تابعنا على

جور نار

من خطاب أريحا … إلى “غزة وأريحا” (2)

نشرت

في

شهيد في الضفة والحكومة الفلسطينية تعقد أول اجتماعاتها | أخبار | الجزيرة نت

… ومع السلطة وُجدت إدارة، ونوى مؤسسات، ومرافق، وصحة وتعليم وأمن وتجارة وصناعة وفلاحة وبنوك ومبان من الحجر والإسمنت المسلّح بدل أكواخ المخيمات … وبين قوسين، إلى الآن ما تزال دولة كلبنان مثلا تمنع على الفلسطيني بناء أي شيء بالإسمنت فوق أرضها … وما زالت تتخايل أمام أعيننا مجزرة “صبرا وشاتيلا” جثثا متناثرة بين أزقة من قصدير …

عبد القادر المقري Makri Abdelkader
عبد القادر المقري

وللحقيقة، فقد كنت من أشد الرافضين لأوسلو ومخرجاتها، ومن المتأكدين بأنها وبال على القضية الفلسطينية وخيانة لا تغتفر … وقد سعيت للتدليل على ذلك منذ العدد الأوّل لجلّنار من خلال مراسلنا القار في الضفة الغربية … طلبت منه إجابات عن أسئلة محددة وكلّي أمل في أن تكون سوادا على سواد ليطمئنّ قلبي ويطمئنّ تشاؤمي … عيش الفلسطينيين اليومي، ظروف عملهم، أحوال سكناهم، دراسة أبنائهم، بؤس مرافقهم، مدى أحزانهم، موت مرضاهم، جدب مزارعهم، امتهان كرامتهم، تفسّخ ثقافتهم، تكدّس جثثهم في الشوارع إلخ …

زميلنا الفلسطيني كان متطرّفا في رفض أوسلو أكثر مني، فقد سبق له أن عانى الأسر والاعتقال في سجون الاحتلال، وله في عائلته أكثر من شهيد، كما سبق له الاستقالة من وكالة وفا احتجاجا على” استسلام” عرفات سنة 91 … ولم يعد إلى الأرض المحتلة إلا بعد إلحاح من والده المسنّ حتى يراه مرة قبل أن يفارق الدنيا … وبعد وفاة الوالد انشغل مدة في تضميد جراح العائلة وهو كبيرها … ثم انشغل تارة في تزويج هذه الأخت وتارة في تمريض هذه الأمّ وتارة في حماية هذا الأخ الصغير من أصحاب السوء … ويوما بعد يوم، وجد أن إقامته مقدّر لها أن تطول أكثر فاستدعى زوجته المقيمة بتونس، ثم وجد عملا بإحدى الجامعات وأخيرا هاهو يستقر برام الله منذ ثلاثين سنة …

قلت إن زميلي من معارضي أوسلو وما يزال … ولكنه أيضا صحفي أمين لمهنته ولا ينقل الوقائع إلا كما هي، بعيدا عن أي شجن أو انفعال … لذا، فقد أجابني عما سألته نقطة نقطة … قال لي إنهم في صراع يومي مع المستوطنين الذين لا يفلتون فرصة أرض إلا استولوا عليها، وإن الحواجز الأمنية (الإسرائيلية) مبثوثة في كل مكان، بين المدينة والمدينة وأحيانا بين الحيّ والحيّ خاصة في القدس … وقال لي إن السلطة تعاني الأمرّين في تحصيل ميزانيتها بما أن كل المداخيل تمرّ حتما بإدارات العدوّ، فيتلكّأ في تحويلها وهي حق فلسطيني بحت … كما قال لي إن الاستفزازات والمناوشات يومية مع قوات الاحتلال على الأطراف، وقد تتصاعد وتيرتها أحيانا إلى عنف واعتقالات …

