تابعنا على

سرديار

ماتريوشكا من أسـوان

نشرت

في

فتحي سليمان

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

……….. يا إلهي… هي !!
فتاة المكتبة ..صاحبة الثوب الوردي, الخجولة صاحبة لغة الأصابع.

قبل أن اسألها بعيوني وأصابعي التي تركت ربطة الكتب تنزلق الى رصيف المحطة عما تفعله في أسوان, نفثت بفمها الرقيق بخارًا على الزجاج ورسمت علامة استفهــــام ؟!

و بينما كنت في طريقي لها وسط نهر العودة المُحمّل بالسلال والأقفاص والمتجه ناحية نور باب الخروج, ارتدّت هي مرعوبة إثر ظهور صاحب الصوت الخشن…

تابعت حامل الحقائب قبل أن يغيب عني في الزحام, وتاهت فتاة السؤال وسط عشرات الفساتين الوردية والإيشاربات المنقوشة بالألوان.

كان الرصيف يعُج بعائلات كاملة من أمهات وأولاد وبنات وخارج المحطة وقفت باصات لنقلهم للمدينة الجديدة التي بنيت لتستقبل الخبراء السوفييت..

لم تعتد “أسوان” على استقبال مثل هذه الأعداد الغفيرة من أبناء المحافظات الشمالية, صعايدة و بحاروة و سواحلية , حتى الغجر امتلأت بهم مقاهي البلد.

كل دكتين خشب وبجوارهم موقد جاز أصبحوا مقهى , كل ضلّة تحت شجرة كافور صارت استراحة!

مهندسون وعمال من جميع التخصصات, وخصوصًا العمال كان كل المطلوب فقط الصحة والقدرة على العمل.

“أيوب”  قال إنه كان بياع عرقسوس و “النبوي” كان بياع “ندّاغـــة” في الحطابة, وعندما سألوه ما هي الندّاغة؟
صاح فيهم :حلاوة.. حلاوة يا ناس..

خلية نحل في شمس النهار, الشمس التي اكتشف أهل “أسوان” أنها لا تشبه الشمس التي تشرق على بقية المحافظات.
المهندس “كمال” الإسماعيلاوي وقع من طوله بضربة شمس و الشيف “حمادة اسكالوب” ابن “قها” أصابته بتسلخات جعلته يمشي كالبطة يوم صباحيتها, و”عايدة أبادير” مذيعة صوت العرب حلفت بالمسيح الحي أنها لن تجري لقاءات في نهار أسوان حتى لو كانت مع الريّس نفسه.

أشار مدير النادي الى كارافان خشبي وقال:
هناك سيعطونك يونيفورم للعمل ومن الغد تبدأ وردية العمل في تمام السابعة حليق الذقن وبحذاء يلمع.

دفعتُ بابًا و ناديت…بحثّت في الغرفة بين كراتين مغلقة وطاولة كبيرة ودولاب من الصاج ! أبقيت الباب مفتوحًا بيميني وأعدتُ النداء, وإذا بأصابع رقيقة تربُت على كتفي…

لم أسمع صوت خطواتها وهي تقترب ناحيتي , كانت ترتدي حذاءً رياضيًا خفيفًا و مريول أبيض بأزرار ينتهي عند رقبة بلون الفل, وعينين رأيتُ فيهما وجهي مندهشًا وفرحان…..

  • أين أنتِ يا فتاة المكتبة وسؤال البخار؟
    بحثتُ عنك في كل أماكن تواجد السياح في المدينة !
    أشارت إلى صدرها وقالت :
    أولجـــا….أنا أولجــا
    ثم أراحت إصبعها على صدري, فرفعت كف يدها نحو شفاهي وهمست:
  • حسن… لكل إصبع همست .. حسن حتى ضحكت وقالت:

لم أستطع منع نفسي من الخبط على الزجاج عندما تأكدت أنه أنت الواقف على الرصيف!

قبل ذلك كنت أظن أن الصدف الثلاث في نفس اليوم لا تحدث كثيرًا

ساعدتها في لصق حروف كلمة “عيادة” على باب الغرفة وذهبت إلى مخزن الملابس المجاور…
في ثوان كنا عرفنا كل شيء عن بعضنا البعض في إنجليزية بسيطة منها وبكلمات مغلوطة النطق من روسية تعلمتها عن طريق كتاب السور…..

