جور نار
هل تنجح الحكومة في درء الأسوإ … ؟؟
من أفرغ خزينة الدولة … و من أوصلنا إلى ما نحن فيه؟؟
نشرت
قبل سنتينفي
من قبل
محمد الأطرش Mohamed Alatrash
ماذا يقع في تونس اليوم؟؟ و إلى أين وصلت الأمور و إلى أين يمكن أن تصل خلال قادم الأيام و الأشهر؟؟ هل ستعيش تونس مرّة أخرى ما عاشته بين شهري ديسمبر 2010 و جانفي 2011… و هل يكون حجم الخراب أكبر مما عشناه في تلك الأيام؟؟ تعالوا لنقرأ عمق ما جرى و حقيقة ما وقع بالتفصيل الممل…تعالوا نتحدث عما يمتنع البعض عن الحديث عنه خوفا من تبعاته…

كل ما يقال اليوم عن الأزمة التي تتخبّط فيها البلاد يجانب الصواب، ويعتبر محاولة فاشلة لإيهامنا بغير ما يجب به إخبارنا…و كل ما يدور اليوم من تحاليل و حديث عن الأزمة هو قراءة في كيفية معالجة الأمور التي وصلت إليها البلاد…و لا أحد لملم جرأته ليتحدث عن معالجة الأسباب… المطلوب اليوم و من الجميع هو مناقشة الأسباب و البحث جدّيا في طرق و وسائل معالجتها بعيدا عن التشنج الذي طغى على كل محاولات البحث عن الحلول… فما عشناه منذ وصول نداء تونس سنة 2014 إلى الحكم ليس أكثر من اجتهاد بسيط لمعالجة النتائج و أعراض الازمة التي تعيشها البلاد…و جميعهم غفلوا عن البحث في الأسباب الحقيقية للأزمة…و الغريب أن من جاؤوا للحكم بعد 2019 سلكوا نفس الطريق فجميعهم يخلطون بين الأمور و يضعون النتائج و الأعراض محل الأسباب…فما لم تقع معالجة الأسباب الحقيقية و بشجاعة و توافق بين الجميع لن نخرج مما نحن فيه أبدا…
الأغبياء و وهم عقاب الدولة العميقة…
يحاول بعض الأغبياء من الذين ركبوا ظهر “الثورة” دون بردعة إيهام الرأي العام أن ما يقع اليوم و ما وقع خلال العشر سنوات التي عشناها نتوجّع، هو فقط عقاب من مكونات الدولة العميقة لكل من قاموا بــ”الثورة”، أسأل هؤلاء ماذا ستكسب الدولة العميقة (إن وجدت) من هذا التبرير الغبي؟؟ هل ستعيد للبلاد من حكموها قبل 2011؟؟ لا أظنّ و قد أجزم استحالة الأمر فبن علي رحمه الله دُفن في منفاه…و منظومته السياسية لن تعود أبدا، لأن الأحداث كشفت أن بن علي هو من كان يمسك بكل خيوط اللعبة السياسية لمنظومته، و لولا خيانة بعض من كانوا معه لما نجح الحراك الشعبي في إجباره على الخروج من البلاد، فبن علي لم يخرج بسبب من تجمعوا بشارع بورقيبة، بل خرج بسبب خذلان بعض رفاقه من الذين واصلوا الجلوس في مواقعهم بعد خروجه…كما أن كل التنظيمات أو التجمعات السياسية لمن كانوا سابقا مع منظومته لن ينجحوا في توحيد صفوفهم رغم كل المحاولات التي يأتيها بعضهم…
فالدستوري الحر لا علاقة له بمنظومة بن علي ولا بمنظومة بورقيبة فهو لا يضمّ في صفوفه الأولى أي شخصية سياسية من الصفوف الأولى أو حتى الثانية لمنظومتي بورقيبة و بن علي، فرئيسة هذا الحزب سجنت نفسها طوعا و عن وعي في دائرة مغلقة و لم تنفتح على منظومة بن علي الصامتة و العقلانية التي اختارت الصعود إلى الربوة، لأنها و أقصد رئيسة الحزب لا تقبل المنافسة على قيادة الحزب و هذا قد يكلفها غاليا لو نجحت الشظايا الأخرى لمنظومة بن علي، في توحيد صفوفها بضخ دماء جديدة و خطاب يقطع مع بعض الماضي، و يؤسس لتحديث الخطاب البورقيبي و تطعيمه بنفس ديمقراطي تعددي، يقبل بالتعايش مع جميع مكونات المشهد السياسي الحالي، و هبوط أسهمه يرتبط اساسا بغياب راشد الغنوشي و حركته عن المشهد، و قد يفعلها راشد و يترك المشهد قبل اللحظة الحاسمة لخلط كل الأوراق في بورصة المشهد السياسي، لو شعر حقّا بأننا سنعيد تجربة الاستقطاب الثنائي، فاستقطاب ثنائي بالنهضة و الدستوري الحرّ سيصيب البلاد بالشلل فأحدهما سيكون في المعارضة و الآخر في الحكم و قد لا تجد عبير مع من تتحالف و يقبل بالتحالف معها لنعيش عهدة أخرى أفظع من التي نعيشها اليوم …
أما نداء تونس فقد كان مجرّد “لمّة” جمع فيها قائد السبسي من كل زوجين اثنين بهدف الوصول إلى قرطاج فعقدة الباجي رحمه الله حتى و إن أوهمنا بعكسها هو بورقيبة … و الحديث عن شظايا النداء ممن كوّنوا كتلا و أحزابا لا يجوز فهُم عبارة عن أفراد رأت في صعود كبارها إلى الربوة فرصة لها لتقفز إلى المواقع الأولى و تفاخر بزعامة وهمية لم تنجح في تجاوز أول محطة انتخابية و سقطت مغشيا عليها…هؤلاء لم يكونوا يحلمون بخطة معتمد أو معتمد أول…و كانوا يدفعون من أجل الوصول إليها الغالي و النفيس…خلاصة القول لن تعود منظومتا بورقيبة و بن علي أبدا لأن رجالها الاشاوس خيّروا البقاء بعيدا عن المشهد بعد أن ذاقوا الأمرّين، وسط صمت شبابهم الذي هرول بين الأحزاب بحثا عن موقع تحت قبّة باردو أو خطّة جهوية يفاخر بها بين أصدقاء الزمن القديم…جميعهم يصح فيهم قول “النار تخلّف الرماد”…
قراءة عميقة في الأسباب…
