تابعنا على

جور نار

إلى أين يأخذنا انقلاب قيس سعيد … أم ينقلب قيس على سعيّد؟

نشرت

في

أين نحن ذاهبون بما يأتيه ساكن القصر؟ هل سيأخذنا الحقد إلى ما لم نكن نريده، أم سيغلب العقل والمنطق ساكن قرطاج درءا للأسوأ؟ سيقول البعض ماذا تقول يا هذا وماذا تهذي؟

محمد الأطرش Mohamed Alatrash
محمد الأطرش

أقول إننا فعلا في نفق مظلم قد لا نخرج منه أبدا، فرئيسنا يعيش أكبر ورطة عرفها في حياته، ولن ينجح في الخروج منها دون أن يحكّم فعلا عقله، وأن يبتعد عمن حوّلوا وجهته إلى أكثر مما كان يريد وينوي…فمن حوّل وجهة رئيسنا يا ترى؟ الإجابة في غاية البساطة، من صفقوا له ومن صرخوا باسمه طويلا هم من حوّلوا وجهة الرئيس إلى دائرة الانتقام والثأر والتصرّف كأنه السلطان أو الإمبراطور الذي يملك نصف البلاد والعباد…

قيس سعيد يعيد نفس الخطأ الذي وقعت فيه معارضة بن علي سنة 2011، فمعارضة بن علي لم تكتف بإصلاح أوضاع البلاد والبحث عن حلول لمشاكلها ومشاغل شعبها بل بحثت عن الانتقام والثأر لنفسها، ولجميع قواعدها من كل من انتموا وخدموا منظومة بورقيبة وبن علي…فجاءت بسهام بن سدرين وفرحات الراجحي وبعض الأغبياء والحمقى أمثال عماد دغيج وريكوبا وعاثوا في البلاد فسادا بمساعدة اتحاد الشغل الذي أطلق العنان لحقده الدفين، وحرّر مبادرة الانتقام لقواعده، من خلال روابط حماية الثورة المزعومة…فسحلت كفاءات البلاد، ووقع طرد أغلب من كانوا يشرفون على أكبر المؤسسات العمومية، وانتقمت من الصفوف الأولى والثانية والثالثة من كفاءات الإدارة التونسية، ثأرا منها ومن انتمائها وعملها مع منظومة بن علي، وجاءت بالصف الرابع والخامس وأهدتهم أغلب المواقع العليا التي لم يحلموا بها سابقا فأعلنوا مقابل ذلك البيعة، والولاء للحاكم الجديد النهضة ومن معها…

 ثم أعلن علي العريض وبمساعدة من الاتحاد حملة واسعة لتسوية وضعيات كل القطاعات فاصبح العامل البسيط متصرفا عاما…والرقيب العادي في المؤسسة الأمنية ملازما والملازم عقيدا، فغرقت ميزانية البلاد في وحل خلاص الأجور، وانتفخت كتلة الأجور إلى أن وصلت سنة 2020 إلى حجم ما كانت عليه ميزانية الدولة سنة 2010… وهكذا سقطت البلاد في نفق لم تخرج منه إلى يومنا هذا…فمنظومة النهضة ومن معها لم يحققوا ولو وعدا واحدا من وعودهم لمن خرجوا آخر سنة 2010 وبداية سنة 2011 على منظومة بن علي…فلم يتغيّر حال العاطلين ولا حال المظلومين، بل ساءت كل أمور البلاد وتدهورت أوضاع كل العباد، فتضاعف عدد العاطلين وغرق الآلاف منهم في المتوسط بعد ان اختاروا الموت هربا من جحيم بلاد احتلها التتار، أما “الطرابلسية” عنوان فساد عهد بن علي كما يسمونهم، فقد دخلوا السجون وافلست مؤسساتهم بعد أن جاء لإدارتها “طرابلسية جدد” ممن لا يفقهون في إدارة شؤون الدولة والمؤسسات..

 أما الاتحاد فقد حرر المبادرة لفروعه الجهوية والمحلية للتصرف في البلاد والعباد كما يحلو لهم وكما يريدون…فاصبح الفساد “مهيكلا” و”منظما” و”مؤطرا” ومعترفا به، وأصبح الاتحاد خلال عهدتي العباسي والطبوبي حاكما بأمره يفعل ما يريد كما يريد حيث يريد …فالاتحاد لم يترك حكومة واحدة لم يساومها ولم يهددها بالإضرابات، وبمقاطعة العودة المدرسية، وبغلق مواقع الإنتاج، فهو من كان وراء كل غلق لمؤسسات الدولة …وهو من كان وراء كل اعتصام أمام مواقع الإنتاج وهو من كان وراء هروب أغلب المستثمرين الأجانب من البلاد إلى دولة شقيقة…

أما النهضة فقد استغلت “باتيندة” التحدّث باسم الله لتطلق العنان لفصائلها المتشدّدة تكفّر الناس وتهددهم بالويل والثبور وعظائم الأمور، كما أنها فتحت المجال واسعا أمام رحلات التسفير إلى سوريا لإسقاط نظام بشار، في محاولة غريبة عجيبة لإعادة مجد الفتوحات الإسلامية …فالتحى نصف الشعب خوفا ونصفه الآخر طمعا وتقرّبا، وبقي بعض الفقراء يقاومون هنا وهناك بعد ان ارتمت أغلب النخب الوطنية في حضن شيخ النهضة…فكبرت النهضة وأصبحت غولا بمساعدة أغبياء اليسار، فاليسار كان أيضا من أكبر أسباب ما تعيشه البلاد اليوم فهو من خرج بعد 14 جانفي مهددا مولولا، ومطالبا بنصب المشانق لكل من انتموا لمنظومة بن علي، وكأنه اكتشف المقابر الجماعية، أو كأنه عاش الإبادة الجماعية فأغلب قيادات اليسار كانت تعمل سرا مع بن علي…فاليسار هو من كان وراء حل الحزب الحاكم، وهو من كان وراء المحاكمات غير الشرعية للعديد من الشخصيات الوطنية، بعضها مات قهرا وبعضها لا يزال يعاني من مخلفات ما عاشه وما عاناه…واليسار هو من كان وراء هجرة أغلب أصوات المنظومة القديمة إلى النهضة في انتخابات 2011 حين فتح الغنوشي بيته داعيا الجميع دخوله …هكذا كان حالنا مع من يسمونها “ثورة”…ثورة الحقد والانتقام والثأر ..

