تابعنا على

جور نار

عبد القادر المقري: إيديولوجيا المواشي

نشرت

في

رحم الله الوجه الرياضي العزيز أحمد المغيربي الذي فارقنا صباح أمس … نترحم عليه أولا لأنه كان ركنا من أركان كرتنا ما عرفناه إلا لامعا وقّادا، لاعبا أنيق الموهبة ثم مدربا قويّا ثم محللا خبيرا و أخيرا شخصية مستقلة لا تنحني لأحد و لا تتمسك بمنصب … و نترحم عليه خاصة و نحن نستذكر منهجه التحليلي المبني على تقسيم المسائل إلى ثلاثة أنواع، ثم ينطلق في الطرح و المطابقة و الاستنتاج … تماما كأنك تستمع إلى جدلية هيغل …

إذن على طريقة سيد أحمد نقول إن أهل السياسة ثلاثة أصناف:

عبد القادر المقري Makri Abdelkader
عبد القادر المقري

طبقة عليا قليلة العدد سقف اطّلاعها مسارب الوصول إلى كرسي السلطة و خصوصا إلى خزانة بيت المال العمومي … نهّازة فرص ولاّدة فتاوى تقول اليوم إنها مع العدالة الاجتماعية و لا ينام أحد و جاره جوعان، و من الغد تتبحّر في سردية رأس المال و أفضلية الفرد و خلقناكم درجات … و تجد دائما من الفصاحة و أكوام الحجج ما يقنع الجمهور بأن الصورة لم تتحرك بسرعة 24 لقطة في الثانية الواحدة.

طبقة وسطى قارئة علوم الأرض و السماء، شهائدها العلمية لا تُحصر و لكنها تتفطن فجأة أنها أضاعت عمرا في التحصيل بينما غيرها احتلّ المقاعد الأمامية … فيمضي باقي عمرها في تدارك ما فات، و ليس عندها من وسيلة سوى الالتصاق بمن هم في الأعالي … تشتغل لهم في الدعاية و تتحمس للذود عنهم و تفسير مواقفهم و تروّج عنهم أعجب الأساطير … تميل مع نعمائهم حيث يميلون و حين تلاحظ أن السارية مالت أكثر من اللزوم مهددة بالسقوط، تسارع (أي الطبقة الوسطى) إلى النطّ نحو نجم آخر صعدت أسهمه في السوق … و لا يهمّهما إن وصفها الأقدمون بالانتهازية، و المحدثون بالسياحة البرلمانية أو الحزبية …

طبقة سفلى أعرض بكثير من سابقتيها و يقف عليها كامل البناء مثل مداميك العمارات … و هي تتكون من آلاف و عشراتها و مئاتها إلى آخر الحساب … هؤلاء يتساوى عندهم صدق النوايا مع ذكاء محدود و استعداد لبذل النفس و النفيس اتّباعا لزعيم أو انتماء لمجموعة … يحرّكهم خطاب منتفخ ملتهب محارب لأعداء أشرار لا تسلم الأمّة ما لم نتعاون على إبادتهم … يتولّى تمرين طويل تخليصهم من جميع آليات الجدال و الاعتراض و احتمال أن يكون القائد على خطإ و لو مرة في حياته … هم بشر و لكنهم لا يتلقّون قناعاتهم من بشر، بل من سلطة سماوية ربّانية تتكلم على لسان بشر …

هؤلاء من الصعب بل من المستحيل أن تقنعهم بأن الواحد مع الواحد يساويان اثنين، ما لم يأمرهم القائد بذلك … يصدقونه على الدوام و يكذّبون مناوئيه على الدوام أيضا و مهما كانت الحال … فيمكن له مثلا أن يشرب خمرة على مشهد من عيونهم التقية الورعة فلا يفزعون بل يهتزّون تكبيرا … فقبل ذلك كان دعاة السيّد قد نبّهوهم إلى أن الفودكا تتحول إلى ماء كوثر عندما تلمسها شفتاه الطاهرتان … بل يمكن حتى أن يحدثوهم أن الشيخ سيخرج في كساء لا يراه إلا المخلصون، و عندما يتبدّى لهم عاريا من أي لباس يتعالى من الجميع التصفيق و الهتاف بجلال المعجزة …

لكل حادثة لديهم تفسير يلائم مصلحة القائد و الجماعة، و لكل تصرف تبرير مهما كانت بشاعته … يتماهون في هذا مع متعصبي الأندية الرياضية المقاتيلن لأجلها ظالمة أو مظلومة، و قد قال لي صديق من هذه الفئة يوما أقبل منك كل شيء إلا القدح في جمعيتي و حزبي … و قد سمّى الجمعية الرياضية و الحزب السياسي، و لكني لن أذكرهما …

تضيع وقتك إذا جادلت واحدا من هؤلاء، فكلامك في كل الأحوال لن يكون أبلغ من كلام الرسل في بعض الأقوام الغابرين … رغم العبر و الدروس التي قد تكون للعقلاء تذكرة تعيها أذن واعية … لا الأذن الطرشاء المعدّلة على موجة “أف أم” وحيدة لا يغيّرونها و لو قذفت بهم إلى أعماق المحيط…

أكمل القراءة
انقر للتعليق

اترك تعليقا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

جور نار

ورقات يتيم … الورقة 35

نشرت

في

Bac 2020 : tous les résultats sont disponibles - Le Parisien

عبد الكريم قطاطة:

.. لعلّ افظع ما في الامتحانات عموما والمفصلية خاصّة في حياة التلميذ او الطالب… سيزيام ..باكالوريا ..اجازة .الخ … ليس الامتحان او ما قبله ..بل مرحلة الانتظار …اووف ..كم هو مرهق (ما اثقل ريحو) … انذاك يعيش الواحد منّا ساعات تُعد فيها الثواني بالدهور … تتحوّل عقارب الساعة فيها الى ثعابين تترصّد كل طاقة الصّبر فينا لتمتصّها “وعيننا حيّة”…