بالعودة إلى ما وقع بالبلاد بعد 14 جانفي و بالوقوف على أهمّ النقاط و الأحداث للمرحلة التي سبقت و تلت انتخابات 23 أكتوبر سنحاول التعمّق في أسباب ما تعيشه البلاد اليوم…فأهمّ النقاط التي تلت يوم 14 جانفي كانت بالتأكيد إصرار بعض المكوّنات السياسية و الحقوقية و التي كانت قبل ذلك التاريخ منسجمة تمام الانسجام مع النظام القائم سرّا و علنا، على محو مرحلة كاملة من تاريخ تونس، و لو كلّف ذلك الأمر انهيار الدولة فمنسوب الحقد الذي كان يُلهب مشاعر بعض النخبة المحسوبة على قوى المعارضة، فاق كل حدود المعقول، فالشباب الذي خرج و تجاوز الخطوط الحمراء من أجل إسقاط منظومة بن علي الحاكمة، ارتأى أن يعود إلى مواقعه بعد أن كان في تصوّره أنه أكمل مهمّته، و بعد أن تداخلت عديد الأطراف الأخرى خارجية و داخلية في التسريع بتحقيق هدفه المعلن دون أن يعلم هو بذلك….أقول عاد الشباب الذي شارك في الحراك إلى مواقعه، مطمئنا على مطالبه، و ترك الأمر بيد النخبة التي انقسمت بين من يريد إسقاط كامل البناء بمن تحته و من يريد الإصلاح، فتحرّك البعض لدرء الأسوإ و إنقاذ جزء هام من الدولة و المتمثّل في تواصلها بشكل أو بآخر…لكن هذا الجزء الذي قاد المرحلة الانتقالية الأولى لم يكن قادرا على إيقاف حملات تخريب الدولة التي بدأتها بعض المكوّنات بلعب دور الضحيّة و انتحال صفة النضالية، فحتى من وقعت نقلته من تونس إلى المهدية أصبح مناهضا سابقا لنظام بن علي، و من كان فاسدا و أجبر على الاستقالة درءا لمحاسبته انتحل صفة المعارض الشرس لمنظومة بن علي …
هؤلاء جميعا انكبوا صحبة “الحقوقية” سهام بن سدرين و بمساعدة بعض الأسماء التي حافظت على مواقعها بعد خروج بن علي رحمه الله في تفكيك مؤسسات الدولة، حسب أجندا فرضتها بعض الأطراف السياسية الأخرى….و الغريب في كل ما وقع أن اليسار الذي كان له الدور الأكبر في إطلاق حملة تفكيك الموجود و إسقاط البناء و رفع شعار”نصب المشانق” لم يفهم أن ما يقوم به لن يكون في صالحه، بل سيخدم شقّا آخر جلس يشاهد من بعيد المشهد التخريبي الذي يصبّ في صالحه….فاليسار ممثلا في حمّة الهمامي و بعض من يحومون حوله تصوّروا أن الساحة أصبحت جاهزة لينقضّوا عليها و مستعدّة للقبول بهم زعماء المرحلة فأخطؤوا خطأ استراتيجيا فظيعا، و انساقوا وراء نداءات حلّ الحزب الحاكم عوض الإصلاح و الاكتفاء بمحاسبة الفاسدين الذين أجرموا في حقّ الشعب…فاتحاد الشغل و كأني به يبحث عن عمل مسرحي ينسينا به أنه كان يعيش تحت جلباب منظومة بن علي، و كان على توافق تام معها، أشعل البلاد من شمالها إلى جنوبها، إضرابات، و اعتصامات، و اشترك مع بعض الخارجين عن القانون في بعث رابطات حماية الثورة في كل الولايات، فكل الرابطات كانت تضمّ عضوا أو أكثر من النقابات الجهوية و المحليّة….هؤلاء و من داروا في فلكهم الثوري جاؤوا بالعديد من الوجوه التي فشلت في مهمتها و كشفت جهلها التام بتسيير شؤون الدولة…كما جاؤوا بالراجحي لوضع يدهم على وزارة الداخلية بمساعدة من بن سدرين و بعض الذين قفزوا على اللحظة لنيل شهادة براءة و مواصلة التعايش و التموقع مع منظومة ما بعد بن علي…
رغم وصول قائد السبسي إلى كرسي القصبة فإنه لم يحاول الوقوف في وجه حملات تخريب الدولة، بل ساهم فيها جزئيا من خلال صمته على ما يقع و ما وقع، فأجزل العطاء لكل من كان يعتصم مطالبا بزيادة أو بمنحة…و لم يحرّك ساكنا أمام ذبح الدولة و سحل هيبتها و اكتفى ببعض التعبيرات الهزلية التي حفظها الشعب عنه و تندّر بها طويلا…خلاصة جلوس الباجي في القصبة هو أنه وجد في خزينة الدولة و مما تركته منظومة بن علي ما يُسكت به الغاضبين و المعتصمين و الخارجين عن القانون و يتقي به شرّ المطالبين بزيادات و منح لا موجب لها….و وقع ما لم يكن في حسبان اليسار و مكوناته و خرج المارد من قمقمه و انقضّ على الغنيمة بعد أن عرف كيف يستقطب من هربوا إليه خوفا من شعار “مشانق” اليسار… فكل ما وقع بعد 14 جانفي لم يخدم اليسار في شيء بل خدم التيّار الإسلامي بمختلف مكوّناته و جعل منه الملجأ الوحيد لأغلب الفئات التي هربت من الشعارات المرفوعة من قوى اليسار الغبي، و التي وجدت في الانتخابات فرصة للثأر منه و معاقبته…فاليسار أهدى أغلى هديّة للتيّار الإسلامي الذي لم يكن ينتظرها بتلك الشاكلة أبدا…لتتواصل بعد الانتخابات عمليات التخريب الممنهجة لمؤسسات الدولة…و يرفع الغنوشي شعار ” من دخل دار الغنوشي فهو آمن”…
الترويكا و التركة الثقيلة و إفراغ خزينة الدولة…
إثر صعود النهضة و مشتقاتها إلى الحكم، و بعد أن عرفوا أنهم أمام مشهد سياسي غير قادر على ردعهم بدؤوا عن جهل في المرحلة الثانية من مخطّط تخريب الدولة رسميا …رغم أنهم لم يستوعبوا و ربما لم يصدّقوا فعلا أنهم نجحوا في الصعود إلى الحكم، و أنهم خرجوا من العمل السرّي الذي كانوا يمارسونه خلال أكثر من ثلاثة عقود…أقول رغم ذلك فإنهم واصلوا عملهم السرّي في عديد الوزارات و المؤسسات و انقضوا بذلك على أغلبها بعد أن اخترقوها طولا و عرضا…ثم التفتوا إلى تحقيق أهم أهدافهم و هو إيصال البلاد إلى مرحلة الانسداد الكلّي و التي تقتضي ترويض الموجود بشكل نهائي إلى منهجهم في الحكم…فبقاء مؤسسات الدولة و ترابطها لن يفيدهم في شيء، لذلك كان هدفهم إسقاط الموجود كاملا من أجل بناء يتلاءم مع تصوّراتهم السياسية التي لا تتوافق مع طبيعة المجتمع التونسي على شاكلته الموجودة، و تتمحور مرحلة الانسداد الكلّي في ثلاثة مظاهر..
