تابعنا على

جلـ ... منار

الأغصان المختلفة

نشرت

في

قال لي عندما عجز عن مواجهتي، وبعد سيل من الشتائم: “الله صنعك وكسر القالب”! وهو تعبير يستخدمه السوريون عندما يسخرون من شخص ما.

وفاء سلطان

بالنسبة لي، نعم عندما صنعني الله كسر القالب، ولَم يصنع به شخصا آخر على شاكلتي. أما بالنسبة لك،فأنت حر، إذا أردت أن ترى نفسك كما يقال بالإنكليزي cookie cuter، أي مصنوعا بنفس قالب المعمول الذي صنع بقية الأقراص في صينية واحدة! كانت ستي أم علي تجيد صنع الكبيبات المحشية بالسلق،ومن باب الطرفة كانت تحشو قرصا واحدا خلافا عن الأقراص البقية بالحمص المسلوق بدلا من السلق، وتقول لنا: سيكون محظوظا من يعثر بالصدفة على هذا القرص!.

لطالما شعرت، ومنذ نعومة أظفاري،بأنني ذلك القرص الفريد من نوعه في طنجرة مليئة بالأقراص المنسوخة من نفس المادة، ولطالما أسعدتني فرديتي وإحساسي بتميزي!

………

في المرحلة الإبتدائية كنت محط سخرية الطلاب بسبب قصري وصغر حجمي مقارنة بغيري،وكلما تبلورت قدراتي الدراسية كلما صار الآخرون يرونني أطول مما ظنوا، وأكبر مما توهموا.ب

قيت هكذا حتى هذه اللحظة،مقتنعة أن ما يعيبني يتلاشى أمام ما يميزني!

بالمناسبة، لم ألبس في حياتي حذاءا نسائيا ذا كعب عال، إلا مافرضته بعض المناسبات النادرة،لأن الصورة التي أحملها في ذهني لنفسي، تظهرني أشمخ من أطول نخلة دخلت كتاب غينيس للأرقام القياسية.

………

كثيرة هي المرات التي أشعر خلالها أن الغيرة تنهش قلب شخص ما،فأتساءل بيني وبين نفسي:هل غرت في حياتي من شخص؟

أحاول جاهدة، ومن خلال استرجاع شريط حياتي،أن أتذكر موقفا واحدا شعرت عنده بالغيرة الحقيقية من أحد،فلا أذكر!

لقد كتب لي قدري أن أقابل بعضا من أشهر وأغنى وأهم الشخصيات في العالم،ولَم أتلاش أمامهم، بل كان ينتابني إحساس غارق في لغزيته، بأنني ذلك القرص الذي ميزته أم علي في طنجرتها،ووصفته بانه قرص الحظ!

حتى بين أكثر الأشخاص تميزا في العالم، لم أشعر يوما أنني أقل تميزا.

………

جمعني لقاء مرة مع Rupert Murdoch ،العملاق الملقب بأبي الإعلام، والذي يقال أنه يملك الإعلام في العالم كله.كنت أجلس على يمينه، وضع يده على كتفي، وخضنا في حديث، شعرت خلاله بأنني المعلم وبأنه التلميذ،علما بأنه أكبر مني عمرا بأكثر من ربع قرن، ويزن بيتي ذهبا وفضة، وإنجازاته وشهرته ضربت كل الآفاق!

انتابني هذا الإحساس لسببين اثنين، لا ثالث لهما:-

أولهما وأهمهما إيماني بتميزي، وبأن القالب الذي صنعت فيه، يختلف عن قالبه، ولا يقل أهمية!-

وثانيهما: تواضعه ورفعة أخلاقه، وقدرته على الإصغاء!لو لم يكن هو الآخر مؤمنا بتميزه لما اكتسب تلك الصفات!

………

هذا الإحساس لو امتلكته ستعيش حياتك سعيدا وراضيا،

لأنك لن تقارن يوما بينك وبين الآخرين،ولو فعلت لما أزعجتك الفروق، بل على العكس لاعتبرتها برهانا على أن الله قد صنعك وكسر القالب!

هناك فرق بين أن تكون مغرورا وبين أن تشعر بأنك مميز.

الغرور هو آلية دفاعية يحاول اللاوعي أن يتبنيها ليغطي بها إحساسا عميقا بالدونية.