عبد الكريم قطاطة
عبد الكريم قطاطة

اتذكّر جيدا يوم الاعلان عن نتائج الباكالوريا الذي جاء “بعد ما تمرجنا” صبرا … افقت يومها على غير عادتي صباحا وكعادتي كان ملاذي نادي الاصدقاء (حانوت الحلاق) ودخّنّا ما كتب الله لنا من سجائر ..وتثاقل اليوم في خطاه وسلّمنا على افراد الشلّة مغادرين في اتجاه معاهدنا ..وتابعنا سي المبروك الحمّاص بدعواته لنا بالتوفيق … ويخُصّني لست ادري اقتناعا ام حبّا بكلمات لي وحدي (نعرفك تنقّزها يا كُريّم) ..فيما انبرى بواحمد حلاقنا… ممثلا لندمائه يتوعّد ويتهدّد بابشع المقذوفات اللفظية اذا لم ينل نصيبه والندماء من بنت العنبة بعد نجاحنا .. كنت الوحيد من ضمن اصدقاء المراجعة الذي يدرس بالحي ..لذلك وجدتني بباب الجبلي آخذ طريق العين مترجّلا قاصدا معهدي …

كانت ساعة باب الجبلي العملاقة تشير الى الثالثة بعد الظهر .. وكنت منذ لحظة نزولي من الحافلة انظر الى الاماكن زاوية زاوية نظرة مودّع .. يومها ملأت عينيّ بكل تفاصيل الاشياء التي عشتها .. يومها شبعت بالنظر الى بائع الجيلاط والكريمة، المنتصب في قلب ساحة محطة الحافلات ..بشاربيه العريضين _ وبعين تقلي والاخرى تصب في الزيت (هذه عبارة كنّا نقولها عن من له عين ونصف في تركيبة الرؤية عنده )…يومها شبعت بالنظر ايضا لذلك الذي قضّى كل عمره وهو يبيع في بضاعة لا يزيد ثمنها الجملي عن عشرات المليمات وهو يردد “اباري بابور الباكو بدورو”… وهذه لمن يجهلها تعني ابرا كانت لتسريح الرؤيا في عين البابور الذي كان يستعمل كـ”ڨاز” لطهي الطعام …ثم يضيف نفس البائع: “فلايات مرايات” …وعبثا حاولت ان اجد العلاقة بين اباري البابور والفلايات وهذه تستعمل انذلك لقتل القمل بعد العثور عليها في رؤوسنا الوسخة …وللامانة علاقات جل العائلات انذاك مع معشر الحشرات من العقرب وصولا الى الوشواشة ومرورا بالقمل والبق والبرغوث كانت جيّدة ..

الرابح الاكبر والوحيد في هذا العالم الحشراتي هو سي القلال ..هذا كان مزوّد صفاقس الوحيد بادوية الحشرات ينتصب بحانوته قرب زنقة عنّقني وفي رواية اخرى زنقة الفنطازية ..كنا نرتجف منه ومن حانوته ونحن صغار عندما نرى الصورة الاشهارية المعلقة على حانوته (عقرب صفراء) ترتعد لها الفرائص… قد لا ينتبه لها روّاد ذلك النهج حاليّا اما لانقطاع علاقتنا الديبلوماسية في صفاقس مع فصيلة العقرب بعد ان تربّضت الغابات وانقراض العقارب منها ..او للصدأ الذي علق بتلك اللوحة والتي لم يعد يظهر منها الا مناطح نلك العقرب ..الا اني ولحد الان وكلما مررت من امامه لم انس ان ادعو له بالرفاه واليمن والبركة وبالرحمة له ولوالديه …. لاننا معه فقط وبدوائه السحري العجيب عشنا الرفاه بعد ان استسلم البق نهائيا لمفعول دوائه اصبحنا نستعمل الجرافات صباحا (قاعد نبالغ راني) لجرف هاجوج وماجوج البق كل صباح بعد ان سقط في فخ دواء سي القلال المزطّل الى حد الموت ..وكذلك بالنسبة لكامل طاقم الحوش الذي يتميّز بسقفه الخشبي في بيوته والذي هو في جلّه منخور بياجوج وماجوج البق …

عندما اخذت طريقي الى معهدي (الحي) استوقفني مدفع رمضان ..يااااااااااااااه كم كنّا ننتظره نحن تلاميذ الحي لنستمتع بطلقته الرمضانية الرهيبة عندما يصادف خروجنا توقيت الافطار …انذاك في ايامنا المدرسية لم يكن هنالك توقيت خاص بالدراسة في رمضان ..انذاك كان رمضان ياتينا شتاء في جل سنواته ..وعندما تنتهي الدراسة على الساعة السادسة مساء ليس مسموحا لنا بالافطار الا بعد مغادرة القسم .ولكن (دُوّيو !) كنّا نركّز جدا وجيّدا مع اقتراب وقت الافطار على سمفونية المدفع ..التشايكوفسكية عادة …وكما تعلمون تشايكوقسكي معروف بسمفونياته الصاخبة … والمدفع على بعد مائتي متر منّا و”عينك ما ترى النور”، ينغمس كل واحد منّا في ما اعدّه لافطاره ..كنت من الذين يفطرون على نوع من الحلويّات يُدعى “هريسة باللوز” قطعة صغيرة في حجمها لا تتجاوز ربع الكف ولكن خير من بلاش ..ثم الاكل في القسم لا يمكن ان يكون وليمة … قد يتغاضى الاستاذ في حنّية على تلاميذه ولكن تبقى دائما في خانة “انا ما نقلك وانت ما يخفاك” و”كان استاذك عسل ما تاكلوش الكل”….هما دقيقتان او ثلاث وتنتهي اصوات “تخشخيش” القراطيس التي نحمل فيها افطارنا … ونعود الى الدرس دون ان نعود ..فكيف لبطن خاوية من جهة ولشوق ولهفة لا توصف الى السيجارة، ان نعود الى الدرس او يعود الدرس إلينا …وللامانة ايضا وباستثناء الاستاذ الهرماسي الذي كان يشعل سيجارته وقت الافطار (رغم اني لم اتصوره يوما صائما يعني عازقو كما عزقناه نحن فيما بعد) باستثنائه لم اعش يوما مع استاذ يتناول ولو قرص حلوى وقت الافطار ..