أولها: مرحلة هدم الماضي بكل صوره و مكتسباته من خلال شيطنته و تلفيق الأكاذيب بمساعدة من التحقوا بالمسار الانتقامي للنهضة و مشتقاتها و قد ساعدهم في ذلك كثيرا اليسار الغبي و لا يزال إلى يومنا هذا…
و ثانيها: إيصال مؤسسات الدولة إلى مرحلة الهدم الكامل من خلال الاختراقات و تعيين الموالين و إبعاد الكفاءات (فوضى في اتخاذ القرار أو انعدامه أصلا) …
و ثالثها: خلق الغموض الكامل على المشهد المستقبلي للبلاد (لا أحد يعرف أو يتكهّن ماذا يمكن أن يحصل غدا)…
و من خلال هذه المظاهر الثلاثة تنجح النهضة و مشتقاتها في خلق حالة إحباط عامة بين أفراد الشعب و شكّ فظيع في النخبة و مكوّنات المجتمع….فيقبل الجميع أو جزء من الجميع بالأمر الواقع ويتعوّدون على المشهد المجتمعي الجديد الذي تريد أن تفرضه النهضة (رابطات حماية الثورة، أنصار الشريعة، التسفير إلى سوريا… المخدرات…إلخ) …و في طريقها إلى تحقيق هذه الأهداف و إضافة إلى المتغيّرات على الساحة العالمية، أخطأت النهضة أخطاء قاتلة جعلتها تعيد بعض الحسابات، و تخيّر الهروب من الواجهة، و تفكّ ارتباطها بكل من أثار حولها الشبهات، لتحكم عبر قنوات أخرى لا تظهر في المشهد العام…فسحل الشهيد لطفي نقض…ثم اغتيال الشهيد شكري بلعيد… و اغتيال الشهيد الحاج البراهمي كلّها أحداث جعلتها تقرّر الهرب من واجهة الحكم لتختبئ وراء ستار الحوار الوطني، و تهرب من محاسبة منطقية حتى و إن كانت محاسبة سياسية عن جرائم ارتكبت خلال سنوات حكمها فهي المسؤولة سياسيا عن كل ما وقع خلال عهدتها…لكن ماذا تركت النهضة قبل مغادرتها الحكم افتراضيا؟
النهضة قرأت حسابا لكل شيء من خلال تشبّع قياداتها بمنهجيات العمل السرّي، فهي لم تنجح خلال السنوات الأولى بعد خروج بن علي رحمه الله في الخروج من عباءة العمل السري حتى و هي من يجلس على كرسي الحكم…لذلك عملت كل ما بوسعها لتخلق قبل خروجها “أزمة مفاهيم” كبرى في البلاد…فأزمة المفاهيم هذه مسّت كل المؤسسات والقطاعات…فلا أحد اليوم يفهم ما يدور بالمؤسسة الأمنية، و لا أحد يعرف شيئا عن الإرهاب و مكوّناته، و لا أحد يفقه اليوم دور المؤسسة القضائية، فحتى حقوق الإنسان تغيّرت قواعدها بعد صعود النهضة…و لا أحد يعرف شيئا… أين نحن من التنمية و من الاستثمار…كل شيء في البلاد يكتنفه الغموض و لا أحد يعرف كيف تعمل دواليب الدولة؟ و هل مازالت تعمل؟؟ فالنهضة كتنظيم اخترقت كل شيء حتى العائلات…
الاتحاد و تخلصه من جلباب منظومة بن علي…
حاول الاتحاد العام التونسي للشغل و منذ فجر 14 جانفي 2011 التعامل مع الدولة كغنيمة، و لم يرأف بحالها في كل الأزمات التي مرّت عليها، و قد كان يهدف من وراء ذلك الخروج من عباءة كان يلبسها خلال عهد بن علي فالاتحاد كان له نصيبه من كل ما كان بن علي يقرره سواء كان ذلك في الانتدابات، أو في بعض التعيينات في إطار توافق يمكن تسميته بــ”أخطاني نخطاك” …و اتحاد ما بعد 14 جانفي أصبح شريكا بالنصيب الأكبر في الحكم… و وضع يده على أغلب مؤسسات الدولة من خلال سلطة النقابات العامة و الأساسية التي سيطرت على أغلب مفاصل المؤسسات، و أصبحت شريكا في كل القرارات، و شريكا بأكثر من النصف في نتائج أغلب المناظرات و في التعيينات و التسميات في الخطط الوظيفية…
و قد ذهب بعضهم إلى وضع كل حكومات ما بعد 14 جانفي موضع اتهام…فهذه الحكومات حسب بعض المتابعين للمشهد أخطأت في خياراتها و لم تختر طريق الإصلاح ففشلت في إيجاد الحلول الكفيلة بإنقاذ البلاد…و ذهب بعضهم الآخر إلى أن عدم استقرار الوضع و تداول عديد الحكومات على التسيير أفسد كل المخططات التي كانت تهدف إلى النهوض بالبلاد، و الخروج من الأزمة…لكن كل هذه الحجج والتبريرات ليست هي أصل الداء…و ليست السبب الرئيسي في ما نحن فيه اليوم…فالبلاد بدأت في الانحدار إلى أسفل منذ 14 جانفي 2011 حين أطلقنا العنان للمطالب و الترضيات و تسوية الوضعيات…فالزيادات غير المدروسة و الكرم الحاتمي للحكومات المتعاقبة على البلاد من سنة 2011 إلى سنة 2014 أفرغت كل خزائن الدولة، و أغرقت البلاد في الديون… و كل هذا كان بسبب تعنّت الاتحاد و محاولة فرض خياراته على البلاد…فكل اعتصام و ايقاف للإنتاج يقابله سخاء حكومي في زيادة الأجور لتهدئة الأمور، و الهروب من سماع كلمة “ديقاج” و الحفاظ على موقع ضمن دائرة السلطة و الحكم….فالخوف من الشارع بلغ أشدّه، و دكتاتورية الشارع المدعومة بــ”استبداد” بعض النقابات خلقت الرعب في نفوس كل من انتموا للمنظومة السابقة و كل موظفي الدولة، فكان الحلّ الأسهل و الأمثل لمن كانوا يقودون البلاد و الاتحاد، تلبية كل الرغبات و المطالب على حساب موارد الدولة….