منبـ ... نار
من تجربة والٍ بعد الثورة
الأصل ليس إسكات أصوات الغضب، بل تلبية انتظارات الناس … و عند تعذّر ذلك، بناء ثقة متينة معهم … بالقليل المُتاح
نشرت
قبل سنتينفي
من قبل
منصف الخميري Moncef Khemiri
لم أكن متهيّئا مُطلقا لأن تقع دعوتي يوما إلى شغل هذه المناصب السياسية وأمثالها، لا فقط لأنني انتميت طوال حياتي إلى طيف سياسي تجنّد وناضل من أجل احتلال مواقع احتجاجية متقدمة بدلا من المواقع السلطوية المتهدّمة … بل وأيضا لأنني مازلت أعتبر أن كل خطة إدارية لا بدّ لها من ملمح خاص يستدعي تكوينا معيّنا وأدوات معلومة في التسيير و الحوكمة.
لكن حدث ما حدث في 2011 وتمّ الدفع بمجموعة من الأشخاص غير المحسوبين على النظام السابق، ويتوفرون افتراضيا على حدّ أدنى من المقبولية لدى عموم الناس، وخاصة لدى شارع مازالت حرارته مرتفعة وواقع آنذاك تحت سيطرة “قوى الاحتجاج التاريخية” (التي ستُسكت أصواتها الصادعة فيما بعد نتائج الصناديق المفخّخة) من نقابيين وحقوقيين ومناضلين من شتى أصقاع عالم الأنوار والأفكار.

كنت من بين هؤلاء وقبلت التحدّي بعد استشارة عدد كبير من أصدقائي الذين أجمعوا على ضرورة خوض غمار التجربة رغم إكراهاتها و حساسية الظرف المهيمن مباشرة بعد جانفي 2011.
لم أعمّر أكثر من أسبوع في قابس على خلفية سوء تفاهم مع وزير سابق رحمه الله لن أخوض هنا في تفاصيله نظرا للتقدير الرمزي الكبير الذي يحظى به هذا الأخير في قلبي رغم كل ما جدّ بيننا… ثمّ التحقت بولاية سليانة لتعترضني أول عملية إرهابية مسلحة في 18 ماي 2011 في قلب مدينة الروحية واستشهاد الملازم الطاهر العياري والعريف أول وليد الحاجي رحمهما الله.
لماذا أعود إلى هذه التجربة ؟
أعود إليها لأتناولها لأول مرة ومن زاوية ما تجلّى منها من حقائق ودروس قد تتوفر على بقايا صلوحية استعمال لفائدة البلد والقائمين على حظوظ تعزيز مناعته وتحسين شروط إمكان السعادة فيه.
أولا :
بالرغم من موقعها المركزي جغرافيا واقتصاديا وتاريخيا، ظلت ولاية سليانة تحبس أنفاسها بعد “جلاء آخر جندي فرنسي”، منتظرة حلول أول مشروع وطني تونسي يُقلّم أظافر الفقر ويُثمّن تراثا عالميا نادرا ويُوظّف العصور الجيولوجية السحيقة التي توفرت عليها عين الذهب بجبل السرج …فما راعهم إلا والوافد الوحيد والأوحد كان مشروعا ألمانيّا تمثل في معمل لصناعة الكابل “دراكسماير” يُشغّل حوالي 3000 عاملة وعامل… وما عدا ذلك لا أثر للاستقلال والدولة الوطنية ولا لدولة الثورة المباركة.
قلت رغم ذلك المنسوب الخُرافي من اللاّ وطن و اللا إستقلال و اللا رفاه… وجدت أناسا طيّبين وهادئين ويُعوّلون على أنفسهم و على ما تزخر به أراضيهم من عذب مياه و تفاح و فاكهة سريز و رخام و زيتون و قوت… لكنه هدوء كان يُخيفني أحيانا لأنه يليق أكثر ببعض الجهات المترفهة التي لا تخترقها أسباب العواصف والأعاصير.
ثانيا :
في تلك الفترة ورغم حضور البدلات العسكرية داخل أروقة المؤسسات السيادية تشعر بأنك أعزل تماما من شرطين أساسيين للحكم وهما الإمكانيات التنموية الحقيقية الموضوعة على ذمّة السلطة الجهوية (أي إجابات ملموسة ومباشرة على مختلف المشاكل التي اصبحت معلومة لدى أجهزة الدولة منذ عقود) من ناحية، وشيئا من “القدرة الإقناعية للدولة” على معنى ترميم الصورة المُهشّمة لدولة الاستقلال التي سقطت كل أوراق التوت عن عورتها وعلى جميع ممثّليها وحاملي ألويتها من ناحية أخرى.