شجرة البامبوزيا التي ترقـُد على ضفة النهر أمام منزلنا وتُلقي ببعض ثمارها في الماء, تعتبرها والدتي سر حلاوته!
وجاراتها من نســاء المضيق النوبيات يَزدْنَ على ذلك بإلقاء بعض حبّات كعك العيد في النيل !

النيـــل …أول ماء يلمس جسد الأسواني بعد ماء المشيمة, وأول رشفة ماء في يوم التعميد وشكر السماء على ميلاد جديد.
أجمل ما في نهـــار أسوان أن الإنسان له خيــال يشبهه, يطولُ أحيانًا  ويقصر, يتبعُه أو يمشي أمامه ..يشعر بالونس معه كرفيق.
وفي ليل أسوان تهبُط أشعة القمر لتستحم في مياه النيل, كآلهة من نور يراهم الجالسون على الكورنيش فيتحول كلامهم إلى همس.

كان اليوم لا يُحسب يومًا بغير رؤياها, ولم تعُــد أيام الجمع تكفي.

أحبتها كل شوارع المدينة وناسها حتى النيل كان يرقُص فرحًا
حين يلمح زهور فساتينها تقترب من سور الكورنيش. ويتندم على أيام فيضانه.

عم “عبد السميع” المراكبي كان يـُلوّح لها بعمامته البيضاء ويغني
ونحن جالسان على ضفة النهر, نلقي بفتات الخبز للأسمــاك ونُطعــم طيور الشمـــال المهاجرة لدفء الشمس حبــّات الـــذرة الصفــراء….

طُرقات النادي الهادئة في نهار العمل صارت أماكن لقاءاتنا اليومية,قطع الحلاوة الطحينية التي تعشقها “أولجا” كانت أحب هداياى لقلبها.
في يوم سألتني وهي تبتسم :
 – حقيقي يا حسن الفراعنة كانوا يقبلون نسائهم بحك الأنف؟!

إقتربتُ……
هكــذا …
ومن فوق ينبوع بخار ساخن طــَلّت عينان بهما محيط أزرق عريض ومحـــّار مُلوّن وطيور ظَـلّت ترفرف بأجنحتها مع رموش عينيها ………..

(فصل من رواية)

أكمل القراءة
انقر للتعليق

اترك تعليقا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

سرديار

الأرخبيل

نشرت

في

أفكار غريبة و ذكريات مشوشة تطرق رأسي اليوم، في الكلية، اتجهت فورا إلى مكتبة الفرنسية. كانت ريم منكبة على كتاب ضخم تفلي سطوره سطرا سطرا.

يوسف رزوقة

كان وجهي أصفر كالزعفران، و لم أكن بقادر على الانشراح مهما حاولني الزملاء ..

تقدمت نحو ريم خطوات، ثم عدلت عن إحراجها و إخراجها من دائرة التركيز ..

و يبدو أنها لاحظتني أتوجه إليها، فألقت ما بين يديها و لحقت بي:

ـ عبد الحميد، كنت تنوي الجلوس إليّ بلا شك؟.

* و لكن …

ـ لا عليك، تعال …

تسكعنا معا في معابر الكلية (و على رأسينا الطير).

ـ قال: لقد جاءني خبر سار من سويلمي مساء أمس.

* قلت: ماذا تقولين؟.

ـ قالت: اقرأ ..

و أخرجت من جيب فستانها المزهر ورقة صغيرة بحجم الكف تماما، أكاد لا أصدق … ارتبكت عيناي فلم أعد أتبين الحروف …

(سأعود يا ريم قريبا … سأمكث فيك يوما واحدا، ننتقل إثره إلى تهديم الخرائب و بناء العش الذي راودنا في الحلم.

لقد أصبحت فعلا غنيا على الرغم من ضيق ذات اليدين. لكن، إن أكن قررت أن أبقى فقيرا، فلأن الفقر مأوانا أخيرا …)

تملكني سهوم و انخذال … تكلفت الانشراح أمام ريم و باركت عودة سويلمي بعد كل ذلك الغياب …

*   *

انقضت أيام قليلة وجدتني إثرها أعود إلى قريتي … كانت لحيتي دغلا كثيفا و وجهي مكفهرا.