وصلت الى الحي ..كانت الساعة تقترب من الثالثة والنصف . لم يكن هناك عدد مهم من التلاميذ اذ ان وقت الاعلان عن النتائج حُدّد بداية من الساعة الخامسة مساء .. اش جابك يا عبدالكريم في ها الوقت ..؟؟ لا ادري ..ربّما كنت غير قادر على مزيد الانتظار …ربما كنت ومازلت من الذين يستبقون المواعيد ولا اريد ان ينتظرني الاخر ..ربما هو الخوف من نتيجة سلبية لا قدّر الله وربّما الاستئناس بالمكان يخفّف من وطأتها …ربّما الثقة في النفس او النرجسيّة كما يراها البعض فيّ اردت من خلالها تشييئا الحدث وتهميشه و كأني اقول ها انا جاهز وبقلب اسد للحدث … عفوا سيّدي الاسد ..فتشبّهي بك هو مجازي لا غير، ما تاخذش في خاطرك منّي، نفدلك معاك راهو ..او ربما هو هذا كلّ هذه المشاعر ملخبطة في بعضها …الا انّه ومع مرور الوقت احسست بانقباض رهيب وعلى غير عادتي ..احسست بضغط يتسلل الى صدري ..وتهاطلت الصور على شاشتي ..عيّادة .. حبيبتي ..الشلّة … اصدقاء المراجعة واولهم صديق عمري ..اساتذتي بالمعهد … زملائي في الدراسة ..ماذا لو ؟..ماذا لو .؟.. ماذا لو ….؟؟؟؟

لم اخف يوما من امتحان نتيجة او انتظارا ..يومها لا ادري كيف اصف احساسي لكم … لم يكن خوفا بل كان ضياعا ..ماذا لو…لو هذه لم استفق منها الا على احد القيمين وهو يُعد المصدح بتلك الجملة المعهودة (ساه ساه) اي يقوم بتجربة الصوت…وهذا يعني ان الاعلان عن النتائج سيداهمنا ..كنّا متحلّقين جميعا كعناقيد طيور .. مشرئبة اعناقنا الى البوق هنالك ..وكأننا سنستمع باعيننا لا بآذاننا ..وكانت جل الوجوه اشبه بكعبات بطاطا مسموطة ..ممتقعة لا نبض فيها ..وبدأ سي احمد بسلاسل القائمات ..كنت اسمع ولا اسمع ..حتى دوّى صوت قائمتي في شعبة الاداب وانطلق المشوار ..دريرة ..الفقي ..القسمطيني ..ثم .. ..منطقيا بعد قسمطيني انت يا ولد قطاطة ..الا تقول هكذا الابجدية ..؟؟ زعمة المرة هاذي ما خدموش بالابجدية ..كيفاش ..؟؟ ويني انا ؟؟؟ اش معناها ..وفات فلوسك يا ولد قطاطة ..؟؟ باع وروّح ..؟؟ فاتك القطار ؟؟؟ وانتهت سلسلتي … اسمي غير موجود ..لم اتذكّر تحديدا كيف انسلخت من وسط الجموع وحملت رجليّ اللتين لم تعودا قادرتين على حملي ..قللك اسد وقلب اسد …. خرّف يللّي تخرّف ..

احيانا يحس الواحد منّا انه اتفه من حشرة … لا قيمة لا هيبة لا شجاعة .. عندما تخذل الاقدار واحدا منّا يتحوّل ولو حينيّا الى كومة رماد ..انذاك سرت وحدي شريدا ..محطم الخطوات ..تهزّني انفاسي .. تخيفني لفتاتي .. كهارب ليس يدري من اين او اين يمضي .. شك ضباب حطام ..بعضي يمزق بعضي ..بعضي يمزق بعضي ..صدقا كانت تلك حالتي وقتها …ربّما هي من المرّات القلائل في حياتي التي احسست فيها بالغثيان والتيه والضباب والقرف … كنت كعمود خشب .. لا حرارة في جسدي ..لم استطع وانا وحدي لا الكلام مع نفسي ولا البكاء عليها ..كنت شبه آدمي .. وكان عليّ ان اقوم برد فعل بشيء ما ..عبدالكريم لم يجد وقتها الا عبدالكريم فعليه ان يرُد الفعل عليه ..هيّا انت غير جدير حتى بامتطاء الحافلة للعودة الى حوشك …على ساقيك وياسر فيك … وكان ذلك ..قرابة العشرة كيلومترات مترجلا لاني لم اكن وقتها جديرا بعبارة راجل …لم ادر بالضبط كيف وصلت الى المنزل … لكن لن انسى زهمولة امّي وابي واخوتي وهم ينتظرون وصول عريس الباكالوريا ..قلت زهمولة وجمعها زهامل ومعناها طيفهم ..لان وصولي كان ليلا بعد اول واخر ماراتون مشي في حياتي (10 كم) ..وكانوا ينتظرونني في راس الزنقة ..حيث لا انوار ولا هم يبصرون ..وقديما قالوا “الظلام ستّار كل العيوب”..

وجاء صوت احد المتجمهرين من سكان الحوش يسأل وانا اقترب: اشنوة يا كريّم وليّد والاّ بنيّة ؟؟ …هل رأيتم كم ظّلمت المرأة منذ عقود ..لأن وليّد تعني النجاح وبنيّة تعني الفشل …سألتكم بربّ العزّة كم من امرأة بالف رجل ..؟؟..ماضيا وحاضرا ويوم البعث حيث الجنة تحت اقدام الامّهات ..لم اُجب ..وفي صمتي الاجابة …لم ار وجه اي واحد منهم .. دخلت وتمرقدت ..ولم انم ..لم انم بتاتا ..كيف ساواجه غدا القوم يا قوم ..امّي ..القبيلة في الحوش … اصدقائي في الشلة ..سي المبروك …وتلك المسكينة التي تنتظرني حتى اخلّصها من هذا الخطيب الذي نزل فجأة نزول الصاعقة علينا …وقبل ان ينهض الجميع غادرت الحوش ..لاشكو الى سيجارتي همّي (على الخواء) ثم بدأت الحياة تدبّ في و على الساقية و بدأت الحوانيت تُفتح ..وبدأت الاوجه تتساءل وانا اجيب برأسي لا ونفس الردود ..موش كاتبة ..الله غالب ..ما تعمل شيء في بالك ..بول عليها (حاشاكم) تمشي تفعل وتترك ..