هذه الآلية تمنح الشخص شعورا مؤقتا بالراحة، لا يلبث أن يعمق شعوره الحقيقي بالدونية. أما الإحساس بالتميز، فينبع من ثقة دفينة وثابتة بالنفس، تساعدك على أن تكون متواضعا، لأنك تشعر بأنه لا أحد يستطيع أن يلغي الآخر بتميزه، إذ أن كل واحد متميز بطريقته!كما لو كنت قلما في علبة التلويين…لونك يميزك عن الجميع، ولون كل قلم آخر يميزه!

في لوحة الحياة للونك دور، وللألوان الأخرى أدوارها…كبر هذا الدور أم صغر لا يهم، لأن اللوحة لا تكتمل بدونه !

………

لم تكن الحياة في نظري يوما حلبة صراع، يتهاوش فيها الواحد مع الآخرين،بل هي بستان لا زهرة فيه تشبه الأخرى، والزهرة التي ترفض أن تشرئب معتزة بفرديتها وجمالها،ستُمسخ عشبة ضارة تعيش ملتصقة بالتربة، ومتطفلة على جذور الأزهار!

أذكر قولا لمفكر أمريكي نسيت اسمه:Being the best is great, I’m number one.But being unique is greater, I’m the only one.(سأكون عظيما عندما أكون الأفضل، وسأعتبر نفسي الأول…لكنني سأكون أعظم عندما أعيش فرديتي، وسأعتبر نفسي الأوحد….)…لم أسعَ في حياتي لأنافس الآخرين على الأفضل، وهذا أقل ما يعنيني،بل سعيت وسأظل أسعى ـ لأعيش فرديتي وتميزي! هذا الأمر حررني من نار الغيرة وسطوة الغل الذي يخلفه الصراع، وسربلني بسكينة الرضى ونشوة الإعتزاز بالذات!

لستُ ماري كوري ولم أسجل يوما براءة اختراع،

كذلك، ليست ماري كوري وفاء سلطان،ولم تقفز يوما فوق كل الحواجز والثوابت والتابوهات لتساهم في إعادة خلق إنسان!

هكذا نحن في الحياة مختلفون ومميزون….لكن لكل منا نفس القيمة ونفس الأهمية، إلا – اللهم- من آمن أنه ليس سوى مجرد قرص محشو بالسلق في طنجرة أم علي…عندها سيرى نفسه أقل شأنا من قرص الحظ في تلك الطنجرة، وسيعيش عمره دون أن يشعر بتميزه،أو أن يلعب الدور الذي تميز ليلعبه.نعم كل منا جاء إلى الحياة فريدا

من نوعه،فالله يكسر القالب كلما صنع إنسانا، وقدرته الإبداعية تتجسد في تنوع تلك القوالب!

………

اكتشف مايميزك، وقف شامخا ومعتزا بنفسك، حتى ولو وجدت نفسك تشرئب وحيدا ومختلفا عمن حولك،كبذرة حملتها الرياح وحطت بها في حقل مغاير لطبيعتها، فنمت زهرة مميزة عما يحيط بها.

………

تذكر بأن الطبيعة قد ميزت كل منا، ليلعب دورا مختلفا وليجعل لوحة الحياة أجمل، لا ليعبث به.كلما شعرت بقبحك تأكد أنك تمارس دورا غير دورك،وكلما شعرت بجمالك كان ذلك دليلا على أنك تعيش حقيقتك، وتترك وراءك بصمات أصابعك…..

أكمل القراءة
انقر للتعليق

اترك تعليقا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

جلـ ... منار

خالق الفرح

نشرت

في

Peut être une image de 2 personnes et bébé

اتصلت صديقتي غادة بي كي تطمئن عليّ:

ـ وينك ياست الحبايب؟

وفاء سلطان
وفاء سلطان

ـ مع الحبايب أجمع البيض!

يبدو أن أرنب الفصح كان غنيا جدا وكريما جدا هذا العام… نالني منه أربعة عشر بيضة، وجدتُ في داخلها ست دولارات وعشرين قطعة من الشوكولا (أول مرّة بناتي يدفعن لي بدلا من أن أدفع لهن)!