و كانت قريتي غارقة في اللامبالاة حتى الذقن … كل الأمور تسير على علاتها. لا حزن بحجم الحلم يدق الأبواب بالعنف الضروري. و لا هم، غير تسقط الأخبار الوهمية و تلفيق الحكايات التافهة.

كل مساء، تنتشر الغرانيق السود فوق القرية، و تبذر قفيزا و قفيزا من النعيق الفاسد، إلى أن ألفت القرية هذا النعيق و بات جزءا من نشيدها اليومي، لم تزده الأيام إلا تمكنا بالأعصاب و القلب …

عندما حللت، استقبحوا وجهي و رجموني بالنظرات المعوجة، الوقحة … صرخت فيهم بكل ما أوتيت من شجاعة:

كلكم كلاب لا تستحقون الذكر ! كلكم أجياف تسترون نور الشمس بالغربال. هذه الأرض تلعنكم و أجداد أجداد أجدادكم … النعاس دائما و القمار دائما و النفاق و الموت !!!

نهرني جدّي: عيب هذا يا عبد الحميد ! هل جننت؟ و أهوى أبي بكفه الغليظة على خدي: أنت عاق ! أفسدتك كتب الفلسفة و السحر … أنت لست من صلبي، أنت ملقوط … و تهامس عدد من الفلاحين الشيوخ: لقد جن ! في حين وقف بعض الشبان الشداد يحملقون في وجهي و على وجوههم سحابة همّ مدلهمة.

*  قال بوزيان: سبحان الله، لكأنه سويلمي في أيامه الأخيرة !

* و قال عيفة البرادعي: كلاهما نحس على القرية …

* و قال الزبيبي بوشيحة: هل عرفتم الآن، لماذا حبس الله عنا الغيث النافع ؟؟

* و قال شعيب السعفي: كانت القرية مطمئنة، هادئة، ثم جاء هذا الحطيط فشوّشها بكراع كلب …

*    *

و دبت قطيعة بين الآباء و الأبناء. تسللت روائح الكآبة إلى المنازل عبر شقوق الأبواب القديمة و النوافذ المغلقة. و عاذت رية بالصلاة و البكاء و هي تلطم خديها و تندب حظها، و انسحبت الغرانيق السود فجأة …

و كان ليل طويل و ثقيل كالحيرة.

الريح تحتحت نبق السدر المصهود بالشمس و تصهل:

ـ ماذا يمكن أن تقول الريح في مثل هذا الامتداد الموحش؟

أسأل محبس الحبق المركوز منذ عهد بعيد على حافة الشباك الموصد دائما:

ـ هل كان موت فاحش، ذات ظلام موحل، في هذا البيت المغلق على روائح مختلفة؟

ظلام الليل يتساقط عذقا، عذقا، و زغاريد الريح تعلن عن ريحة موت قديم تزيح الرماد عن جثة مشروخة لشيخ حيّ.

لأكن أجلس إلى وجهي و معي وجه من تنكرت لي قهرا و على حسن ظن …

و ليكن نعيق بومي قاحلا، أكنّ له حقدا دفينا.

و ليكن نباح غليظ الشفرة، يذبح دابر الكساد.

و ليكن والدي، بأغصانه اللائثة، يحاول أمّي على الدكة و أمي تتحول عنه، و بيننا حائط شفاف كجناح ذبابة حنطها الموت …

و لأكن ألعن هذا الصمت و أشمئز من قط رمادي يتبوّل في إحدى زوايا البيت …

المخزون النفطي يتضاءل فيتضاءل ضوء القنديل، و ينفجر الفجر: شهيا كالتفاح … و تفيق القرية على دهشة الشبان و همسات الشيوخ: ـ إنه سويلمي يعود، و معه فتاة سمراء ! …

أكمل القراءة

سرديار

شاي بلبن على سطوح في الزمالك

نشرت

في

… كلما جاء الشتاء،

تذكرتُ أصابع “قدرية”و هي تنام كالعصفور بين راحتيّ، كان البرد يصل لأطرافها متعمدًا وكانت توافقه.. بل كانت تشجعه لتتسلل أصابعها البيضاء لجيوب بنطلوناتي الدافئة..في الطريق من وإلى المدرسة تحت ظلال أشجار البانسيه المبلولة بماء المطر.نظلُّ نخبطُ برفقٍ بين أيدينا، ونتبادل الأماكن حتى تدفأ أصابعها الشمعية ويعود اللون الأحمر لعروقها الزرقاء.

