وأطفالنا …

 لقد أصبحنا يا وطني قطّاع طرق، ومنافقين في حبّك، ونمعن في ذلك ، وبتنا جرادا يأتي على الأخضر واليابس، ونأكل بعضنا وننهش، لقد فصلناك عن أجسادنا فتحوّلت إلى صحراء تتسوّل الماء وأرضا لا تنتج ، ووجها حزينا  حفرته التجاعيد هي أخاديد الفقر والأمراض، وجسدا أنهكته العلل والسنوات العجاف.. جعلناك يا وطني كما وصف أديبنا الكبير محمود المسعدي منحدرا لجبل أخشب غليظ حزيز نباته كالإبر، أرضه ظمأى و سماؤه صفراء و غباره كثيف.

فأين أجدك حتى أسألك كيف الاعتذار يا وطني …؟؟

أكمل القراءة

مِنْظ ... نار

ومن المقامات ما لم يكتبه الهمذاني ولا الحريري!

نشرت

في

حدّثنا أحدهم قال…”كناّ مجموعة من التجّار على رأس قافلة بالسلع حافلة، أدركنا المساء ونحن في قلب الصحراء، فقرّرنا الإستراحة عند مشارف واحة وأنخنا الجمال ووضعنا عنها الأحمال ونصبنا الخيام وأعددنا من الطعام ما حضر وستر وبينما نحن نتسامر وندخّن بعض السجائر، سمعنا صوت خيول قادمة من بعيد وهي تقترب وصهيلها يزيد …

مولدي الهمامي Hamammi Mouldi
مولدي الهمامي

فقمنا على عجل نستجلي الخبر، فإذا بكوكبة من الفرسان كأنّهم من نسل الشيطان، وقد استلّوا سيوفهم وهم يصيحون ويرعدون ويزبدون ، فانتابنا خوف شديد وسلّمنا الأمر للحميد المجيد ، فأحاطوا بنا من كل الزوايا وأغلقوا كل الثنايا، فتقدّم زعيمهم هو يفرك العنينين كأنّه لم ينم ملء الجفنين، وصاح ماذا تفعلون ومن أين أنتم آتون ؟؟ فقال أحدنا وأنتم من أنتم ؟؟ قال نحن المهرّبون، فقال صاحبنا وماذا تريدون بالله عليكم فالرفاق حائرون ونحن تجار صغار لا علاقة لنا بالتهريب لا من بعيد ولا من قريب،

“ثم ماذا تهرّبون نخشى أن تكون الممنوعات فيلحقنا الأذى ونحن أبرياء فقال لا تخافوا وضحك ضحكة صفراء وأمر أصحابه بالنزول وفكّ الأحمال عن البغال و الخيول ثم قال هل عندكم طعام  قلنا نعم شيئا من الخبز والزيتون فقال يا لها من عيشة المغبون، وبعد زمن قصير انصرف الجمعان كلّ إلى مكانه لأخذ قسط من الراحة، وأفقنا فجرا فلم نر للجماعة أثرا…فاعددنا العدّة للرحيل، وانطلقنا نحثّ الخطى ونقصّر الطريق بالغناء والإبل تجيبنا بالرغاء، حتى بلغنا ظهرا المدينة، فاستوقفنا العسس عند القنطرة وطلبوا منّا جوازات المرور حتى نتمكّن من العبور، وفرضوا علينا تنبري بدينار وضرورة الإستظهار بالبي سي آر…

فأخرجنا الوثائق  من بين الأحمال بصعوبة وكانت كلّها مضروبة…وبعد زمن قصير دخلنا سوق المدينة وبدت لنا كئيبة حزينة ، وفرشنا البضاعة وبقينا على تلك الحال ساعة أو بعض الساعة …وفجأة سمعنا جلبة ناحية السوق وعرك ومعروك ورأينا الناس في هيجان كأنّهم حجارة بركان يفرّون من المكان كأنّ بهم مسّ من الجان فسألنا أحدهم فقال لنا اهربوا إلى فجّ بعيد إنّه الكوفيد، وإذا برجل أحاط  به رجال الحماية وأدخلوه أقرب بناية وبقينا نحن في أمكنتنا متسمّرين منتظرين تطوّر الأحداث ، ولبسنا الكمّامات، وتركنا بين بعضنا مسافات، ثم كثر الهرج والمرج وهاجت الخلايق وماجت وتحوّلت السوق إلى حلبة نزاع وصراع واختلط الحابل بالنابل وتناثرت الخضر والغلال والأقفاف والسلال، والفراخ  تقاقي بين السواقي، والديكة تصيح في مهبّ الرّيح ،

كانت الخراف  تهرول هنا وهناك كأنّها جزء من العراك ، وحمار ينهق ورجل يشهق ما يلحق، وآخر إذا ما طلّع ساق فالأخرى تغرق، والمشهد  كلّه يمكن وصفه بالسريالي فكأنّه لوحة لسلفادور دالي، فقرّرنا الرحيل في الآن قبل فوات الأوان، لكن الفضول كان أكبر منّا، وأردنا معرفة ماذا يجري حتّى ندري ما لا ندري، وكلّما مرّ بجانبنا أحد بادرناه بالسؤال عن الحال لكن لا أحد يعرف السبب حتى يبطل العجب، وبينما نحن في حيرة وغصرة أقبل علينا أحد المهرّبين وقد ألفنا وألفناه ورمى علينا الصحبة وبها رميناه وألقى التحيّة في الحين وقال ألا تعلمون  ماذا يحدث…

فقلت بالله عليك أسرع فأنا أعاني بسبب شدّة العطش من الشهّيقة، قال وما الشهيقة ، قلت هي تعرف عندكم  بالفوّاقة، فقال لا تعجبوا إنّها الفوضى الخلاقة، ثم ضحك حتى بانت أسنانه وطلع لسانه، وانصرف وانصرفنا .

أكمل القراءة

صن نار