كل واحد بنغمتو وكل واحد يغنايتو ..وانا بعضي يمزّق بعضي ..حتى وصل رضا ..علمت انه نجح وعلم اني لم انجح ..عانقته بكل حب وسعادة له مشوبة بألمي على اننا سنفترق ..لم يعلّق ولكنه اراد تهدئتي بقوله ..تعرف اللي السنة ومنذ 1965 اقل نسبة نجاح في الباكالوريا … اكتشفت بعدها ان باكالوريا دفعة 1970 لم ينجح فيها الا 3298 تلميذا ..وهي اضعف نتيجة منذ 1965 لحد يوم الناس هذا … مع اخذ عامل النسبية بعين الاعتبار ..نعم ..ومن سوء اقداري اني كنت من المنتمين لهذه الدفعة …ولكن الانكى والامرّ والاغرب والمُدمّر والمُروّع اني تحصّلت مرّة اخرى على 6 في العربية …..؟؟؟ لست ادري اي قدر هذا ..؟؟ لم افهم ما سرّ ارتباط خيباتي بالـ 6 على عشرين في مادّة العربية وانا كنت دوما فارسها …؟؟….. استاذي سي محسن في تلك المادّة صرخ يومها بكل غضب وقال مستحيل ..مستحيل ..مستحيل …والانكى والامرّ والاغرب والمدمّر والمُروّع اني لو تحصّلت على 7 من عشرين لكنت من الناجحين باعتبار ضارب المادة 4…

موش شيء يقهر ..؟؟؟ كل هذه العناصر القهرية فعلت فعلتها فيّ وبدأت ارى الحياة بنظارات سوداء قاتمة جدا .. جدا ..جدا .. ولا بد ان افعل شيئا ما .. ويا لهول ما قررت … …

ـ يتبع ـ

أكمل القراءة

جور نار

ورقات يتيم … الورقة 34

نشرت

في

Images de Femme Voilee Dessin – Téléchargement gratuit sur Freepik

احيانا يعيش الواحد منّا الزمن خارج الزمن ..فزمن الفرح غير زمن الصدمات والازمات ..ويصبح تعداد الساعات مختلفا تماما ..وتصبح الساعات كاذبة ..فساعة الفرح تتحول الى عشر ثانية، ودقيقة الأزمة تصبح جبلا من القرون الجاثمة على صدورنا ..

عبد الكريم قطاطة
عبد الكريم قطاطة

يوم جاءتني رسالة الاستغاثة من حبيبتي ورغم قصر المسافة بيني وبين مقصدي والتي لا تتجاوز زهاء الكيلومتر الواحد، احسست وانا اهرول بأني اشارك لأول مرة في سباق الماراتون مشيا… كنت اجري كطفل صغير ..لاهثا في قمّة عطشه ..واحسست انّ العشر دقائق تثاقلت لتصبح عشر ساعات …يجب ان اصل ..يجب ان اعلن ثورتي وغضبي عن سرقة واختطاف من احب ..ومن لي غيرها …؟؟؟ عيّادة ..هي ولا احد غيرها …وهل هنالك في الوجود من مثل الام لتحس بفجيعة طفلها ….؟؟؟ وقفت امامها خائر القوى كحطام طائرة … ونظرت عياّدة الى حطام طفلها وعبثا حاولت بنظرتها ان تعرف ما في صندوقي الاسود ..وسألت في ذعر: لاباس ..؟؟ ضربك حدّ؟ تعاركت انت وحدّ؟ اشبيه وجهك اّصفر ملخلخ ..؟

نظرت اليها بكل رجاء الدنيا وقلت لها: ولدك ماشي يموت …ولدك يحبّو يقضيو عليه … وارتعدت فرائصها: اسم الله على ولدي اشكون اش عملتلهم ..؟؟… ودون سابق مقدّمات ذكرت لها اسم حبيبتي … هي تعرف ولهي بها .. تعرف ابنها المتيّم بمن احبّ ..لذلك لم يفاجأها اسم حبيبتي وردّت: اشبيها .؟؟؟… وطفقت اسرد عليها ما حدث وخاصّة استحالة قبولي لهذا الخطب …نظرت إلي يعين حزينة وانهمرت منها الكلمات: عاد اشبيه ..تاخذ للّتها … يخّي ما اتخلق في الدنيا كان هي ..؟؟ _ وانفجرتُ: لا لا ..هي او لا احد … وبكل بساطة وحنّية وجدتها تردّد: ايه اش تحبّنا نعملو؟ هذا مكتوب ربّي … هي ربّي يهنّيها وانت تاخذ للّة النساء …واحنا يشرق علينا نمشيو نعاركوهم ..؟؟.. وانت يشرق عليك تمشي تعمل حاجة والا بوحاجة ؟؟؟ …. نحبّك عاقل وسيد الرجال …

لم يكن ارسالنا المشاعري يومها انا وعيّادة على نفس الموجة ..هي كانت ترسل على موجة طويلة المدى (العقل) وانا كنت ارسل على موجة قصيرة المدى (القلب)… انتفضت كجبّار مارد وقلت بشكل حازم: شوف ما نطوّلوهاش وهي قصيرة، تلبس سفساريك توة وتمشي تخطبهالي … وانتفضت عيّادة بدورها وهي جامدة في مكانها: نخطبهالك ..؟؟ اش عندك؟ زيتون بوك والا ورثة امّك …؟؟ اشنوّة تحبّني ضحكة قدّام ناس ما نعرفهمش ..؟؟ اش نقلّهم كيف يقولولي اش يعمل ولدك واش عندو ..؟؟؟ لم ادعها تكمل خطبتها الموضوعية والمنطقية …كنت اعرف ان ارتباط اي شاب بفتاة في ذلك الزمن يقاس بما يكسب لا بما يكنّه من مشاعر … بل قد يصبح الافصاح عن المشاعر جريمة لن تغتفر في حق من يحب ولكن انّى لي ان اعرف وقتها ….قفزت من امام عيّادة وبلغة التهديد والوعيد صرخت: شوف كلمة وحدة يا تمشي تخطبهالي توّة زادة موش غدوة، والا وجهي ما عادش تراه ..والله لا عاد تراه ..