هذا السيناريو الذي عاشته البلاد مع معارضة بن علي نعيشه اليوم بكل تفاصيله مع قيس سعيد فالرجل لم يكن ينوي أول مرّة الاستحواذ الكامل على سلطات البلاد والتحكّم في تفاصيل الدولة، بل كان يريد فقط الثأر نفسه وإستعادة ما افتكّته منه “حكومة المشيشي” سيئة الذكر، فماذا حصل إذن ليصبح قيس سعيد خاطبا لودّ العرش كاملا دون نقصان؟

مباشرة بعد استغلاله لخروج الشعب غضبا من حكومة المشيشي والنهضة ومن معهما وإعلانه وجود خطر داهم ووجوب الانقلاب على المنظومة الحاكمة التي يعتبر هو أحد أهمّ أطرافها بتفعيل الفصل 80 من الدستور، خرجت علينا فرق الانشاد وسلاميات المدح و”الزغراطات” والمئات ممن خرجوا علينا سنة 2011 يطالبون بنصب المشانق، نفس الجوقة التي أهدت الحكم للنهضة سنة 2011 خرجت مباشرة بعد قرار ساكن قرطاج لتدعمه، وتسانده وتصرخ باسمه وتنصبه ملكا على البلاد، هؤلاء لم يكتفوا بــ”القوادة” بل عادوا لصنيعهم القديم الشيطنة وخلق الروايات الخيالية والثأر والانتقام، هؤلاء الذين فشلوا في كل المحطات التي مرّت بها البلاد عادوا طمعا في أن يتصدّق عليهم ساكن قرطاج ببعض الفتات ويشركهم معه في حكم البلاد، فخطابهم اليوم هو خطاب حاقد إلى أبعد الحدود…خطاب تحريضي وخطاب يدعو إلى الانتقام من منظومة بورقيبة وبن علي ومنظومة السنوات العشر ومنظومة 2019 التي يرأسها ساكن قرطاج الحالي…هؤلاء لم يكتفوا بالانقلاب على منظومة حكم المشيشي والنهضة ومن معهما، وهو الأمر الذي قبل به الجميع حتى بعض من كانوا مع المنظومة، وأنا أحد أكثر من طالبوا بإسقاط حكومة المشيشي حين كتبت يوما واحدا قبل انقلاب ساكن قرطاج مقالا في نفس هذه الجريدة عنوانه “هل اصبح المشيشي خطرا على البلاد؟”…

بعض هؤلاء الذي هرولوا إلى دائرة قيس سعيد خدعوه وأوهموه أنه قادر على إخراج البلاد مما هي فيه، وأن كل الوسائل التي بحوزته ستجعله يكسب الرهان بسهولة، فكان أن جاؤوا بقائمة من تقرير عبد الفتاح عمر لرجال أعمال اقترضوا الكثير من الدولة سنوات حكم بن علي، وأوهموه أن استرجاع هذه الأموال من رجال الأعمال سيكفيه عناء التفكير في كيف يخرج البلاد مما هي فيه اقتصاديا…فسقطوا في شرّ أفكارهم الشيطانية فتلك القائمة سوّت وضعياتها ولم تعد صالحة لأي إجراء أو محاسبة…وبعد الخيبة الأولى نصحوه بالعمل على استرداد “الأموال المنهوبة” فبحث في الأمر فلم يجد جوابا يكفيه عناء التفكير في وضع البلاد الاقتصادي …هكذا أوهموا ساكن قرطاج بأنه سيخرج البلاد مما هي فيه ببساطة…لكنهم أوقعوه في الخطأ…فماذا فعل بعد ذلك؟ انطلق في حملات لمقاومة الفساد دون أية دراسة للملفات، فأصبحت كل الأسماء التي يشتبه في فسادها “فايسبوكيا” تحت الإقامة الجبرية ومعرّضة لهتك الأعراض والادعاءات الكاذبة من لدن جوقة التصفيق والمدح والثناء من أغبياء اليسار ومصفقي ساكن قرطاج الذي اساؤوا إليه أكثر مما نفعوه…

بعد أكثر من شهر شعر قيس سعيد بأنه في ورطة كبيرة، لن يخرج منها بالسهولة التي كان يتصورها والتي أوهموه بها…فحكم بلاد تعيش أزمة خانقة لن يكون بالسهولة التي رسمها  بعض الاغبياء ممن امتلأت قلوبهم حقدا على كل خصومهم، وعلى كل من حكم البلاد قبلهم…فقيس سعيد انساق وراء مزاج من هم حوله فاستعدى أغلب مكونات المشهد السياسي، فبقي وحيدا دون سند سياسي غير عشرات الآلاف من المصفقين وحسن الزرقوني الذي أدخل ساكن قرطاج في أحلام قد لا تتحقّق لو واصل على هذا النحو…فالتصفيق لن يوفر موارد رزق للعاطلين ولن ينعش خزينة الدولة ولن يدفع ديون البلاد لمستحقيها ولن يوفر أجور العملة والموظفين…

فماذا سيفعل يا ترى؟ لا شيء غير الهروب إلى الأمام من خلال “لا عودة إلى الوراء” التي أعادها ألف مرّة…فالرجل سيعلن تعليق العمل بالدستور أو الاستغناء عنه تماما، أي نعم الاستغناء عن الدستور الذي وفّر له فرصة الانقلاب دستوريا على رفاقه في المنظومة فهو وإن أنكر ذلك، جزء من هذه المنظومة…وبذلك سيكشف لكل العالم أن ما فعله هو انقلاب كامل الشروط لا غبار للاستثناء فيه…وهذا الانقلاب لن يقبل بالسهولة التي ربما أوهموه بها سواء كان ذلك خارجيا أو داخليا … وكشفه للانقلاب سيتركه فعلا وحيدا في مواجهة أوضاع البلاد الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، فكل القوى الأخرى ستتكتل ضدّه لترفض أي دستور سيصاغ في غرف مظلمة من أصدقاء ساكن القصر وهم كثر وبعضهم بدأ فعلا في كتابة القصائد المدحية لمولاهم من خلال ما يكتبونه من مقالات وتدوينات عن القانون وتفاصيل القانون …فهم يخلقون المبررات والحجج ليكون مولاهم على حقّ…وليكون لهم غدا أقرب موقع من مولاهم في أحد قصور الحكم…كما أن الرجل سيعدّل أو سيعدّ قانونا جديدا للانتخابات وسيعلن عن حكومة جديدة أعان الله من سيكون وزيرا أول على رأسها فهو من سَيُحَمِّلهُ ساكن قرطاج مسؤولية كل المصائب التي ستعرفها البلاد اقتصاديا واجتماعيا في قادم الأشهر قبل أن يعلن إقالته…ثم وفي مرحلة أخيرة سيعلن ساكن قرطاج عن موعد للانتخابات التشريعية فماذا لو رفض الجميع دستور مولانا….وما سيفعله مولانا…ماذا لو قاطعوا كل من يقرره مولانا…هل فكّر في أمر كهذا مولانا أم أن من أوهموه أنه المنقذ نسوا أن ينبهوه إلى تبعات كل ما يفعله وما يأتيه؟