ولكنه قال لي أيضا إن الفلسطيني في هذه المساحة المحدودة أرضا وقدرات وصلاحيات، استطاع أن يؤسس لنفسه حياة اجتماعية مستقرة بعض الشيء … فهناك مؤسسات تعمل، ومدارس يؤمها التلاميذ، وجامعات عامرة بالطلبة، ومراكز بحث ومصانع وطنية ومتاجر لتلك الصناعات … وأرسل لي صورا لمستشفيات نظيفة بأطبائها وممرضيها وغرف عملياتها المجهزة أحسن تجهيز … ومعها شوارع مشجّرة وحدائق ومقاه ومطاعم ومساجد وكنائس ومسارح ودور ثقافة … كل هذا تجلله الأعلام الفلسطينية وشعار دولة فلسطين بخط عربي جميل فوق الترجمة الإنكليزية … و لا وجود للّفظ العبري على الإطلاق …

وطبيعي أن يستفزّ هذا النجاح غرائز العدوّ المتربص بأي نفس فلسطيني حيّ … فيسعى إلى التضييق والتعطيل قدر ما يستطيع … ويمطط إجراءات ويمنع تراخيص ويتحرّش ويتذرّع بأي سبب لكي يدفع الفلسطينيين من جديد نحو باب الخروج … فهو أول النادمين على عودتهم بعد أوسلو، بدليل اغتياله رئيس وزرائه الذي وافق مكرها رغم ماضيه الدموي … خاصة أن الوضع الجديد انعكس إيجابا على عرب 48 الذين اكتسبوا بعدُ جنسية الكيان وكادوا يذوبون في تركيبته الهجينة … ولكن كمواطني درجة ثانية … فوجدوا سلطة وطنية تضع حقوقهم على سلّم أولوياتها ومفاوضاتها … وراجعهم صوت الماضي فإذا بهم سرعان ما يتجاوبون مع نداءات دولتهم وشعبهم … وأصبحوا يثورون ويتظاهرون بأعلام فلسطين، لأي ضرر يمسّهم أو يمسّ أبناء بلدهم في الضفة والقطاع …

وهنا تجيء الحلقة المفقودة … الحلقة اللغز … نقطة الاستفهام الكبرى التي تستعصي على أي فهم … يقسم لي صديقي أن البداية كانت مشجعة بعد العودة … حصلنا على بعض مكاسب بفضل نضال سياسي ومفاوضين مهرة كصائب عريقات وحيدر عبد الشافي وفيصل الحسيني والدكتورة حنان العشراوي … كانت مفاوضات مضنية ولم تتوقف بل في كل يوم نتأخر خطوة ونتقدم خطوتين … وقد ذكرنا ذلك أعلاه وأكثر …

لقد قلنا إن العدوّ كان يواجه مفاوضين مهرة ووسطاء دوليين، وكان لا بدّ له من مهرب لكي يكسب الجولة، أو لا يخسر على الأقلّ … والطرف الفلسطيني كان متلاحما منضبطا حريصا على ألاّ يعطي فرصة نجاة  لخصمه … كانت كلمة العبور هي ضبط النفس أكثر ما يمكن، وعدم الوقوع في فخّ أو دوّامة عنف قد تنسف جهد  المفاوضين … وكان العدوّ يفعل كل شيء لكي يوقعهم في  شراكه … استمرار في إنشاء مستوطنات، مضايقة مصلين، مشاريع حفريات حول المسجد الأقصى، اعتقالات مختلفة، منع حركة، حجز مستحقات إلى غير ذلك …

وبقدرة قادر، وحين ييأس الاحتلال من أي مخرج ويوشك على تقديم تنازلات، تأتي إليه هدية من السماء لم تكن لتخطر على بال …

أكمل القراءة
انقر للتعليق

اترك تعليقا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

جور نار

إلى من يهمّهم أمر مدرستنا التونسية … ما يُمكن الاحتفاظ به في تقرير الجمعية التونسية للإعلام والتوجيه (جزء 1)

نشرت

في

عرضت الجمعية التونسية للإعلام والتوجيه المدرسي والجامعي والمهني في الآونة الأخيرة تقريرها السنوي الرابع حول تقييم مُجريات التوجيه المدرسي والتوجيه الجامعي ونتائجهما للسنة الدراسية الماضية (2022/2023).

