تابعنا على

جور نار

أربع علامات فارقة في طفولتي المدرسية

نشرت

في

ظننت يوما ومازلت أظن أن خير طريقة لكي يعالج المدرّس أداءه ويُجوّده هي أن يعود إلى نفسه طفلا وتلميذا بالذات، ليقيّم ما كان يُبهره في سلوك أستاذه وما كان يشدّه في علاقة معلمه به والوقوف خاصة على ما كان يحبّذه فلا يجده وما كان يكسره كسرا في سلوكات المربّين… ليكون مدرّس اليوم أفضل من بعض مدرّسي الأمس عطاءً وتواصلا وقدرة على المرافقة ومنهجا في التدريس. عشتُ شخصيا لحظات حاسمة في طفولتي المدرسية بحلوها ومرّها، هذا بعض منها :

أولا، دُبّ سي علي جدّي :

منصف الخميري Moncef Khemiri
منصف الخميري

كان عمري لا يتجاوز الخمس سنوات عندما وطئت قدماي عالم الطباشير الملوّن والحبر البنفسجي الصبّة والصلصال والأعواد … وهذا الدخول المبكّر إلى المدرسة كان له مبرّر وحيد يتمثل في ضمان الترافق بيني وبين أخي الأكبر الذي كان يتجاوزني سنّا بعام أو عام ونصف يوفر لي حماية ونتساعد على مواجهة الكلاب العربية ذات النّباح العشوائي والذئاب الشاردة.

لم يكن يستهويني لعب الكجّة والخذروف أكثر من تعلّم بعض الحساب وتعريق الحروف.

كان معلّمنا الأنيق والطيب سي علي جدّي، جادّا ومُجديا في تدريسه وحريصا على تحفيزنا بشتى الطرق لنتعلّم ونتجاوز فقر مكتسباتنا القبْليّة، لا أذكر شيئا كبيرا من تلك السنة الابتدائية الأولى سوى بعض الصّور الصادمة مثل “هذا قرد راكب” و “هذا قرد قاعد” و “هذا جمل بارك” ( ولا أفهم إلى حدّ الآن حقيقة ما وراء هذه الكثافة في معاني القعود والبروك والركوب بدلا من معاني القفز والطيران والتحليق)… وأذكر خاصة أنه صادف أنني أجبت بطريقة صحيحة على سؤال ألقاه علينا سي علي فما كان منه إلا أن أهداني صورة دبّ قطبي على ورق مقوّى صغير. غمرتني فرحة لا توصف بتلك الصورة الجائزة … ورُحت أريها إلى كل أفراد عائلتي دليلا على إحراز نجاح نوعي غير مسبوق، بالرغم من أنني لم أكن متمثلا لهذا الحيوان الغريب الذي ليس هو بالكلب أو الخنزير أو الخروف لكنه يبدو وديعا ولطيفا رغم كبر حجمه. ومن يومها أصبحت أُقبل على دروس سي علي جدّي وكلّي أمل في نيل تتويجات أخرى.

الدّرس المستخلص: كان سي علي جدّي يمثل جيل معلّمين من عهد آخر متشبّعين فطريّا بنظريات آلان ليوري وفابيان فينويي في “الدافعيّة والنجاح المدرسي” (عنوان كتاب صدر بباريس سنة 1997)، ومن ناحية أخرى، كلمات بسيطة من قبيل “أحسنت” و “برافو” و “ممتاز” و “حقيقة…شكرا” الخ… لا تكلّف المدرّسين شيئا لكنها قادرة على توليد دافعيّة محرّكة للسّواكن وحافرة في المكامن.