خلاصة قولي…كل ما تعيشه البلاد ومنذ أكثر من عشر سنوات يحكمه المزاج والحقد والرغبة في الثأر والانتقام عند البعض منّا…فاليوم وحين نستمع إلى أي خطاب من ساكن قرطاج نشعر بمنسوب مرتفع جدا من الحقد ورغبة جامحة في الانتقام من الجميع…والأحقاد لا تقاوم الفساد أبدا…وما لم نترك المزاج جانبا…ونتخلص من الأحقاد التي تنخر صدورنا فلن نخرج مما نحن فيه…نحن في عين الإعصار، ولا أحد من كبار قومنا تفطّن للخطر الداهم الذي لم يتفطّن له ساكن قرطاج…فكم سيدوم الاعصار يا ترى…وهل ستشرق الشمس بعده أم سيعمّ الظلام…؟؟ وإلى أين يأخذنا انقلاب قيس سعيد، أم ينقلب قيس على قيس؟

أكمل القراءة
انقر للتعليق

اترك تعليقا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

جور نار

هل ستقع المواجهة بين إيران والكيان الصهيوني؟

نشرت

في

الرابطة الدولية للخبراء والمحللين السياسيين - هل تملك اسرائيل ان توجه  ضربتها الى إيران؟

لم تكن التهديدات من هذا الطرف او ذاك توحي بخطر شن حرب بين إيران و اسرائيل، ذلك ان طهران كانت عمليا تتفادى مواجهة مباشرة مع اسرائيل المدعومة من الولايات المتحدة وتعي بان الكيان اللقيط لا يعدو أن يكون إحدى ثكنات القوة الأعظم.

محمد الزمزاري Mohamed Zemzari
محمد الزمزاري

و لم يتهور الايرانيون المعروف عنهم العمل بصمت و عقلانية و تقبل بعض الخسائر المفترضة و المنتظرة مقابل تنويع مواطىء اقدامهم و تركيز مواقع قد تخدمهم لاحقا دون أي تسرع عاطفي ممثل في رد فعل غير محسوب الهدف او النتائج … لقد دفعت إيران قرابين كثيرة منذ التسعينات ضحايا لاغتيالات الموساد و المخابرات الأمريكية المتعاونة من تفجير مراكز نووية إلى اغتيال علماء او قيادات عسكرية هامة و الظاهر ان الإيرانيين يرسمون أهدافهم الاستراتيجية على المدى الطويل والتي يعتبرونها اهم بكثير من صراعهم مع الكيان الصهيوني… وقد نجحت لحد الان السياسة الإيرانية في تركيز اذرع في عدد من البلدان العربية ذات مكانة استراتيجية هامة مثل سوريا و العراق ولبنان و اليمن، وهي ساعية اليوم لغرس امتداد لها بالأردن، كما عمدت خلال هذه الأسابيع إلى دعم حكومة السودان ومدها بالطائرات المسيرة التي قلبت موازين المعارك ضد قوى الدعم السريع.

لكن الحدث الذي جد اخيرا و الذي تمثل في ضرب الصهاينة للقنصلية الإيرانية بسوريا والقضاء على واحد من اكبر القيادات الحربية و التنسيقية قد يؤجج ما كان كامنا بين الكيان وطهران. فإسرائيل ترغب منذ سنوات في توريط حلفائها الأمريكان في حرب ضد إيران وقد تراءت لنتنياهو فرصة سانحة للدفع نحو هذه الحرب المرغوب فيها اولا و لتمديد بقائه في الحكم و إتمام خططه النازية من تهجير و مجازر و تدمير لغزة و لاحقا للضفة الغربية، وهنا لم يبق لإيران بد من رد فعل قوي لحفظ ماء الوجه و تأديب الكيان الذي تجاوز الخطوط الحمراء و ضرب القنصلية الإيرانية التي تمثل سيادتها و صورة قوتها أمام الجميع وخاصة لدى اذرعها وأنصارها في المنطقة.

ومنذ ساعات أعلنت المخابرات الروسية عن تحديد ضربات او حرب خاطفة ممكنة الوقوع قريبا جدا و دعت مواطنيها لملازمة الحذر بالشرق الأوسط وخاصة بالكيان الصهيوني و منذ اكثر من ساعة دعت الولايات المتحدة مواطنيها في الأرض المحتلة وتل أبيب خاصة الى نفس الحذر. اذن فالوضع قابل جدا لوقوع حدث هام مدمر ليس باسرائيل فقط لكن أيضا بايران اعتمادا على ان الكيان الصهيوني يرغب فعليا في خلق مواجهة مع ظهران ستقودها الولايات المتحدة دون شك.

هل ستصدر الضربة الإيرانية انطلاقا من قاعدة احد اذرعها؟ هل سيكون الهدف محطة ديمونة النووية او ايلات او تل ابيب؟ اظن ان ضرب تل أبيب مستبعد مما يبعث على الظن بان الهدف المحتمل هو: إما إحدى السفارات الاسرائيلية في بلد خليجي او قصف إحدى المدن او المطارات الكبرى بالكيان الصهيوني. فيما يبدو أن الولايات المتحدة لا ترغب حاليا في خلق بؤرة حرب جديدة مكلفة قبل انتخابات نوفمبر القادم و لن تصل اية ضربة مهما كانت صدمتها إلى دفع بايدن إلى رد فعل ضد إيران …

أكمل القراءة

جور نار

ورقات يتيم … الورقة 25

نشرت

في

‫جمال عبدالناصر‬‎

عبد الكريم قطاطة:

الساقية مسقط رأسي في تلك الحقبة ومن خلال حانوت الحلاّق شكّلت في حياتي نواة لشلّة من الاصدقاء متنوّعة سنّيا، مهنيّا، تعليميّا … وفكريّا … وهذه ميزة كبرى في تجربتي مع الحياة ..

عبد الكريم قطاطة
عبد الكريم قطاطة

فاختلاط الفرد بهذه الشرائح على اختلافها هو الكفيل اولا برؤية انسانية بعيدة عن التمييز والتّنخْوب (محاولة اشتقاق من نخبة) ..وثانيا نتعلّم فيها ومنها اشياء لن نجدها في تعليمنا مهما تعلّمنا .. استحالة ….في تلك الشلّة كان هنالك التلميذ والمرمّاجي والحذّاء والبطّال والمهني ..وكانت لقاءاتنا يوميّة وفي كل المناسبات ..يوم الاحد مثلا كان للعب البولاط ومباراة او اثنتين في كرة القدم . في رمضان ننهي مشوار الافطار مع عائلاتنا في دقائق معدودة ونهرع الى حانوت الحلاق لسهرات حتى قرب موعد السحور… طبعا دون نسيان قلق عيّادة من خروجي المبكّر ودخولي المتاخر … وهل تصير تاكزة من غير فحمة ؟؟ ..

