تابعنا على

مِنْظ ... نار

الإذاعة كما أراها

عندما نقول الإخبار والتثقيف والترفيه، فهذه مقاييس وقاعدة وليست رأيا أو اتجاها يمكن تغييره في أية لحظة …

نشرت

في

عندما بدأت الدراسات تظهر هنا وهناك حول الإذاعة كوسيلة اتصالية جماهيرية لها قدرة فائقة على التأثير في المتلقّي بعد ظهورها في فترة العشرينات من القرن الماضي، تبلورت تدريجيّا ثلاث مهام للإذاعة وهي على التوالي الإخبار والترفيه والتثقيف. ومثّلت هذه العناصر مجتمعة الأسس التي تقوم عليها البرمجة الإذاعيّة .

مولدي الهمامي *

من الوهلة الأولى يبدو الأمر في غاية البساطة إذ يكفي أن تتوفر هذه العناصر في برمجتنا حتى نقول وبكلّ فخر إنّنا نمتلك إذاعة … و لكن عند التأمّل تدريجيّا في التخطيط البرامجي في علاقته بالمتلقّي من حيث التوقيت والمحتوى والشكل والأسلوب المنتهج لإيصال الرسالة، فإنا نجد أنفسنا أمام وعاء حشوناه بما حسبنا أنّه يشدّ الجمهور ويرفّع في نسب الإستماع و يجلب لنا الإشهار و الاستشهار … و في المقابل نلاحظ أن هذا المجتمع الذي نستهدف جزءا من أفراده تزداد علاّته، وتكثر وتتطوّر فيه السلوكات السّلبيّة وينحرف و لو بنسب عمّا اتفقنا عليه منذ أجيال وأجيال من قيم لعلّ في مقدّمتها المواطنة وما تقتضيه من واجبات تجاه هذا البلد الذي تحوينا أرضه، وليس لنا مهما رحبت الدنيا و اضمحلّت الحدود، مكان آخر يضمّنا .

إنّ ما يدفعني لقول هذا هو عدم الاهتداء البيّن في تحديد الأدوار المنوطة بالإذاعة هل هي عناصر الإخبار والترفيه والتثقيف أم الإثارة والسبق على حساب الحقيقة الكاملة والمبتذل على حساب الذوق السّليم.

قد يقول أي شخص إن مثل هذه المسائل نسبيّة ومفهومها قد يختلف من مكان إلى مكان آخر وأن الزمن تتطوّر ولم تعد إذاعة اليوم تخضع إلى مقاييس الأمس، وهي تساير المعتاد لدى الجمهور المتلقّي حتى تكون في تناغم معه، قد تبدو للوهلة الأولى هذه الاستنتاجات منطقية وصائبة لكن بشئ من التمعّن نلاحظ أنها تجانب الصواب، فعندما نقول الإخبار والتثقيف والترفيه فهذه مقاييس وقاعدة وليست رأيا أو اتجاها يمكن تغييره في أيّة لحظة، والمقاييس والقواعد في شتّى الاختصاصات هي من الثوابت، والذكيّ هو الذي يتعامل معها من خلال الاجتهاد في توزيعها على الشبكة البرامجيّة على مدار السنة…فعلم الإقتصاد مثلا ورغم جوائز نوبل وجوائز أخرى يحصدها علماء العصر في هذا القطاع ومئات المؤلّفات بل الآلاف منها فإنّ القواعد التي بني عليها هذا العلم منذ قرون لم تتغيّر ولن نستطيع تغييرها ، والأمر ينطبق على أسس كلّ علم، كذلك العمل الإذاعي الذي يخضع إلى أسس نجتهد داخلها ونتطوّر بها.                                                      

 يجب أن نتّفق أولا أنّنا كإذاعة لنا رسالة لا تقلّ عمّا هو منوط بسائر الفاعلين في المجتمع وفي شتى المجالات، بل إن رسالتنا وبالنظر إلى التأثير المباشر في المتلقّى تعتبر دقيقة وخطيرة في الآن ذاته. ولنا في التاريخ المعاصر أمثلة على نتائج الانحراف برسالة الإذاعة لعلّ من أشدّها وقعا الحرب العالمية الثانية وما سبقها و بالاعتماد على الإذاعة من تأسيس مجتمعات عقيدتها النقاء العرقي والتميّز عن سائر البشر، ومازالت البشرية إلى يومنا هذا تعاني من تبعات تلك الأفكار ومخرجاتها.

إن الإذاعة هي القاطرة التي تسحب وراءها بقيّة عربات وهذا ما تحدّثت عنه معظم الدراسات حول الإذاعة ويمكن من خلال مهامها الأساسيّة أن تنشر الثقافة  والقيم من خلال برمجة ثريّة تعطي لرموز الثقافة والفكر ومسالكهم الإبداعية الحيّز المطلوب، ونكسّر بالتالي القاعدة المهيمنة والتي ابتدعها الامريكيون والتي تعتبر الثقافة سلعة تخضع لعوامل السّوق . 