عندما التفت بعد ذلك الزمن الى صنيعي وددت لو وجدت او اكتريت جلادا ليوثقني امام كل الناس ويهوى على ظهري العاري دون شفقة او رحمة ..تماما كما فعل جماعة قريش ببلال وهو يعلن عصيانه على اسياده…. كيف لا وانا لم ادع المجال لايّ صلح وبوجهي الصارم الا وعيّادة تلتحف بسفساريها ودموع القهر تنسكب من عينيها لتُنفّذ قسرا اوامر جلاّدها ..امّي كانت تعرف طفلها جيّدا ..كانت تعرف انّي عنيد جدا بل انّي العناد ..وكانت تدرك اتّي افعلها ..وانّها ستثكل في عبدالكريم اذا لم تنفذ وللتّو امره الهتلري القاصم لكبريائها وعزّة نفسها ..ولكن كانت تدرك ايضا اتّها يجب ان تفعل اي شيء من اجل وردة عمرها …اوليس المثل المصري يقول: من اجل الورد نسقي العلّيق ؟؟ وسارت عيّادة الى اهل حبيبتي “ساق لقدّام وعشرة التالي ..هايمة على وجه الارض من هنا تكوي ومن هنا تشوي”… هكذا روت لي بعد سنوات كيف عاشت الحدث الجريمة التي ارتكبتها في حقّ جنّة عمري ..في حقّ امّي الرائعة العظيمة وانا كالاهبل اسوقها الى الذل والاذلال ..

لم تكن المسافة التي تفصل بين حوشنا ومنزل حبيبتي تزيد عن الكيلومتر ونصف … ولكن وكما الزمن ..المسافات تطول وتقصر حسب الاحداث لا حسب المقاييس العادية البائدة والكاذبة … وتصوروا فقط زمن انتظاري لعودة عيّادة من الامتحان الرهيب ..نسيت وقتها الباكالوريا والمراجعة والاصدقاء ..وطفقت كامل قرون الانتظار اشعل سجائري “المنته”… كنت تماما كذلك النصف مجنون الذي لا يدري ماذا يريد رغم انّه يدري ..كنت لا ادري ايّ خطب فادح ينتظرني او ايّ بحر من الفرح سيغمرني واغرق فيه واتنفس تحت الماء دون ان اغرق ..يومها عرفت عمليّا ما معنى قطع كل الوقت وانا امشي ذهابا وايابا في انتظار عودة عيادة من مهمّتها كسفيرة فوق العادة لدولة مشاعري .. ولمحتها …انها هي تلك المرأة القصيرة طولا ..العظيمة حتى عنان السماء.. الكاريزما حتى ما فوق السحاب شخصية .. لم اجد ذرّة واحدة من الشجاعة كي اهرول اليها لاستقي اخبار الغزوة ..كانت رجلاي مثبتتين في الارض وكنت على نفسي ادور ادور ..هل احسستم يوما مثلي بما معنى الواحد منّا يدور وهو ثابت كعمود على رجليه ..؟؟؟ هل عشتم مثلي رهبة انفراج الستار لاكتشاف ما قد يكون وراء الستار ..؟؟

ووصلت عيّادة ..وهرعت عيناي مسرعة لقراءة ما في عينيها …وخارت قواي..كنت طوال عمري اعشق فكّ رموز الاعين وما زلت ..ولئن اكّد العلم انّ هنالك شيئا ما داخل الاعين البشرية هي كالبصمات لن تشترك عين واحدة مع عين اخرى فيها ..فاني كنت وما زلت التجئ الى عين محدّثي صديقا كان او طالبا او قريبا ..لابحث في عينيه عمّا لا يستطيع قوله ..وكم كانت الاعين تستجيب لبحثي لتعرّي صاحبها مهما حاول التخفّي ..خارت قواي وانا المح عينيّ عيّادة …وزاد انهياري وانا ارى الدمع فيهما ..رغم انّها لم تكن يوما من اللواتي يبكين بسهولة ..اتذكّر جيّدا انّها كان تردّد دوما: يعطيهم شيّة الدموع ..كيف نستحقهم في همّ ما نلقاهمش… ولكن ايّ هم اكبر من همّها وهي تعود منكسرة كسفيرة فوق العادة في الامم المتحدة وهي تحاضر من اجل سعادة واسعاد ولدها ..احسست وقتها انّها حاضرت على منبر الامم “المتخذة” … لم استطع النظر اليها …كنت الدمار بعينه وسالت وبصوت يكاد لا يُسمع الا باذينة القلب: اش قالولك ..؟؟ وجاوبتني ودمع العين يسبقها: قالولي احنا ما عندناش طفلة تحب … وقول لولدك راك مازلت صغير و يمشي يقرا على روحو خيرلو … هل تصدّقون اني اكتب لكم الان وانا في حاجة غامرة لصدر ابكي عليه …عيّادة الغالية يّقال لها هذا الكلام ..؟؟

