تابعنا على

بنات أفكار

محمد الواد: قبلة الغفران

نشرت

في

دخلت على الراهب

و طرحت قدامه قبلة

سحب الراهب من تحتها السجاد

محمد الواد Mohamed Eloued
محمد الواد

و استغفر

قلت له جئتك بالنصف الثاني من الرحمة

فلا تتعجل الحكم

أدار ظهره و ظل ينصت

قلت ..لاتخف منها

فهي سليلة الحب الرباني

أصابته ارتعاشة عشق

ثم تجمد

همست للقبلة ..لك المعبد

فامرحي

هفهفت بجناحها على الباب العتيق

فانفتح

و إذا الملائكة تدغدغ الوجد

و إذا البحر يموج

أرسلت مئذنتان نورهما نحو عبابه

وصلى المعبد سكرا

تلاشت القبلة

أشعل الراهب شمعة

بحث عنها في زوايا المعبد و في الطين العتيق

فلا خبر

صاح أيا خالقي…

أين عمري ؟ أين صلاتي ؟

لقد صرت نبيا

رأيت الوله ..رأيته صافيا كالماء

لن أعتكف…لن أعتكف

كان هاربا مني إلى أن زارني هذا النبي

فهل هي مغفرة منك ؟

نظر الي و قال من ذلك على معبدي؟

من أرسلك الي؟

قلت لن تقبل صلاتك بعد اليوم يا أبي

قال أنت ساحر ماكر

قلت لا …

أنا فقط أرى ما لا ترى

قال أرني كيف تخلق القبلة

و خذ صلاتي

قلت اهدم معبدك أولا

ثم ارحل

و حيثما الحياة ستجد قبلة

تصلي

و لا تستغفر أبدا …

أكمل القراءة
انقر للتعليق

اترك تعليقا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

بنات أفكار

قراءات: الكتابة بنصل السّكّين

… أو ملامح الرّفض وتجلّياته في رواية “شقائق الشّيطان” للرّوائي التونسي نعمان الحبّاسي

نشرت

في

“شقائق الشّيطان” هو عنوان رواية للكاتب التّونسي نعمان الحبّاسي، وهي باكورة أعماله الإبداعيّة، صدرت سنة 2021، عن الدّار التونسيّة ميارة للنّشر والتّوزيع. جاءت طبعتها أنيقة الإخراج ، في 152 صفحة، من الحجم المتوسّط.

لطفي العربي البرهومي

عنوان الرواية يحيل الذّهن مباشرة على تسمية الزّهرة البريّة الجميلة شقائق النّعمان، قبل تحويل وجهة التّسمية، وما ترويه ذاكرة الأسطورة العربيّة عنها، وعن أصل حيازتها لهذا الاسم، هو أنّه أوّل ظهور لها كان على قبر النّعمان بن المنذر، ملك الحيرة، الذي مات مطحونا بأقدام الفيلة انتقاما منه، ودوسا على كبريائه العربيّ، بعد أن رفض تسليم نساء العرب كسبايا لكسرى، ملك الفرس. ما يجعلنا نستشعر، منذ البداية؛ من عتبته الأولى، أنّ الكتاب يطفح برائحة الموت، ومشاهد الخراب. لتتحوّل شقائق الحبّ والمواساة، إلى حجارة رجم، ولعبة موت؛ “شقائق الشّيطان”.

لغة الرّواية منمّقة ومنتقاة بعناية بالغة، تحيلك لحظة تطالعك، على كتّاب كبار، من ذوي السّلطة المعرفيّة، كمحمود المسعدي نثرا، وعلي أحمد سعيد، المكنّى بأدونيس، شعرا. وربما تذكّرك، أيضا، بلغة أقطاب دراويش الصوفيّة، كابن عربي وشمس الدين التّبريزي والحلّاج، وهم تحت سطوة الوجد. إلّا أنّها، في الحقيقة، ليست أيّة واحدة منها. هي لغة أخرى، عالَم لغويّ مبتكر وفريد، فالعارف ببواطن الأدب لا يتطرّق الوهم إليه، أبدا، في أصلها، وبأنّها تحمل بصمة صاحبها، وابن شرعيّ له. فهو قد سلك فيها طريقا لم يسبقه إليها أحد. إنّه طراز مستقلّ، وخصب.

ربما هي، اللغة، من تمازج عالم الكلام الرّحب ولوثة الوعي. وهنا، في رأيي، حقّق الكاتب شرطا أساسيّا، وهو من الأمور التي لا غنية عنها، كي يُضمّ ما كتب إلى عالم الإبداع. فالإبداع الأدبيّ، في النّهاية، ليس إلاّ الكتابة على غير نظام سابق. يقول الفيلسوف الفرنسي غوستاف لوبون، في كتابه ” حضارة العرب”؛ ( إنّ أصحاب الفنّ يتفلّتون حين يحلّقون في سماء الخواطر، من قيود السّنن، ولا يعرفون لأنفسهم سادة). جاء الخطّ الكتابيّ هائجا، مائجا ومستفزّا، يتحرّك في قفزات كبيرة عملاقة، لا يعطي أدنى اعتبار أو قيمة للمسافات، أو الزّمن، كصخور ضخمة مدبّبة تسقط من عل، من ذرى جبل شاهق.

إنّها بين تناصّ مع النّصّ القرآنيّ، وإحالات على كتّاب وفلاسفة كبار، من شرق وغرب؛ أحلام مستغانمي، في أسودها، والفيلسوف الأمريكي من أصل ياباني، فرانسيس فوكوياما، من خلال كتابه الذي أعلن فيه عن موت التاريخ، هذا على سبيل الذّكر لا حصر. لغة أقل ما يقال عنها إنّها حيّة، ضاجّة صاخبة وقويّة كهزيم الرّعد، تصرخ في وجه متلقّيها، بكلّ قوّة: استيقظ، ما بك .. إنّ النّهايات على المشارف!! إلى أن يتمثّل إليك الكاتب بوجه متكدّر غاضب، وهو يزمّ شفتيه بأسى عميق، فلا تجد لنفسك مهربا من أن تشاركه استياءه.