تفوقت علي جازي بأربع بيضات وست دولارات، أما بنجي فلم ينل إلا نصف ماحصلت عليه (لا يهم إذ لا يعرف قيمة الدولار بعد)!

……..

أمطرتني غادة بوعظة دينيّة طويلة جدا، تفوقت فيها على الشيخ الحويني، لقّنتني من خلالها درسا في العبادة وكيفية الاحتفال بالأعياد،

قالت:العيد ليس جمع البيض، العيد يعني ممارسة الصلاة والتعبد وزيارة الكنيسة!

واحتدم النقاش حتى اعترفت لي بأن اليهود (يخرب عمرهم لهم قرص في كل عرس!) قد حولوا كل الأعياد المسيحية لتجارة بالمطلق، وهم الذين اخترعوا سانتا كلوز وأرنب الفصح كي يسرعوا عمليات التسويق، ويصرفوا نظر الناس عن عبادة الله الحق!

فشعرت وكأنني أصغي للقرضاوي يقص علينا حكاية بني قريظة!

يبدو أن حتوتة الشجرة واليهودي الذي سيحتمي وراءها يوم القيامة قد طالت عقول بعض المسيحيين أيضا!

……..

يا سيدتي زرت عشرات بل مئات المعابد (من كلّ الأشكال والألوان)، ورأيت فيها الكثيرين من المنافقين والدجالين وتجار الدين، الذين أبعدوني عن الله سنينا ضوئية…

ياسيدتي أقدس بيت للعبادة بيتي وبيوت أولادي، فهي الأمكنة الوحيدة التي أضمن طهارتها من الفساد والرذيلة…

ياسيدتي من لم يرّ الله في سلة بيض الأرنب الذي يشرفنا في عيد الفصح، وفي قبعة سانتا كلوز الذي يزورونا في عيد الميلاد، لا يستطيع أن يراه في أي مكان آخر…

يا سيدتي لا أريد أحدا يفرض عليّ الهه وطريقة عبادته لذلك الإله…

ياسيدتي من لا يستطيع أن يُدخل الفرح على قلب طفل لا يعرف الله…

يا سيدتي من لا ينحني ويصلي للإله القابع في عيني حفيدي آدم، لم يمارس يوما الصلاة…

..أعتذر إن كان إلهي مغايرا لما يعنيه لكِ الإله….لم أفرض يوما إلهي على أحد، ولا أريد لأحد أن يفرض عليّ الهه، والطريقة التي يعبد بها ذلك الإله.

……..

أغلقت سماعة الهاتف، ولسان حالي يتضرع إلى الله: يارب لا تجعلني من عبادك “المؤمنين” فلقد ضقت ذرعا بهم!

بل اجعلني من عبادك الذين يَفرحون ويُفرحون، فالفرح هو أنت أينما حلّ..

اجعلني من عبادك الذين جاؤوا لنا بسانتا كلوز وبأرنب الفصح، وجعلوا حياتنا أسهل وأبهى بعلومهم ومعرفتهم.

……..

قرأت منذ يومين قولا للرئيس الفرنسي ديغول: كيف سأحكم دولة تنتج 246 نوعا من الجبن؟؟؟

وأنا أقول: لا حاجة لك أن تحكمها فالله وحده يحكمها،

الله وحده يتواجد حيث توجد النعمة والوفرة والعطاء…

أما الندرة والشح فتسود حيث تتحكم العقول العقيمة والمريضة!

……..

كل عيد فصح وأنتم وجميع أرانب الأرض بخير!

Coloriage Lapin de Pâques à côté d'un panier d'œufs - Dessin gratuit

أكمل القراءة

جلـ ... منار

بفلوسي!

نشرت

في

Images de Voleur Argent – Téléchargement gratuit sur Freepik

السيدة سهير موظفة في منتصف العمر وأم لثلاثة شياطين، وهي من الطراز الذي لا يتذوق الدعابة ولا يفهمها. علمتني الحياة أن أظرف وأروع الدعابات طرًا تأتي من هذا الطراز، فهم لا يفتعلون الظرف .. إنهم ظرفاء بالطبيعة. أسخف الدعابات تأتي غالبًا ممن يعتقدون أنهم ظرفاء، وأدعو الله ألا أكون منهم.