منصف الخميري Moncef Khemiri
منصف الخميري

 وقد تقدّمت الجمعية بتقريرها إلى الرأي العام أوّلا وإلى الوزارات والهياكل المعنيّة ثانيا، إيمانا عميقا من القائمين عليها بأنه لا إصلاح حقيقيّا لأي مرفق كان، دون تفاعل جدّي بين من يُقرّر ومن يتابع، ودون رجع للصّدى تأخذه هياكل الاشراف بعين الاعتبار في تعديل سياساتها وإصلاح وهن اختياراتها، والتّقليص من الضرر الذي يلحقُ سنويّا بأجيال من الشباب إلى أدنى درجاته.

وتعميما للفائدة، سأخصّص ورقة هذا الأسبوع لحوصلة أهم الهِنات المسجّلة هنا وهناك وكبرى التوصيات التي تُرفع لوزارة التربية من ناحية ووزارة التعليم العالي من ناحية أخرى (وللدولة بصورة عامة)، علّهما يستفيقان فيستعجلان الإصلاحات المستوجبة أو يركبان رأسيهما ويستمرّان في انتهاج نفس الخيارات الوطنية “الباسلة” التي لا تضاهيها خيارات.  

في التوجيه المدرسي :

يُسجّل في هذا الخصوص وبكل أسف أن وزارة التربية لا رؤية استراتيجية وطنية لها في مجال التوجيه المدرسي، ولا سياسة واضحة بالنسبة إلى خارطة الشُعب والاختصاصات والتوازن بين المسالك وبين الجهات. وممّا يدلّل بوضوح على أن بلادنا تُبحر بشكل أعمى في هذا المجال أن الوزارة تفتقر اليوم إلى الأرقام الوطنية الموضّحة للكيفية التي يتوزّع بها تلاميذ “الثانية ثانوي” على مختلف الشعب المدرسية… حتى يتمّ إجراء التعديلات اللازمة والمراجعات الضرورية قبل فوات الأوان، إن لم يكن قد فات بعدُ !

قراءة في توزّع الناجحين في باكالوريا 2023 على مختلف الشعب المدرسية،أهم الاستنتاجات :

أولا : التضخّم غير المسبوق في عدد الناجحين بشعبة الاقتصاد والتصرف، إذ يمثّلون لوحدهم ثلث العدد الجملي للمُحرزين على شهادة الباكالوريا (30.60% ) في وضع يتميز خاصة بالعجز الذي عبّرت عنه وزارة الاستقبال عديد المناسبات، في توزيع كل هذه الأدفاق المكثّفة من الطلبة الجدد المُحرزين على الباكالوريا بمؤهلات متوسّطة عموما. فعلى سبيل المثال :

  • نجح 2380 تلميذا في شعبة الاقتصاد والتصرف بمعدلات أقل من 10 في الدورة الرئيسية (بين 9 و 9.75) مقابل 26 فقط في شعبة الرياضيات. 
  • §       933 بين 9.75 و 10 في الاقتصاد مقابل 18 فحسب في شعبة الرياضيات. 
  • §       6134 تلميذا من باكالوريا اقتصاد وتصرف نجحوا بمعدل بين 10 و 12، مقابل 1565 فقط في الرياضيات
  • §       2014 تلميذا في شعبة الرياضيات نجحوا بمعدلات بين 15 و 20 مقابل 432 تلميذا فقط من شعبة الاقتصاد استطاعوا بلوغ هذا  المستوى من المعدّلات…

بما يؤشر على أن أغلبية الناجحين في شعبة الاقتصاد والتصرف يجتازون عتبة الباكالوريا بمعدلات متدنّية أو متوسطة جدا، تؤثّثها أعداد غير متميّزة عموما في المواد الأساسية (الرياضيات واللغات والتصرف والإعلامية) التي تتطلبها شعب التميّز في التعليم العالي في مؤسسات جامعية بعينها مثل معهد تونس للأعمال أو معهد الدراسات التجارية العليا بقرطاج أو المعهد الأعلى للتصرف بتونس … التي ظلّت على امتداد سنوات طويلة حِكرا على ذلك العدد الصغير من المتميزين (432 تلميذا في هذه الحالة… من جملة عدد غفير من الناجحين : حوالي 20 ألفا بالنسبة إلى سنة 2023).