رواية:
فتحي سليمان

قدرية”أو “أودري” كما كانت تدعوها جدتها “قوت هانم” نسخة ممصرة من “أودري هيبورن”.. الأنف الدقيق.. خصلات الشعر السوداء الغزيرة.. الرموش الطويلة التي تنام في مخدع جفن يصلح كبرواز جميل لعيون أجمل.

لوحةُ لفنانٍ لم يبخلْ عليها بأنابيبِ ألوانِه، وشفاه استنفدت اللون الأحمر كله؛
 تيمنًا بالأميرة “قدرية”ابنة السلطانة “ملك جشم”والسلطان “حسين كامل”جاءت فتاتي باسم من العصر الخديوي في زمن الجمهورية الأولى بعد ثورة يوليو 1952.

الجد كان ياورًا للعائلة العلوية، والجدة كانت وصيفة الأميرة “سميحة” في قصرها الذي تحوّل إلى مكتبة القاهرة الكبرى بالزمالك، على بُعد خطوات من الأرض الفضاء التي شيّد عليها ابنهما “شوكت” عمارتين الواحدة خلف الأخرى وبينهما حديقة تحولت إلى جراچ عندما كثرت السيارات.

كلمة “جزيرة”بمعنى الأرض التي تحدّها المياه من كل جانب حسب التعريف الجغرافي.. لا ينطبق في مخيلتي على الزمالك فالكباري وقُصر المسافة بين منزلنا، وحي بولاق وميدان التحرير من ناحية والكيت كات من الناحية الأخرى لا تدعم هذا التعريف .لكن شكل الحياة المُترفة ورائحتها الذكية  والهدوء الذي يلفُ شوارعنا بعد الخامسة عصرًا يقول: لا، هذه جزيرة، وجزيرة نائية جدًّا؛ لأنها لا تُشبه بولاق وحواريها الضيقة وملامحها المُتعبة!!

الحياة في الحي الهادئ لها طعم آخر..

العمائر صممت لتستضيف البراح والخصوصية.. الشمس والنور بنود هامة في الرسم الهندسي.. الأسقف العالية تمتص الصوت، وتمنح الهواء الفرصة بأن يدور ويمرح بين المكان.

نوافذ العمائر التي تطُل على النيل تقبع خلفها ستائر من الدانتيلا تحجب الرؤية عن العابرون بالمراكب النيلية.

المصاعد الخشبية تشبه دواليب الأطقم الصينية ودرجات السلالم الرخامية تشابكت أصابعها لترحم كُبار السن.

الخضرة…. الخضرة التي تُشعرك بأنها الساكن رقم واحد في الجزيرة.

من فوق سطح العمارة يبدأ عالمي…. مملكتي التي لا يتهمني فيها أحد بالتطفل..

تنساب موسيقي “باخ” و”موتزارت” ورائحة السيجار الكوبي، والنبيذ المعتق من الشرفات المطلة على سلم الخدم.

من خلف الستائر الموّاربة تبدو بدايات لوحة على كانفاس مشدود. وكتاب بين صفحاته Book Mark وخصلات شعر تطير مع هواء مجفف كهربائي….

خليط البشر الذين يسكنون الجزيرة يشكلون مجتمعًا كوزموبوليتاني بفكر فرانكوفوني النزعة…. أرفف المكتبات تزدان بكتب السانسيمونيين والرافعي والعميد المنياوي طه حسين خريج السوربون.

مصريون يتحدثون لُغات عديدة ويعملون في وظائف عبر البحار ودبلوماسيون من بلاد العالم أجمع…. رجال صناعة وبنوك وصُناع قرار…

فنانون وأدباء وأساتذة من الجامعات المصرية والجامعة الأمريكية.