أحمد خالد توفيق

قرأت ملحقًا لإحدى الصحف الشهيرة مؤخرًا، فوجدته مليئًا بصور أشخاص ظرفاء يضحكون في استمتاع، مع نكات من نوع (اركبي قبل الحصان ما يشوفك).. (حماتي عملت مفاجأة وجت تقعد معانا شهر).. منتهى السماجة.

هذا ليس موضوعنا على كل حال. موضوعنا هو السيدة سهير.

سألتني السيدة سهير عن طبيب أنف وأذن وحنجرة جيد لأن أذنها مسدودة منذ فترة، فاقترحت عليها دكتور سيد الشماشرجي .. هذا رجل بارع يجيد عمله وصديق قديم. توكّلتْ السيدة على الله وذهبتْ له في العيادة ودفعت مبلغًا باهظًا من المال للكشف. تقول إنها دخلت لترى قزمًا مسنًا ينظر لها في كراهية من خلال المرآة التي تثبت على الجبهة إياها، فلما فتحت فمها لتقول:

ـ”إنها أذ………………………..”

أخرسها بشخطة، ودس منظارًا في أذنها فكاد يثقبها، ثم قال في عصبية وقرف:

ـ”شمع .. لابد من غسل الأذن”

وقبل أن تفهم كان يضع طبقًا معدنيًا تحت أذنها ويدس فوهة مسدس الماء في أذنها، فتصرخ ألمًا، ثم تشعر بطوفان من الماء الدافئ يدخل أذنها ويبدو أنه يبلل مخها ذاته ويخرج من الأذن الأخرى.

ثم قال لها بذات القرف:ـ”هناك قطرات للأذن .. استعمليها !”

خرجت من الغرفة شاعرة بالإهانة، كأنما تربص بها عشرة أبطال مصارعة فأوسعوها لكمًا وركلاً. وقبل أن تفهم ما يحدث انقض عليها الممرض الجالس في الخارج ليقول في قرف:

ـ”خمسون جنيهًا !”

ـ”ماذا ؟”

ـ”أتعاب غسل الأذن خمسون جنيهًا …

“إذن ففيم كان الكشف الباهظ؟

دفعت ما طلبه هذا القرصان وهي ترتجف غيظًا، كما أن أذنها كانت تؤلمها جدًا. ومشت في الشارع شاعرة بشعور السكير الذي يطردونه من الحانة بعد منتصف الليل لأنهم يريدون الإغلاق. قدماها غير ثابتتين ولا تفهم ما يحدث، دعك من أن زوال انسداد أذنيها جعلها تشعر بدوار وبرد غريبين.

لما عادت للبيت اتصلت بي لتنفجر في غل، شاتمة ذلك اللص النصاب الذي تقاضى كل هذا المبلغ في ثلاث دقائق. والأسوأ هو مبلغ الخمسين جنيهًا .

. كان يجب أن تكفي أتعاب الكشف لكل شيء.

بعد أشهر كانت تطالع الصحيفة فوجدت صورة عروسين .. المحاسب سمير سيد الشماشرجي تزوج المحاسبة هيام منصور .. الزفاف كان حلمًا من أحلام ألف ليلة وليلة وأقيم في فندق فاخر بالقاهرة. قالت لي في غيظ:

ـ”بفلوسي!! لقد زوج ابنه بمالي ذلك اللص!”

حكيت لها ذات مرة عن السيارة الفاخرة التي ابتاعها المهندس محمود سيد الشماشرجي ابن الطبيب الشهير، فصاحت في غل:

ـ”بفلوسي!!… يستطيع أبوه عمل أشياء كثيرة بالخمسين جنيهًا التي تقاضاها لغسل أذني!”

ذات مرة نشرت إحدى المجلات حوارًا مع دكتورة اسمها غادة تتحدث عن جولتها في اليابان ودول جنوب شرق آسيا. قالت في الحوار إنها زوجة واحد من أهم أطباء الأنف والأذن والحنجرة في مصر، وهو الدكتور سيد الشماشرجي.هنا صاحت السيدة سهير:

ـ”بفلوسي…!.. زوجته الشمطاء تجوب العالم كله بالخمسين جنيهًا”

رأيت أن الأمر تحول إلى هاجس أو وسواس قهري بالنسبة لها، فلولا ما في ذلك من مبالغة لطلبت من د. سيد الشماشرجي أن يرد لها مالها كي يتجنب هذه اللعنة السرمدية. لا شك أنه سيصاب بمرض عضال وينفق أضعاف الخمسين جنيهًا لعلاجه، لأن السيدة سهير – كما نقول في العامية – مش مسامحة!