إنّه يقابل الواقع بمزاج رافض وعدائيّ، إلى أن يكاد يطلق عواء، بدل الكلام. فيبدو لك كمن هو على وشك أن يشنّ حربا، كي يقلب كلَّ شيء رأسا على عقب. فتاريخ الكتابة ليس إلّا تاريخ المحو، لا الإثبات والإقرار. يقول جوزيه ساراماغو؛ ” ما يحرّك الفنّان هو الممحاة، لا القلم، إنّه يمحو كلَّ شيء حيث يمرّ”. إنّه يروي تاريخ الخراب، بأدقّ تفاصيله؛ خراب الأرض، بعد أن كانت وديعة ومقراة، دون أن يحذف أيّ تفصيل. حين تستحيل مأساة رهط من البشر، مناسبة لسعادة رهط آخر، تغدو الثّورة على كلّ شيء، واجبا مقدّسا، بل وأمرا لا محيد عنه. ألم يقل الأوّلون؛ آخر الطّبّ الكيُّ.

لقد تقوّض القانون الإنسانيّ، والأخلاق الحميدة، والإيمان، إلى أن استحال الإنسان، هذا الكائن الغريب، الذي أعيى الفلسفة والفكر في فهمه وتحديد ماهيته، إلى طائر رخّ، ناهش للحوم بني جلدته من البشر. لقد أعاقه عماه الذّهني عن أن يدرك أن إفناء الآخرين هو إفناء لذاته أيضا، فهو لحظة يرتكب جريمته، لا يستحيل قاتلا فحسب، بل قاتلا ومقتولا. مجرما وضحيّة. هذا الذي يجور على الآخرين، بضمير هادئ ومرتاح. إنّه حريص على الجمع والمنع، إلى أن أغرق كوكب الأرض، في ظلام كلّيّ، دامس، وجعله، برعونة تصرّفه، مكانا ضيّقا تماما مثل قمقم، بل وسيّئ السّمعة أيضا.

إنّ منسوب الرّفض العالي للكاتب يجعل المتلقّي يقرأ الكتاب، بعينين جدّ مفتوحتين. أليست الكتابة، في النّهاية، حفرا في اللّحم الحيّ؟ غوصا في تجاويف الكلوم الدّامية، والقروح النّازفة، لغاية تطهيرها. إنّه لا غنى عن كشط اللّحم المتورّم بمدية ذات نصل معقوف، ووضع أصابع اليد فيها بكلّ عنف، من أجل إزالة القيح المتراكم فوقها كالصّدأ. هذا لو أراد المرء حقّا أن يرفع أكفان الجهل الثّقيل عن العقول. إنّه لا مهرب من مداواة الألم بالألم. بل مداواة الألم بالألم الأشدّ منه. إنّه قانون البعث؛ قتل الدّاء بالدّاء. إلى أن غدت لافتات الثّورة الجديدة، ثورة على الثّورة، ربما، مرئيّة بالوضوح كلّه، في هذا الكتاب.

اسمعوا لصاحب النّص، ماذا يقول، وهو يروي إحدى النّهايات، أو البدايات، ولا يدري المرء أيّهما أقرب إلى التّأويل الصّحيح” … فنفخ في السّحاب والبحر، وأمر ريح الزّلازل، فانطبقت القرية على نفسها بركام الحزن والفرح والبؤس والشّوق، والآخرة غامضة جليّة. فَقُضِيَ الأمر، وعمّ الصّمت”. ما يشعرك أن الكلمات ألسنة لهب. مطرقة نيتشة الحانقة، الغاضبة، وهي تطارد ذلك المتبقّي من الزّعانف الحيّة، تلك التي تمنّعت عن الموت، كائنات الخضوع والخنوع، وسبب الخَوَرِ والدّمار، لتتمّ الإجهاز عليها. كأنّه لا بدّ من الفناء، كي يكون هنالك بعث. ألم يقل المسيح، وهو يحدّث حوارييه؛ ” الحقّ أقول لكم، إن لم تمت حبّة الحنطة، التي تسقط على الأرض، فسوف تظلّ وحدها، لكنّها إن ماتت، فسوف تنتج حبوبا كثيرة”.

إنّ هذا الغضب العارم، غضب الكاتب، على كلّ ما هو قائم، أو بالأحرى على كلّ ما هو آيل للسقوط، انتصار، أيضا، لذلك الفذّ، ذلك النّملة الدّؤوب، المتطلّع إلى تشييد عالم أجمل، والذي غدا، في هذا الزّمن الرّاهن، قلّة قليلة، بل غدا مهملا ومجرّد هامش. بينما هو لا معنى للبرج من دون فارس نبيل يحميه. لا معنى لهذا العالم من دونه. إنّها الكتابة بنصل السّكّين، حيثما تمرّ، تترك خدوشا وآلاما. فتبدو لك الكلمات تشتغل كتفا لكتف، كي توقد أتونا حارقا. إنّها ثورة على الحاكم والمحكوم، والخاصّة والعامّة، والقاصي والدّاني. لم تستثن أحدا.

وتراني أميل إلى الاعتقاد أنّ الكاتب لم يستثن حتّى نفسه من النّقد والشّجب، من شدّة ما نقد وشجب. إنّه شكل من الاحتجاج الصّاخب. باختصار إنّه الإيقاظ بدقّ المطارق. إنّ صاحب هذا العمل يصوغ كلماته، كمن يرشق حجارته بمقلاع. يقول في الصفحة 76 من الرّواية؛ ” يا أبناء الحرب، يا رموز الإنسان، ألستم من دمّر الأرض، وأهلك الزّرع بقسوتكم وقبحكم، وجعلتم رسالتكم في الحياة زرع بذور الشّرّ؟ أترغبون خيرا، وتزرعون سقما؟”. وتسترسل الصّفحات على نفس هذا المنوال أشواطا كثيرة، بلا هوادة أو مهادنة، في تحدّ بيّن، صارخ، معلنة عن ميلاد نفسها، أو عن قيامتها المنتظرة، كأنّما صاحبها يعلنها صراحة، ودون أدنى مواربة: إيتوا بمثل هذا، إن كنتم صادقين.