في فصل الصّيف نبحث كل ليلة عن حفلات الاعراس لـ “نهُدّ” على اصحابها ونقتحمها طوعا او كرها … وبعدها كنّا كثيرا ما نواصل السهرة حتى شروق الشمس على ضفاف شاطئ بحر سيدي منصور … في محطة قهوة حمزة حيث تلك البرّاكة الجميلة وسط البحر … نتوسّد “الضريع” أي حشائش البحر ..الارض بساطنا والسماء لحافنا وموسيقى خرير المياه تعزف ابهى التقاسيم ….امّا في عيدي الفطر والاضحى فتلك اطباق اخرى …. كنا نستعد لسهرة العيد استعدادا مادّيا فليلتها تعني ليلة القبض على السينما … قاعات السينما في مثل تلك المناسبات وفي اغلبها تبرمج 4 افلام لزوارها بمعدّل فيلمين في بداية السهرة وفيلمين في نهايتها . ازمنة .// deux grands films//..وكانت كل قاعة مختصّة بنوعية معينة من الافلام فقاعة الماجستيك كان اختصاصها الافلام الهندية… وقاعات الهلال والكوكب وبغداد والكوليزيه كانت تختص بالافلام المصرية فيما تبقى الافلام الغربية بانواعها الكاوبوي والبوليسية من مشمولات قاعات النور.. والراكس ..والاطلس ..

شلّتنا ونظرا إلى المستوايات التعليمية المتفاوتة كانت تنتمي الى القاعات الشرقية فاما افلام الثنائي فريد شوقي ومحمود الملّيجي او الافلام الغنائية وخاصة عبدالحليم وشادية او الافلام التاريخية من نوع صلاح الدين الايوبي ورابعة العدوية _وهذا الفلم ابكاني في ذلك الزمن لاوّل مرة في علاقتي بالافلام …وبالذات في فقرته الاخيرة عندما يحضر فريد شوقي في موت رابعة ويقول لها باعين دامعة (سامحيني يا رابعة) وتبدا رابعة او روحها كما صوّرها المخرج بغناء واحدة من اروع الاغاني الدينية لحدّ يوم الناس هذا (الرضاء والنور ) … ومن الافلام ايضا التي شدّتنا في تلك الحقبة وبدرجة مذهلة فلم عنتر وعبلة ..واصبحنا نردّد في كل فوز في البولاط او كرة القدم (عنتر حيّ)…

الحديث عن سينما ليلة العيد تسبقه اشياء … ليلة العيد بصفاقس تعني ثلاثة عناصر لتأثيثها .. السينما كما ذكرت ..كسكروت السهرة على بساطته واحيانا ببطاطا _مخنونة _.وخاصّة .. العنصر الاهم ..نهج الباي ..نهج الباي المنجي سليم حاليا هو اشهر نهج في المدينة العتيقة بصفاقس اولا لانه يربط بين المدينة العتيقة والمدينة العصرية اي من باب الجبلي الى باب الديوان، وثانيا لانه نهج يتكدّس فيه كل ما يحتاجه المواطن ليلة العيد من شراءات …احذية عطور وخاصّة ملابس … ومن العادات التي كانت تسود سكان اهالي صفاقس انهم يستعدّون فقط ليلة العيد لشراء ملابس والعاب الاطفال ..ليلة العيد دون غيرها ..ذلك يعني ان الازدحام ليلتها على اشدّه . … وتلك هي بغية جميع الشُلل ..كان بامكان اي واحد من ايّة شلّة تفادي الزحام عبر المرور بانهج اخرى . للوصول الى باب البحر (المدينة العصرية) _…لكن الم اقل لكم ان الزحام هدفنا ..عفوكم لم نكن يوما من شلّة اللصوص التي تغتنم ولحدّ الان مثل هذه الفرص … باش ادّوّر صوابعها … معاذ الله ..بل كنّا لصوصا من نوع آخر ..

كنا نطمع في تلك الزحمة بالالتصاق بعيدا عن العفوية باي جسد انثوي تضعه الاقدار امامنا … وكل واحد واش تهزّ مغرفتو في تلك الليلة …وكثيرا ما كنّا نُرجم بنظرات مرعبة من امرأة تنتبه الى افعالنا “الخايبة” وهي تحس بشيء ما يوقظ جسدها .من الخلف ….فكنّا نلتفت الى من وراءنا ونصيح فيهم (يزّيو من الدزّان) ثم نعود الى تلك المرأة المرعبة بنظراتها النارية لنقول لها في شبه حياء وكثير من الخبث (خاطيني راهم يدزّو فيّا) ..ولأن تلك المرأة قادرة على فك شفرة مقصدنا فانها تواصل زمجرتها وتصيح: “لا حتى انت حليّس مليّس ..يلعن بو هالفيّة” … وسعيد منّا من يجد امامه واحدة اما انها (عزوزة ما يهمّها قرص) او هي ايضا من عشّاق الزحام لانّها فرصتها الوحيدة (مرّتان في السنة) كي تعيش الزحام .ولذّات الزحام .. وينتهي مشوار نهج الباي وتنتهي فرصة الالتصاق القسري بين بعض “كلاب السوق” امثالنا وبين نساء مزمجرات مرعدات وبين اخريات راغبات متمتعات ..في اتنظار عيد آخر ..والتصاق آخر …

العلاقة مع الشلة لم تكن لتفصلني عن مكونات الساقية من اناس آخرين وسلوكياتهم خاصّة ..كانت العين الرقيبة فيّ حاضرة وبامتياز ..كنت استغرب جدا من احد بائعي المواد الغذائية بانواعها وهو وسخ الهندام ولحيته لا تعرف الحلاق الا مناسباتيا من صنف زوروني كل سنة مرّة .. مبالغة برشة ؟؟؟ طيب خليوها مرّتين ..وما انجمش نطيّح راني مسبّق راس مالي ..وما تلحّوش عليّا برشة …. لذلك كنّا عندما نذكر اسمه نردد فقط: “هاكة اللي يكيّل في الحليب حافي” … احد روّاد الساقية كان يشتغل بمخبزة اختصاصها رحي القمح والشعير وطهي حلويات رمضان في فرنه ..كان في كلمة “تكارّي” وهذه مشتقّة من تكروري ..كانت سيجارته الارتي لا تفارق مبسمه وكان نحيفا وكان ايضا رمادي الملامح من شدّة علاقته غير الودّية بالنظافة . هو.تماما كرماد فرنه ..مما يحكى عنه انه دخل ذات يوم على حين غفلة الى منزله فوجد احدهم باركا على زوجته … خرج مهرولا لاخيه الاكبر والقدوة والقاضي في العائلة اي في القبيلة وهو يشتكي له ما راى فما كان من اخيه الا ان اجابه: اش ماشي نقلّك النساء يعملو . زعمة حتى هو طايح من السلّوم ؟؟؟. ويضيف ..صبّر روحك وخي يخّي ربّي ما قالش كيدهنّ عظيم … فيجييه هذا رايك ؟؟ طأطأ اخوه راسه وقال استرها واستر روحك اما خير والا تعمل فضيحة في ام صغارك ..وبصوت مهموم اجاب صاحب الكوشة ..رايك والبركة ..اللي تقول انت اكهو ..وما ان خرج هذا المركوب على زوجته حتى نظر اليه اخوه واتبعه بتمتمة: “حتى انت اش من دغفة فقت بيها كان تو” …زعمة ثمة منها حكاية حرام المحارم ؟؟..