العكس يحدث أحيانًا. الحكاية هي أنني منذ أعوام اشتركت في واحدة من مطبوعات اليونسكو الشهرية، والاشتراك ثلاثون جنيهًا في العام تقريبًا. ثم وجدت أن الأعداد تتكدس وأنا لا أطالعها… جاءت لحظة الحقيقة وقررت أنني لست بحاجة لهذه المطبوعة وكتبت خطابًا أعتذر فيه عن عدم الاشتراك لعام آخر.. أرسلوا لي يسألون عن السبب فلم أرد.

بعد أشهر قرأت في الصحف الخبر التالي (وهذا الكلام حقيقي على فكرة):

ـ”اليونسكو مهددة بالإفلاس لأن الولايات المتحدة خفضت مساهمتها في تمويل المنظمة”

طبعًا لم أحتج لأسئلة أكثر .. لقد تدهورت حالتهم المادية فعلاً عندما تركتهم، وعندما كففت عن دفع ثلاثين جنيهًا كل عام.

يبدو أن هذه المنظمة كانت تعتمد كلية على فلوسي.

قصة أخرى طريفة عندما كنت مدعوًا لمهرجان أدبي في قطر خليجي شقيق. كان طعام الفندق ممتازًا، وأنت تعرف عقدة البوفيه المفتوح. ربما هي فرصتك الأخيرة كي تجرب حساء التوم اليوم أو الباتاي أو القبوط أو الدجاج بالطريقة الإيرانية، أو حساء المنسيتروني وشرائح سمك الكنعد بالليمون.. ملعقة من كل شيء وسوف تكتشف أن الطبق مليء جدًا وأن ثيابك تضيق.

بعد ثلاثة أيام فتحت جهاز التلفزيون في الفندق، فوجدت أن حكومة البلد الثري مجتمعة لمناقشة الانهيار الاقتصادي الذي حدث مؤخرًا!.

شعرت بخجل شديد لأنني تجاوزت حدود الضيافة، وحاولت جاهدًا ألا أجرب سوى صنف واحد في الوجبة. إن شراهتي كفيلة بتدمير دولة فعلاً.

نعود للسيدة سهير التي أضناها التفكير في مالها…الحقيقة أنها ليست واهمة تمامًا. لا شك أن مالها ساهم بقدر ضئيل جدًا – كذرة في جسد – في نفقات رحلة آسيا.

هذا المفهوم ينطبق على الدول نفسها: عندما يعتدي عليك أمين الشرطة ويصفعك أو يطلق عليك الرصاص، أو يلفق لك قضية مخدرات بأحرازها مستعملأً قطعة البانجو في جيبه، فهو في الحقيقة يتقاضى راتبه من جيبك. حتى الرصاصة التي استقرت في رأسك أنت دفعت ثمنها.

المتظاهرون دفعوا بالكامل ثمن الغاز الذي يستنشقونه.

محصل الكهرباء الذي يخرب بيتك يتقاضى الراتب منك أنت.

هذا ينطبق على كل موظف في الدولة من أصغر رأس لأكبر رأس. كل المستشارين الذين يحصدون المليارات كل عام. من أين يحصلون على هذه المبالغ الفلكية؟ من جيبك طيعًا.

في الخارج يؤمنون أن رئيس الدولة نفسه موظف يتقاضى راتبه من جيوبهم، وعليهم أن يعرفوا ما فعل به، بينما في الدول العربية يسود المفهوم الأبوي القبلي الذي خرب بيوتنا:

أنت تعيش بما يجود به الحاكم عليك…

شيخ القبيلة الذي يقذف لك بصرّة من الذهب، بينما أنت في الواقع شاركت بقطعة نقدية في هذه الصرة.

السيدة سهير لم تبالغ في تصوراتها. هي فقط بالغت في أهمية الخمسين جنيهًا التي دفعتها

أكمل القراءة

جلـ ... منار

بِع وَردًا ولا تلعن الحياة

نشرت

في

Peut être une image de amarante

لم يمنعني المطر من أن أمارس طقوسي هذا الصباح.على العكس تماما، فالمطر هو أكثر الظواهر الطبيعية التي تسهل عليّ التواصل مع الكون وقراءة رسائله!