فالزيادات التي تمّ توزيعها يمنة و يسرة لم تقابلها زيادة في الإنتاج بل انحدرت كل مؤشرات الإنتاج إلى أسفل…و ما زاد الطين بلّة هو “العفو العام” الخيار الذي جاؤوا به لإنقاذ رؤوسهم من الفوضى العارمة التي حلّت بالبلاد…فالعفو التشريعي العام أفرغ جزءا من خزينة الدولة، و أغرق قطاع الوظيفة العمومية بالانتدابات و ضاعف بذلك حجم كتلة أجورها…ثم جاءت حملات تسوية الوضعيات لتواصل العبث بمقدّرات البلاد و تدخلها في مأزق مالي يصعب الخروج منه…و تضاعف عدد الإضرابات العشوائية و الاعتصامات و غلق مواقع الإنتاج مع وصول حسين العباسي إلى ساحة محمد علي، ثم تضاعف مع وصول الطبوبي، و أصبح التصرّف في موارد الدولة مستحيلا بسبب شحّ و انحباس الموارد المالية لتغذية الخزينة العامة للبلاد…فكل المواقع الإنتاجية الحساسة و الهامة كانت معطّلة من طرف النقابات أو من طرف مجموعات مدعومة نقابيا…و لم تجد الدولة غير الاقتراض للمحافظة على استقرار الوضع و صرف مرتبات موظفيها…و رغم ذلك، و رغم دراية الاتحاد بالوضع الاقتصادي السيء، و بما عليه وضع خزينة الدولة واصل هذا الأخير خنق البلاد بحرمانها من التمتع بمداخيل أكبر من مواقع الإنتاج…و كان للاتحاد مواسم ضغط على الحكومة أكثر من ضغطه العادي و اليومي، فقبل كل مؤتمر تتجنّد آليات الحرب الخاصة بالنقابات العامة للاتحاد و تعلن التعبئة في جميع القطاعات للضغط على الحكومة و تحقيق العديد من المكاسب للتقدّم بها في وثيقة التقرير العام للمؤتمر و تكسب بذلك أصوات المؤتمرين… فالبلاد لم تعش هدنة اجتماعية بمعنى الهدنة منذ 14 جانفي 2011 …فالإضراب تلو الإضراب و قطع الطريق تلو الآخر، فأيام العمل الحقيقية بأهمّ مواقع الإنتاج تحسب بالعشرات و ليس بالمئات و ليس بالآلاف منذ 14 جانفي…هذا حالنا منذ 2011 …
وهم الأموال المنهوبة…ووجع الأملاك المصادرة…
خرج علينا ساكن قرطاج بأمر الأموال المنهوبة حسب زعمه…و اجتمع بلجنة ستعيد لنا تلك الأموال حسب زعمه مرّة أخرى…لكن هل لنا ما يكفي من الأموال في بنوك أجنبية تخرجنا مما نحن فيه؟؟ حقيقة الأمر، لا أثر لهذه الأموال فما يعلمه الجميع أن هذه الأموال التي يريد أن يدخل بها ساكن قرطاج سباق التلاعب بهذا الشعب، لا تكفي لبناء ملعب لكرة القدم أو مركب صحيّ لمقاومة الكوفيد…فمن يشتبه في أنهم نهبوا أموالنا و وضعوها في بنوك سويسرا و غيرها من دول الغرب هم أصحاب الأملاك المصادرة، و هؤلاء لم يكونوا أبدا في حاجة إلى تهريب كل أموالهم إلى بنوك سويسرية، بل كانوا يستثمرون النسبة الأكبر من أموالهم هنا في تونس…و أن من جاء ليجلس في مكانهم هم من أفسدوا في الأرض و أفلسوا أغلب المؤسسات المصادرة، لذلك كان من الأجدر أن يلتفت ساكن قرطاج إلى ملف الأملاك المصادرة فالفساد الحقيقي هناك…فمن وضع يده على هذه الأملاك هو من أفلسها…و من أوصلها إلى الوضع الذي أصبحت عليه يا ترى؟؟ هذا أخطر الملفات التي وجب فتحها اليوم…لكن ساكن قرطاج أراد غير ذلك لأنه لا يريد أن يكون طرفا في ما يقع اليوم و لا يريد تحمّل تبعات أي فشل يُحسب على حكومة المشيشي فهو من اختاره لكرسي القصبة و قد يحمله بقية المشهد تبعات كل عثرات ابنه المدلل سابقا المشيشي…
ساكن قرطاج تفطّن بأن بعض الشكوك تحوم حوله في ما يجري بالجهات اليوم فأراد خلط الأوراق بطلبه تطبيق القانون على كل الخارجين عن القانون و هو بذلك يعيد الشكوك إلى الأحزاب التي يريد بعضها خلط الأوراق و تحميله مسؤولية الفوضى التي تعيشها بعض الجهات …فحركة الشعب و التيار الديمقراطي من جهة و ائتلاف الكرامة من جهة أخرى يبحثون عن خلط جديد للأوراق فالتيار الديمقراطي الخاسر الأكبر من سقوط حكومة الفخفاخ لم يُشف إلى حدّ الساعة من الغثيان الذي يشعر به منذ خروجه من الحكومة…و لا يريد أن تهنأ النهضة و لا قلب تونس بثمار أي نجاح لحكومة المشيشي التي يعتبرها عبو حكومة وقع تحويل وجهتها…فالمشيشي يعتبر الابن الضال…لساكن قرطاج…
أما حركة الشعب فهي تريد خلط الأوراق من خلال مبادرة قدمها الاتحاد و يبحث المغزاوي عن موقع في ظلّ هذه المبادرة يسمح له بالعودة إلى صدارة المشهد السلطوي أو الحاكم بقية مدّة العهدة الحالية…كما أن نائبها هيكل المكي و رئيس لجنة المالية بمجلس النواب طالب رئيس الجمهورية بتفعيل الفصل 80 من الدستور و أظنه فعل ذلك من أجل قطع الطريق أمام ابتزاز قلب تونس لساكن القصبة…
أما ائتلاف الكرامة الابن المشاغب لحركة النهضة دوره اليوم هو أن يحوّل وجهة كل أمر يسبب وجعا لحركة النهضة، و هو الدور الذي يبدع فيه منذ سنة تقريبا…كما أنه مكلف بمهمة التشويش على ساكن قرطاج لغاية في نفس ساكن باردو….حتى اشعار آخر… أما بقيّة الكتل المستقلة (الإصلاح و الوطنية) في مجلس النواب فإنها اليوم تتودّد و تتقرّب إلى ساكن القصبة أملا في الحصول على نصيبها من الكعكة التي قرّر ساكن القصبة اقتسامها و توزيعها على من ضمنوا له المرور بمجلس النواب في قادم الأشهر…
النهضة و الهروب المتواصل من تحمّل تبعات أي فشل..