ماذا تبقّى لي لم أقله بعد؟ مازال الكثير، فأنا لم أبحث في هذا الكتاب إلا عن جانب الرّفض فحسب، وربّما أخللت في ذلك. ربّما لم أُوَفَّق في ذلك تمام التّوفيق، فالنّصّ ملغز، ومكتنز وثريّ بالمعاني، وحمّال أوجه، ولا يمكن، بأيّ حال من الأحوال، إيفاءه حقّه، في قراءة قصيرة ومبتورة مثل هذه، ومن جانب واحد منه فقط؛ جانب الرّفض. تعجبني مثل هذه الكتابات. هذه التي تحيل على تلك المتون الكبيرة. تلك التي تسعى جادّة جاهدة إلى خلق كون جديد، بل إنسان جديد. وتؤمن أنّ الإنسان، هذا الكائن الآثم والهشّ، هو أيضا عنقاء ولود، لا تنبعث إلّا من رمادها.

تلك المتون التي شغلها الإنسان من حيث هو كنه وماهية، كرواية ” التّحوّل” لفرانز كافكا، ” وسدهارتا”، لهرمان هيسه، و”وهكذا حدّث زرادشت” لفريدريك نيتشه. وكتابات أوشو، الفيلسوف الهندي الكبير. بداية واعدة، لا تَصْدُقُ إلا بالتثنية والتّثليث … و .. و.. . وها هو صاحب النّصّ قد ورّطنا في الانتظار …

أكمل القراءة

بنات أفكار

بورسعيد … روح المدينة ونوستالجيا الشخصية

نشرت

في

تنفتح عتبة العنوان في رواية “سماء بلون الشفق” للروائي “إبراهيم أبو حجه” على فضاءٍ متعالٍ ينشحن بسيمياء الخطر، الحمرة /الاشتعال، فيدفع المتلقي إلى حال من الترقب والحذر فيستشرف آفاقًا من المفاجآت المتعددة. 

صالح السيد

وإذا كانت الرواية ـ كما يقول جورج لوكاتش ـ هي”سِنّ النُضج”، حيث يواجه الإنسان وحدته وإشكالياته، ليحمل مسئولية نفسه، واختياراته، وقلقه، في الاتصال بين ماضيه ومستقبله، بين ضياعه وخلقه المتجدديْن، فإن هذه  الرواية معنية  بتصوير المسار الجمالي للفرد في بحثه عن مجموع كلي ما، عن تجانس ما، عن هوية يحمل صورتها في أعماق نفسه.

ويعتمد البناء السردي  للرواية على “المونتاج” ويتعدد استخدام تكنيك “الفلاش باك” و كذلك “المنولوج الداخلي” في عرض المحتوى الداخلي أو النفسي للشخصية.

ويقوم التشكيل  السردي على  المقابلة بين صورتين للمدينة – بورسعيد – في زمانيْن مختلفيْن : الأولى في الماضي  لمدينة احترفت النضال وشهدت وقائع أسطورية وأياماً خالدة من البسالة والبطولة تؤكدها  أحداث جليلة في العدوان الثلاثي وحرب الاستنزاف، والأخرى هي في الواقع المناقض؛ حيث مدينة البضائع والعملات النقدية وواجهات المحلات “الفاترينات” اللامعة، التي تجذب الأنظار إلى عالم الموضات ،وهنا يقع السرد في  ثنائية الحضور/الغياب، فالأماكن والشخصيات الحاضرة في النص الروائي تقع في حالة تهميش، أو اغتراب واضح، وهنا يستولي على  شخصية البطل ـ علي عليوه ـ  حنين دائم وجارف إلي الصورة الأولى وجوداً وتاريخاً محفوريْن في أعماقه ومن هنا يظهر هذا الإنسان الذي يحاول توحيد ذاته المتشظية وروحه الغارقة في لُجّة الضياع، وتأتي لحظة خروج البطل  الوحيدة من المدينة إلى القاهرة إبان ثورة يناير ـ وهو الحدث الأعظم في الزمن الحاضر ـ باعتبارها إشراقة أمل واستعادة غالية لتاريخ من الحرية والمقاومة الذي عاش فيه وحلم باسترجاعه. 

الشخصية والمكان :

تتسم لغة السرد في تلك العلاقة بالغنائية والتشكيل الجمالي الشعري، فبطل الرواية “علي عليوه”   كاتب المواليد والوفيات  – وهي مهنة واقعية ذات بعد رمزي –  باعتباره  هذا الشاهد/الرقيب علي تاريخ أبناء المدينة، يظهر دائما في حالة  انغمار نفسي وعاطفي، في معية العشق و التدامج  مع المكان “بورسعيد” ويلجأ الراوي إلى ضمير المٌخاطب الذي يمنحه فرصة مراقبة الشخصية وتأملها في حركتها الدائبة، متداخلاً مع ضمير الغائب الذي يفتح مجالاً للاحتكاك بالشخصية و وصف تفاصيلها وعالمها المترامي .

كما يتسم السرد بالكثافة وينحاز إلي المجازية، ويتحكم الراوي في علاقة الشخصية بالمكان حتى يحقق تناميا سرديا تقوم فيه اللغة بدور كبير لتحقيق هذه الفاعلية الجمالية، و يعكس هذا المشهد شعرية الحالة :    

” تتهيأ بوهج أنفاسك .. وتتخذ سمتًا في الضباب .. تتحرك ثملاً .. تتحسس طلاء الحوائط، فيسقط عنها لونها نضرًا و زاهيا .. تتبدى بيوت الإفرنج بطرازها الأوربي وقد علاها التراب .. ينفخ ويمشي مسحورًا تنعكس علي المرايا المواجهة رغبته في بلوغ الميناء وما إن يبلغ شارع محمد علي آتيا من الجنوب حتي ينعطف شمالاً . الظلمة خافتة كأنها غلالة حلم تحجب الظلال في شوارع تتداخل فوقها بقع الضوء.. شوارع خلت إلاّ منه ، تداخلت بقع الضوء التي تجلت علي رصيف الميناء، نظرها بحب وهو يسير مأخوذًا، توقف وتملّى المنظر حتى دخله المعنى مجتاحًا ومستقرًا .. سأفيق على أمكنة حية ما تزال تتناوشها أسماك العمق، ينتصب في المكان العنبر المشيّد بالطوب الوردي الأملس ، أسيرا مأخوذًا، يجتذبني التراب الممغنط بدم الشهداء “.