ثانيا، الأستاذ الأصفر (إستعرت له هذا الإسم للنّأي به عن مربّع التشهير) :

كان ذلك في السنة السابعة أساسي (الأولى ثانوي نظام قديم)، وكنا ندرس الرياضيات التي أذكر أنها لم تلنْ لي منذ الوهلة الأولى لكن في ذات الوقت لم تكن نيرونات دماغي الصغير رافضة تماما لطلاسم هذه المادّة الصلبة. .. وكان سي لصفر نحيف القامة عبوسا ضروسا غير سعيد في حياته بالمرة على ما يبدو، لا يبتسم أبدا لأنه (ربما) كان يعتبر الرياضيات اختصاصا حربيا أو صنفا من أصناف الرياضات القتالية. بحث عن متطوع أو متطوعة لفك رموز تمرين حسابي على السبورة … لم يتطوع أحد … فأصدر قرار تسخير صعدتُ بموجبه إلى المصطبة التي بدت لي يمثابة المقصلة في تلك اللحظة، تظاهرت بمحاولة فك ألغاز التمرين ولمّا تأكّد أنني كنت بصدد إضاعة الوقت وتأجيل عملية القصاص أكثر ما يمكن، افتكّ مني قطعة الطباشير وطلب مني أن أقف في متناول يديه الحديديّتين وناولني صفعة قوية ألقتني أرضا في مشهد أقرب إلى ساحات المواجهة مع جيش تساهال الصهيوني منه إلى مربعات التربية والتعليم … أعتقد الآن بعد حوالي نصف قرن، أن ما ساءني ليس وجع الصفعة في حد ذاتها لأنه عابر بل وجع إهانة السقوط أرضا وكون “العقوبة” كانت غير متناسبة مع طبيعة الخطأ الذي لم يكن ناجما عن تقصير متعمّد أو سوء سلوك …

 منذ تلك اللحظة، كرهت سي لصفر وكرهت الرياضيات واستسلمت إلى ملاحظات nul en mathématiques وما جاورها.

الدّرس المستخلص : “كفّ أمّك يقوّيك آما كفّ البرّاني يقتلك ويِفْنيك”. إضافة إلى أن نزعة التعويم القطاعي المقصود في شعارات “كاد المعلم أن يكون رسولا” وأن “المعلم شعلة قدسية تضيء العقول” لا يمكن إلا أن تؤبّد سلوكات منحرفة تدمّر أجيالا وتقصف أطفالا.

ثالثا، كيف تفعل لتكون الأوّل دائما ؟

في التاسعة أساسي (الثالثة ثانوي نظام قديم)، كانت تربطني صداقة ما بالتلميذ صاحب النتائج الأولى في قسمنا (لقبه الورغي) لكن لم أكن أجلس بجانبه. أتذكر ذات يوم بينما كنا ننتظر قدوم الأستاذ وكان المقعد إلى جانب الورغي شاغرا، انتهزت الفرصة لأجالسه قليلا وألقي عليه السؤال التالي (الذي كان يخامرني منذ مدة طويلة لكنني لم أجرؤ على مباشرته في الموضوع) : “صباح الخير، بالله عليك، قل لي كيف تفعل وكيف تراجع دروسك وماذا تصنع لتكون دائما الأول في الامتحانات ؟” . لا أذكر مفردات إجابته بالضبط، ولكن أن متأكد الآن أن إجابته كانت عائمة وغائمة وغير دقيقة، من قبيل “أراجع دائما” أو ” ليس أكثر من المراجعة المنتظمة”… لم يقنعني ولكني تظاهرت بالاقتناع.. هو نفسه لم يكن يملك إجابة أو وصفة سحرية للنجاح لأن الاشتغال على الذات صعب ولأن ما طلبته منه تعجز عن تفقّهه حتى ما يسمى بالعلوم العصبية المعرفية اليوم.

الدّرس المستخلص : دور المدرّسين هو هذا بالضبط، مساعدة الأطفال والشبان على تعليمهم كيف يتعلمون وجعلهم يُدركون كيف ينجحون. إلى جانب أنه بإمكانك أن تكون مسكونا بإرادة حقيقية في النجاح لكن تعوزك المفاتيح. تحاول معالجة جميع الأقفال الموصدة، تُطلّ من كوّة الباب لعلّ وراء الباب إرادة نيّرة تأخذ بيدك نحو الدروب المضيئة.