تواصل النهضة من خلال خلطها المتواصل للأوراق الهروب المتعمّد من تحمّل تبعات كل فشل حكومي منتظر، فالنهضة و بالذات الشيخ راشد يدرك أن المشيشي ذاهب لا محالة و فاشل لا جدال…و أن حكومته ستفشل فشلا ذريعا لذلك استبسل في الدفاع عن حقّ قلب تونس في التواجد ضمن حزام حكومة مدلّل ساكن قرطاج سابقا، فالغنوشي يدرك أن نبيل القروي يبحث عن موقع يضمن له عدم العودة إلى السجن مرّة أخرى و غلق ملفاته العالقة …و الغنوشي بما يأتيه يواصل سلك نفس الطريق التي سلكها مع قائد السبسي رحمه الله فالغنوشي نجح في الاختباء وراء نداء تونس ثم الشاهد خلال العهدة السابقة، و خرج و لم يتحمّل تبعات ما وصلت إليه البلاد…و قد وصلت به الجرأة لكشف ذلك في خطابه الانتخابي بمدينة مدنين…و اليوم اختار الغنوشي قلب تونس ليكون كبش فداء هذه العهدة فكل أوجاع هذه العهدة سيتحملها قلب تونس و من هم معه من المنظومة القديمة، خاصة أن قلب تونس يحاول منذ مدّة الفوز بعديد الخطط الجهوية و المحلية في التعيينات القادمة مما يجعله في واجهة من سيتحملون فشل الحكومة المنتظر…كما أن الغنوشي يبحث أيضا لضرب عصفورين بحجر واحد فالمشيشي اختاره ساكن قرطاج، و لم يكن اختيارا للنهضة فإن نجح و لو بشكل جزئي سيخرج علينا الغنوشي ليقول أن الحزام السياسي للحكومة هو من ساهم في نجاحاتها و سيذكر حينها حركته ثم بقية من وضعوا يدهم في يده…و ستحصد النهضة ثمار ذلك في الانتخابات القادمة، و إن فشلت و هو الأمر الأقرب إلى الواقع فسيخرج رافعا عقيرته بالصراخ ليقول أن ساكن قرطاج هو من اختار ساكن القصبة فليتحمّل تبعات فشله…و سيلصق بعض الفشل طبعا في قلب تونس الذي اختاره هو ليكون كبش فداء عوضا عنه و عن حركته…و بالعودة إلى الخطإ الفظيع الذي أتاه المشيشي بإعلانه اعتماد نفس تمشي “الكامور” في بقية الولايات و الملفات العالقة سنجد أن الغنوشي بارك ذلك و طالب ضمنيا بغلق الفانات…و لسائل أن يسأل: هل يبحث الغنوشي عن الإيقاع بالمشيشي بمباركته تصريحه الناسف و الساذج و الغبي؟؟
خلاصة المشهد….
خلاصة الخراب في خزينة الدولة…الباجي رحمه الله و الترويكا و المهدي جمعة أسكتوا الخارجين عليهم بما وجدوه من تركة بن علي فأفرغوا خزينة الدولة حفاظا على مواقعهم و شراء سلم اجتماعية مغشوشة…و الحبيب الصيد و يوسف الشاهد و من جاء بعدهما اضطروا للتداين داخليا و خارجيا لدفع أجور موظفي الدولة و مستحقات البعض الآخر و خلاص ديون الدولة، و أسكتوا الخارجين عليهم بالوعود و المسكنات التي بقيت حبرا على ورق و مثالنا في ذلك اتفاق الكامور…و ستبقى كذلك حتى اشعار آخر…
قد تأتي الأحداث التي تعيشها بعض الولايات على الأخضر و اليابس…و قد تتوسع رقعتها لتصل أكبر مدن البلاد…فلا غرابة إن انضمت إليها بعض الأطراف و بعض المكونات و بعض المنظمات لتسجل حضورها تحسبا لنجاح هذا الحراك في قلب الأوضاع و طمعا في أن تكون شريكا أساسيا غدا…فبعض الأطراف تنتقد الحراك في وسيلة إعلام…و تسانده في أخرى و على الواقع….
ما يجري اليوم أكّد للجميع مقولة التاريخ يعيد نفسه….فمن خرجوا اليوم في العديد من الجهات رفعوا نفس شعارات من قاموا بحراك 2011 …و من خرجوا اليوم ضدّ حكومة المشيشي و المنظومة بأكملها أغلبهم إن لم نقل كلهم خرجوا سنة 2011 ضدّ منظومة بن علي…و هو ما يؤكّد فشل منظومة ما بعد 14 جانفي فهي لم تنجز ما وعدت به، و لم تف بعهودها، و لم تنجح في إيجاد البدائل التي تُنسي الشعب إنجازات و استقرار عهود ما قبل 14 جانفي….فاتهام المنظومة التي سبقت 14 جانفي بأنها السبب الرئيسي لما وصلنا إليه اليوم أصبح غير منطقي و غير مقبول…فمنظومة ما بعد 14 جانفي أخفقت في كل ما جاءت به….و لم تنجح في الغاء 53 سنة من حكم المنظومة السابقة من عقول أغلب التونسيين…فهل يفكّر الجميع جدّيا في معالجة الأسباب الحقيقية للأزمة أم يواصلون تعنتهم و صمتهم عمّن أوصلنا إلى ما نحن فيه؟؟
تصفح أيضا

سُعدت جدّا بالدعوة التي وجّهتها اليّ دار الثقافة ابن رشيق بتونس العاصمة احتفاء باليوم العالمي للاذاعة يوم 13 فيفري 2023 …

سعادتي كانت مزخرفة بالوان عديدة .. اوّلها انّ المشرفة على التظاهرة السيّدة عربيّة بدات رحلتها معي وهي تلميذة بالخامسة ثانوي بمعهد الحمامات كمستمعة ومراسلة لبرامجي في بداية الثمانينات باذاعة صفاقس ..وها هي اليوم نبتة صالحة تعمل بوعي وجدية في الميدان الثقافي ..هنيئا لي بك عربية وشكرا لك ولدار الثقافة ابن رشيق على هذه الدعوة … اللون الثاني تمثّل في اللقاء مع مجموعة من الزملاء الاعلاميين _اذاعة وصحافة مكتوبة مارسنا معا العمل منذ اكثر من 40 عاما سواء بالاذاعة الوطنية وفروعها في الاذاعات الجهوية او في جريدة الايام ذات سنوات في بداية الثمانينات والتي بقيت اصداؤها لحدّ الان كتجربة فريدة من نوعها في تاريخ الصحافة المكتوبة ..كنا انذاك عصابة من الاعلاميين المشاغبين جدا جمعنا رئيس التحرير الزميل نجيب الخويلدي .. وكتبنا وحبّرنا عديد الصفحات بمنطق ذلك الذي لا يجامل ولا يعادي …