  • المدينة والتاريخ المشرق:

تعمل تقنية الاسترجاع على تحويل السرد إلى ذاكرة حاضرة تنبش في ذاكرة قديمة وتتعدد مداراتها بين الفضاء المكاني والفضاء الاجتماعي، ففي الفضاء الاجتماعي ترصد روح المقاومة وحالة الاستنفار التي تلبست الصغار والكبار في الذود عن  المدينة و صدّ العدوان الثلاثي والدفاع عن كرامة الوطن وهو رصد لا يكشف عن حالة الخوف و الجزع الحذر؛ إنما يحتفي بحالة البهجة والسعادة والشعور بالزهو والنشوة :

 “جلسنا على حواف البالوعة الخرسانية فوق الرمل الناعم المجلوب من الشاطئ ورحنا نغني … رفعت أنت الطبق الصاج الذي كان عليك أن تحضر لهم فيه الفول المدمس للعشاء وراحت أصابعك تتدافع عليه فيخرج الإيقاع منتظماً يعلو الرنين (إيدين وبن جوريون وموليه .. جايين يحاربونا على إيه .. هو الكنال دي في أراضيهم) الإيقاع يعلو فتشتعل الحناجر التي أخذت تهدر وراءك  ونحن اندمجنا مع الحالة بالأكف الصغيرة نصفق، فيعلو الإيقاع آتياً من حواف الساحة كان ينزل علينا ليسبح وجودنا تحت وجوم الليل قريبًا من قلوبنا ومن الشرفات التي بدت معلّقة في الفضاء”.

كما يعتمد  الراوي في وصف  الفضاء المكاني  على منظوره الخاص متضافرًا مع منظور الصورة الشعرية والتي تعكس أيضاً  حالة القوة، روح الشجاعة، والبسالة، التي تلبست المكان:   

” كانت كأنها النسور، حطت على الأرض، تنشب مخالبها في الرمل، وتقف موزعة في خطوط متناسقة، تخترمها الساحات، تلك هي عمارات ناصر التي بنيت في بداية ستينيات القرن الماضي ..أخذ يحك عينيه في حوائطها الجهمة عله يجد ما خطته الروح يوم أن غرز سبابته في الرماد وخطّ : الموت للأعداء”

  • المدينة والواقع المناقض :

يتجلى انحياز الراوي القيمي والإيديولوجي من خلال رصد حالة الانتكاسة والتراجع التي أصابت المدينة ومسختها  سواء أكان على المستوى المعنوي أم المادي إذ إن سياسية الانفتاح التي اتبعها السادات، شوّهت وجه المدينة، فانزلقت بها من منعطف إلى آخر  من تاريخ للبطولة والصمود إلي سوق رائجة للبضائع من كل صنف، إنها زيفت التاريخ ومسخت الأفراد  وتاجرت بقيمهم، أو ربما أصبح المال هو قيمتهم الوحيدة :  

 ” ..أين هو الأفضل ؟؟ والأسوأ يجتاح .. يغتصب .. كهذه الموجات التي تتدافع به في نهر الشارع .. كراتين كثيرة متراصة في نهر الشارع، والبضائع بين أيدي اللاهثين تنتقل زائفة وبراقة تتخطف المتهافتين، وقد أتوا من كل حدب وصوب إلي هذه المدينة التي انفتحت بعد القرار الجمهوري الذي أصدره السادات .. ورق البنكنوت يجتاح مخرفشًا .. رنين المال خلاب .. والغالبية يرقصون إلاّ نفسه التي – فجأة –  قالت له: ماذا يعجبك في شارع أصبح لعنة حقيقية .” 

كما يتكرر خطاب الإدانة في صورة أخري علي المستوي المادي الجمالي  حيث فقدت المدينة رونقها وهويتها العمرانية وجمالها الفاتن وانزلقت دون أدنى مقاومة إلى عشوائية صارخة وربما تأتي هذه الحالة نتيجة لتخليها عن دورها ومكانتها  كما يصف الراوي:

” كلهم يتفقدون شوارع خلت مما يدلّهم علي أنفسهم، أبراج شاهقة قامت تعاركت فيما بينها، بعد الحرب لم تزل سوى بيوت قليلة، فقال مسامراً نفسه: نجح السلم في ما لم تنجح فيه الحرب .. وهو تغيير وجه المدينة فها هي الأبراج تناثرت متخللة البيوت الخشبية، ولا غير تقطيبة سؤال تواجههم في جبينه عما كانوا يحلمون به؟! ..”

  • الثورة و حالة الانعتاق :

مع  أحداث ثورة يناير تتبدى حالة الانفتاح المادي والمعنوي للرواية، فعلى المستوى المادي  يتسع المكان ليتجاوز حيز المدينة عبر أماكن أخرى في طريق السفر والعودة ومناطق  مختلفة في القاهرة ومنها ميدان التحرير، كما يظهر البطل وهو المحب للعزلة والفردية وسط حشود غفيرة من الجماهير، بينما على المستوي المعنوي فإن الذاكرة والحلم يتحولان إلي واقع مشهود فهاهي روح المقاومة والحرية ـ التي جسّدتها المدينة ـ  تسري في أرجاء الوطن كله، وهنا تشعر الشخصية بحالة الانعتاق الروحي والنفسي والعاطفي ، ويستجمع الراوي كل قوى التصوير في كاميرته ليصور هذا التحول  الخطير  حيث يتماهى مع الجموع ويتمظهر المشهد تمظهراً تشكيليا وحركياً يبرز عظمة وقداسة هذا الحدث :    

” حشود حول قلبه تضخ دفئًا آتيا من كافة أنحاء مصر جماعات كانت تمشط الشوارع (يا أهالينا يا أهلينا إحنا بنهتف ليكو ولينا) ربما ما تراكم في النفوس من قهر هو ما دفع الناس الي الميدان راح يهجس بذلك وهو منصرف وراء صوته الذي أخذ يهتف مع الهاتفين .. يخرج من داخله حماس يجعله لا يحس برد يناير القارس كانت الحشود تصب في ميدان التحرير الذي شغل فيه مجرد نقطة، تتجمع الجماعات وتسير تهتف بحماس بالغ تمشط شوارع القاهرة التي بدت له مختلفة ذلك اليوم وهو بين الحشد محشور يهتف بحماس بالغ ” . 