رابعا، السّابعة خاصة (الرابعة ثانوي نظام حالي) :

تابعت تعليما ثانويا قصيرا في شعبة “تقنيات اقتصادية للإدارة” TEA الذي يتوّج بشهادة التقني في نهاية السنة السادسة ثانوي (نظام قديم). كانت شعبة دراسية يأوي إليها “طالبو اللجوء المدرسي” كما شعبة الاقتصاد والتصرف في نظامنا التربوي الحالي، لكنها كانت شعبة جامعة درسنا فيها مبادئ الاقتصاد والحقوق واللغات الثلاث وبعض المواد التقنية في علاقة بالشؤون الإدارية مثل الاختزال والرقن وتقنيات التحرير الكتابي… وكانت شعبة غير موصدة الآفاق تماما حيث يُمكّن التلميذ الذي أحرز أفضل النتائج في امتحان الديبلوم من كل ولاية أن يتابع دراسته بالـ”سنة السابعة خاصة” بالعاصمة بمعهد العمران آنذاك (معهد الفنون بالعمران حاليا). وأقرّ أنني إلى حد الآن لم أفهم كيف تمكّنتُ من التفوق بذلك الشكل في جمهرة غير قليلة من اللاجئين، وخاصة كيف لم يتمّ التلاعب بالنتائج ليُسند ذلك الامتياز الثمين إلى تلميذ آخر من أبناء أصحاب السلطة والجاه في زمن لا شفافية فيه ولا مساءلة أو مكاشفة !

الدّرس المستخلص :

  • يمكن أن يكون التلميذ متوسط النتائج في مراحل معينة من مسيرته الدراسية، ولكن يكفي أن يشتعل فتيل الرغبة والدافعية على نحو ما لتنطلق كل المحركات في الاشتغال بكل إمكانياتها وبلوغ السرعات المطلوبة… مع ضرورة توفّر قدرة ذاتية على “التجنّد” بمعنى أن يكون التلميذ “جنديّا” ينتعل جزمته الحربية كل صباح ويلبس بذلته العسكرية استعدادا لخوض معركته المقدّسة ضدّ ظلمة الكوابح والموانع والحتميّات.
  • الرياضيّات مادّة دكتاتورية تقصم ظهر أجيال مدرسية بكاملها، والمشكل في اعتقادي ليس في طبيعة المادة في حدّ ذاتها بل في طريقة تدريسها وقيام أمثال سي لصفر على حظوظ تمكّن التلاميذ من ناصيتها.
  • من الحلول الممكنة التي يستطيع من خلالها نظامنا التربوي تدارك بعض معضلاته: تنويع المسالك الدراسية أمام طالبيها وفتح معابر مرنة وثابتة ودائمة لعودة مَن ضَل الطريق في الشعب الطويلة نحو شعب أقل طموحا (لكنها ذات قدرة تمهينيّة قويّة) وعودة من تميّز في شعب “المتوسّطين” إلى التّحليق مجدّدا بأجنحة اشتدّ عودها في الأثناء.

أكمل القراءة
تعليق واحد

1 Comment

  1. نجاح

    24 يناير 2022 في 08:01

    أبدعت صديقي أسلوبك رائع
    نلتقي عي نقاط عديدة
    ولكن أتألّم اليوم حين أرى عديد المواهب والطّاقات تلغيها صفعة أو كلمة أو نظرة (هذه الايّام عشت حادثة أليمة لتلاميذك بكالوريا طامحين وأكاد أقف عاجزة أمام نظام يعظّم الطّاغية)

اترك تعليقا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

جور نار

“زيدها شويّة”… أو كيف نُواجه سعير الأرقام في تونس

(من خلال أمثلة حيّة)

نشرت

في

ذكّرني التغيير الذي حصل مؤخّرا على رأس المعهد الوطني للإحصاء (احتمالا على خلفية دكتاتورية الأرقام التي لا تُجامل ولا تُعادي) بجملة من الأحداث والوقائع التي عشتُها شخصيا في أكثر من موقع والمُثبِّتة لعقليةٍ تشكّلت في بلادنا منذ العهود السابقة.