نفس صاحب الكوشة هذا شاهدته يوما في رمضان وهو يستقبل حرفاءه بصينيات الدرع والڨاطو والمقروض الاسمر لتاخذ مكانها في الفرن حتى تحلّي البيوت في عيد الفطر ..شاهدته وهو يستقبل فتاة بالكاد في ربيعها السادس عشر ولكنّها جسديّا “هسكة” وهي ترمق عينيه اللتين جحظتا في ما تحت وما فوق الميني جيب الذي ترتديه … وبخبث انثوي صبّحت عليه وقالت: “امّي مسلّمة عليك وقالتلك ارميهولي تو” …ما اخيب نيّنكم … راهي تقصد المقروض… الا ان صاحبنا كانت نيّته تماما كنيّتكم ..لم يشأ ان يرد عليها في صبيحة رمضانية و حشيشة الدخان ضاربتلو الطّاسة متاع مخّو … فادار وجهه مستعيذا من الشيطان (الذي بداخله) لان الشياطين في رمضان توصد الابواب في وجهها وتدخل في عطلتها السنوية … الا ان هسكتنا الجميلة جدا والمثيرة جدا والخبيثة جدا تصرّ على اعادة كليبها الصباحي بعد ان عرفت انه فعل فعلته في “رواشك” صاحب الكوشة …وكاد يسيل لعابه من فمه ومن هنالك .. ورددت الاسطوانة (قالتلك امّي ارميهولي تو) نظر اليها صاحبنا وانفجر بتمتمة: “يا بنتي امش على روحك خير ما الواحد يفطر عليك في سيدي رمضان الفضيل” …وحاولوا فقط معي ان تجدوا تفسيرا للعلاقة بين “نفطر عليك” و “سيدي رمضان الفضيل” …

من شقاواتنا كشلّة في تلك الحقبة وفي الساقية، اننا وبعد كل سهرة كنا نقف امام متجر صغير لنكمل السهرة هنالك ..ونختمها بالتبوّل في فتحة مدخل المفتاح (المجليق) ونذهب اليه في الغد ليشكو لنا همومه من كلاب السوق الذين كثيرا ما يعطرون متجره بعطورهم .. رحمه الله وغفر الله لنا تعطيرنا لحانوته ..واحد اخر كان ثريّا جدا (ما يعرفش طرف مالو وين) ولكنّه وكسائر الاثرياء كان واحدا من بخلاء الجاحظ.. وكنّا في فصل اللوز نستمتع جدا بالذهاب الى جنانه الكبير والبعيد عنه وعنّا 3 كلم لنسرق لوزه الفريك ودليلنا في السرقة ابن اخيه… ثم وفي ساعة متاخرة من الليل نذهب الى فيلّته الفاخرة بالساقية ونتربع على فيراندته لنفترس بشهيّة ما سرقناه ونترك له القشور مشتتة على الفيراندا … وقد يداهمنا احيانا اذان صلاة الفجر فنسرع في مغادرتنا المكان باعتباره من المواظبين على صلاتهم بالمسجد …وما ان يصل المؤذّن الى مقولة (الصلاة خير من النوم) حتى يردّ الواحد منّا (حتى النّوم فصيّل ما عندك ما تقول فيه) … وفي الغد ينتشر خبر سرقة جنان ذلك الثّري وخاصّة حرقته وهو يقول لكبار الساقية (لا ومازاهمش سرقوني جاو للفرندا متاعي وكملوا سهريتهم وخلّلاولي القشور.. الله لا تربّحهم اولاد الحرام …وكان كل ذلك يحفّزنا للروبولات او وكما يقول عبالعال (كماااااااااااااااااان) …

في الساقية ايضا عرفت انماطا اخرى من اناس طيبين للغاية… فعلاوة على سي المبروك حمّاصنا الطّيب رحمه الله هنالك الحاج البقلوطي، حائك السراويل التقليدية والبلوزات الرجالية ..هو.دائم الابتسامة وديع الملامح ولم نستطع يوما تحديد عمره… كان كلما سالناه عن عمره يبتسم ويقول 38 سنة ..ولم ندر لحد الان كم يبلغ من العمر ..كان هنالك صاحب كرّيطة، اي “كرارطي” بالمعنى الحقيقي للكلمة لا المجازي (والتي تعني زير نساء)… كان اسمه “الشنّة” ولقبه بربّة … وهما اسما ولقبا غريبان جدا ..لكن ميزته انه كان دائم الغناء وبصوت عال وطربي، لم اره يوما مهموما …ربما هو من القلائل الذين فهموا انه وعلى حد قول اندريه مالرو (الحياة لا تساوي شيئا ولكن لا شيء يساوي الحياة) …او وعلى حد تعبير شابّينا ابي القاسم (خذ الحياة كما جاءتك مبتسما … في كفّها الغار او في كفّها العدم) …

شخصيّة اخرى اشتهرت في الساقية ببّفائيتها ..هو “دلاّل” خاصّة في قطاع الغنم …تقدّم به العمر واصبح بالكاد ينافس السلحفاة في سرعتها …كان كلّما قام بالدلال على نعجة مثلا بدءا بـ”يا باب الله” وتدريجيا يرتفع الثمن من مشتر الى آخر … يحدث ان تمر بجانبه امرأة بسفساريها وتضع يدها على ظهر النعجة فتجده يابسا لا لحرمانها من كبشها بل لسنّها المتقدّم وربّما للاثنين معا فتشير الى صاحبنا الدلاّل بقولها: “تي هذي حطبة” …ويلتقطها من فمها وتصبح دلالته من نوع (راهي حطبة)… وقد ياتي اخر وينعتها بـ “هذي وافية ماشية تموت” … فيردد: “راهي وافية ماشية تموت” _…لماذا يفعل ذلك دون غضب لا من صاحب النعجة الذي امّنه على بيعها، ولا من شرذمة العابثين امثالنا ونحن نتصيّد الفرصة لابداء تعاليق تعدد عيوب بضاعته حتى يرددها بحذافيرها ..؟؟؟