ثانيا : الباكالوريا “آداب” تقلّص حجمها نسبيّا ولكن لفائدة الاقتصاد والتصرف وليس لفائدة الباكالوريات العلمية !

يبدو عدد الناجحين في الباكالوريا آداب (حوالي 10 آلاف… وهو نفس المستوى تقريبا في العلوم التقنية (9211) أو في العلوم التجريبية (13602) ) غير مرتفع بشكل يبعث على الانشغال لكنه يدعو إلى التوقّف النّقدي عنده لأن :

إضافته إلى عدد الناجحين في شعبة الاقتصاد (30267 بين الشعبتين أي حوالي نصف عدد الناجحين في كل شعب الباكالوريا الأخرى هذه السنة) يجعل من الكتلة الجملية للناجحين في هاتين الشعبتين محيّرة إلى حد كبير وتستدعي إجراء مُراجعات جوهرية عاجلة على مستوى مُدخلات التعليم الثانوي، لأن التدنّي الحادّ في تشغيليّة خرّيجي المسالك الجامعية المفتوحة أمام حاملي هاتين الباكالوريتين وعدم توصّل التعليم العالي إلى تجديد المسالك التقليدية وإخصابها في “اللغات والعلوم الانسانية والاجتماعية وباقي الشعب القريبة منها مثل الثقافة والتراث والتوثيق …” حوّلا هذه المسالك إلى شعب مهجورة وغير جذّابة مقارنة بالشعب المعروضة على باقي الباكالوريات وخاصة العلمية منها.

هذا بالإضافة إلى استقرار مضامين التكوين في التعليم الثانوي لمدة عقود وعدم التركيز على مهارات واقتدارات تطلبها الجامعات مثل الثقافة العامة والتواصل الشفوي والكتابي ومقاربة المشروع الخ… بما لا يسمح بولوج التعليم الأكاديمي بفعالية ودُربة وقدرة على الاستمرار. وهو أمر يُسهّل تعويم هذه الإخلالات الهيكلية وإلقاء كل طرف بالمسؤولية على الطرف الآخر، فالتعليم العالي يعتبر أن ملمح الباكالوريات الوافدة عليه لا يفي بالغرض، والتربية تطالب التعليم العالي بإعادة هيكلة مسالكه وتعديل برامجه لتُناسب الناجحين المُرسلين إليه، وتظل أجيال بكاملها تدفع ضريبة تقاذف الكرة والتردّد واللامبالاة الرسميّين !!!

يُذكر في هذا الخصوص بأن 1634 تلميذا في باكالوريا آداب نجحوا بمعدلات دون الـ  10 (17% ) و 3014 بمعدلات بين 10 و 12. وبالتالي فإن مجموع 4648 تلميذا أي حوالي نصف الناجحين من باكالوريا آداب معدلاتهم أقل من 12/20، وهو ما يعكس ملمح الأغلبية الساحقة من المحرزين على باكالوريا آداب في بلادنا. (علما بأن هذه الأرقام تهمّ نتائج الدورة الرئيسية لامتحان الباكالوريا 2023 فقط، ولا تشمل نتائج دورة المراقبة التي تتكثّف فيها الأعداد المتوسطة والمتدنية بالرغم من الطريقة المُجزية التي تُحتسب بها أعداد المواد بين الدّورتين بالنسبة إلى وزارة التربية) .

هذا، فضلا عن أن عدد المترشحين لاجتياز باكالوريا آداب واقتصاد من الجهات الداخلية (التي تتدنى فيها النتائج النهائية للباكالوريا) يعتبر مرتفعا جدا مقارنة بنظرائهم في الجهات الأخرى.

ثالثا : شعبة الرياضيات في انكماش متواصل

تُبيّن نتائج السنة الماضية أن 10 % فقط من الناجحين في الباكالوريا سنة 2023 (7007 تلاميذ) ينتمون إلى شعبة الرياضيات المُزوِّدة الرئيسية لشعب التميّز في التعليم العالي (الهندسة والإعلامية والتصرف والطب…) … وهو رقم يتضاءل من سنة إلى أخرى إذ لا تتجاوز نسبة التوجيه المدرسي نحو شعبة الرياضيات الـ 6 % وطنيا ونسبة أدنى من ذلك بكثير في عديد الجهات وخاصة الداخلية منها.