فهذا نظام سقط ولكن يعسر جدا في ذات الوقت أن يولد نظام جديد على أنقاضه الآن بصفة مباشرة ويكون مؤسّسا على قيم العدل والحرية وكرامة العيش والوطن.
لذلك بالذات كان لأداء الأفراد (باعتبارهم ذواتا أكثر منهم ممثلين رسميين لسلطة مركزية) دور مركزي في إدارة الأزمات والتعامل مع الانفجارات الاجتماعية التي تحدث هنا وهناك والتصرف مع حشود المواطنين الذين يتوجب عليك مقابلتهم يوميا.
ثالثا :
وفي علاقة بملمح الأفراد، أقرّ بأن الأصل ليس في إسكات أصوات الغضب أو تأجيل انفجارها بل هو في تلبية انتظارات الناس وإيجاد حلول حقيقية لمشاكلهم. ولكن في غياب ذلك، قدرُك أن تبني علاقات ثقة متينة بالقليل المُتاح وتُثبت أنه لا وجود فعلي لــ “صندوق أسود” يتحوّز عليه والي الجهة وليست الإجراءات الإدارية الثقيلة هي ما يحول دون تنفيذ مشاريع لفائدة المواطنين، بل غياب المشاريع ذاتها … وعليك أن تتسلّح بكل ما أوتيت من حنكة و فطنة لتفلت من عُقال الابتزاز بأنواعه ما لان منه وما تصلّب … وعليك خاصة أن تكون “يسير المنال” يمكن الاتصال بك والتحدث إليك هاتفيا أو بصفة مباشرة في كل آن وحين.
فعلى سبيل الطرفة، كان عديدهم لا يصدق أنك تطلب أرقاما بعد التوقيت الإداري تركها أصحابها لدى الكتابة (لأنك لم تكن بمكتبك بعد الظهر) للاستفسار عن موضوع زيارتهم … فيردون عليك باستعلاء تونسي أصيل “برّة يعيش ولدي ضيّع وقتك في حاجة أخرى، فمّا والي هو يطلب مواطنين العاشرة ليلا ؟” فأجيبه “هاو عندك رقم مباشر، غدوة ثبّتو في عقلك وتصبح على خير”.
هي بعض الجوانب الاتصالية الحافّة لكنها تساهم في تأسيس مناخ من الثقة الذي يسهّل التواصل مع الناس وامتصاص نسبة هامة من غضبهم وحنقهم على سلطة احتقرتهم على امتداد نصف قرن … و لم تواجه توقهم إلى بعض الكرامة إلا بالمراوغة و التسويف وبعض الجرعات الأمنية نافذة المفعول.
رابعا :
من الظواهر التي تلمسها بشكل جلي وأنت تستقبل مئات المواطنين يوميا، أن بعضهم يأتي فقط ليسجّل في سيرته الذاتية أنه التقى بوالي الجهة و قال له بصوت عال إن الأمر لم يعد يطاق وأن اتصاله يعتبر تحذيرا أول قبل اتخاذ خطوات تصعيدية أخرى… و البعض الآخر (بصفة موازية تماما لحاملي الشهائد الجامعية العليا المعطلين عن العمل)، يجلس أمامك بكل ثقة في النفس ويدفع إليك بشهادة سراح من السجن بنية التأثير عليك وإقناعك بأن 2011 أسّس بشكل من الأشكال نوعا من “الشرعية السجنيّة” القابلة للاستثمار … و بعض آخر من الذين فاجأتهم الثورة و لم يتمثّلوا أنها حاملة لقيم جديدة تقطع مع ما كان سائدا قبلها فراحوا يطالبون بإعادة إنتاج نفس السلوكات غير السويّة من قبيل “خدّمت أولادي الكل، مازال كان وحيّد برك” … أو “ثمة قطعة أرض هي تابعة الدولة لا محالة، ما ثماش زعمة طريقة كيفاش نتوسع فيها؟ العايلة كبرت، ونزيد نصونها ونحفظها” … أو كذلك “ياخي اعلاش عملنا ثورة كان ولدي ما ينجحش بـــ 8 على عشرين ؟” … وأختم هذا الركن بظاهرة شدّت انتباهي خلال تلك الفترة وتتمثل في عقلية “محاضر الجلسات” كدليل إدانة للمسؤول المعني، حيث كان عديد المواطنين يعتبرون أن مجرّد عقد جلسة حوارية وتدوين محضر جلسة يلخّص ما تمّ التداول بشأنه (حتى وإن لم تحصل اتفاقات صريحة)، هو حجّة كافية لإثبات الحق وإقرار الموافقة على المطالب المطروحة.