هذه النماذج من متساكني ساقيتي رسّخت في شخصيّتي وفي فكري وفي اعمالي بعد سنوات متقدمة اشياء هامّة جدا… لعلّ ابرزها ان كل فرد ومهما كان سلوكه مهما كانت طبقته الاجتماعية مهما كان مستواه التعليمي هو مهم جدّا وعلينا ان لا نلغيه في كل ما نعمل …

في اواخر السنة الرابعة آدابا حدثان هامان اثّرا جدا على كُريّم ..نعم جدّا … اوّلهما نكسة جوان 67 …انا خرّيج معهد الحي الذي اغلب اساتذته قوميون ..نصحو يوما على الخبر الفاجعة ..هزيمة العرب وبالتحديد عبد الناصر في حرب جوان مع اسرائيل …كانت صدمة لا توصف… كانت مشاعرنا ممتزجة بألم انتصار اسرئيل على العرب ولكن خاصّة بخسارة عبدالنّاصر الريّس الذي كان بالنسبة لنا الزعيم الاسطوري ..خاصّة والاعلام الحربي المصري انذاك يبشّر برمي اسرئيل في البحر …. عبدالناصر ذلك القومي العروبي الى اخمص قدميه لم يتفطن إلى أن رئيس أركانه كان اثناء الهجوم الاسرائيلي في ملاهيه مع برلنتي مزطولا ..؟؟ ولم يتفطن إلى خيانة روسيا له وهي تجهزه بعتاد حربي فاسد .؟؟؟.. ياااااااااااااه كم هو مؤلم وكم كانت الصدمة قوية …

لم نستطع وقتها تحديد موقفنا ..هل ننتفض غضبا على من احببنا ام نشفق عليه ؟؟؟.. وهل باستطاعتنا ان نغضب و نلعن من نحب مهما فعل ..مهما فعل …مهما فعل ؟؟؟ … او هل نثمّن ما قاله بورقيبة في خطاب اريحا …ام نبقى دوما اعداء لبورقيبة حتى ولو كان على حق ؟؟ وبدأت المظاهرات في تونس ..الدستوريون ينددون بالريّس الطاووسي وغير الواقعي سياسيا مفتخرين بالآراء الحصيفة لبورقيبة ..والقوميون منددين باسرائيل وامريكا … دون المس من زعامة عبدالناصر ..اذكر يومها اني كنت من ضمن التلاميذ الذين خرجوا من معهد الحي (ضمن القوميين)واتجهنا الى الليسيه (معهد الهادي شاكر) لنخرج تلاميذه معنا الذين لا حس سياسي لهم انذاك مقارنة بنا نحن ابطال الحي الزيتوني … ولنتوجّه الى المدينة العصرية نجوب شوارعها ونهتف بسقوط اسرائيل وامريكا … وكان جلّ الرجال الكبار ينظرون الينا في صياحنا وهو يسخرون قائلين متهكمين: اش ثمّة ؟؟ اشبيهم هالفروخ يعيّطوا …؟؟؟ … اي انهم كانوا خارج سياق ما يقع في العالم ..وهذه طبيعة اغلب متساكني تونس عموما في تلك الازمنة …اهتمامهم بالسياسة “نيانتي” …مفقود تماما … واحيانا المفقود افضل من الموجود واعني به ذلك الموجود ، المزعج ..الغبي …الانفلاتي .. والمدمّر …

وعندما يخبرهم البعض عن اسباب تظاهرنا ..يواصلون: “وهذوما اش يفهمو فيها تي خ…….هم مازال في ص….. هم” … (صدقا كتبتها كاملة دون نقصان الاحرف ولكن وكقارئ وجدتها “ناتنة ذوقيّا” فاصلحت وحذفت بعض الاحرف ..المهم وصلت الفكرة) … لذلك انا واحد من الذين يتفهمون جيدا خروج تلاميذ المعاهد للتظاهر …في كل الازمنة … انه تدرّب لتكوين الذات ..لنحتها .. للقادم ..شريطة ان تخلو تلك المظاهرات من اي شكل من اشكال العنف، وذلك بتأطير من قادتها … وربّما ما خفّف علينا صدمة نكسة العرب خروج ملايين المصريّين للشارع عندما اعترف عبد الناصر بمسؤوليته الكاملة وبتخلّيه عن الحكم ..يومها خرجت مصر لتقول له انت الريّس وستبقى الريّس … وعاد الريّس ليهيّئ كما ينبغي لحرب العبور …والتي اخذ وسامها السادات …وبقطع النظر عن كل التحوّلات الجذرية التي حدثت لي في ما بعد ايديولوجيّا فاني اعتبر كلاّ من عبد الناصر وبورقيبة وبكل سلبياتهما واخطائهما من افضل الزعماء العرب ماضيا وحاضرا …

الحدث الثاني في اواخر سنتي الرابعة آدابا كان ….هو في الحقيقة لم يكن كان فقط بل هو كمّ هائل من الافعال الناقصة كان صار.. ليس … بات … وكما تعلمون من ميزات هذه الافعال انها ترفع المبتدأ وتنصب الخبر ..فما بالكم اذا كانت تجرّ المبتدا ويصبح الخبر في خبر اصبح … يتبع ؟؟ يتبع ونصف وثلاثة ارباع وخرّوبة …

ـ يتبع ـ

أكمل القراءة

جور نار

ورقات يتيم … الورقة 24

نشرت

في

رسم خط متواصل إبريق الشاي مطبخ الأجهزة, رسم الجناح, رسم الشاي, رسم المطبخ  PNG والمتجهات للتحميل مجانا | Continuous line drawing, Line drawing, Line  art drawings

المثل الشعبي عندنا يقول (اذا ولدك ناقص كلام دخّلو لحانوت حجّام) … نعم .. ساقية الداير انذاك كان بها مقهى واحد فقط ….وموقعه الجغرافي لم يكن وسط الساقية بل في احد اطرافها وهو ما جعل انتقالنا له يكاد يكون مفقودا . وحتى صاحبه لم يكن كيّسا ولا بشوشا ..ثم من اين لنا بثمن القهوة ..منين يا حسرة ..؟؟

عبد الكريم قطاطة
عبد الكريم قطاطة

لذلك كان حانوت الحلاق هو مقهانا ففيه يقوم “الزمبار” بطهي الشاي الاحمر الذي يترك بصماته الصفراء الداكنة في الكاس وطبعا في بطون شاربيه …لم اكن من حرفاء الشاي يوما ..الى ان حدث ان تذوقته يوما بعد افطار رمضان مصحوبا باوكسجين سيجارتي ..ويا والله عملة .. شدّ ما سيّب عمّك التاي .. اصبح يلازمني كل رمضان دون غيره من الايام ..ولانني لم اكن يوما اكولا ولن اكون فإن زوجتي تعرف عني اني ارغب يوميا طيلة شهر رمضان في ثلاثة اشياء فقط ..شربة بالحوت وبريكة بالحوت وكاس شاي يُطبخ على نار هادئة منذ الثانية بعد الظهر، حتى يصبح “تاي مرمّاجية” اي عمّال البناء … وينتهي الشاي الاحمر مع اخر يوم من رمضان ولن يعود الا في رمضان المقبل ….لذلك هي لا تجد منّي اي اشكال في كل ايام رمضان باعتبار اني لست من الذين يشتهون كثير الاشياء على المائدة واترك لها ولابنائي حرية اختيار موائد رمضان …