اللون الثالث كان في لقاء مع مجموعة من الاسماء تواصل عملها سواء اذاعيا او تلفزيا ..وكان السؤال المحوري في مداخلتنا (الاذاعة بين الامس اليوم) وتداول على المصدح وبتنشيط من زميلي حبيب جغام العديد ..الا انّي وبعد كل ما استمعت واسمعت يومها اخترت في هذه الخواطر ان اطرح السؤال الاهمّ في تقديري وهو (الاذاعات الى اين ؟) هو سؤال مأتاه ما تعيش الصحافة المكتوبة من صعوبات جمّة لمواصلة التواجد مما ادّي البعض منها الى الانقراض …وبالتالي وامام المتغيرات التي شهدتها وسائل الاتصال كيف يمكن للاذاعات مقاومة هذا الواقع الجديد وهل هي قادرة على ضمان ديمومتها في الوجود ؟؟
الاذاعي بطبيعة انتمائه لهذا العالم السحري يرفض حتى مجرّد طرح السؤال ويعتبر انقراض الاذاعات سؤالا عبثيا .. ..وبشيء من هدوء الاعصاب ها انا اصرّ على طرحه وبشكل مباشر ..امام الواقع الاتصالي الجديد هل اصبح غد الاذاعة مهددا ؟؟ الواقع الاتصالي الذي نعيشه اثبت انّه بامكان ايّ كان ان تصبح له اذاعته الخاصة ..واكبر دليل على ذلك عديد المحطات الاذاعية وخاصة تلك الموجودة على الويب وهي اذاعات لا علاقة لها بالمفهوم العلمي مهنيّا لماهيّة الاذاعة . هي في جلّها نزوات فردية يمكن حوصلتها في (هيّا نعملو اذاعة ؟؟ ايه نعملو وعلاش ما نعملوش ..يخخي هي علم اليدُن ؟؟؟) …
نعم الاذاعة علم وموهبة تصوّرا واعدادا وتنفيذا ومتابعة ….ثمّ ودائما مع الاذاعات الخاصة هل ستبقى قادرة على ديمومتها وهي تعتمد اساسا على مداخيل الاشهار لتضمن خلاص اهل الدار ؟؟ وحتى اذاعات المرفق العمومي والتي تشتغل بفيالق بشرية مهولة جلّها لا شغل لها …هل هي قادرة على ديمومتها في ظلّ منافسة الاذاعات الخاصة لها رغم اسبقيتها التاريخية في احتلال المشهد السمعي ؟؟ وامام هذه التساؤلات هل سيواصل معهد الصحافة وعلوم الاخبار مسيرته كمّا وكيفا بعد ان اصبحت الاذاعات بكلّ انواعها تعتمد في جزء كبير من المنتجين والمنشطين بها على اناس لا صلة لهم لا بالصحافة ولا بالعمل الاذاعي ؟؟؟
بتساؤل يلخّص كلّ هذه التساؤلات: هل الاذاعات اصبحت مهددة تهديدا جدّيا في وجودها ؟؟ اجيب ودائما في تقديري الخاص ..نعم …. العديد من الاذاعات وخاصّة الخاصّة منها اصبحت في حاجة اكيدة للبحث عن حلول جذرية لواقعها المادّي اي لموارد جذيدة ..دون ذلك ستبقى مهدّدة في وجودها ..لانّ كعكة الاشهار المقسّمة على الجميع لا تفي بحاجة ذلك العدد المهول من الرخص المسندة من قبل الهايكا للخواص والتي اصبحت مشكلتها الشائكة توفير الحدّ الادنى من رواتب لافواه ارانبها لضمان حدّ ادنى من مقوّمات العيش الكريم …
فيما تبقى اذاعات المرفق العمومي بحاجة ملحّة لترشيد العامل البشري وتقليصه على مراحل للنصف على الاقلّ…
16 فيفري 2023
جور نار
للحبّ عيدٌ واحدٌ… وللعدوانيّة والشّتيمة أعياد وأمجاد !
نشرت
قبل 6 أيامفي
13 فبراير 2023من قبل
منصف الخميري Moncef Khemiri
كأنني بالحبّ في ربوعنا رهن الأسر والاحتجاز منذ بداية وجودنا ككيان ثقافي وحضاري مستقل له طقوسه وتقاليده ونظرته للعالم والإنسان والأشياء. مجالات التعبير عنه محدّدة بجملة من التقييدات والتّضييقات بالشكل الذي يجعله يسقط مباشرة في المحظور، إن هو تجاوز مربّع الإفصاح عنه بشكل صريح ومباشر تجاه الوالدين والبنين والوطن… أحيانا.

تسكننا خشية تلقائية نتناقلها جينيّا جيلا بعد جيل عندما نهمّ بالتعبير عن مشاعر الحبّ والمودة تجاه شخص ما، فنسارع إلى استدعاء كلمات تشير إلى الحبّ ولا تقوله أو توحي به وترمز إليه وتغمز نحوه ولا تصرّح به وكأننا اتفقنا جميعا على الاحتفاظ ببيت واحد من مدوّنة الشعر العربية العاتية للشاعر نزار قباني عندما تحدّث عن الحب منشدا “كلماتنا فى الحب تقتل حبّنا، إن الحروف تموت حين تُقالُ“.
أعتقد أن تعابير من قبيل المحبّة والمعزّة والمودّة والتعاطف والتراحم والتعاشر في لغتنا اليومية كأننا ابتدعناها خصيصا لعدم الوقوع في فخّ “الحب” الذي لا يُحيل في مخيالنا الحر الأصيل إلا على المهالك والمفاسد.
“إن الاحتفال بعيد الحب هو من البدع المحرّمة، إذ لا أصل له في الشريعة الإسلامية، ويترتب عليه العديد من المفاسد والمحظورات كالتبرّج، والاختلاط المحرّم بين الرجل والمرأة، والعلاقات غير الشرعية، ولا يجوز بيع وشراء الهدايا والورود إذا كانت مخصصة للاحتفال بهذا اليوم…” هذا ما أفتت به اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء بالمجلس الإسلامي للإفتاء – بيت المقدس… وعليه فلا يجوز إظهار الفرح والاحتفال والتهنئة فيها أو الإعانة عليها بأي شيء سواء بالهدايا أم البيع والشراء أم تقديم الطعام وغيره، لأن ذلك من قبيل التعاون على الإثم.
إن مثل هذه الفتاوى حيال التعبير عن الحب في قاموس شيوخنا إثمٌ، والحب نفسه خطيئة والاختلاط محرّم والورود المشبوهة مَفسدة… في نبرة تقريرية باتّة لا تترك أية مساحة للتّنسيب أو التلطيف أو طلب التفهّم لهذه السلوكات في سياق معولم ألغى الحدود والاستثناءات الثقافية.