ـ______________________________________

الهوامش :

1- د. عبد البديع عبد الله ، الرواية الآن ، ص 75

2- د. أمينة رشيد ، حول بعض قضايا نشأة الرواية : ،مجلة فصول ،المجلد السادس 1986م، ص 99

3 – د. نبيلة إبراهيم ،قص الحداثة   ، مجلة فصول المجلد السادس 1986م  ص 111

4 –د. محمد زيدان   ، السرد والحكاية : ص 117

أكمل القراءة

بنات أفكار

الذات والموضوع، و “أصل الحكاية” … دراسة نقدية

نشرت

في

ثمة علاقة جدلية يُفترض وجودها دائما، بين الذات ــ أىّ ذات ــ، والموضوع ــ أىّ موضوع ــ في جميع المصنفات الفنية، بكافة أشكالها ومذاهبها، وإن اختلفت في شدتها من عمل إبداعي إلى آخر.

صلاح نجم

ويرجع هذا الإختلاف (في درجة العلاقة)، على الأرجح إلى مايمكن أن نطلق عليه (تاريخ الموضوع في الذات) أولا، ثم (قيمة الموضوع عند الذات) ثانيا، فبدون هذا التاريخ، وهذه القيمة، يتحول فعل الإبداع إلى عمل ميكانيكى صرف، لاروح فيه، ويصبح مجرد إدعاء أيديولوجي أجوف خلو من أبستمولوجيا الموضوع، ومن ثم يفقد الجزء الأكبر من قدرته على الوصول إلى الناس أو التأثير فيهم.
وهذه الدراسة، محاولة قراءة لبعض جوانب العلاقة القائمة بين الذات في تفاعلها النامي مع الموضوع، بغرض اكتشاف أبعاد تلك العلاقة، وفهمها في سياقها التاريخي الخاص.

ولأن الذات التي نقصدها هنا، ذات شاعر مصري صميم، دماً وروحاً ولساناً، ولأن الموضوع الذي نعنيه هو الوطن، القيمة التي لاتعلوها قيمة، فلا عجب أن تلتف حوله وتعانقه كل قصائد ديوان (أصل الحكاية)، لشاعر العامية السويسي الكبير كامل عيد رمضان، في قداس إبداعي مهيب.


فالوطن بمعناه العام والخاص هو عشقه الأول الذي يباهي به ويفاخر، وينتمي إليه بلا حدود، يغضب إذا ماتغيرت ملامحه الأصيلة ويحزن إذا ما شوهت يد الفساد والإفساد جماله المادي أو المعنوى، أو إن هى ضيعت مفرداته، يغنى له ويتغنى به في كل الأوقات، في العسر كما في اليسر، في زمن الضيق والشِّدة والألم العظيم، كما في زمن الرخاء والدعة، ويؤمن أن بناء هذا الوطن لن يكون أبدًا بالكلام وحده، ذلك لأنه كما يصف نفسه في مقدمة الديوان “الذائب في هوى مصر متشوفاً ومتشوقاً لحياة زادها الكرامة في عالم انقلبت فيه المعايير…” ، وهو القائل عن الشعر: ” هو مدخلي إلى هذا التشوف وهذا التشوق، ذلك أن الشعر في منظوري هو دفتر أحوالي”، وعن القصيدة: ” هي أنا ، وأنا هو ذلك العضو المنتمي لمجتمعه، ذائبا فيه …”، هذا هو بحق كامل عيد رمضان، الإنسان، والفنان الذي أعرفه.

على هذا النحو، نحن إذن أمام حالة نادرة من حالات الإنطباق بين: (ذات وموضوع)، (شاعر وقصيدة)، (إنسان وفنان)، حالة أقرب ما تكون بعملة ورقية وضعت في وجه الشمس، فانطبعت ملامح الظهر الخفى فوق قسمات الوجه الظاهر في تكوين بديع مضىء تتعانق فيه كل الخطوط، وتتقاطع كل الدوائر، وتتمازج كل الألوان، حالة أكثر عمقا، وأبعد أثرا من ذلك الصدق الفني الذي يتشابه علينا في كل إبداع، إنها حالة ذات عاشقة لموضوعها، وموضوع ضارب بجذوره في أعماق هذه الذات ــ قيمة وتاريخا ــ معا ، وفي آن واحد.
تصدرت الديوان عبارة “أشعار بالعامية المصرية”، ربما عن عمد وقصدية، ذلك أن العامية عند (كامل عيد رمضان)، اختيار ، لغة حياة وليست لغة للنظم، لغة ممزوجة برؤية مستوعبة لكل تفاصيل الهواجس المختبئة وراء تجاعيد الزمان، وتضاريس المكان، والقابعة داخل صدور الناس، لغة متجاوبة في إيقاعها مع نبض من حمل على عاتقه مسئولية البحث عن “دليل” يفسر لنا غياب الحس الإنساني عند البعض من الذين لم يستشعروا المعاناة التي يعيشها أبناء مدينة مصرية تقع في مرمى مدافع الأعداء.

لعب الوطن الدور الأبرز في تشكيل وعى ووجدان (كامل عيد)، وتصوراته، وعالمه الشعري الخاص في وقت مبكر، وقد تجلت ارهاصات هذا الدور بوضوح منذ لحظة (المخاض الأول) في مشواره الإبداعي الذي امتد إلى مايقرب من نصف قرن من العطاء المتواصل، وليس من المبالغة القول بأن المقدمات الأولى لهذا الدور ربما تعود إلى زمن أقدم من لحظة المخاض الأول، هو زمن (التكوين الأول)، قبل أن يبدأ رحلته الطويلة مع الكتابة الفنية، ودعونا نتأمل ــ بعد أن ننحي قضية توظيف التراث جانبا ــ لكونها ليست موضع الإهتمام في هذه الدراسة ــ كيف فرض المخزون الثقافي العام نفسه على عدد ليس بالقليل من قصائد الديوان، وإلى أي حد كان الوطن ورموزه المتتابعة عبر الزمن مركوزًا في أعماق الذات عنده.