عائلات تنتمي للعصر الملكي طالتها يد التأميم، وأخري من صعيد مصر  جاءت بعد أن تقلد عائلها منصبًا في الحكومة أو الوزارة.

عائلات يونانية.. كُنّا نخشى السير تحت شرفاتهم ليلة رأس السنة،لما يلقونه من أطباق قديمة، وعائلات إيطالية جاءت هربًا من الفاشية وأخرى قبرصية ومالطية وكريتلية.

تعشق موسيقى وأغنيات “ألفيس بريسلي”، وفي الخريف تربُط حول رأسها إيشاربات ملونة لتبدو مثل نجمتها المفضلة “أودري”في فيلم Breakfast at Tiffany’وفي ساعات العصاري وشوارع الجزيرة خالية من المارة والبوابون على مقاعدهم الخشبية يدخنون السجائر الماكينة تصعد إلى السطوح لتلحق بشاي الساعة الخامسة.

 ينزلق الطوق الخيرزاني حول وسطها النحيل وسط صيحات تشجيعنا.
“هولا هوب.. هولا هوب” يظل الطوق يدور ويدور وهي تطوّح ذراعيها في الفضاء، وحبّات الكريز تصرخ:

It is now or never

Come hold me tight

Kiss me my darling

Be mine tonight

Tomorrow will be to late

It is now or never

My love won’t wait

سماء الستينيات جميلة وقمرها أكثر لمعانًا.. والغريب أنه كان يأتي قبل غروب الشمس ليبدأ ورديته قبل الميعاد.

على سور السطوح نضع أكواب الشاي الأبيض لتمُر بينها مراكب الصيادين عائدة إلى “روض الفرج”ونظل ننقل الأكواب على السور حتى تختفي المراكب مع رشفاتنا.

الليل كان ينصرني على بياض “قدرية “الشاهق حين يملأ السماء…..
تتسلل أصابعها الرقيقة إلى تفاحة آدم التي برزت في عنقي..تضحك وهي تتحرك تحت أصابعها… ألتقم بأسناني هذا الإصبع الذي ما يزال يحمل بقايا البسكويت.. فتتركه بين شفتي.

كم كان شهيًا طعم بسكويت والدتي على أصابعك يا “أودري” يتبدّل الأصبع المبلول بآخر وآخر…… فتشيرين بلسانك النونو إلى فتافيت أخرى علقت بجانب فمك…

It is now or never

Come hold me tight …

أكمل القراءة

سرديار

خريف البطريرك

نشرت

في

مع كل هذا البهرج يخيل للمرء أنه في ثكنة، علمته أن يقرأ بعد الغداء الجريدة الرسمية التي عينوه صاحبها و مديرها الشرفي، كانت تضعها له بين يديه عندما تراه مسترخيا على أرجوحته تحت ظل شجرة القابوق الضخمة في الفناء العائلي إذ ليس من المعقول كانت تقول له، أن يجهل رئيس دولة ما يحدث في العالم، كانت تدس له بنظارتيه المذهّبتي الإطار فوق أنفه و تتركه يتخبط في قراءة أخباره الشخصية  بينما هي تدرب الصغير على التقاط كرة من المطّاط و رميها، و هي رياضة تمارسها الراهبات…

غابرييل غارسيا ماركيز

و في غضون ذلك كان هو يكتشف نفسه في صور جد قديمة يعود أكثرها إلى صنو قديم له، مات بدلا منه و قد نسي اسمه، كان يكتشف نفسه وهو يترأس جلسة الأربعاء لمجلس الوزراء الذي لم يعد يحضر اجتماعاته منذ زمن النجم المذنّب، كان يكتشف جملا تاريخية ينسبها إليه وزراءه المتعلمون، كان يقرأ محركا رأسه برفق في حرارة ظهيرات أغسطس المنبئة بالعواصف، و كان يغوص قليلا قليلا في حساء عرق القيلولة مهمهما، يا للفوضى بئست هذه الجريدة، لست أفهم كيف يقدر القوم على قراءة مثل هذه الورقة السخيفة…