ياااااااااااااااااااااااااه ما اخيبك يا عبدالكريم …اهكذا انت بكل هذه البشاعة ورّطت عيّادة ورميت بها في الوحل ..؟؟ مسحت أمي بكُمّ سفساريها دمعها وانتفضت وهي ترى ابنها مهزوما وقالت: اما انا ما سكتّلهمش …قلتلهم ولدي مازال صغير ايه ..اما هو في يوم من الايام يكبر ويكمّل قرايتو ويولّي سيد الرجال… هي قالتها نعم ..وكانت تدافع عن كبريائها الجريح وتدافع عن طفلها المكلوم … وعادت عيّادة الى هدهدة وليّدها: وراس ولدي اللي ما تاخذ للّتها ..وختمت تغريدتها بدعوتها الشهيرة: برّة ولدي راجع على روحك . امتحانك عادك بيه جاء .. يجعلك هلال على روس الجبال ..الشمس لا تحرقك والعدو لا تلحقك …

وقتها لم اكن اسمع كثيرا ولم اكن ارى كثيرا ولم اكن انا كثيرا ..كنت قطعة فراغ … وما افظع ان يكون الواحد منّا “لاهو هوّ ولاهو موش هوّ”… لست ادري كيف تحاملت على نفسي وغادرت الحوش … ولست ادري كم قضّيت من الزمن للوصول الى اصدقاء المراجعة .._ الزمن .. الزمن .. الزمن .. ما اقساه وهو يضحك على ذقوننا بكل شماتة .. ووجدت صديق عمري ينتظرني وبادرني بالسؤال بعد ان انتحينا ركنا منزويا: (اش صار لاباس؟ تي اتكلم يا …) نظرت اليه وبدأت بخاتمة ما حدث قائلا: خوك حلت به مصيبة …وقصصت عليه ما حدث “من طقطق …لسلامو عليكو” … ورغبة من رضا في تمييع الحدث وتخفيض هول ما حدث لي، ردّ على طريقتنا انذاك: (بول عليهم يعطيهم … توة موش وقت حب …الباك تستنى فينا ..ننجحو ونمشيو لتونس ونعيثو فيها فساد وطز فيهم…هو يعرف مدى تعلّقي بفتاتي لذلك لم يجرؤ على مسّها بايّة عبارة نابية ..

لم اردّ على ثرثرته وعدت الى: شك .. ضباب ..حطام .. بعضي يمزّق بعضي يمزّق بعضي…لم يعد يفصلنا على موعد اجراء امتحان الباكالوريا الا بضعة ايّام ..كابدت فيها نفسي حتى اتناسى ما حدث وانشغلت بقراءة الى حدّ الحفظ آخر ما صدر لنزار قباني من شعر _ ديوان هوامش على دفترالنكسة… والذي يحتوي على ثلاثة قصائد كتبها الكبير نزار بعد نكسة جوان ..كنت قبل ذلك الديوان التهم التهاما ومنذ بداية مراهقتي كل ما صدر له مفتونا بما ينثره قلم شاعر المرأة والحب من عناقيد ابداع …الان ديوانه الاخير فتح عيتيّ على لون جديد في اشعاره لم يكن يصيغها من قبل وهو يصرّح بذلك بقوله: مالحة في فمنا القصائد .. مالحة ضفائر النساء والليل والشجار والمقاعد ..يا وطني الحزين… حولتني بلحظة من شاعر يكتب شعر الحب والحنين لشاعر يكتب بالسكين .. لان ما نحسّه اكبر من اوراقنا .. لابدّ ان نخجل من اشعارنا ..نزار في شعر سياسي …

وجاء يوم الامتحان ..كنت كعادتي هادئا متوازنا رغم الخطب الجلل… منتصب القامة ذهبت الى معهد الهادي شاكر في اليوم الاول من الامتحان .وجاء موضوع الفلسفة: الحرية لا تُعطى بل عمل يجب القيام به… شيّخني برشة الموضوع وعطيت كل ما عندي في واحد من اهم مواضيع الفلسفة الحريّة… وجاء موضوع العربية: الشاعر ابن بيئته حلل وناقش … وهذا طرت بيه ..تجولت في مدار الشعر منذ العصر الجاهلي مرورا بالاسلامي والاموي والعباسي والحديث والمعاصر حتى ديوان هوامش على دفتر النكسة ..اخترت من الجاهلي عنترة ..لا تسقني كأس الحياة بذلّة، .بل فاسقني بالعز كأس الحنظل ..وطرفة … اخترت من صدر الاسلام حسان بن ثابت ….ثم مررت الى عمر ابن ربيعة وابي تواس وجميل بثينة ..وليت هندا انجزتنا ما تعد ..وشفت انفسنا مما تجد ..واستبدت مرة واحدة ..انما العاجز من لا يستبد …وصولا الى اكبر واعظم واروع شاعر عربي في العهد العباسي وفي كل العهود ..انا الذي نظر الاعمي الى ادبي .. واسمعت كلماتي من به صمم …المتنبي ومن غيره؟ ..

انتهاء بالشعر الحديث وتحديدا شعراء المهجر… وختامها نزار ابن القباني الدمشقي الذي احترف الهوى .. ان الهوى في طبعه غلاّب . كما جاء في قصيدته يا تونس الخضراء …نزار . شاعر الحب والسياسة …في كلمات، فتّقت مواهبي بكل ما احفظه لهؤلاء خاصّة اني مع سي محسن الحبيّب استاذ العربية كنا محظوظين لاننا في هذا الباب قمنا باحد الفروض . ونلت كعادتي 12 افضل عدد …المواد الاخرى كنت كعادتي… ضعيفا جدا في الرياضيات والفيزياء… فوق المتوسط في العلوم… قريبا من الحسن في التاريخ والجغرافيا نظرا إلى لارقام الكثيرة في هذه الاخيرة… وحسنا في الانكليزية …. لكن بالنسبة لنا تلاميذ شعبة الاداب الكلاسيكية “أ” في تلك الحقبة، المهم تسلّكها في العربية ضارب 4 وفي الفلسفة ضارب 6 …

انتهت اختبارات الباكالوريا ..وعدت الى شلّة الاصدقاء ..ولاعمالنا اليومية ويا لها من اعمال ..كورة وبولاط وسهريات في الاعراس التي نعرفها والتي لا نعرفها حيث لا تنفع معنا العبارة المشهورة انذاك لكل من لا يقبل المتطفلين لحضور فرحه “جو عائلي”… وهي بمثابة الورقة الحمراء التي تعيد كل من هو غير مرغوب فيه الى خارج ملعب العرس ..هذه العبارة لا معنى لها عندنا نحن بورة الكحلاوي والا “نبلبزوها”… واتقاء لشرّنا يُسمح لنا بالدخول خاصة ونحن لم نبلبزها يوما مع ايّ كان … المُهم يعطيونا قدرنا ..