في حانوت احمد الفقي حلاقنا تُوكل مهمة الشاي الى الزمبار …الزمبار هو تونسي من اصل ليبي منقطع عن الدراسة ولاعب متميّز في كرة القدم (لعب في الاصناف الشابة للسي اس اس وانقطع عن اللعب)… وعن وجوده بصفاقس ورغم مستواه التعليمي المتواضع بعد قيام ثورة الفاتح عندما هاجر مع عائلته الى طرابلس فانه اصبح اطارا عاليا هناك …وانقطعت اخباره تماما عنّا حتّى فاجأني سنة 2004 بزيارة ليلية الى منزلي دون سابق اعلام …نظرت اليه مليّا وعرفت انه محمد الطرابلسي شُهر “الزمبار” … كان لقاء الدّموع والسعادة والذكريات… لم يبق طويلا معي في تلك الزيارة الخاطفة ووعدني بأختها ومازلت انتظر …وكلّ ما ارجوه في هذه الظروف العصيبة في ليبيا الشقيقة هو وكلّ اصدقائي ومستمعيّ هنالك ان يكونوا بخير يااااااااااااااا رب …

تلك الزيارة ذكرتني يزميل معي في الدراسة بمعهد الحي…عمران الطرابلسي… درسنا معا السنوات الثلاث الاولى من التعليم الثانوي ثم ومع ثورة الفاتح ايضا هاجر الى الجماهيرية العظمى …وكسائر المهاجرين الذين ترعرعوا في تونس ونهلوا من تعليمها قليله، اصبح عمران مدير بنك هنالك ..وذات يوم في نهاية التسعينات وانا باحد طرق صفاقس لمحت رجلا يمتطي سيارة ويقف وحده احتراما للضوء الاحمر ..انه هو عمران ذلك الزميل الطيب قليل الكلام كثير الابتسام الهادئ الوديع ..اسرعت الى حيث تقف سيّارته وتعمدت ان اقف امامها وانا ادير ظهري له حتى لا يعرف عن هذا الذي وقف امام سيارته شيئا..اشتعل الضوء الاخضر واصبح سي عمران ينبّه بمنبّه سيارته هذا العمود البشري الذي انتصب امام السيّارة كي يفسح له المجال للمضيّ في سبيل حاله …وكنت كلّما صدح صوت منبّه السيّارة اشير له باصبعي بـ”لا” …

تصوّروا فقط لو حدث مثل هذا الامر بعد نكبة 14 جانفي …كنت اكون مداسا ..في افضل الحالات …وايش كلام من تحت الحزام ..وايش وايش وايش …عمران يومها نزل من سيّارته بكل هدوء ورزانة وحكمة وسألني بكل احترام وادب: “خويا لاباس ؟؟” … لم انظر اليه حتى اتفادى ان يتعرّف عليّ واجبت: “مانيش لاباس” ..وكما عرفته ايّام الدراسة اقترب منّي وبصوت متعقّل قال: “اشبيه خويا حاجتك بحاجة ؟؟؟” وعلى عكسه تماما تصنّعت الغضب وصحت: “جيت نطّلب عليك …؟؟؟ من فضلك احترم روحك” …وانتفض بهدوئه دائما معتذرا: “لا وراس خويا ما قصدتش ..اما حبّيت نعرف علاش ما خلّيتنيش نتعدّى اكهو …ما تاخذش في خاطرك منّي” ..هو صدقا ليس كأولئك الاشقاء الليبين الذين يتفادون الدّخول في اشتباكات مع بعض اشقّائهم التونسيين الذين يرون في الليبين دغفا واحمرة ولا شيء في ادمغتهم ويسهل استبلاههم حتى يبتزوا اموالهم ..لذلك يتفادونهم بكثير من (ابعد عن الشر وغنّيلو)… وفي الجهة المقابلة نفس هؤلاء الاشقاء ينتظرون عودتهم الى بلدهم حتى ينتقموا كردّ فعل من اخوتهم التونسيّن ويعتبروهم عبيدا عندهم …ما ابشع هذه الصّور بين البعض من بلدينا الشقيقين وكم هي محزنة ومخجلة ..

اعود الى عمران .. كان هادئا لانه هو كذلك … منذ طفولتنا كذلك … لم يكن خوفا منه تجاهي او احترازا ..كان عمران بحق ..نظرت اليه وقلت ..يا سيدي انا واخذ في خاطري منّك وبرشة زادة موش شويّة وعيب عليك اللي تعمل فيه ومعايا انا بالذات … اندهش عمران وعرفت انّي غائب تماما على شاشة ذاكرته ..قال لي: “خويا العزيز والله ماني فاهم شيء ..ياخويا قللي اش عملتلك …؟؟؟” نظرت اليه وانطلقت بحماسة حميمة اسرد خطابي: “شوف يا سي عمران موش معناها انك ولّيت مدير بنك تحقر الناس” …ولم اتركه يعلّق واضفت .: “موش عيب عليك يا ولد الحيّ الزيتوني تنسى الماء والملح وتنسى صحابك وتولّي تفخفخ علينا بكرهبتك …ناخذ في خاطري منّك والا ما ناخوش ..؟؟” نظر اليّ عمران باعين واسعة وكلّها بريق فرح وسعادة وصاح: “عبدالكريم ؟؟ ما تبدلتش ….كيف ما خلّيتك … مرحبا مرحبا مرحبا …يااااااااااااااااااااااااااااااه بركان من الطبطبة ..بركان من الدّموع ..بركان من سعادة لا توصف وشريط طويل وبالالوان لذكرياتنا ..ما اروعك يا عمران وما اروع القدر الذي يمنحنا احيانا قليلة في عمرنا ذلك الكمّ الرهيب من التحليق …دون حاجة الى اجنحة ..دون حاجة الى عبّاس بن فرناس ليعلّمنا فنون الطيران …انه تحليق يسخر من كل تحليق …

الزمبار في حانوت الحلاق ونظرا إلى بعد المقهى عنه، كانت مهمته اليومية بعد تمارينه في السي اس اس كما ذكرت طهي الشاي ..كان من عائلة معوزة جدا وكان الجميع يضمنون له سجائره اليومية وكان يلقّب كل واحد منّا بما اشتُهر به… فانا كان يلقّبني بـ “عبدالكريم سهريّات” ..لانّي كنت كثير السهر قليل النّوم منذ فترة مراهقتي حتى زمن متقدّم جدا من عمري لا انام اكثر من 5 ساعات يوميا ..وكنت كثيرا ما تواجهني كبيرات الحوش امي وخالتي وامراة عمي في قيلولة الصّيف بـ “اللطف لا تناموا ولا تخليو شكون ينام … رتحوا عظام ربّي اش العزاء” …