فمن “المخزون المصري القديم العميق في الذات”، يستدعي “إيزيس”، “رمسيس”، “كاموس”: (انظر أصل الحكاية الصفحات 25، 72، 28)، ومن “المخزون الديني العميق في الذات”؛ يستدعي “سليمان” (انظر “أحلام الكلام” ص31)، “لقمان” (انظر “أحلام عصرية” ص38)، و “عيسى”، “أيوب”: (انظر”أيوب السويس” ص59)، ومن “المخزون المعاصر العميق في الذات”، يستدعي “النديم” (انظر “ثلاث كلمات للحب” ص13)، “سيد درويش”: (انظر “كلام لسيد درويش” ص63)، وجميعا كما هو واضع رموز زائعة ومشهورة في ثقافتنا العامة، لابد أن تكون قد أدت دورها الفاعل في تشكيل تصورات “كامل عيد”، وصياغة قناعاته فيما يخص معنى الوطن وقيمته، ونوع الحياة التى يرضاها له، قبل أن يستخدم دلالاتها المختلفة لتأصيل مفهوم علاقته بالوطن، وتأكيده في السياق الشعري.

والمتأمل لقصائد الديوان، لن تصادفه عقبة ذات بال في سبيل تتبعه أبعاد تلك العلاقة بين الشاعر والوطن، ومراحل تطورها، ابتداء من مرحلة ماقبل يونيو 67 بكل مافيها من أحلام وهواجس، ومرورا بما تلاها من مراحل؛ تأمل الشاعر وهو يحلم بوطن انساني حر سعيد بما يكفي لاستيعاب كل أحزانه (انظر: “أحلام الكلام” سبتمبر 1965 أقدم قصائد الديوان) .. يقول: (بحلم بحب وغيط ــ وببلد ــ /ملهاش بيبان /بحلم بروح انسان /باحلم بصدر حنان /باحلم بكل مكان /دفن الآهات، وبيدفن الأحزان).
لكن هذه العلاقة ، لاتلبث أن تتطور سريعا إلى ماهو أكبر من مجرد الحلم، متخذة من الأبعاد ماهو أعمق أثرا وقدرة في تشكيل ذات (كامل عيد)، بفعل الأحداث الكبار التى عاشها الوطن، وألقت بظلالها الكثيفة على عالمه الشعري، انظر ذلك الإصرار (المبكر جدا) على الصمود والتحدى في مواجهة ماجرى، وتأمل لهجة خطابه الآمرة الواثقة وهو يحذر الشهيد عشية الهزيمة في 67، في (امبارح لأ: 9 يوليو 67)، يقول: “حمدان يا ابن امي وابويا /ألف رحمه عليك /حسك تدفن راسك في الوحل /حسك تتألم أوتخجل ـ اتطمن /الأرض بتترجرج غليان /الأرض امك بتضمك /وبتغسل شرفك م الأحزان”

بهذه القوة، صهرت وقائع يونيو وما خلفته من مرارة وألم (كامل عيد) في بوتقتها اللافحة، واستنفرت فيه الهمة القابعة في الذات العاشقة الغيورة على الوطن والأرض والعرض، وأمدته بمعين لا ينضب من المستفزات الملهمات، ورغم ما وقرته الهزيمة ــ آنذاك ــ من مشاعر اليأس والإحباط والإنكسار في نفوس الجميع، بقى هو، ومنذ اللحظة الأولى ، صلب العود ، شامخ العزة، رافضا أن يرى نفسه مجرد رقم في الطابور الطويل من المنهزمين والمنسحقين، حتى وإن كنا نلمح من وقت لآخر نبرة حزن منفلتة، أو عبرة ألم توشك أن تهزمه، تأمله وهو يخاطب زوجته في المهجر بعد شهور خمسة من النكسة، لتدرك كم كان الوطن متوغلا في ذاته حتى في ذروة الألم؛ يقول لها في (جواب من السويس: 24/10/1967): “حنِّي كفوفك حنه سويسي /ابكى سويسي /نزلى دمعاتك حنيهم غنوه حزينه /لو ضحك النوار في طريقك سامحيه /مسكين سارقاه السكينه”.

لقد تحول العصفور المغرد الحالم بالسعادة والحرية في (أحلام الكلام)، والمنتمي لكل الأشياء الجميلة في (الانتماء)، إلى محرض على البكاء والغناء الحزين في (جواب من السويس)، ولِمَ لا، فقد سقط الحلم الجميل أمام عينيه سقوطا مروعا ومفاجئا ، مخلفا وراءه آهة حارة متأججة، ألما على ما ضاع، وحزنا على ماجرى؛ انظر كيف (يبكي) على ماجرى للبلد في (السويس)، وما ألم بها في (غنوة سويسي: 15/11/1967)، يقول وقلبه يفطر دما: “آهين يابلد عمري /يا باب لبحر والمصنع /ولميتي الشبك بدري / أيا بلدي”.
لكن الذات العاشقة أبدا لا تستسلم، تحاول بإصرار أن ترتفع على الألم والحزن، تبحث عن نغمة بديلة من الأمل والتفاؤل، تفتش عن ضحكة حقيقية فلا تجدها ، فلكي تعود الضحكة لابد لها من شروط، يعلنها (كامل عيد) في (ضحكتي وش البلد: أكتوبر 1969):” أبتدي أضحك بحق /لما أشوف الراية مصري زاينه سينا /واما نبقى كلنا في الحرب صحبه /نتقتل .. نقتل .. نموت”