ما الذي يُزعج حماة الأخلاق في بلادنا عندما يقدّم شابّ لصديقته التي ستتحوّل (في أحيان كثيرة) إلى زوجته وأما لأبنائه، باقة من الزهور المُنعشة للقلب وللروح وخلايا الدماغ؟ وأي وجه للإساءة أو انحدار الأخلاق حين يجتهد ويكدّ الزوج المحبّ لزوجته والمقدّر لعمق أواصر “العِشرة الطيبة” بينهما من أجل تقديم ما تيسّر من عرابين المودّة ونبل المشاعر التي تجمعهما؟ وأيّ المشهدين ألطف وأجمل وأعذب في سياق التعبير عن سُمك المشاعر وعمقها: مشهد الرسائل الغرامية (نكاد نعتذر عن استعمال مثل هذه التوصيفات المسكونة بكل الدلالات الحافّة المُعيبة) التي يبذل في صياغتها كاتبها كل ما أوتي من قدرة على الترقّي والتأثير واستدرار الإعجاب من متلقّيها، أم مشهد الذبائح الفاخرة لأجود أنواع المواشي وأكوام السلاسل والخواتم والمجوهرات الذهبية التي لا يقدر عليها سوى المترفون؟ وأيّة توازنات يمكن أن تختلّ بفعل مظاهر الابتهاج في يوم يتيم في السنة تتطاير فيه القلوب الحمراء يتبادلها المحبّون ويزهو به العاشقون، مقابل باقي أيام السنة المنذورة للنّكد والتشاؤم والاكتئاب الوطني؟
هناك تقليد وطني محلي صرف يُحمل ظاهريا على الحب والمودة، ويتمثل في حصول الزوجة التونسية على ما يُعرف بـ “حقّ الملح”، وهي هدية ذهبية أو فضيّة يقدّمها الزوج لزوجته تكريما لها لقاء التعب الذي بذلته طيلة شهر رمضان في إعداد وجبات الإفطار والسّحور. هذا التقليد على نُبله الظاهري لا صلة حقيقية له بالحبّ ولا بالمشاعر ولا بطيب المعشر وإنما هو مجرد تعويض مادّي وكأنها تعويضات عن أضرار وخسائر جسيمة حصلت أثناء الحرب، لأن الزوجة-الأم ليست مُطالبة لوحدها بتحمّل مشاق الطهي والإعداد والترتيب وغسل الصحون وتحضير القهوة والمحليّات ومستلزمات السّحور… فلو يتم احتساب عدد الساعات التي تقضيها المرأة في مطبخها خلال شهر رمضان لكانت كافية لإعاشة ثكنة عسكرية بأكملها في الأيام العادية. والوضع الطبيعي هو أن يتمّ تقاسم الأعباء وتوزيع الأدوار حتى يخِفّ الحِمل … لا أن يكرس الاستعباد العائلي الزوجي ثم نبحث له عن مسوّغات وإفتاءات.
نحن ضليعون في قاموس الكراهية والاستعداء
كثيرا ما نخلط نحن العرب بين علاقتنا بالشعوب الأخرى وموقفنا إزاء دولها التي استباحت ومازالت تستبيح أراضينا وخيراتنا، وكثيرا ما نزُجّ بالعنصر الثقافي والديني في حكمنا على الآخر وبلورة موقفنا منه خاصة إذا انطلقنا من بداهات زائفة تحاول ترسيخ فكرة أننا أفضل شعوب الأرض، فنصِفُ كل أولئك الذي لا يتقاسمون معنا نفس الطقوس بالكفّار والفُجّار الذين لا يحلّ لنا “أن يقع في قلوبنا محبة ومودّة نحوهم”. وحتى في علاقاتنا بعضنا ببعض، فإن خطاب الحقد والضغينة أعلى صوتا من خطاب المحبة والمودّة وباتت الشماتة رياضة ممتعة يتعاطاها الناس وكأنهم لم يفطموا على سواها، وأقلامنا وألسنتنا مدرّبة تدريبا جيدا على الإساءة وهتك الأعراض لا على احترام الناس والاحتراس من الاقتراب من مربّعات حميميّتهم وحياتهم الخاصة. ويبلغ سيْل الحقد أحيانا حدّ الشماتة في شعوب أخرى تضربها الأعاصير والزلازل وسائر الكوارث الطبيعية ومحاولة تفسير ذلك بكونه عقاب من الله لمرتكبي المعاصي والآثام.
وحتى عندما نغادر “فيراج” الفايسبوك على سبيل المثال نحو مساحات أخرى يصنف أصحابها أنفسهم على أنهم صفوة القوم ويُفترض فيها أن تكون مُحكِّمة للعقل الهادئ ومترفّعة عن السّباب والشتيمة، تكتشف أن الخطاب المستعمل لا يخرج عن نطاق التلبيس الأخلاقي والإحالة على أكثر الدلالات عفنا واتساخا.
وعليه، فإن الاحتفال بمناسبة مستجدّة أفرزها التطور الطبيعي للمجتمعات يسمونها عيدا للحب (مثل دخلة الباكالوريا التي لم نكن نعرف مثيلا لها في الماضي وحفلات أول السنة الجامعية وسهرات توديع العزوبية قبل الزفاف …) أفضل من الانتشاء بخبر “فضيحة” علقت بفنانة أو صحفية أو أية شخصية إعلامية أو سياسية معروفة. والاحتفال بعيد الحب لا يُنبئ بأية أضرار قد تلحق المحتفلين والمستعدين لإحيائه.
إن أجمل الأغاني وأعذب النصوص وأكبر الروايات وأمتع القصص وأحلى الأفلام تغنّت بالحب ورفعت رايته ووضعته في مكانة “الماء الذي يروي عطش العالم” كما يقول الشاعر رامبو، وفي المقابل لا نجد أثرا إبداعيا واحدا يحتفي بالعنف والكراهية ونبذ الآخر (باستثناء بعض الأركان الخفيّة في المنظومات العقائدية المختلفة عندما يرتؤون استدعاءها من أجل تبرير عنف أو تشريع قتل أو إيجاد ذرائع للتنكيل بالخصوم) .
أقول أيضا إن الحب طاقة حيوية ثمينة تُبقينا دائما على قيد الأمل في أناس نركن إلى أحضانهم زمن الشدائد، وأناس من حولنا لا نخشاهم وأصدقاء- إخوة يُوسّعون دائرة عائلاتنا الصغيرة وأناس، يلجؤون إلينا فنُبهجهم ونخفف آلامهم ونُيسّر مبتغياتهم ما استطعنا. فلا شيء يُضاهي في تقديري فرحا – مهما كان بسيطا-ـ نهبُه للآخرين وطمأنة ننثرها من حولنا وذراعا حاضنة نفتحها أمام التائهين.

مشاهد مروعة تطالعنا من تركيا و سوريا… أحياء بأكملها مسحت من على وجه الأرض … منازل انهارت على سكانها و عمارات خُسفت بآهليها .. و آلاف القتلى و المصابين و ملايين المشرّدين

و لكنّ الزلزال مثلما كشف عورات الأرض و أخرج ما فيها، كشف عورات النفوس و نفاق البلدان و فضح دعوات المتشدقين بالديمقراطية و حقوق الإنسان و سياسة الكيل بمكيالين … ثلج و برد وزلزال و موتى و مصابون و بلدان منكوبان ، بلد يهرع نحوه العالم كل العالم، و بلد يُترك شعبه لمصير قاتم …
سوريا التي زلزلها مهندسو النظام العالمي الجديد فأغرقوها بجحافل الدواعش و جماعة النصرة و أشباههم من المتطرفين… مازالت تلملم جراحها و تحاول أن تشفى من الخونة و المتآمرين .. غير أن الزلزال لم يرحمها و أثخن جراحها النازفة من زمان ..
سوريا التاريخ و الثقافة و الفن و الجمال ، التي تحالف ضدها العالم طيلة سنوات و لم يرسل لها غير الإرهابيين و جعلها تغرق في بحور من الدم ، هاهو اليوم ينساها و يتحالف ضدها من جديد .