خامسا وأخيرا :
لو كان لي أن أعطي هذه النقطة الخامسة عنوانا لأسميتها “كاموريات”. ..لأنها متعلقة بكيفية مواجهة التجاوزات القصوى التي ترافق أحيانا بعض الاحتجاجات الشعبية المشروعة … و التي عادة ما يحدث -عندما يطول أمدها- أن يتم اختراقها فيتسرب لها المنحرفون والنهّابون وقطاع الطرق وأصحاب المشاريع المشبوهة.
ظاهرة قطع الطرقات على سبيل المثال استفحلت بعد 2011 في كل الجهات بدون استثناء … و هي شكل احتجاجي يمكن تفهّمه لأن المواطن يدرك جيدا أنه في ظل الانفجار المجتمعي العام، لا يتيسّر لسلطة مرتبكة مازالت تبحث عن توازنها أن تنتبه لمشكل تزود بالماء الصالح للشراب في قرية نائية لا يعرف مسالكها المتشعبة إلا الشيخ غوغل والحرس الوطني.
لكن عندما يكون الاحتجاج مشروعا و للسلطة الجهوية بعض المصداقية، كنت شخصيا أرفض التحول إلى موقع الاحتجاج طالما ظلت الطريق مغلقة … و غالبا ما نجحت في إقناع المحتجين بإخلاء الطريق العام و الابتعاد بعض الأمتار فقط فينطلق حوار بيننا يدوم بعض الدقائق أو بعض الساعات قبل التوصل إلى حلول ترضي الناس و تقدر السلطة على تنفيذها.
وثمة في العادة 3 أنواع من الحلول بحضور المسؤولين الجهويين عن كل مرفق (حسب طبيعة المشكل المتسبب في اندلاع الاحتجاج) :
1) مشاكل تستطيع السلطة حلّها في اليوم نفسه بشيء من الإرادة و التعسف غير الضار على الإجراءات الاعتيادية
2) مشاكل يتطلب حلها بعض الوقت (لكن تتعهد السلطة بالرجوع الى نفس الموقع ومعاينة تقدم الأشغال في الآجال المتفق عليها).
3) مشاكل غير قابلة للحل في الإبان لكونها تتطلب إمكانيات ضخمة وتخطيطا مركزيا لكن على السلطة الجهوية أن “تضغط وتستبسل” في اقتلاع الموافقات الضرورية من الوزارات المعنية على تنفيذ بعض المشاريع ذات الطابع الاستعجالي.
مُقاربة ناجعة في اعتقادي لما يقتنع بها المواطن والمسؤول على حد السواء قد تشكل أرضية تعامل تقي مستعملي الطريق العام وجميع المستفيدين من ماكينة الإنتاج الوطني ومن مرافق الخدمات العامة… تقيهم ما ينجر عن الاحتجاجات السالبة للحرية والسيادة من إزعاجات وإرباكات مختلفة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* إطار تربوي، و وال بعد الثورة و قبل أحداث الرشّ (توضيح لا بدّ منه).

مؤكّد أنّ ما قيل وما كُتب في عشق الحياة ومدحها لا محدود …شديد التنوّع…يفيض جمال بعضه وترتقي أجزاء نادرة وثمينة منه إلى مراتب الكونيّة…

ولكن ما أن يحاول كلّ منّا منفردا أو في مجموعة (عائلة، أصدقاء، أزواج…) أن يُترجم روح بعض هذه المدائح النابضة إلى أفعال …إلى معيش يومي ينزل من علياء الصورة والاستعارة إلى محدوديّة اليوميّ، ما أن يحاول أن يفتح صباحه أو ليله أو أية ساعة من يومه على “نداء الوجود” العاتي حتّى ينحسر بعض المدى أو – في أسوإ الحالات- كلّه …تضيق الرؤيا ويخبو في أغلب الأحيان الأمل …وتتراجع درجات التنوع وتضيق قائمة الاختيارات فتسقط محاولات كثيرة في بعض تكرار اليومي …وتخوننا أحيانا القدرة على المقاومة لتتمدّد الرتابة -هناك عميقا فينا- لتقتات من القلب و الروح …
أيعني ذلك أنّ لا مهرب حقيقي من هجعة العادة… فما أن نستسلم لعدوى هذه الحالة الجماعيّة حتّى نبرع في “إنشائيّة التّذمّر والشكوى”… فتنتشر سُحب من الإحباط لتضمّ الملايين في زمن يسير – لسبب أو لآخر- لاجئين إليها من “ظلم الحياة وقسوة الظروف”….وتعلو قائمة الأعذار المانعة للفرح السّالبة “لكرم المزاج”.