و رغم ذلك كان يستحصل القليل من تلك القراءات الخالية من المتعة ذلك أنه كان يستيقظ من نومه القصير و الخفيف بفكرة جديدة مستوحاة من قراءاته، فكان يرسل ليتيسيا نازارينو لتملي أوامرها على وزرائه الين يجيبونه عبر الوسيط نفسه محاولين سبر أغوار تفكيره عبر فكرها هي، لأنك كنت كما شئت أن تكوني، لسان حال إرادتي العليا، كنت صوتي، كنت عقلي و قوّتي …

كانت أذنه الأكثر وفاء و الأكثر يقظة في الصخب من الحمم الأبدية في العالم المنيع الذي يحاصره، مع أن وسائط الوحي الأخيرة التي تتحكم في مصيره إنما كانت في الواقع الكتابات السرية المخطوطة على جدران مراحيض المستخدمين، فكان يتهجى من خلالها الحقائق السرية التي لم يكن أحد ليجرؤ على كشفها له، بمن فيهم أنت، ليتيسيا، كان يقرؤها في الفجر لدى عودته من الإسطبل بعد حلب الأبقار، قبل أن يمحو ذلك الجنود الوصفاء المكلفون بالتنظيف…

لقد أمر بإعادة تبييض جدران دورات المياه بالجير كل يوم حتى لا يتمادى أحد في التنفيس عن أحقاده الشخصية، و بهذه الطريقة أدرك جفاء القيادة العليا، و النوايا المكبوتة لدى أولئك الذين كانوا يزدهرون في ظله و يتخلون عنه وراء ظهره، كان يحس بأنه سيد كل سلطته عندما ينجح في اكتشاف أحد ألغاز القلب البشري في مرآة جريدة الأوباش الكاشفة، و عاد إلى الغناء بعد أعوام عديدة متأملا عبر ضباب الكلّة الناموسية نوم الحوت الصباحي الجانح، نوم زوجته الوحيدة الشرعية ليتيسيا نازارينو…

انهضي، كان يغني، إنها السادسة في  قلبي، و البحر دائما هناك، و الحياة تتواصل، ليتيسيا، الحياة غير المتوقعة للمرأة الوحيدة، من بين نسائه العديدات، التي حصلت منه على كل شيء سوى حظوة أن تراه يستيقظ صباحا بجانبها، ذلك أنها كان يغادرها حالما يكون قد انتهي من ممارسة الحب معها للمرة الأخيرة، فكان يعلق فوق باب غرفته، غرفة الأعزب المتصلب، مصباح الانطلاق نحو الكارثة، ثم يغلق الرتاجات الثلاثة، والمزاليج الثلاثة، و الدعامات الثلاث، و ينبطح على الأرض، وحيدا مرتديا ثيابه، كما فعل ذلك في كل الليالي، قبلك، و كما فعل من دونك حتى آخر ليلة له من ليالي الغريق المتوحد،…

و بعد انتهاء حلب الأبقار كان يلتحق بغرفتك و رائحتها الشبيهة برائحة حيوان ليليّ ليواصل إعطاءك كل ما ترغبين فيه، أكثر بكثير من إرث أمه بندثيون ألفارادو الواسع، أكثر بكثير مما حلم به أي شخص على هذه الأرض، و ليس من أجلها هي فقط و إنما من أجل ذويها الذين لا ينتهون و الذين كانوا يصلون من جزر الأنتيل الصغيرة المجهولة بلا ثروة أو سند سوى جلودهم و لقبهم نازارينو، عائلة فظّة من الرجال العنيدين والنساء الجشعات استولوا على احتكارات الملح و التبغ، و ماء الشرب، و هي امتيازات قديمة كانت سابقا ممنوحة إلى قادة مختلف القوات لإبقائهم بعيدا عن طموحات أخرى … و قد اقتلعتها منهم ليتيسيا نازارينو شيئا فشيئا بفضل أوامر لم يوعز بها لكنه أقرها، موافق، كان قد ألغى التنكيل الوحشي بواسطة الفسخ وحاول استبداله بالكرسي الكهربائي الذي وهبه له قائد البحرية لكي نستفيد نحن أيضا من أداة إعدام أكثر حضارة …

(من ترجمة لـ: محمد علي اليوسفي)

أكمل القراءة

صن نار