منصف الخميري Moncef Khemiri
منصف الخميري

 مفادُ هذه العقلية  كسْر المحرار إذا باح بنتائج لا تتطابق مع انتظارات المسؤول السياسي، والهروب بصناديق الاقتراع عندما كان يتوقع طلبة التجمع الحاكم عدم الفوز  في انتخابات المجالس العلمية كما كان يحصل في الجامعة التونسية… وعقلية “زيدها شوية” هذه نجد لها أثرا أيضا في نسيج العلاقات الأسرية وفي تعاطي عموم الناس مع الظواهر المختلفة وتفاصيل حياتهم اليومية، لأن الترقيع في ثقافتنا أعلى صوتا دائما من المعالجة الجذرية لمصادر أوجاعنا، وآليات والتسكين والتخفيف والتليين والتقليل والتمسكين منوالٌ قائم بذاته في رُبوعنا.

فعلى سبيل المثال عندما يُنتهك حقّ البنت في الميراث، لا يُجمِعُ أغلب الناس على إرجاع الحق إلى أصحابه بل يجنحون إلى المحافظة على الوضع القائم مع إضافة جملة ترقيعية  “زيدها شوية ووخيّان كيف آمس كيف اليوم” … وعندما تعوجّ حيطان البنّائين المُبتدئين تجد دائما من يحاول التنسيب بشكل ماكر “ثمة شوية عوَج صحيح آما توة باللّيقة تتسوى” … وعندما يعجز بعض الأطباء عن تشخيص مرض ما بدقّة، يسقطون في ما يُشبه تقليعات التنمية البشرية  “والله ما عندك شيْ، المشكل الكل في راسك، عندك برشة هلواس. آقف قدام المراية وصيح مانيش مريض توة ترتاح”…

المثال الأول : نسب النجاح في السنة الأولى بكلية العلوم

في بداية الألفية الجديدة، طلب المسؤول الأول عن مكتب الدراسات والتخطيط والبرمجة التابع للديوان بوزارة التعليم العالي، من رئيس مصلحة متابعة النتائج الجامعية (السيد ت.ع وهو من روى لي تفاصيل الحادثة) مدّه بنتائج آخر السنة الجامعية بالنسبة إلى كلية العلوم بتونس، فلمّا لاحظ أن نسبة النجاح العامة (في كل الاختصاصات مجتمعة) تراجعت خلال ذلك العام من 33 إلى 27 % أشعل سيجارة وسحب منها نفسا عميقا كمن يبحث عمّا يُساعده على ابتلاع نسبة التراجع التي سيُسأل عنها أمام وزيره آنذاك…ثم قال له في شبه توسّل “لا شويّة بالكل سامحني سي فلان، من رايي تزيدها شوية”.

المثال الثاني : في نفس الوزارة

في 2007، عندما انطلق تطبيق منظومة إمد على مراحل وكانت شهادة الأستاذية ماتزال قائمة جزئيا ريثما تحلّ محلّها شهادة الإجازة، طلب الوزير من المدير العام للشؤون الطالبية مدّه بإحصائيات حول مدى إقبال التلاميذ الناجحين الجدد في الباكالوريا على الإجازات الجديدة مقارنة بإقبالهم على الأستاذيات. ولمّا كانت النتائج الأوّلية مؤكدة لتوجّه الناجحين في الباكالوريا أغلبيّا نحو اختيار شهادة الأستاذية بدلا من الإجازة الجديدة، وبالتالي مُخيّبة لآمال من كان يتوقّع أن “إصلاح إمد” سيُعطي أُكله مباشرة بعد الشروع في إنفاذه بما يبرّر وجاهة الاختيار وسلامته، تمّ التشكيك في سلامة الأرقام فأعيد الاحتساب من جديد لتستقر نتائجه على نفس ما عبّر عنه المسح الأوّل، فلم تبق لديهم أية ذريعة سوى تسجيل ذلك على حساب ضعف الإعلام وجهل الأغلبية الساحقة من الأولياء بمزايا النظام الجديد… “وعلى أية حال توة نزيدوها شوية نسبة الإقبال على الإجازات في التدخلات الإعلامية دون تقديم أرقام دقيقة حول المسألة” … كانت هذه هي الفتوى التي أوجدوها للخروج من المأزق.