كما تبيّن الأرقام أن العلاقة الطرديّة القائمة منذ عديد السنوات بين ضعف التوجيه نحو الشعب العلمية بصورة عامة مقابل توجيه مكثّف نحو شعبتي الآداب وشعبة الاقتصاد والتصرف من ناحية وتدنّي المستوى العام لنتائج الباكالوريا في الجهات الداخلية، آخذة في التعمّق ومزيد إلحاق الضرر بأجيال بأكملها من تلاميذ الثانوي وكذلك مزيد اختلال التوازن صلب خارطة المسالك والشعب المدرسية، سواء كان ذلك بين الولايات أو حتى بين معتمديات الولاية الواحدة.

فعلى سبيل المثال، يمثّل عدد الناجحين في شعبة الآداب من جهة القصرين (322 ناجحا في الدورة الرئيسية للباكالوريا) أي أكثر من ضعف الناجحين في هذه الباكالوريا في صفاقس 2 (145 ناجحا في الدورة الرئيسية) بينما لا يتجاوز عدد الناجحين في هذه الولاية من شعبة الرياضيات 88 تلميذا مقابل 313 تلميذا من صفاقس 2 و 536 تلميذا من صفاقس 1.

أكمل القراءة

جور نار

عملية، فبطولة، فاستشهاد … ثم ماذا؟

نشرت

في

عبد القادر المقري Makri Abdelkader
كلاب تنهش جثث الضحايا".. شهادات مرّوعة للأوضاع في مستشفيات غزة

لأكثر من أربعين يوما، وسكان غزة من المدنيين يتلقون حمم النار أرضا وسماء ولم يسلم منهم طفل و لا امرأة ولا مسنّ و لامريض ولا مستشفى … و لاحديث عن مدارس ولا عن معيشة ولا عن مرافق حيوية لمواطنين فنحن لا نكترث عادة بهذه الشؤون، وفي بلدنا هنا كثيرا ما يتعطل كل شيء لأقل سبب، ودون قتال …

عبد القادر المقري Makri Abdelkader
عبد القادر المقري

عندما تسمع شارعنا وتتابع وسائل إعلامنا وما ينشر سائبا على مواقعنا الاجتماعية، تتساءل مضطرا: هل الفلسطينيون بشر مثلنا أم طينة أخرى لاتشبه أي إنسان آخر؟ … هل حقّهم الوحيد هو الموت وحق الآخرين الحياة؟ … شعب بطل هذا صحيح، وشعب صامد هذا أكثر من صحيح، وشعب مغتصبة أرضه هذا بديهي منذ أن فتحنا هاتين العينين على الدنيا … ولكننا نحن أيضا اغتُصبت أرضنا وصال وجال فيها المستعمر طيلة 75 عاما، هي بالضبط عمر نضال الشعب الفلسطيني منذ النكبة … مع فارق … أننا في نهاية القرن إلا ربعا نجحت حركتنا الوطنية في إخراج المستعمرين ووضع أسس دولة وطنية مكانهم … قل إنه استقلال منقوص، قل إنه صفقة، قل إنه استعمار جديد، قل ما شئت … المهم أصبح مصير بلدك بين يدي أهله، يكملون استقلالهم متى شاؤوا، ويطوّرون قدراته متى أرادوا …