وإن كان الشاعر قد أطلق (لاءه) الأولى في قصيدته (امبارح لأ: 1967)، فقد تلاها بـ (لاءات) أخرى كثيرة في قصائده التالية: لا للسكوت ونعم لإسترجاع الحق بالقوة (العهد، ريس البحريه: 1968)، لا للهزيمة ونعم للتطلع إلى النصر (كلام لسيد درويش: 1968)، لا للإستسلام ونعم للقتال وللجندى المقاتل صانع الصباح من العدم (بيان مصري، تسلم لنا: 1969)، لا للرضوخ للأمر الواقع أو قبول الهزيمة ونعم للإصرار على رفض الصبر وأخذ الثأر (أيوب السويس: 1969)، لا للخوف من الحرب ونعم للإصرار على خوضها مهما كان الثمن (الفجر عا الطريق: 1969)، ثم لا للا سلم واللا حرب ونعم لفتح النيران لتصحيح الخارطة، والمطالبة بالثأر من مغتصبي الأرض، وميتمي الأطفال، (انظر: “ثلاث حواديت من الجبهه: 1971”) يقول: “يا أمينه يا بنت حسين مسعود /مع إني أبوكى حسين و باعزك /لكن أبدا ماحسامح /ولا تبقي بنية أبوكى صحيح /إن شب وليدك (أحمد زين الدين عثمان) /يعرفش الحق /أو مين خلاه من صغره يتيم /لو شب الواد ولا خدش بتار الأرض؟”.


هكذا، ظلت قضية تحريرالأرض تشغل المساحة الأعظم في عمق الذات، فلم يتوقف اهتمام (كامل عيد) بها لحظة واحدة ولست سنوات كاملة هي عمر الهزيمة، توالت خلالها قصائد مناجاة المعشوقة المستباحة (سيناء)، والتي طال انتظاره لها، وما أن انطلقت إشارة العبور الأولى، وحانت لحظتها المرتقبة الحاسمة، حتى انطلق هو الآخر يسجل في دفتر أحواله تلك اللحظة المقدسة في الآن ، (انظر : مشهد العبور من أوبريت “السويس حبيبتى : 16/10/1973” ) يقول: “دفعتنى الروح بالروح جدفت /وصلت الشط /م الفرحه حضنت الأرض /حنيت بترابها إيديا عزفت / ياحبيبتى يامصر”.
لم تكن لحظة العبور عند (كامل عيد) مجرد موضوع للإبداع، أومناسبة لنظم الشعر وإلقائه فى المحافل والندوات، وإنما كانت بالنسبة له؛ لحظة العناق الطويل بين ذاته المتشوقة، وموضوعها الملهم، بعد سنوات الاغتراب الطويلة، والبطيئة، والثقيلة بآلامها وأحزانها.
لقد استمر هذا العناق طويلا، وبلا توقف، ربما لسنوات، دون أن يفقد حرارته الأولى، (انظر: “خرزه في عقد حب: ديسمبر 1974” )، (أذكركم في عيد النصر: 1975 )، (كلمه لمصر: 24/10/1976)؛ كم كان الوطن بالفعل ، وبحق ، متوغلا فى عمق ذات (كامل عيد)، حين قال في (مواويل المواويل: 30/6/1980): “من قبل مانتولد مكتوب نقابل بعض /أنا زرعه في ضفتك وانت المدد والرد /ده انا اللى شربت وأكلت من خيرك /وحاربت بيك يانيل حرب الشرف والعرض”.
لكن العلاقة بين الذات، والموضوع (متمثلا في الوطن) لا تتوقف عن هذه النقطة، بل تكتسب بعدا إضافيا عندما تتجاوز المفهوم العام والمجرد للوطن إلى نطاق أكثر تحديدا ـ رغم رحابته ـ هو النطاق المادي الواقعي له متمثلا في عنصرى المكان والناس.


انطلاقا من هذا الفهم، يصبح من الممكن تمييز هذا البعد (الإضافي) في علاقتين فرعيتين ينبثقان من ذلك البعد الأساسي المجرد، هما علاقة (الذات /المكان)، وعلاقة (الذات /الناس)، باعتبار أن المكان، والناس هما (الموضوع) المادي في العلاقة الأولى، والواقعي الحي في الثانية.
أما العلاقة الأولى (الذات /المكان)، فيمكن استجلاء ملامحها في ديوان أصل الحكاية عبر وفرة من الشواهد الشعرية التي تدلل على ما للمكان من أهمية ـ تاريخا وقيمة ـ في ذات (كامل عيد)، الذي يستخدم مستويات بلاغية ثلاثة للمكان،

المستوى الأول: اشاري صرف، كما في عناوين عدد ملحوظ من القصائد؛ نذكر منها: كلمة لمصر، أغنية للسويس، حدوتة مصرية، جواب من السويس، غنوة سويسي، أيوب السويسي، من مفكرة راجل سويسي، ثلاث حواديت من الجبهة، كلام للسويس، أوبريت السويس حبيبتي، السويس تغني.

المستوى الثاني: دلالي، باستخدام المكان (كدال) بما يثيره من معنى فكري أو وجداني أو عاطفي (كمدلول) كما في (ثلاث كلمات للحب ـ كلام مصري ـ 1968)، يقول: “بحبك سواقي /بتسقي الشراقي /يموت القلق /بحبك مصانع /مداين جناين /بعقد وحلق”

المستوى الثالث: تصويري، فالمكان من منظور (كامل عيد) أبعد من هذا وأعمق، فهو لا يعبر فقط عن الصورة العيانية الساكنة للوطن (مستوى الاستخدام الإشاري للمكان)، أو حتى عن المعنى المخبوء وراء الرمز المكاني (مستوى الاستخدام الدلالي للمكان)، إنما يتخطى حدود هذين الاستخدامين إلى استخدام المكان كعنصر رئيسي في الصورة الشعرية، واعتباره كيانا حيّا يتأثر بالأحداث وينفعل لها، (انظر مثلا “بيان مصري ـ 1969”)، يقول: “اضرب، اضرب، اضرب /صحى تراب سينا الغليان”. وانظر أيضا (ثلاث حواديت للحب ـ فبراير 1971 ) ، يقول : “وش السما أحمر /وش السما دخان /وش السما غايم /قلب البلد أحزان /لكنه مش نايم”. وفي (خطابين للشعب ـ السوق ـ 24/10/1974)، يقول: “على قد ما تألمت والنصر أحياني /شفتك يابلد (الغريب) م الغربة بتعاني /على قد ما لفيت ورجعت بمعاني /شفت السويس بتئن”