ثمّ هل نحن في حاجة إلى “نداء الحياة” أم هو أحوج منّا إلينا ليكون… ليُنجَز؟ لا أشكّ لحظة أنّ الحياة هي أحوج إلينا في هذه السنوات الأخيرة الصعبة والخطيرة المليئة بحدّ يفيض كثيرا عن حاجتها إلى التناقض والسرعة.
لا شك في حاجتها إلى التذكير بحبّنا لها وعشقنا لحرائقها الصغيرة والكبيرة، هي الأنثى المركّبة الجليلة المشتهاة أمّا وحبيبة…. احتراما ورغبة، حاجة إلى الأمن والمغامرة…هي الحياة لا يشبهها في ذلك غيرها.
كيف السبيل إلى التصدي – هذه الأيام – إلى سلاسل مكرّرة من التذمّر وإلى سيول جماعية جارفة من التشاؤم…ما الحلّ وأحلام التغيير الجماعي تنحسر بل تنعدم، ما الحل والأغلبية السّاحقة منقادة بفعل الكراهية والسياسة وتوحّش الاستهلاك ؟
لنا أمام كل هذه الكوارث أن نغضب ونحزن ونرفض ولكن دون إلغاء للجمال …دون إعلاء من شأن الكآبة والإحباط.
فلا يزال هناك – كل يوم- شروق وغروب، لا يزال على هذه الأرض بحر وجبل وصحراء … لا تزال أرضنا مليئة بالنخيل والزيتون والكرم والفلّين والصّنوبر وزهر الليمون.
مازال في الإمكان أن نغيب ساعات في الواحة أو الغابة أو في المدى الصامت، فتحفّز الطبيعة حواسّ كاد يعميها الاكتظاظ ويصمّها اللغط والضجيج.
ثم مازال في الإمكان أن نقرأ كتابا عميقا بالمجان (نعمة الأنترنيت) حتى وإن كان جيلنا يُفضّل رائحة الورق…و لا يزال في الإمكان أن ندوّن فكرة أو نلاحق بالكتابة صورة أو ملمحا أو حكاية تطول أو تقصر بقدر رغبتنا في الحلم.
لا يزال في الإمكان النظر إلى المدى …
وقد يكون من أهم المُمكنات الباقية لقاء الأصدقاء -على نُدرتهم – حول قهوة أو كأس أو لقمة تهضمها ضحكة صافية أو نكتة طريفة ذكيّة أو محادثة نابضة بهمّ صادق.
مازال في الإمكان أن نؤدّي عملا أكثر قليلا أو كثيرا مما تتطلبه القوانين المتكلسة والمناشير البالية فنسعد بالتماعة الرضا والسّعادة في عين مواطن متفاجئ بـ”ابن حلال ” قدّم له خدمة وعبّر له عن شيء مفقود أكثر من كل المواد الأساسية في هذا البلد: الاحترام، ما أجمل أن تجعل مواطنا “يصطدم” صباحا بشيء غير قليل من الاحترام لذاته، لذاته وحسب.
ليتنا نحاول كل يوم أن نكون أكثر كرما وعطاءً.

كانت وما زالت المكتبة العمومية من أهم المؤسسات الثقافية التي تلعب دورا هاما في تثقيف المجتمع فهي لم تعد مجرد مستودع للكتب تقوم بإعارتها لمن يطلبها.

اليوم فاق دور المكتبة العمومية الدور التقليدي وأصبحت توفر خدمات إضافية من أجل الترغيب في المطالعة وتسويق رصيدها المعرفي لكل من يحتاجه، خاصة في ظل التطور التكنولوجي الرهيب الذي فرض على المهنيين تحمل المسؤولية في تطوير أفراد المجتمع من خلال استنباط طرق جديدة لاستقطاب أكثر عدد ممكن من المستفيدين من خدماتها المتنوعة، خاصة أن المكتبة هي بالأساس خادمة لكل فئات المجتمع دون استثناء ،
في هذا السياق عملت إدارة المطالعة العمومية على إعداد إستراتيجية لضمان ديمومة المكتبة والحفاظ على روادها وجلب مشتركين جدد، وذلك من خلال إحداث العديد من التظاهرات الثقافية داخل المكتبات العمومية بدءا بالخطة الوطنية للترغيب في المطالعة وصولا إلى البطولة الوطنية للمطالعة التي انطلقت في دورتها الأولى سنة 2021 بالإضافة إلى الأنشطة التي تقوم بها المكتبات من حين لآخر.