المثال الثالث : مشاركة التلاميذ التونسيين في تقييم “بيزا”  الدولي

كانت تونس من أولى الدول العربية التي تشارك في البرنامج الدولي لتقييم الطلاب “بيزا”، وذلك منذ سنة 2003، وهو تقييم دولي لقيس قدرة الطلاب في سن 15 عامًا (أي نهاية السنة التاسعة أساسي لدينا) على استخدام معارفهم ومهاراتهم في القراءة والرياضيات والعلوم لمواجهة تحديات الحياة الواقعية كل 3 سنوات. سنة 2015 احتلت تونس المرتبة 65 على 70 دولة مشاركة في الاختبارات (رتبة تقاسمتها تونس مع لبنان ضمن هذا التقييم الذي شمل عيّنة من 540 ألف تلميذ من مختلف أنحاء العالم).

وبدلا من مُواجهة الأسباب العميقة التي أدّت إلى تصنيف تلاميذنا التونسيين في ذيل الترتيب العالمي وهو مؤشر تُنكّس له الأعلام الوطنية لأنه يعكس وضع الوهن الموجع الذي باتت عليه منظومتنا التربوية، اختارت دولتنا أن تُقاطع هذه المحطة التقييمية الكونية مُفرغةً المحرار من زئبقه وضخّه ضمن خطابها الرسمي القائل بأن المؤشرات التي ينبني عليها التقييم صُنعت على مقاس التلميذ الأوروبي والسنغافوري والياباني وليس على مقاس التلميذ التونسي الذي يدرس ضمن بيئة خصوصية ووفق برامج ومناهج خصوصية !

المثال الرابع : 0.4 نسبة نموّ ليست من شِيمنا

دوّن المؤرّخ الجامعي نورالدين الدڨي على صفحته الرسمية يوم 23 مارس ما يلي :

“المعلوم أن المعهد الوطني للإحصاء لا يستنبط الأرقام؛ وليس مطلوبا منه تزويقها؛ فمهمته حسب نصوصه الـتأسيسية : “جمع المعلومات الإحصائية الخاصة بالبلاد و معالجتها و تحليلها و نشرها بالتنسيق مع الهياكل العمومية الأخرى”، وما نشره المعهد مؤخرا عن نسبة النمو الاقتصادي بتونس لسنة 2023 التي حددها ب 4 .0 بالمائة، وعن نسب البطالة : 4 .16 بالمائة، هو انعكاس أمين لقدرات الجهاز الإنتاجي الوطني…”

لكن وكما أسلفنا بالنسبة إلى الأمثلة السابقة، بدلا من مُعالجةٍ رصينة ومتأنية للأسباب الحقيقية والعميقة التي أدّت إلى هذه النتائج الموضوعية، تمّ اللجوء إلى إجراء تحوير على رأس هذه المؤسسة الوطنية ذات الطابع التقني والخِبري الصرف التي ظلّت علاقتها بصاحب القرار السياسي على مرّ السنوات منذ تأسيسها سنة 1969 مُتأرجحة بين نشر الأرقام كما هي أو في أسوإ الأحوال التعتيم عليها وعدم الإدلاء بها قصد التداول العام ولكن (وحسب شهادة عديد الكفاءات التي مرّت بنهج الشّام وتعمل اليوم بمؤسسات دولية وإقليمية مرموقة) لم يحدث أن تمّ تزوير الأرقام أو التلاعب بها.

أستعيد في النهاية ما قاله أحد المفكّرين “يمكنك أن تراوغ رجال الشرطة لكنه من الصعب جدا مراوغة بداهة الإحصائيات”.

.