فهل ننتظر المساعدة ممّن يتلذذون بآلام المشردين و المعذبين… ممن يستغلون حاجتهم و بردهم وجوعهم و قلة حيلتهم للضغط على النظام و مزيد تشويهه ؟ جسور جوّية امتدّت نحو تركيا و قوافل مساعدات و أطبّاء و مختصين و فرق إنقاذ من كلّ الدّول في حين لم يلتفت إلى سوريا إلا القلّة القليلة من البلدان بحجّة أنّ المناطق المتضررة خارجة عن سيطرة النّظام و أنّ المساعدات لن تصل إلى المحتاجين حقا …
فكيف يدّعي الديمقراطيّة والدفاع عن حقوق الإنسان من ينساهما في أوّل امتحان و من يعامل شعبا بخطيئة قائديه ؟ فحتّى الزلزال لم يزلزل ضمائرهم …
سوريا ليست بشار الأسد و الشعب السوري ليس الحزب الحاكم و النظام ليس البلد …
خبر الزلزال هزّ العالم بأسره و النّاس إلى اليوم يكتمون أنفاسهم و هم يتابعون فيديوهات الإنقاذ و خبر العثور على أحياء رغم مرور خمسة أيام على الكارثة … أما في تونس فالنّقاش يحتدم كالعادة و الكلّ يدّعي امتلاك حقيقة أسباب وقوع الزلازل بين التّفسيرات العلمية والتفسيرات الماورائيّة … فمن حديث عن غضب إلهي بسبب فجورنا و عراء نسائنا و تشبّهنا بالغرب و احتفالاتنا و ابتعادنا عن ديننا و عصياننا لتعاليم نبيّنا …إلى حديث عن حركة الصفائح التكتونيّة و الضغط على طبقات الصّخور الواقعة بين الصّفائح و خطوط الصّدع العالميّة و تحرّك القشرة الأرضيّة.
و كالعادة يتبادل المعسكران السبّ و الشّتم في انتظار معركة جديدة لن يطول انتظارها كثيرا فليس أكثر في هذا البلد من الجدل …
و إذا كان لسوريا و تركيا زلزالها الطبيعي و هزّاته الارتداديّة فلتونس زلازل من نوع آخر … أو هكذا يدّعي بعضهم …
“الزلزال قادم …” هكذا عنون أحد المدونين الفايسبوكيين تدوينة تحدث فيها عن إيقافات بالجملة ستشمل في الأيام القادمة مجموعة من الشخصيّات السّياسيّة ’ هذا بعد إيقاف كل من خيام التركي صبيحة الأمس وكمال لطيف بعده بساعات .. دون أن يخرج أي مصدر رسمي (على الأقل إلى حد كتابة هذه العبارات) ليبيّن أسباب الإيقاف و ما علاقة الطرفين ببعضهما البعض و بغيرهما من الموقوفين أمثال القيادي السّابق في حركة النّهضة عبد الحميد الجلاصي و مجموعة من الأمنيين …
و رغم أن لا أحد يعرف يقينا أسباب الإيقاف بمن في ذلك محاميا الموقوفين فإن كمّ شماتة رهيبا انطلق في صفحات التواصل الاجتماعي و أتحدى أغلب الشامتين إن كانوا يعرفون التركي أو اللطيف (هذا الاسم / الشبح الذي يتردد منذ 2011 إلى اليوم) أو تعاملوا معهما أو تضرروا مباشرة منهما … بل أتحداهم أن يعرفوا حتى من يكونان على وجه الدقة أو ماذا يفعلان أو ما هي التّهم الموجّهة إليهما …
لكننا هكذا، شعب ديدنه التّشفّي و الحقد و الكراهية، يتلذذ بمآسي الآخرين و يسنّ سكاكينه لتقطيع لحومهم.
إنّ محاسبة الفاسدين و الإرهابيين و المجرمين في حق الدّولة و الشعب هو مطلب أساسي من أجل تحقيق العدالة لكن على أن يتمّ ذلك في كنف القانون و وفق شروط المحاكمات العادلة (محامي التركي لا يعرف مكان موكّله و محامي اللطيّف مُنع من حضور التحقيق) … فهل هي محاسبة أم تصفية حسابات ؟؟ فكل من تقدم بمبادرة سياسيّة في الفترة الأخيرة يبدو ملاحقا من الرئيس ابتداء بالاتحاد وانتهاء بإيقافات الأمس التي لا نعلم إن كانت ناتجة عن قضايا حقيقية لم يحن وقت استكمال البحث فيها إلاّ الآن، أم أنها تدخل في إطار ما عبر عنه “شومسكي” بإستراتيجية الإلهاء لتحويل انتباه الشعب على فشل الحكومة في عديد الملفات و أهمّها الملفّ الاقتصادي، أو للتغطية على الأزمة بين تونس و الجزائر و ما صاحبها من إذلال للتونسيين و انتهاك لحقوقهم…
أم هي أيضا للتغطية على الصورة التي جمعت أنصار نظام 25 جويلية بممثلي 24 جويلية و هم بصدد قطع الكعكة في مقر السفارة الإيرانية و ما فيها من إحراج للسلطة القائمة … أم أنّها تطبيق حرفيّ لإملاءات السيد الرئيس في لقائه مساء الجمعة بوزيرة العدل حيث شدّد حسب ما ورد في بيان صفحة الرئاسة على “ضرورة محاسبة كل من أجرم على قدم المساواة فمن غير المعقول أن يبقى خارج دائرة المحاسبة من له ملف ينطق بإدانته قبل نطق المحاكم، فالأدلة ثابتة وليست مجرّد قرائن” …
و كأنّي به فتح الباب على مصراعيه للمحاكمات الشّعبية أو كأنّها كلمة السّر للانطلاق في الإيقافات على الشّبهة، خاصّة أنّ وضع الاستثناء مازال قائما إضافة إلى التمديد في حالة الطوارئ .

جربة…تظاهرات متنوعة لتنشيط السياحة الشتوية
46 سنة بعد عملية مماثلة قبيل أحداث جانفي 78 … طرد مسؤولة نقابية دولية من تونس

بشير العكرمي يحال إلى الرازي

عبد النور حسن يتألّق في مصر

جلمة … النسر يحلق عاليا، و يتوج ببطولة الخريف
استطلاع

صن نار
- ثقافياقبل ساعتين
جربة…تظاهرات متنوعة لتنشيط السياحة الشتوية
- قبل 3 ساعات
46 سنة بعد عملية مماثلة قبيل أحداث جانفي 78 … طرد مسؤولة نقابية دولية من تونس
- اجتماعياقبل 7 ساعات
بشير العكرمي يحال إلى الرازي
- ثقافياقبل 9 ساعات
عبد النور حسن يتألّق في مصر
- رياضياقبل 21 ساعة
جلمة … النسر يحلق عاليا، و يتوج ببطولة الخريف
- جلـ ... منارقبل 23 ساعة
بين منتجي الحضارة ومستهلكيها
- داخلياقبل يوم واحد
انطلاق أشغال “مجسم الثورة” بقيمة تناهز المليون دينار
- فلسطينيّاقبل يوم واحد
الأسرى يواصلون “العصيان” … ويعتصمون في ساحات السجون