ان تنظيم الأنشطة الثقافية في المكتبات العمومية ساهمت فيه عدة ظروف منها ما هو استراتيجي ويتعلق الأمر بالمنافسة الشرسة التي فرضها عالم التكنولوجيا والانترنت ومنها ما هو تشريعي ومادي من خلال صدور الأمر الحكومي عدد 635 لسنة 2017 المتعلق بالتنظيم الإداري والمالي للمكتبات الجهوية الذي مكن من توفير ميزانية خاصة للمكتبات مما يسّر تنظيم هذه التظاهرات الثقافية بالمكتبات وتبعا لذلك أصبح التنشيط الثقافي من بين الضروريات الأساسية في المكتبات العمومية لمنح الحياة وبعث حركية جديدة من أجل استقطاب أكبر عدد ممكن من المستفيدين والتوعية بأهمية الكتاب والارتقاء بقطاع المطالعة والتنمية الثقافية.
إلا أن نجاح أي نشاط مهما كانت طبيعته يستلزم مجموعة من المتطلبات والإمكانيات المهنية والمادية والبشرية، ويعتبر المكتبي العنصر الأساسي في تفعيل وإنجاح الحركة الثقافية بالمكتبة. ومن هنا سنحاول في هذا المقال طرح موضوع التنشيط الثقافي بالمكتبات العمومية ومدى نجاعته من خلال الإجابة عن بعض التساؤلات: ما هي المهارات الواجب توفرها في المهنيين لإنجاح هذه الأنشطة ؟ ما هي نوعية الأنشطة المنظمة من قبل المكتبات ؟ هل حققت هذه الأنشطة أهدافها ؟
ان المهارة هي القدرة والمعرفة بطريقة وكيفية أداء شيء ما بكل حرفية واقتدار وبمرور الوقت والممارسة تصبح هذه الخاصية جوهرية في العمل، وإذا تطرقنا للحديث عن المهارة الواجب توفرها في أخصائيي المعلومات لإدارة وإنجاح الأنشطة الثقافية بالمكتبة، سنتحدث بالضرورة على عدة صفات أساسية لتعزيز القدرة على النجاح وتحقيق الأهداف باعتبار أن التنشيط الثقافي في المكتبة له طبيعة متنوعة وموجهة لجمهور يضم كافة شرائح المجتمع بمختلف مستوياته الثقافية وعليه لابد للمكتبي أن يتحلى بالصفات التالية:
حب المهنة: على المكتبي أن يحب مهنته أولا وقبل كل شيء حتى يكون له الدافع الرئيسي للقيام بمهامه على أحسن وجه ويفرض وجوده وسط المحيط الذي يتعامل معه باعتباره الوسيط بين خدمات المكتبة بمختلف أشكالها والمستفيدين والتي يهدف من خلالها المساهمة في الارتقاء بالمجتمع .
الثقة بالنفس: تعطي القدرة للمكتبي وتحفيزه على المبادرة والإبداع في اقتراح وتنظيم أنشطة ثقافية هادفة وتمنحه الجرأة على التعامل مع مختلف الهيئات والمؤسسات الرسمية وكافة مكونات المجتمع لضمان دعمهم المادي والمعنوي في سبيل إنجاح كافة الأنشطة التي تقوم بها المكتبة.
التعلم والتكوين المستمر: يتلقى أخصائي المعلومات تكوينا أكاديميا بالجامعة وهذا التكوين يكون عادة نظريا، لهذا علينا كمهنيين ألا نكتفي بما تلقيناه من دروس نظرية بل لابد من مواصلة التكوين من خلال التعلم الذاتي عبر المطالعة والاطلاع على الدراسات التي تهتم بعلوم المكتبات أو حضور الملتقيات والدورات التكوينية وكذلك من خلال تبادل التجارب والخبرات في مجال علم المعلومات وأيضا التواصل مع المؤسسات ذات الصلة خاصة ونحن نعلم أن التنشيط الثقافي لم يكن مدرجا ضمن البرنامج الأكاديمي لهذا علينا أن نطور من معارفنا في هذا المجال والتدريب على تقنياته .