وقد تعلّمنا من حركتنا الوطنية من زعمائها الكثير، وتعلّمت منهم حركات تحرر أخرى في الجوار وفي القارة وفي المحيط العربي وفي كامل بلدان الجنوب وما عرفته من موجات استقلال في ستينات وسبعينات القرن الماضي … لم نعترف بذلك ولم نفهمه حينما كنا شبابا وطلاّبا … ثرنا أيام الجامعة على بورقيبة وقلنا فيه أوصافا لا حدود لسوئها … ولكن الرجل راح الآن بعد أن غادر الحكم أولا والدنيا ثانيا ومضت على ذلك عقود … وما نذكره شيئان هاهما يطفوان اليوم على الذاكرة … أوّلهما ما كان يردده آباؤنا ونحن صغار بأننا محظوظون بعدم معاصرة الاستعمار الذي لم يكن يسمح للتونسيين بالحد الأدنى من العيش الكريم، ولأطفالهم بأن يرتادوا المدارس فضلا عن الثانويات والجامعات … مع العلم بأن والدي مثلا رحمه الله، لم يكن من أنصار الزعيم ولا من المنخرطين في أية شعبة أو الهاتفين بحياة أحد اللهمّ إلا إذا أقسم بحقّ سميّه سيّد المرسلين …

كان ممكنا لحركتنا الوطنية منذ اكتسبت شعبيتها في الثلاثينات، إشعال حرب شنعاء على المستعمرين والمعمّرين طوال عشرين سنة بلا انقطاع … وبالنظر إلى عدم تكافؤ القوى بيننا وبين المحتلّ، كان ممكنا أن نضحّي بمعظم شعبنا في تلك المحرقة، فيما يمكث الباقون يشجبون العدوان الغاشم ويذرفون الدموع ويناشدون ضمير الإنسانية من منافيهم المستريحة في عواصم الخارج … أو كان ممكنا أن ندفع بنخبتنا المستنيرة نحو المقاصل واحدا تلو واحد، ومن يقتله المستعمر قتلناه بأيدينا في تبادل اتهامات بالخيانة … وقد جُرّب ذلك فعلا زمن المحنة اليوسفية، ولم يدم طويلا لحسن الحظ … ومع هذا ما زال جرح ذكراه نازفا إلى اليوم …

لقد علّمَنا زعماؤنا أن القوة مطلوبة دون شك، ولكنها تكون محسوبة في التوقيت والخسائر، وذات هدف معيّن وممكن التحقيق … ولطالما تمّ استعمالها كورقة ضغط ـ هي وخسائرها ـ في مفاوضات تأتي بمكسب ما … افتكاك حقوق نقابية من هنا، مواطنية من هناك، وصولا إلى حكم ذاتي فاستقلال منقوص فجلاء عسكري فجلاء زراعي إلخ … و لا تستهن بقوّة العدوّ في تلك الفترة، ففرنسا تبقى دوما دولة عسكرية واقتصادية مهابة قياسا إلى وضعنا الرثّ … أما عن مسألة الاحتلال الاستيطاني فكل الامبرياليات تستوطن ما حازته لأجل غير مسمّى … وهاهي مناطق في النصف الجنوبي من الكرة الأرضية ما تزال تحت حكم العلم الثلاثي، تحت تسمية ممتلكات ما وراء البحار …

وقد فهم ياسر عرفات قانون هذه اللعبة ولو متأخّرا وبعد انهيار آخر جدار “ثوري” ممكن أن يتكئ عليه … العراق … فاسرع إلى توظيف نتائج الانتفاضة الأولى كأنجح مواجهة خاضها الفلسطينيون عمليا وإعلاميا … وكانت مفاوضات أوسلو … الكثيرون ـ وربما الأغلبية الساحقة منا ـ ما زالت ترى في اتفاقيات أوسلو مهزلة وعارا واستسلاما وبيعا للقضية إلخ … ولكن بشيء من الرؤية المقرّبة، يمكن أن يخضع ذلك إلى تنسيب … وتنسيب كبير أيضا …

فللتذكير، كان العدوّ وحلفاؤه لا يعترفون بوجود كيان اسمه فلسطين ولا بكائن اسمه مواطن فلسطيني … لا يعترفون بالكلمة ولا بتاريخها ولا بأهلها ولا بأية حقوق لهم إلا كلاجئين في الشتات والمخيمات … فجاءت أوسلو لتضع اسما تحت الصورة، وتكون الصورة فوق أرض فلسطين أو في جزء بسيط منها … وثانيا، مكّنت أوسلو عشرات آلاف العائلات الفلسطينية من التلاقي والعودة بعد غربة عقود ويأس قد يدوم الدهر كله … وفي انتظار أن تعود آلاف أخرى، وقع تركيز سلطة وطنية فلسطينية على الأرض الغالية، وهو ما لم يحصل منذ ما قبل الحكم العثماني أي منذ خمسمائة سنة !