أكمل القراءة

جور نار

إنت وما جاب العود… عن مسلسلات رمضان

نشرت

في

أخبار مسلسلات رمضان 2024: مواعيد عرض مسلسل فلوجة 2 بطولة ريم الرياحي في  رمضان 2024 والقنوات الناقلة - المشهد

عبد القادر المقري:

لي شبه يقين أن مسلسلاتنا التونسية (تماما كسينمائنا) محظوظة حظا يكسر الحجر كما يقال … فهي أقرب ما تكون إلى تلاميذ ذات فترة من عمر وزارة التربية، وهي تجربة المقاربة بالكفايات … لا أحد يأخذ صفرا، لا أحد يسقط في امتحان، لا أحد يعيد عامه، ولا أحد يتم طرده لضعف النتائج …

عبد القادر المقري Makri Abdelkader
عبد القادر المقري

بل لا قياس أساسا لأي جهد … الكل ناجح، والكل ممتاز، والكل متفوق، والكل نابغة بني ذبيان … والدليل أننا عند نهاية مهرجان من مهرجاناتنا أو عرض فيلم من أفلامنا، لا تسمع سوى الشكر، ولا تقرأ سوى المدح، و لا ترى سوى الحمد على نعمة السينما والذين أدخلوها إلى تونس … تماما كما يحصل عقب كل رمضان مع أعمالنا الدرامية، إن وُجدت … فدائما عندك جوائز لأحسن عمل، وأفضل مخرج، وأبرع ممثل، و أقوى سيناريو، وأكبر وأجمل وأبهى وأمتع وأروع … يا دين الزكش، كما يقول صديقي سلامة حجازي … يعني كل بلاد العالم (بما فيها هوليوود وبوليوود وقاهرة وود ودمشق وود) تنجح فيها أعمال وتفشل أعمال، إلا عندنا فيبدو أننا الفرقة الناجية …

… أو فرقة ناجي عطا الله !

هذه السنة، أتاح لي زميل مسؤول بإحدى الإذاعات أن أتفرج على قسم كبير من مسلسلين تونسيين مرة واحدة… قلت أتاح لي بعد أن رجاني مشكورا أن أدلي برأيي في هذا وذاك، وأنا اليائس منذ أعوام من مستوى مسلسلاتنا خاصة حين جنح معظمها إلى تقليد عمل أعتبره كارثة فنية بكل المقاييس، وهو مسلسل “مكتوب” … وصار الكل يستنسخ منه استنساخ أهل الغناء والمسرح لعرضي النوبة والحضرة طوال الثلاثين سنة الأخيرة … وكيف لا يفعلون وهم وجدوا الوصفة السهلة التي لا تكلّف تعبا ولا وجع رأس … فمثلما بإمكانك أنجاز “عرض” فني لا نص فيه ولا فكرة مبتكرة بل تكديس جملة من أغاني التراث وإلصاق بعضها ببعض، بإمكان الواحد أن “يبيض” مسلسلا لا قصة فيه ولا حوار ولا سيناريو… فقط عندك ركام من عارضي وعارضات الأزياء، يقولون في ما بينهم كلاما من الحزام فما أدنى منه، ويعيشون في بذخ لا تحلم به أميرة خليجية، ويستبيحون القوانين أصغرها وأكبرها، ولا قيم توقفهم ولا منطق ولا نواميس مجتمع … عكعك وهي حالّة معك، كما يردد شباب هذه الأيام …

إذن أخذا بخاطر صديقي، تفرجت صاغرا في اثنين من أعمالنا المعروضة لرمضان هذا العام، قائلا لعل الأمور تحسنت عمّا تركتها، وربما ظلمت مبدعينا الفتيان وهم يفتحون البلدان ويغزون الفضاء في غفلة مني … وبما أن ذلك فاتني على المباشر، فقد لجأت إلى التساجيل التي تبث على الإنترنت، وأطوي الأرض طيا حتى أرى أكثر ما يمكن ولا أتسرع في الحكم على أحد … رأيت إذن جزءا كبيرا من مسلسل “فلوجة 2” على الحوار التونسي، وجزءا مماثلا من “رقوج 1” (بما أنهم يبرمجون لجزء ثان على ما سمعت) … وأعطيت رأيي في حدود ما شاهدت، وواصلت بعد ذلك باقي الحلقات حتى تكتمل الفكرة وأكون بدوري من المحتفلين ختاما بأفضل عمل وممثلين ومخرجين إلى آخر الليستة … وعلى حق …