التواصل: هو فن وظاهرة اجتماعية ترتبط بطبيعة الإنسان وضرورة حتمية للتفاهم والتعامل مع الآخرين وهو دعامة أساسية للعمل المكتبي نظرا لما تتطلبه عملية الترغيب في المطالعة من قدرة على التواصل والإقناع، وعليه فإن المكتبي مدعو لإتقان هذه المهارة من خلال الإلمام بتقنياتها سواء كان اتصالا مباشرا أو غير مباشر ، وتعتمد عملية التواصل على الإقناع بأهمية الأنشطة التي تقدمها المكتبة وكيفية التخاطب مع الجمهور المستهدف كل حسب مستواه الثقافي.
العلاقات العامة: من المهم بالنسبة للمكتبي ربط العلاقات مع البيئة المحيطة به من أجل الاستعانة بها عند تنظيم الأنشطة خاصة مكونات المجتمع المدني من جمعيات ومؤسسات باعتبار ان الجمعيات ذات الصلة بالعمل الثقافي تساهم بشكل فعال في إنجاح أنشطة المكتبة من خلال الدعم المادي وجلب الجمهور وتشريكه في الأنشطة. وحتى يتمكن المكتبي من ربط هذه العلاقات عليه أن يتصف باللباقة وحسن التواصل. الثقافة الواسعة ، الجرأة وروح المبادرة لكسب ثقة كافة الأطراف وتمتين هذه العلاقات وتطويرها من أجل توحيد الجهود والتعاون وضمان تكامل النشاطات ونجاحها.
التسويق: في المجال الاقتصادي هو عبارة عن فن البيع وطريقة عرض المنتجات والخدمات بصورة تجذب انتباه المستهلكين وكسب زبائن جدد إلى الإنتاج المُرادُ بيعه ، أما في علم المكتبات فهو وظيفة إدارية تشمل مجموعة الأنشطة المتكاملة التي تسبق تقديم الخدمات والتعريف بالأنشطة المزمع تنظيمها بعد أن يتم تحديد احتياجات المستفيدين، لهذا فعملية التسويق مهمة جدا للمكتبي لإنجاح أي نشاط مهما كان نوعه فقد تكون الاستعدادات مضبوطة والبرامج جيدة والنشاطات متنوعة وممتازة لكن نقص التسويق لها والإعلام بها يسبب غياب المستفيدين مما يؤدي إلى فشل النشاط،
لهذا فالمكتبات اليوم في حاجة لتسويق خدماتها بمختلف أشكالها من أجل جلب أكثر ما يمكن من متلقين الشيء الذي يدعونا كمهنيين إلى معرفة تقنيات التسويق وكيفية الإعلام بأنشطة المكتبة بكفاءة وحرفية اعتمادا على التواصل المستمر مع كافة شرائح المجتمع من خلال الإشهار والدعاية وتوزيع المطويات ووضع اللافتات في كل الأماكن التي تشهد حضورا جماهيريا وأيضا توظيف وسائل التكنولوجيا للتعريف بالأنشطة التي ستقوم بها المكتبة .
إذا توفرت هذه الصفات بالإضافة إلى الإمكانيات المادية يمكن لأخصائي المعلومات أن ينطلق في إعداد البرنامج التنشيطي للمكتبة وفق مخطط هادف يراعي فيه رغبات المستفيدين من خلال إعداد ورقة عمل يحدد فيها مشاريع الأنشطة والمهام والأهداف . فما هي نوعية الأنشطة التي يمكن تنفيذها بالمكتبات العمومية؟
يمكن القول إن التنشيط الثقافي هو عبارة عن مجموعة من العمليات أو التقنيات والمهارات التي يتم من خلالها إقامة وتنظيم نشاطات وأعمال وفعاليات ذات أبعاد ثقافية هادفة موجهة نحو فئة مستهدفة ومحددة بدقة، لذا فعلى المهنيين أن يستوعبوا طبيعة هذا المجال لما له من خصائص يجب على المكتبي مراعاتها عند تنظيم أي نشاط في المكتبة، إذ لابد من الاختيار الجيد والدقيق لنوعية الأنشطة المقترحة على الجمهور من أجل تحقيق الأهداف الثقافية والتربوية التي تم ضبطها مسبقا باعتبار أن أنشطة المكتبة عديدة ومتنوعة يمكن تقسيمها حسب الهدف، حسب الجمهور المستهدف، حسب الفئات العمرية، حسب الفئات الخاصة (تلاميذ، باحثين، ذوي الاحتياجات الخصوصية …) وأيضا حسب الوسائل المستعملة في النشاط.