بعد الامتحان بيومين …وصلتني رسالة موجزة منها … نعم من حبيبتي ..تقول: دارنا عطاو الكلمة لدار العروس ..اما ما تخافش انا معاك وليك انت اكهو … وهرولت مسرعا اليها ..ومن تكون غير عيادة ,,؟؟؟ وعانقتها بكل عنف حنون قائلا: قلتلك راهي تحبّني شوف اش بعثتلي..؟؟ وسردت عليها الكلمات الموجزة والتي كانت عندي اكبر من ايّ مجلّد .. ونظرت اليها فاذا بها تردّ ببرود واتّزان: اللي يعطي ربّي مبروك .. اندهشت من هذا الموقف الذي كم هو شبيه بالنهر المتجمد لميخائيل نعيمة -يا نهر هل نبضت مياهك وانقطعت عن الخرير .. ام قد هرمت وخاب عزمك فانثنيت عن المسير ).. لم يكن في اعين عيّادة ايّ معنى للحياة… كانت باهتة الى حد التجمد ..فعلّقت في دهشة: اشبيك ما فرحتليش ..فاجابت وبنفس الهدوء المدمّر: يا وليدي حتى يولد ونسميووه ._….

لم افهم يومها ما عنت .. وهل للمحبّ ان يخضع قلبه لسكانر العقل … مهبول اللي يقول ايه …ولانني اعرف واعشق هبلتكم فها انا اصرّ اصرارا على ان المحبّ مهبول او لا يكون …

ـ يتبع ـ

أكمل القراءة

جور نار

لماذا تُطالب رئاسة الجمهورية… بمراجعة خارطة المسالك والاختصاصات في التعليم العالي ؟

نشرت

في

رغم مرور عقود طويلة على تأسيس الجامعة التونسية، يلاحَظ أن خارطة المسالك والاختصاصات لم تستقرّ بعدُ (باستثناء بعض المسالك بعينها مثل الدراسات الطبية والهندسية  وجزء من العلوم الإنسانية والاجتماعية) وظلّت تراوح بين المركزية الخانقة واللامركزية السائلة، وبين تجميع الاختصاصات في عائلات كبرى قبل تفريعها في مستويات جامعية متقدمة، أو الانطلاق مباشرة بعد النجاح في الباكالوريا في تدريس اختصاصات دقيقة مُحددة يُحبس داخلها الطالب إلى غاية تخرّجه.

منصف الخميري Moncef Khemiri
منصف الخميري

لقد بلغت حالة الفوضى وانسداد الأفق أمام خرّيجي أغلب الشعب الجامعية مستويات قياسية تستوجب التدخل العاجل والمعالجة الفورية (نسبة بطالة بــ23.7 % خلال الثلاثي الثاني لسنة  2023 ـ حسب أرقام المعهد الوطني للإحصاء ـ وتصل هذه النسبة إلى حوالي 36 بالمائة بالنسبة إلى صاحبات الشهائد الجامعية بما يجعل تونس في مقدمة البلدان التي لا تشغّل بناتها المتخرجات متجاوزة الباكستان والعربية السعودية وإيران، بالرغم من أن الفتيات التونسيات تمثلن النسبة الأكبر من الحائزات على شهائد في كل المجالات تقريبا : 74 % في العلوم الفلاحية و 75 % في علوم الصحة و 55 % في تكنولوجيات الإعلامية و 77 % في العلوم الطبيعية والرياضيات، حسب معطيات المنتدى الاقتصادي العالمي لسنة 2023).

ويُمكن حسب اعتقادي أن تتم مراجعة شبكة الشعب والاختصاصات الجامعية في تعليمنا العالي وفقا لبعض المقترحات التالية:

دمج منظومتي التعليم الجامعي والتكوين المهني المُتاح بعد الباكالوريا

من الناحية الشكلية والإجرائية الصرفة لا فرق جوهري بين شهادة الباكالوريا في التعليم الثانوي وشهادة مؤهل التقني المهني في منظومة التكوين المهني (وكان من الممكن تماما أن نُطلق على هذا المستوى من الإشهاد شهادة الباكالوريا المهنية أو التكنولوجية أو التأهيلية). وعليه، فإن بقاء هاتين المنظومتين مستقلتين الواحدة عن الأخرى يُفرز “تجديدات” و “إحداثات” في الجامعة لا تنطبق عليها المواصفات الأكاديمية ولكنها فرضت وجودها بمرور الزمن، وأضحت جزءً من المشهد لم نقدر لا على التخلي عنها ولا على الاحتفاظ بها مثل “ناقل الريشة” في التراث الشعبي الذي يجد نفسه أمام اختيار إلزامي يكون بموجبه نادما في الحالتين سوى أخذ معه الريشة أو تركها. ومقابل ذلك، تبقى اختصاصات التكوين المهني (الما بعد باكالوريا) اختصاصات يتيمة لأنها تصطدم بعدم إمكانية مواصلة التكوين داخليا وغلق أبواب الجامعات أمام خرّيجيها من ناحية أخرى.