نبدأ بفلّوجة … هو أولا استمرار لقصة السنة الماضية التي أثارت أكثر من ضجة لدى رجال التعليم ونسائه … والسبب أن احداث المسلسل تدور في وحوالي معهد ثانوي فيه كل شيء إلا الدراسة … مخدرات في قارعة الطريق، علاقات جنسية بوها كلب بين الجميع والجميع، ولادات خارج إطار الزواج وغير ذلك … والعجيب أن احتجاج المربين قابلته عاصفة تبريرية كانت دائما السند الرئيسي لسامي الفهري ومسلسلاته … من نوع: أليس هذا واقعنا؟ ألا تحدث يوميا مثل هذه الفضائح؟ هل ما زال عندنا تعليم؟ ألم يهبط مستوى مؤسساتنا التربوية منذ زمن؟ هل نغطي عين الشمس بالغربال؟ أما كفاكم نفاقا؟؟ … ويصل التبرير إلى ذروته بالتهجم على الأساتذة أنفسهم … “ماهي جرايركم” … “ما هو من جرة” انغماسكم في الدروس الخصوصية وإهمالكم لعملكم الأصلي … “ماهي نقاباتكم” وإضراباتكم ومطالبكم وزياداتكم المتلاحقة، وبسببها أفلست المعاهد وصارت بؤرا فاسدة، فيما هرب الجميع إلى التعليم الخاص… وغير ذلك وغير ذلك …

ولم يقل أحد من هؤلاء لسامي الفهري: وأنت، ما غايتك من الترويج لهذه المظاهر؟

وبقطع النظر عن صحة كل هذا في المطلق، والإحصائيات التي ما زالت لصالح التعليم العمومي في الباكالوريا وغيرها مهما حصل … فإن هذا التعميم يظلم كثيرا من أهل التعليم الأوفياء وجهدهم في إنجاح تلاميذهم وتمكينهم من مستوى جيد دون مقابل عدا مرتب شهري بعرق الجبين … كما يحط هذا التقييم الشمولي من قدر أبنائنا وبناتنا المربين والمربيات الأشراف وأغلبهم يتمسك بفضائلنا وأخلاقنا … فهل كل أساتذتنا متحرشون بتلميذاتهم كما في المسلسل، وهل كل أستاذاتنا ومديرات معاهدنا شغلهن الشاغل إقامة علاقات جنسية مع هذا التلميذ أو ذاك الرجل العابر؟ …

وحتى إن حصلت بعض حالات فماذا تمثل نسبتها؟ 1 بالمائة؟ اثنان؟ ثلاثة بالمائة ولا أعتقد ذلك وسط مئات آلاف من منظوري وزارة التربية … ومن يقول أكثر عليه بإجبار الوزارة على التحقيق العاجل ويكون معها فيه، ثم أين منظمات الأولياء والتربية والأسرة؟ لو كانت معاهدنا على شاكلة معهد سامي الفهري، فمن الأحرى غلق مؤسساتنا التعليمية وإحالة ميزانية الوزارة نحو قطاعات أكثر احتياجا كالشؤون الاجتماعية أو الثقافة أوالفلاحة والصيد البحري … بل ربما نضع كل ما نملك بين يدي الأمن والقضاء حتى يقضيا القضاء المبرم على الداء الذي استفحل ويهدد بنسفنا من الجذور …

فلوجة في جرئه الثاني لم يشذ عنه في الجزء الأول … لا بل هو يستمر في شذوذه الآخر … عن كل ما هو مجتمع وأعراف وقيم ولنقُلْ أيضا، مسؤولية … فالعمل الدرامي ليس مجرد نقل للواقع (هذا إذا كان واقعا) بل فيه طرح ورسالة وتأثير مباشر خاصة مع طغيان الصورة ووسائل الاتصال الحديثة … الفهري ومرؤوسته سوسن الجمني، يتملّحان طولا وعرضا بما يمكن أن ينتج في مجتمعنا من تغيير سلوكات جراء ما يعرضانه في كل مسلسل …

ـ يتبع ـ

أكمل القراءة

جور نار

هل ستقع المواجهة بين إيران والكيان الصهيوني؟

نشرت

في

الرابطة الدولية للخبراء والمحللين السياسيين - هل تملك اسرائيل ان توجه  ضربتها الى إيران؟

لم تكن التهديدات من هذا الطرف او ذاك توحي بخطر شن حرب بين إيران و اسرائيل، ذلك ان طهران كانت عمليا تتفادى مواجهة مباشرة مع اسرائيل المدعومة من الولايات المتحدة وتعي بان الكيان اللقيط لا يعدو أن يكون إحدى ثكنات القوة الأعظم.