وتتمثل الأنشطة التي يمكن تنفيذها (بفضاء المكتبة أو خارجه) في عرض دوري لرصيد المكتبة وكل الاقتناءات الجديدة ودعوة المستفيدين للاطلاع عليها من حين لآخر، المسابقات الفكرية ، لقاءات ثقافية وحوارات فكرية، ملتقيات ثقافية وتربوية، ورشات ، تركيز نواد وتشريك المتلقين من أجل اكتشاف مواهبهم والاستفادة من إبداعاتهم.
هذه الأنشطة وغيرها، حتى تنجح وتصبح ذات جدوى وتساهم في تحصيل عدد هام من المشتركين ، على المكتبي أن يتفق مع كل القائمين بالأنشطة بضرورة التركيز على الكتاب وإشعاع صورته لدى الجمهور الحاضر وتشريكه في النشاط حتى يصبح جمهورا منتجا لا مستهلكا فقط وهذا من شأنه أن ينمي لديه الرغبة في متابعة كافة الأنشطة والمساهمة فيها .
ان الحياة بصفة عامة مبنية على المتناقضات والإنسان عنصر من عناصر هذه الحياة، ومهما كان القطاع الذي يشتغل فيه من المستحسن أن يقيّم أعماله حتى يستطيع أن يطور ذاته ويتقدم في مسيرته المهنية. وفي هذا الإطار نحن كمهنيين لابد أن نقيّم أنشطتنا باعتبارنا في مواجهة مستمرة مع كافة شرائح المجتمع ومن الواجب علينا أن نكون في مستوى تطلعاتهم.
ان التقييم بصفة عامة هو لحظة تأمل ومحاسبة للذات وتحديد جملة من الأخطاء التي يمكن أن تبرز خلال أنشطتنا اليومية، لهذا يمكن للمكتبي تقييم الأنشطة الثقافية المُقامة والمُنظمة من عدة جوانب مثل: التغطية العلمية للموضوع المُتطرق له، الظروف التي مر بها النشاط، نوعية الجمهور المستهدف ومدى رضاه عن محتوى النشاط، وكذلك من خلال الإحصائيات والمقارنة بين السنوات من أجل معرفة نسبة الزيادة أو النقص في معدلات الاشتراك…
من خلال هذه الجوانب وغيرها يمكن للمكتبي معرفة نقاط القوة التي ظهرت خلال النشاط والاستئناس بها ودعمها في الأنشطة القادمة كما يمكن معرفة المطبات والسلبيات التي من الواجب تفاديها مستقبلا. وباعتبار أن هدفنا من تنظيم الأنشطة الثقافية بالمكتبات العمومية هو الترغيب في المطالعة وإشعاع صورة المكتبة والكتاب واستقطاب أكبر عدد من المشتركين ، وحتى يكون كلامنا ينبع من الواقع، فقد اخترنا تظاهرة مصيف الكتاب الذي تدور فعالياته خلال شهري جويلية وأوت نظرا لتزامنها مع توفر كم هائل من وقت فراغ لأغلب شرائح المجتمع ،
وحتى تكون معطياتنا دقيقة فقد اتصلنا بالعديد من المكتبات الجهوية للحصول على عدد المشتركين الجدد لكل مكتبة عمومية خلال العطلة المذكورة ومن خلال الإحصائيات التي وردت علينا لاحظنا في أغلب الجهات عددا قليلا من المشتركين الجدد في تلك الفترة ولا تتماشى مع الأنشطة التي أُنجزت .
وفي الختام أقول إذا كان عالم التكنولوجيا والانترنت قد استأصل منا رواد المكتبة وخلق هوة بين القارئ والكتاب فلا يمكن أن نعمق هذه الهوة بين المستفيدين والمطالعة من خلال تنظيم أنشطة لا علاقة لها بالكتاب ، لهذا أدعو كافة المهنيين لدراسة الأنشطة قبل انجازها والنظر في مدى توافق محتواها مع أهداف المكتبة .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*كاهية مدير المطالعة العمومية بالمندوبية الجهوية للشؤون الثقافية بسليانة
منبـ ... نار
خواطر سريعة … على هامش الاحتفال باليوم العالمي للغة العربيّة
نشرت
قبل شهرينفي
18 ديسمبر 2022
هل ما زال يفيد العربيّة اليوم استرجاع مجدها في الشعر والخطابة وهل تضيف إليها غنائيّة المتعصّبين لنقائها الفصيح ولدورها في تدوين المقدّس وتفسيره وتفسير التفاسير المتتابعة؟

- هل ما زال يفيدها التأكيد على ما حمله فكرها وفلسفتها وطبّها وجبرها من إضافة كونيّة إلى الغرب في العصر الوسيط؟ هل من فائدة من كلّ ذلك ونحن لا نكاد نشارك في إنتاج المعرفة والعلم الحديثين؟
- أم – وعلى نقيض ذلك – هل يجدر بنا أن نلتفت إلى فريق آخر لا يتقن غير النحيب على حالها وعلى تخلفها وعجزها الراهن عن مواكبة العلوم والتكنولوجيا وعلى مواكبة الثورة التي أحدثتها الرقمنة وهزّت بها العالم فنسلّم كما يسلّمون بكونها لغة “ميتة” يستحيل إحياء قدرتها على استيعاب منجزات الحداثة؟
- هل نواصل دعم قوالب الصراع والتنافر بينها وبين اللهجات العاميّة أم نبحث بمساع إبداعيّة متنوّعة عن حيويّة التفاعل بينهما كما بادر بذلك مبدعون عرب راسخون في الخلق وهم كثر؟
ليس في ثبات المواقف الثلاثة السّابقة دليل واحد عميق على حب العربيّة….