ـ يتبع ـ

أكمل القراءة

جور نار

أبناء الكلبة، أما آن لكم أن توقفوا استعراضكم للقوّة ؟

استمرّوا وستولد أجيال أشرس من هذه ألف مرّة !

نشرت

في

يأْتي صهيلُ الأَرضِ
مطبعةٌ تدورْ
الأُمَّ تطبَعُ طفلهَا
والأرضُ تطبعُ ظلَّهَا
والبحرُ يطبعُ موجَهُ
والشّمسُ من جُرحٍ إلى جُرْحٍ
توزّعُ حِبْرًها وحليبَها
والشّمسُ إمرأةٌ على أشلاء متراسٍ
تَلِدْ *

منصف الخميري Moncef Khemiri
منصف الخميري

ليست شجاعة أن تقتل طفلا بريئا بل ذلك جُبنٌ ووضاعة، وليست بطولة أن تُدمّر مسكنا على ساكنيه بل خوفٌ ونذالة، وليست بسالة أن تُنكّل بالنساء والشيوخ وتحجب الدواء والماء والهواء ووجه السماء بل هلعٌ وخوفٌ ينمّان عن انتقاميّة ورثتموها عن جلاّديكم الآريين الذين صنعوا لكم محارق في داخاو وبوخنفالد وفلوسنبورغ وموتهوسن … نحن في حِلّ منها لم نؤيّدها ولم نشترك فيها بل ونعترف لضحاياها بحقهم في الذاكرة وإدانة مرتكبيها.

تحت سياط وجع مشاهدة من هم موجوعون أكثر منا ألف مرة وأمام انتقاميّتهم التي لم تعرف لها الإنسانية شبيها في التاريخ، أقول لهم :

أطفالكم ليسوا أكثر براءة ولا أقرب منا إلى الله لينعموا بالتعلّم واللعب وأحضان أمّهاتهم وحنان آبائهم ولُعبهم وألعابهم وملابس يوم العيد، بينما يعيش أطفالنا على وقع قنابلكم كل لحظة ويستلذّون جرعة حليب استرقوها بين غارتين ويشتاقون قطرة ماء عذب بين قصفيْن لا يستقدمونها من البحر الذي تسمّمه زوارقكم العسكرية ويشتهون رغيفا ساخنا ككل أطفال الدنيا… فيُغذّون نحوكم ومن سيرثونكم على أرضهم كُرهًا لا يمكنكم توقّع مداه وحقدا وطنيا ستغرقون يوما في أوحاله وشوكه وحِباله.

ونساؤكم ليس على رؤوسهنّ ريش النعام لتنعمن بالتجوال والترحال والملبس والأكل (الغدّاد !) في حين تهيمُ نساؤنا  بين رُكام منازلهنّ بحثا عن قلادة فضيّة أو عملة معدنية كانت تعتلي رؤوسهنّ الطاهرة توارثنها جيلا وراء جيل لتظل طي صدورهنّ كقرينة للهوية وشهادة ميلاد على أرض سيَعُدن إليها يوما ولو كره الغاصبون.

وأمّهاتكم لسن من طين مُقدّس كي يتمّ الاحتفاء بهن وقيادتهن إلى المنتجعات والمنتزهات وتوفير كل أشكال العناية والإحاطة بهن بينما تغرق أمهاتنا في إعداد الأكفان ومستلزمات الأحزان … بل إن أمهاتنا أجدر بالحياة لأن مسيرتهنّ تشبه مسيرة القدّيسات والراهبات اللواتي نذرن حياتهن لخدمة قضايا كبرى والذود عن موروث أكبر.