في حانوت الحلاق احمد الذي بلقّبه الزمبار “بو احمص” كان الحرفاء الشبان عادة من مختلف الاعمار وكنّا نحن الشباب الفتيّ نختلط بهم لنتعلّم منهم كثيرا وخاصّة قلّة الحياء و”الغشّة” لنتفوّق فيما بعد عليهم .._ وخللي ولدك بحذا البهيم اللي ما يعلّموا النهيق يعلّموا الشهيق … ونحن ابدعنا في تعلّم النهيق والشهيق واضفنا الصهيل ..نعم كان في داخلنا صهيل حرارة المراهقة فكريّا وجسديّا ..وكنّا ننتظر بكثير من التنسنيس و الشوق والحاجة للمعرفة لاحد اولائك الشبان المتمرّسين في اشياء كم نرغب في الاستماع الى تفاصيلها ..هذا الشاب الذي يعمل قابضا بشركة النقل كان من ذوي المنتفعين بـ”ابونمون” اشتراك شهري بنهج الجم (المقر الرسمي لجامعة البغاء السرّي بصفاقس) ..فهو سفير دائم فوق العادة لتلك الديار …وكانت حكاياته لا تنتهي مع اخر اخبار المنتدبات الجديدات و”السيفي” الكامل لمؤهلاتهن جسدا ومعاملة للحرفاء ..وكنّا مبهورين بتفاصيل رواياته وفي داخلنا توق لا يوصف لنكون يوما من الحرفاء ..وكانت صور الافلام التي نشاهدها انذاك حاضرة في مخيالنا ..وبداخلنا الف سؤال وسؤال حول كيف سيكون لقاؤنا التاريخي الاول مع احداهن …

كنا نرى فيهن نادية لطفي وشادية ونجوى فؤاد وسامية جمال وبرلنتي عبدالحميد ونرى فينا (وما اقرب طز لشرّق) رشدي اباظة وعبدالحليم واحمد مظهر …كانت عمليّة تماه بين ما نراه في الافلام وما نحلم به …وكان الواحد منّا يكتم رغبته ومخططه لليوم الموعود …واكتشفنا في ما بعد ان العمليّة لا تعدو ان تكون دقائق معدودة في عمليّة ميكانيكية بحتة بعيدا عن المشاعر والاحاسيس والحب والغرام ..كان الثمن انذاك دينارا من اجل بضع دقائق ..اصبحنا بعدها نتندّر بما يحدث …ونقول عن بائعات اجسادهن وهي تنهرك وانت تمارس بقولها: “بعّد راسك شويّة خلّيني نشوف التلفزة “…. وتعود اليك صورة بطلات السينما وهن يخاطبن حبيبهن بكثير من الوجد والدّلع ..ممدوح على حدّ تعبير لبلبة ..ممدوح بكثير من الغنج ..يحرق قلبك يا حبيبي يا ممدوح …ولن تجد من ذلك اي شيء فبقدر ما تغريك الواحدة منهن بـ “ربع هدوم” وهي تنظر اليك بابتسامة اغراء حتى تطيح بك في شباكها، بقدر ما تتحوّل الى شبه بكماء صمّاء وهي (كدت اقول تقاسمك الفراش) ولكن وهي لا تقاسمك اي شيء …

بعد مرور سنوات عديدة اكتشفت ان تلك التجربة والتي عاشها جلّ شباب جيلنا في تلك الحقبة كانت وامام تكويننا اجتماعيا وفكريا ودينيا (اعني غياب الواعز الديني تماما) …كانت حتمية من جهة وفي نفس الوقت كانت سبب مأساة العديد منّا ..لانّ الرجل الذي تعوّد على ممارسة جنسية من ذلك النوع ولم يطوّر نفسه سيصبح بل واصبح من قوم بافلوف ..تعوّد على ممارسة ميكانيكية فاصبحت هي السائدة في حياته الزوجية فيما بعد، ونسي حاجة قرينته الى المتعة وهي حاجة انسانية ومنطقية وشرعية ..وكم من مآسي انجرّت عن ذلك …نحن في جلّنا لم نفهم ولم نحاول ان نفهم ان حقوق الطرف الاخر في العلاقة وتقصير اي طرف تجاه الاخر يعني حتما فشل العلاقة ..نحن لم نقرأ بتمعن سيرة الرسول الاكرم مع زوجاته ..نحن لم نفهم ما قاله كتاب الحق (ومن آياته ان خلق لكم من انفسكم ازواجا لتسكنوا اليها وجعل بينكم مودّة ورحمة ان في ذلك لآيات لقوم يتفكّرون ، سورة الروم آية 21) …

فكيف لعلاقة تنجح وفي اغلبها تتبخّر منها السكينة والرحمة والمودة … جلّنا يركب دابّته كثور ..؟؟؟ اين حقّ كل طرف ؟؟ اين واجب كلّ طرف ؟؟ هل فهمتم ما معنى ان يتعلّق الواحد منّا باغنيات العشق والحب والغرام .؟؟ بافلام العشق والغرام …؟؟؟ بمسلسلات العشق والغرام ؟؟؟ الستم معي في اننا جميعا نسقط عليها اما حرماننا او متعتنا …؟؟؟؟ ثمّ ماهي نسبة المحرومين مقارنة بالسعداء ؟؟؟ لست عالم اجتماع وليست لي وكالة سيغما لسبر الاراء ولكن صدقا ومن خلال ما عرفته وقرأته من بريد مستمعيّ ومن خلال علاقاتي بالعديد من الاصدقاء (من الجنسين) اؤكد لكم ان نسبة التعساء مهولة جدا ..نعم جدا … علما بان هذه التعاسة ليست محصورة فقط على هذا العامل ..ولكن هذا العامل يلعب اهم الادوار ..قد يتكوّر البعض منّا على مأساته ويغمس رأسه في تراب الايام ..قد ينتفض البعض وكل واحد باسلوب انتفاضته …وقد يستمر اخرون في حياة يومية رتيبة لا طعم لها لا لون فيها ولا شهية .. لان زادهم المعرفي مفقود مفقود مفقود ….”الناس حكايات” عبارة ترددها احداهن بكثير من الالم، والواقعية ….

اما انا فاقول ..نحن امة اقرأ وحرام ان لا نقرأ كل ما من شأنه ان يفتح بصيرتنا على كل ما يهم تفاصيل واسباب نكباتنا … عدا ذلك سنواصل رحلة التّوهان …

ـ يتبع ـ

أكمل القراءة

صن نار