محمد الزمزاري Mohamed Zemzari
محمد الزمزاري

و لم يتهور الايرانيون المعروف عنهم العمل بصمت و عقلانية و تقبل بعض الخسائر المفترضة و المنتظرة مقابل تنويع مواطىء اقدامهم و تركيز مواقع قد تخدمهم لاحقا دون أي تسرع عاطفي ممثل في رد فعل غير محسوب الهدف او النتائج … لقد دفعت إيران قرابين كثيرة منذ التسعينات ضحايا لاغتيالات الموساد و المخابرات الأمريكية المتعاونة من تفجير مراكز نووية إلى اغتيال علماء او قيادات عسكرية هامة و الظاهر ان الإيرانيين يرسمون أهدافهم الاستراتيجية على المدى الطويل والتي يعتبرونها اهم بكثير من صراعهم مع الكيان الصهيوني… وقد نجحت لحد الان السياسة الإيرانية في تركيز اذرع في عدد من البلدان العربية ذات مكانة استراتيجية هامة مثل سوريا و العراق ولبنان و اليمن، وهي ساعية اليوم لغرس امتداد لها بالأردن، كما عمدت خلال هذه الأسابيع إلى دعم حكومة السودان ومدها بالطائرات المسيرة التي قلبت موازين المعارك ضد قوى الدعم السريع.

لكن الحدث الذي جد اخيرا و الذي تمثل في ضرب الصهاينة للقنصلية الإيرانية بسوريا والقضاء على واحد من اكبر القيادات الحربية و التنسيقية قد يؤجج ما كان كامنا بين الكيان وطهران. فإسرائيل ترغب منذ سنوات في توريط حلفائها الأمريكان في حرب ضد إيران وقد تراءت لنتنياهو فرصة سانحة للدفع نحو هذه الحرب المرغوب فيها اولا و لتمديد بقائه في الحكم و إتمام خططه النازية من تهجير و مجازر و تدمير لغزة و لاحقا للضفة الغربية، وهنا لم يبق لإيران بد من رد فعل قوي لحفظ ماء الوجه و تأديب الكيان الذي تجاوز الخطوط الحمراء و ضرب القنصلية الإيرانية التي تمثل سيادتها و صورة قوتها أمام الجميع وخاصة لدى اذرعها وأنصارها في المنطقة.

ومنذ ساعات أعلنت المخابرات الروسية عن تحديد ضربات او حرب خاطفة ممكنة الوقوع قريبا جدا و دعت مواطنيها لملازمة الحذر بالشرق الأوسط وخاصة بالكيان الصهيوني و منذ اكثر من ساعة دعت الولايات المتحدة مواطنيها في الأرض المحتلة وتل أبيب خاصة الى نفس الحذر. اذن فالوضع قابل جدا لوقوع حدث هام مدمر ليس باسرائيل فقط لكن أيضا بايران اعتمادا على ان الكيان الصهيوني يرغب فعليا في خلق مواجهة مع ظهران ستقودها الولايات المتحدة دون شك.

هل ستصدر الضربة الإيرانية انطلاقا من قاعدة احد اذرعها؟ هل سيكون الهدف محطة ديمونة النووية او ايلات او تل ابيب؟ اظن ان ضرب تل أبيب مستبعد مما يبعث على الظن بان الهدف المحتمل هو: إما إحدى السفارات الاسرائيلية في بلد خليجي او قصف إحدى المدن او المطارات الكبرى بالكيان الصهيوني. فيما يبدو أن الولايات المتحدة لا ترغب حاليا في خلق بؤرة حرب جديدة مكلفة قبل انتخابات نوفمبر القادم و لن تصل اية ضربة مهما كانت صدمتها إلى دفع بايدن إلى رد فعل ضد إيران …

أكمل القراءة

صن نار