وآباؤكم لم يتمّ تنزيلهم رأسا من السماء لتحترموهم وتُجلّوهم وتعتبروهم “حماة وطن” ليس لكم، مُقابل آباء لنا خذلتهم السماء والخطابات العربية “السمحاء” فظلوا مُمسكين بمفاتيح بيوتهم المتداعية ومعتنين ببعض شجيرات الزيتون ختما وعنوانا لا يلين…بل إن آباءنا هم من ستُخلّدهم سجلاّت التاريخ كشهود عيان أحياء على أحطّ درجة يمكن أن تبلغها الإنسانية في مجال التنكيل والتقتيل، وكأساطير بشرية حيّة استطاعت بصبر خرافي أن تبقى على قيد الحياة تحت أنقاض تستمر منذ عقود من الزمن، وكقلوب إنسانية لم يعرف التاريخ مثيلا لها في التراحم والتلاحم لأنهم قدّموا كل التنازلات التي طلبها منهم العالم، بما في ذلك التخلي عن الجزء الأكبر من ممتلكاتهم التاريخية لفائدة لاجئين قادمين من مذابح التاريخ ومحتشداته ورغم ذلك مازالوا يطلبون منهم مزيد الخروج من جلودهم ومن أسمائهم ومن وهج التاريخ في دمائهم.

ومعابدُكم ليست أطهر من مساجدنا وكنائسنا لتُتلى فيها تعاويذكم المكيّفة جيدا لتنسجم مع المشروع الأكبر الذي شيّدها هناك… بل حصل أن رُفع آذان صلاة المسلمين في كنائس القدس للتعبير عن قيم تعايش وتعاطف وتحابب لا تدركون كنهها لأن “الوجود” في قواميسكم لا يستوي إلا على قاعدة “القلع”، و”البناء” لا يستقيم إلا على مبدإ “الخلع”.

وكُتّابكم وشعراؤكم ومُبدعوكم (إن كان ثمة كتّاب وشعراء ومُبدعون لديكم لأنني لا أعرف كُتّابا ومبدعين يُنتجون أثرا ما تحت أشعّة شمس لا تعرفهم وعلى وقع نسائم أليفة لا تعرف لهم جذورا أو بذورا)، اسأل بأي حقّ يتمتعون بهدوء الشواطئ وشبق المواطئ ليُحبّروا ويؤلّفوا ويُخنفسوا ويُدنفسوا مستغلّين صمت أقلامنا التي نفد حبرُها تحت وطأة القصف والعسف والحال أننا ورثة قامات في الرواية والقصة والشعر والسينما لا تضاهيها قامات في العالم بأسره. أليست هذه الأرض هي من أنجبت درويش وحبيبي وكنفاني وزياد وبسيسو والقاسم وطوقان وأبو حنا والمناصرة ودحبور والبرغوثي… ومئات الأسماء البهيّة الأخرى.  

اعلموا أن لديكم فقط طلقة واحدة في مخزن ذخيرتكم هي سلاح القوة وقوة السلاح وليس لديكم إلا رصيد واحد أوحد لدى الإنسانية جمعاء هو الرعاية الفاحشة التي تتوفّر لكم كثكنة عسكرية متقدّمة، أما نحن، ففي جِرابنا أكثر من طلقة وفي رصيدنا أكثر من صديق لأننا لم نعتدِ على أحد (على الأقل في الحالة الفل.س. طينية الراهنة). واعلموا أيضا أن أطفال اليوم تحصّنوا أكثر من آبائهم واقتنعوا بأن المُفاوضة لا تحتضنها كبرى العواصم بقدر ما تتشكل شروطها في ساحات المعارك والملاحم وأننا لسنا أحنّ عليكم من التاريخ الموضوعي العابر للمشاعر ومآسي البشر، والذي يُقرّ بأن الحقيقة لا تقبل القسمة وأن الطبيعة تستعيد دائما جميع حقوقها مهما بلغ صلف البشر وعنجهيتهم وأن الأنهار تعود دائما إلى مجاريها والنّمور إلى مآويها.

لو كانت والدتي على قيد الحياة، لاختصرت كل هذا القول في كلمة واحدة : الله لا تباركلهم اولاد الكلب.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* من قصيدة “سفر سفر” للشاعر معين بسيسو

أكمل القراءة

صن نار