وفاء سلطان
وفاء سلطان

دخلت مقهاي المفضل لاحتسي فنجان قهوتي،ورحت أتأمل بعمق كل شيء حولي لأستشف الرسالة الكونية لهذا اليوم، إذ لم يمر يوم ونسي الكون فيه أن يخصني ببريده، ومن ذلك البريد أستمد كل صباح حكمة تزيدني شوقا للصباح الذي يليه… على يساري جلست سيدة، وقبالتي لمحت سيدة أخرى… وبين السيدتين كانت الرسالة واضحة وجليّة، وتحمل حكمة ولا أجمل… كلا السيدتين دخلت المقهى لنفس الغاية، دخلتاه تنشدان بعض الدفء، وهربا من زخات المطرالتي لم ترحم رأسا من لسعاتها!

السيدة على يساري، ومن ثيابها تعرف أنها مشردة وتعيش في الشوارع… والسيدة على يميني تحمل سطلا من الورود وتنظر عبر الزجاج أملا في لحظة صحو لتركض إلى الخارج وتستمر في بيع ورودها للمارة!..

تحسستُ طاقتها التي تفيض حبا للحياة، فاقتربت منها علني أمتصُّ بعضا منها!

اشتريت وردة ودار بيننا حديث شيق، علمت من خلاله أنها متقاعدة في منتصف الستينات من عمرها، وأنها تمارس تلك الهواية التي تدرّ عليها ربحا جيدا، كي تبرهن لنفسها أنها مازالت منتجة، علما بأن راتبها التقاعدي يكفيها من الناحية المادية!

اسمها روز، وتصرّ أن لها من اسمها نصيبا، فهي تعشق الورود وتشعر بسعادة عامرة عندما تبيع أحدا وردة!

تقول: ليس ما أجنيه من بيع الورود ما يسعدني أكثر، وإنما البسمة التي أرسمها على شفاه الناس!

وتتابع: لم يشتر أحد وردة إلا وبطريقة لا شعورية قام على الفور بشمّها، تسحرني تعابير الوجوه عندما تشمّ ورودي، واشعر أنني ساهمت في رسم تلك التعابير…

ثم شكرتني على شرائي لإحدى ورودها، وتمنت لي يوما جميلا!

……..

بينما في الوقت نفسه، يقترب مدير المقهى من السيدة الأخرى، ويتمتم في اذنها، فتخرج وتجر وراءها رائحة قاتلة!

لا أتصور أنه طلب منها أن تغادر، إذ لا يستطيع بالقانون أن يفعل ذلك، بل طلب منها أن تحرك عربتها المليئة بأغراضها لأنها تعترض المدخل إلى المقهى!

……..

نعم، تلك هي الحياة مجرد قرارات، وأنت مسؤول عن قراراتك!

سيدة قادتها قرارتها لتكون مشردة تفترش الشوارع وتلتحف السماء، وأخرى قادها قرارها لأن تمارس هواية محببة لنفسها، كبرهان على أنها مازالت تعشق الحياة، ومازالت بكامل وعيها لتعيشها بعمق!

……..

أما أنا فعدت لأمارس شغفي، وأنهي كتابا كنت قد بدأته الليلة السابقة…الكتاب بعنوان:

?What would you do if you knew you could not fail

(ماذا ستكون قد فعلت لو علمت أنك لن تفشل؟)

في الفصل السابع من الكتاب، جاءت تلك العبارة:”لو أن حلمك قد وقع فانكسر وتحوّل إلى ألف شظية، إياك أن تخاف من أن تلتقط على الأقل واحدة منها لتبدأ من جديد”

……..

لا يوجد أحد فينا إلاّ وتشظى حلمه يوما،

وحدهم الذين قرروا أن يتمسكوا ـ ولو بشظية واحدة ـ ليبدؤوا من جديد،

وحدهم قد بدؤوا ووصلوا إلى حيث يريدون!

السيدة المشردة وبائعة الورود من الأمثلة الحيّة.

……..

بع وردا ولا تلعن الحياة، فالحياة تلعن من يلعنها!

أكمل القراءة

صن نار