- لم تعد العربيّة – ولم تكن يوما – في حاجة إلى المزايدين من أهل الصراع السّياسوي ومن مختلقي الصِّراع الهوويّ… بل هم أكبر عبء عليها … هم يستعملونها حطبا و”كنتولا” فيلوكونها في خطابات رديئة تافهة عاجزين في أغلبهم حتّى على مجرّد النطق السّليم لحرفها….هم أعداء حقيقيّون لبهجتها الدّفينة ولدقائق معانيها وأجراس موسيقاها الأبديّة…
العربيّة تنادي كلّ صباح وتحنو كلّ مساء على من يلتهم أدبها وفكرها ..من يقاتل لنشر الكتاب الناطق بها ….من يبدع بها وفيها على هواه فتبادله وجدا بعشق وتفتح له مسارب وثنايا …تعمّق أحلامه وتعطي لكوابيسه معنى فتقلبها كشوفا…
- آخر ما تحتاجه العربيّة اصطناع الاستماتة في الدّفاع عن عبقريّتها الرّاقدة في كتب الماضي وحِكَم الغابرين …هي في حاجة جامحة إلى من يدفع بها إلى خطر التجربة والمراس والمخاتلة… إلى مزالق التفاعل مع المتغيّر والهارب …إلى مزيد من المغامرة الشيّقة الوعرة …
من يخاف عليها من التشويه …من يريد المحافظة عليها مصونا نقيّة فخير له وخاصّة لها أن يدعها “تنام على أنوثتها كاملة”….فيريحها ويريح محبّيها أكثر…
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*أستاذ أدب عربي، مستشار عام في الإعلام و التوجيه المدرسي و الجامعي

إصدارات: في “مستودع الخنازير” لمحمّد الحباشة … سرد لعبثية الحياة

ملاحظات نقديّة … على هامش تغيير النظام التأديبي المدرسي

بن عون … بضاعة مهرّبة في منزل مهجور

وفاة الفنانة ريم الحمروني

46 سنة بعد عملية مماثلة قبيل أحداث جانفي 78 … طرد مسؤولة نقابية دولية من تونس
استطلاع

صن نار
- ثقافياقبل 10 ساعات
إصدارات: في “مستودع الخنازير” لمحمّد الحباشة … سرد لعبثية الحياة
- جور نارقبل 10 ساعات
ملاحظات نقديّة … على هامش تغيير النظام التأديبي المدرسي
- اجتماعياقبل 15 ساعة
بن عون … بضاعة مهرّبة في منزل مهجور
- ثقافياقبل 21 ساعة
وفاة الفنانة ريم الحمروني
- اجتماعياقبل يوم واحد
46 سنة بعد عملية مماثلة قبيل أحداث جانفي 78 … طرد مسؤولة نقابية دولية من تونس
- جور نارقبل يوم واحد
تخميرة شعب …
- ثقافياقبل يومين
جربة…تظاهرات متنوعة لتنشيط السياحة الشتوية
- قبل يومين
46 سنة بعد عملية مماثلة قبيل أحداث جانفي 78 … طرد مسؤولة نقابية دولية من تونس
نجاح
22 أكتوبر 2020 في 14:02
ممتع هو أسلوبك وأنا أقرأ ما جادت به قريحتك أتألّم لحال هذه البلاد فالكفاءات غير مستثمرة وها أنّنا في معاناة دائمة بسبب الزّداءة المبثوثة في كلّ الدّواليب