إحالة عديد الشعب الجامعية فورا إلى منظومة التكوين المهني (مؤهل التقني سامي)

شعبٌ مثل تقنيات اللفّ وتقنيات التصميم (بتفريعاتها المختلفة : الإشهار والهندسة الداخلية والابتكار الحرفي والمصوغ والأثاث والتعليب والابتكار الصناعي والرسوم المتحركة وفن الحجارة والتزويق والنسيج والملابس ومساعد إدارة والدبلجة والتقاط الصوت ومستحضرات التجميل والروائح والعطورات والتصرف في التزويد والرياضة للجميع وصيانة الآلات الثقيلة إلخ… وأنا متأكد أن العديدين منكم بصدد التشكيك هذه اللحظة إن كانت هذه الاختصاصات موجودة فعلا في منظومتنا الوطنية للتعليم العالي أو هي مجرد صورة كاريكاتورية لا علاقة لها بالواقع) اختصاصات كهذه يُدرّسها في أغلب الأحيان حرفيّون ومهنيون من مشارب مختلفة ولا آفاق واعدة أمامها في سوق الشغل، أجدر بها أن تُدرّس في سياقات تكوينية ممهننة “على فنّو ومعناه”.

تجميع الاختصاصات الدقيقة في جذوع أكاديمية مشتركة كبرى

في ماساشوستس أو كامبريدج أو أوكسفورد أو هارفارد أو ستانفورد أو الجامعة الوطنية بسنغافورة (NUS) …وهي الجامعات التي تعتلي سدّة ترتيب الجامعات على المستوى العالمي تتمحور الاختصاصات فيها حول عائلات محورية كبرى مثل علوم الإعلامية والعلوم الإنسانية والاجتماعية وعائلة البيولوجيا والكيمياء والرياضيات والبيوتكنولوجيا والميكروبيولوجيا المطبقة والطب وعلوم الهندسة والعلوم القانونية والأعمال (الإدارة والمالية والاقتصاد (كما في هارفارد) ويُترك للطالب خلال مساره الجامعي حرية تدعيم تكوينه الأساسي بوحدات اختيارية موازية حسب ميُوله ووفق ما يغذّيه من مشاريع مستقبلية في علاقة بسوق الشغل وتطور المهن …

أما الاختصاصات الصناعية أو التمهينية الصرفة فلها مؤسساتها الخاصة ومُكوّنوها المخصوصون… ولا يهم كثيرا في هذا المجال تحديد أية وزارة تتكفل بهذا التكوين أو ذاك، ولا تهم أشكال التنسيق والنواحي القانونية والإجرائية لأن الغاية الأسمى هي عدم الزجّ بأجيال في اختصاصات هجينة لا هي بالمهنية ولا بالأكاديمية.

يُلاحظ في تونس أن نفس “الجامعيين” الذين يُعدّون مضامين الإجازات الأساسية هم أنفسهم من يُهندسون محتويات الإجازات التطبيقية (قبل التخلي عن هذا التفريع البهلواني منذ سنتين أو ثلاث) ومن يدرّس الأساسي هو نفسه من يُدرّس التطبيقي دون أي تمييز بين المهارات المطلوبة هناك والاستعدادات المستوجبة هنا.

تحدّثتُ مؤخرا مع بعض الطلبة الصُمّ المُتابعين لدراساتهم الجامعية ضمن شعبة “لغة الإشارات” وأكد جميعهم على أن إحداث هذا الاختصاص بالرغم من ثوريته وتاريخيته لم يسبقه أو حتى يرافقه إعداد جيد لمن سيُدرّس المواد والوحدات المُبرمجة فيه (علم اجتماع الصّمم، النحو الإشاري، طرق التواصل مع الأمم … نعم ! … لغة الإشارات التونسية، تقنيات الترجمة والتأويل، إلخ…) حتى بات بعض “المُعوّل عليه للتكوين” يأتي إلى الفصل لكي يعيش ويتعلّم ويكتشف ويعرف ظواهر جديدة في عالم الصمّ لم يألفها البتّة في حياته. ومن النوادر المسجّلة في هذا الباب أنه خلال فترة الكورونا كان الأساتذة يرفضون نزع كمّاماتهم خوفا من الإصابة أمام فئة من الطلبة لا يكتمل في أذهانهم المعنى الكامل للكلام إلا متى ارتسمت على شفاه المتحدّث حركات وإيماءات وإشارات غير صوتيّة تُوصل المعاني إلى المتلقّي !

القطع مع “الطبقية” في التعامل مع الجهات الداخلية

من الواضح أن المؤسسات المزروعة عشوائيا بالجهات الداخلية تعاني حسب تقديري من ثلاث معضلات كبري هي :

– استقبالها لأضعف معدّلات النجاح في الباكالوريا بالنسبة إلى كل الباكالوريات

– احتضانها لأكثر الاختصاصات الجامعية معاناة من بطالة خرّيجيها طويلة الأمد

– تسجيلها لأضعف نسب التأطير من حيث جودة التكوين إذا قسناها بمؤشر تواجد أساتذة الصنف أ من الجامعيين في مُدرّجات مؤسسات تلك الجامعات (أي أساتذة التعليم العالي والأساتذة المحاضرون مقارنة بباقي الأصناف: الأساتذة المساعدين، المساعدين القارين، المساعدين المتعاقدين، المتعاقدين الحاملين لشهادة الدكتوراه، المتعاقدين المسجلين بشهادة الدكتوراه، التكنولوجيين، أساتذة التعليم الثانوي، الحرفيين، الخبراء الفلاحيين إلخ…)

فعلى سبيل المثال يتوزع أساتذة التعليم العالي والأساتذة المحاضرون (Corps A)  سنة 2022 في بعض جامعاتنا على النحو التمييزي التالي :

جامعة سوسة : 93 أستاذ تعليم عال و 106 أساتذة محاضرين

جامعة تونس المنار : 329 أستاذ تعليم عال و 174 أستاذا محاضرا   

جامعة جندوبة : 11 أستاذ تعليم عال و 18 أستاذا محاضرا فقط… مقابل 131 أستاذ تعليم ثانوي

جامعة القيروان : 6 أساتذة تعليم عال و 19 أستاذا محاضرا فقط…   مقابل 109 أساتذة تعليم ثانوي

وهو مشهد هيكلي مختلّ جدا يتجاوز مجرد المطالبة بمراجعة بعض المسالك وإيجاد الحلول الظرفية لطول أمد بطالة خريجي الجامعة التونسية.

أكمل القراءة

صن نار