أما العلاقة الفرعية الثانية (الذات /الناس) فهى نهاية المطاف، وغاية الغايات في علاقات الذات بالموضوع، فيها يمثل الناس ــ حسبما تؤيده الشواهد الشعرية في أصل الحكاية ــ الجوهر الأصيل العميق الذي تحوطه وتحتضنه وتتوحد معه ذات (كامل عيد)، إنهم دنياها وعالمها الرحيب، هم كينونتها وصيرورتها، بقاؤها وفناؤها، تحيا بهم ومن أجلهم، تحلم لهم ومعهم حلم الحياة الأجمل في بساطته، والأروع في مثاليته، تؤرقها همومهم، وتشقيها أحزانهم وآلامهم، إنها ذات عاشقة للناس، مؤمنة بقضاياهم وبلا حدود.

تمضي رحلة الذات في علاقنها مع الناس عبر شواهد شعرية لا حصر لها ويمتلىء بها ديوان (أصل الحكاية) ابتداء من (غنوة سويسي ــ 15/11/1967)، والتي تتجلى فيها حميمية تلك العلاقة، يقول: “نسجت بقلبي موالك وغنيته /مع الشغيله في المصنع /مع البمبوطي في المينا وعا المركب /مع فلاحك الضاحك على كتفك /وسار يتحاكى با مجادك”.
وتستمر الرحلة الطويلة دون توقف: فيتأسى للناس الذين يتعرضون لقصف العدو في (جواب من السويس ــ اكتوبر 1967 ـ ص 53)، ويمسح دمعات المطحونين في (سؤال ــ مايو 1968 ـ ص 84)، ويؤكد حبه لمصر عبر العامل والفارس والدارس والشاعر في (كلام مصري ـ 1968)، يقول: “أحبك عروسة /في إيد بنت عامل /بيبني البلد/بحبك حصان /بيرقص بفارس /وطالع سبق /بحبك مدارس / ودارس وشاعر /ورنة وتر ”

ويستمر (كامل عيد) في عشقه للناس، فيدعو بالسلامة لذوي الهمة، وراوي الحبة، والمدافع عن الحق في (تسلم لنا ـ فبراير 69 ـ ص 83)، ويعلق ضحكته بفرحة الناس وسعيهم في اطمئنان في (ضحكتي وش البلد ـ اكتوبر 69 ـ ص 65)، ويشيد بصناع السد وعماله في (صناع السد ـ ديسمبر 70 ـ ص 85)، ويغني للإنسان والناس الذين يتبادلون الحب والمرابطين على خط القناة دفاعا عن الوطن في (الشاعر والقضية ـ مارس 70 ـ ص 71)، وينقش بروحه النياشين للسهرانين من عمال البترول في (كلام للسويس ـ فبراير 71 ـ ص 91)، ويتألم من أصحاب الفكر المخضرمين الذين أخافوه من أن يبدع بحرّية في (حكايات السفر الطويل ـ مارس 73 ـ ص 87)، ويحفز العامل على انجازه ويباهي بفنه.

كما يسعد بعودة الناس إلى مدينة السويس للمشاركة في فرحة النصر والعودة في (السويس تغني ـ سبتمبر 74 ـ ص 97)، ويتألم من صاحبه الذي باعه بثمن زهيد، ومن الكدابين والغشاشين والمشغولين بالعرش، كما يتألم من جرح الأصحاب الأندال، ومن الغربة والأغراب في (حكايتين للشعب: السوق ـ اكتوبر 74 ـ ص 101، 103)، ويؤكد في (بكره إيه ـ اكتوبر 74) أن تحقيق حلم الغد المنتظر لا يمكن أن يكتمل بدون يقظة الناس، يقول: “بكره لجل ما يبقى أخضر /مش كفايه الحلم بيه /بكره عايز ناس ماتهدا /ألف ألف وألف عين /إيد حديد تقطع الإيد اللي تنهب”. ويلقي تحية الصباح على العامل (الأسطى)، ويدعو للحب والعمل في (سلام بالحب ـ 75 ـ ص 108 ، 109)، ويذكرنا بما قام به الناس لإستعادة الأرض في (أذكركم في عيد النصر ـ 1975)، يقول : “أنا المكتوب على قلمي هنا با املي حكاية العمر أحكيها / حكاها الدم من قلبي نسجها الدان /كتبها الناس بضوافرهم على الإسفلت والجدران /كتبها عليوه وابو خاطر وعم سويلم البقال أبو العيال / وناس مجهوله أساميهم في دنيتكم كما في دفتر الأحوال” . ويعبر عن ألمه بسبب ضيق الرزق وبسبب تراخي البعض عن أداء واجبهم اعتمادا على الآخرين في (الربيع والناي ـ مايو 77 ـ ص 32)، ويؤكد أن الشعب حى وسيظل في (في ذكرى ماجرى ـ يناير 77 ـ ص 120)، ويتأسى على ما آلت إليه أحوال الناس وتحكم المادة فيهم، ويتساءل عن سبب دموعه فيعرف أنها داء الغلابة الناتج من الأنين والسكات، ويوضح رأيه في الغربة بأنها ليست غربة السفر، وإنما هي غياب الأهل والناس في ( موواويل الموواويل ـ يونية 80 ـ ص 121)، ويتساءل في (البكاء للداخل )، يقول: “يا هلترى هجرتني روحي المؤمنه /بالحب والناس البساط /واللا أنا عفت الحياة بالغربة مزروعة بآهات”.


ولا غرابة، إن طالت رحلة الذات مع موضوعها الجوهر (الناس)، وليس ثمة تعليل يبررها سوى ماقاله (كامل عيد) نفسه في (ثلاث كلمات في الحب ـ 1968) إذ يقول: “ولإني بحب الناس /والناس بالناس تتحب /خطيت بالقم الحرف، كتبت الشعر” .

أكمل القراءة

صن نار