لو نظرنا سنوات إلى الوراء لطرحنا عى أنفسنا سؤالا جوهريّا وهو كيف  استطاع برنامج إذاعي في فترة الستينات بالخصوص تم إنتاجه بإمكانات بسيطة وعاديّة أن يؤثر في أجيال وكان سببا في تنمية الحس الثقافي والعلمي والوعي الوطني لدى المستمعين خصوصا الأطفال والشباب، وأعني “جنّة الأطفال” للراحلة “علياء ببّو” و بسببه برز في ساحتنا الأدبية الكثير من أهل الفنون …

 واليوم بالإمكانات التكنولوجية والرقمية لم نهتد وبصفة عامة إلى التوفيق بين أساسيات العمل الإذاعي، بل جعلنا الترفيه العادي سمة إذاعاتنا والأغنية الركيكة في معظم الأحيان سائدة زاعقة تصمّ الآذان ،

فأين المسرح الإذاعي في هذه الغابة الكثيفة من الإذاعات  والذي قد يفتح الباب على مصراعيه للممثّلين ولكتاب المسرحيات ويحوّل بطالتهم الفنّية إلى عمل متواصل وإبداع يلي الإبداع،

أين الجامعيون في البرمجة الإذاعيّة كمنتجين ينوّرون العقول ويدفعون عنّا ظلمات “الجهل أو ممّا يشبه الجهل من علم ناقص” كما قال ذلك العلاّمة الحبيب بلخوجة …

أين الأغنية التونسية التي كافحت أجيال وأجيال من أجل ازدهارها ورقيّها، فعندما فتحت الإذاعة التونسية أبوابها في إطار رسالتها برزت إلى الوجود هامات الأغنية التونسيّة وكانت سببا في بروز أجيال جديدة حملت مشعل الأغنية التونسية التي تحوّلت اليوم في معظم إذاعاتنا إلى مجرّد ذكريات جميلة وحنين والحال أن الساحة الفنّية مازالت تعج بالأصوات التي أسعدتنا وما زالت..

أين لغتنا العربيّة ولهجتنا القريبة منها والتي استبدلناها بلغة هجينة زادت من اغترابنا و ضعف تعبيرنا…

لقد كانت مسابقات الإذاعة حول تاريخنا ومواعيدنا وأعيادنا وتراثنا وأدبائنا وشخصياتنا واليوم فإن المستمع المثالي هو الذي يعرف عدد ألبومات مطربي الدرجة الرابعة القادمين من وراء البحار وآخر ألحانهم، بينما يجد صعوبة بالغة في الإجابة عن أسئلة حول أدبنا وشعرائنا وتاريخنا … وشاهدنا ذلك في برامج تلفزيّة جعلتنا نطرح أسئلة حول الحقيقة المرّة الصادمة: كيف نستطيع بناء مجتمع بدأت الأميّة تعود إليه تدريجيّا؟

 إن الإذاعة في إطار مهامّها الأساسية يمكن أن تلعب الدور الأساسي في نشر الوعي والمعرفة، وفي السموّ بالذوق العام وفي إحياء الروح الإيجابية في عقولنا وقلوبنا، وعلى الإذاعة أن تفرض اختياراتها على الجميع وتصمد أمام رياح السهولة و الابتذال التي تدرّ المال صحيح، لكن تخلّف من السّلبيات والحطام ما يصعب معه إصلاح أو ترميم أو حتى جمع أشلاء.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* إعلامي و مدير سابق للإذاعة الوطنية

أكمل القراءة
انقر للتعليق

اترك تعليقا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مِنْظ ... نار

عندما يعتذر مجرم سفّاح … من يصدّقه؟

نشرت

في

النصب التذكاري لضحايا الإبادة الألمانية في ناميبيا

يعرف العالم الغربي عندنا بأنّه عالم متقدّم ينعم بالديمقراطيّة وبالرفاه ويحقق نسب نموّ عالية، ويعود الفضل إليه في الكثير من الاختراعات والإنجازات التي استفادت منها البشرية جمعاء،

مولدي الهمامي Hamammi Mouldi
مولدي الهمامي

وهو قبلة لكل الباحثين عن حياة أفضل، ولكلّ الهاربين من الفقر والظلم والقهر، ويجازف الآلاف بأرواحهم من أجل الوصول إليه، ويسافر إليه الآلاف من شباب العالم النامي لمواصلة دراساتهم العليا في جامعاته العريقة، وهو في الأغلب سفر بتذكرة ذهاب فقط ، إذ هم محط أنظار الشركات والمؤسّسات هناك للإستفادة من علمهم ونبوغهم… كما يسافر إلى الغرب الأثرياء والرؤساء والملوك للتداوي في مستشفياته ومصحّاته التي تتوفّر فيها أحدث تكنولوجيا الفحص والتشخيص والعلاج…

في الغرب، الشوارع نظيفة وواسعة ووسائل النقل بأنواعها توضع على ذمّة المواطنين، وتكثر المنتزهات والملاهي والمقاهي ودور السينما والمسارح، ويزدهر النشر وطباعة الكتب والمجلات والصحف، وفي الغرب القانون يسري على الجميع، والجميع يحترم القانون ، هذا هو الغرب الذي نعرف والذي نتخيّله وتلك هي الصورة التي نراها في التلفزات عن الغرب…لكن توجد صورة أخرى وراء الستار فيها من البشاعة ما لا يوصف إنّها صورة الغرب المتوحّش الذي مازال يرزح تحت ذلك الإرث الثقيل والثقيل جدّا إذ لا يستوعبه العقل البشري ولا يرى له سببا…

منذ أيام وفي حركة مفاجئة لأغلبنا تقدّمت ألمانيا الديمقراطية باعتذار رسمي إلى دولة ناميبيا عن الإبادة الجماعية التي نفّذها جنودها فيما بين سنوات 1904 و1908 والتي راح ضحيّتها قرابة 65 ألفا من قبيلة هيريرو وعشرة آلاف من قبيلة ناما وتسلّمت وبالمناسبة دولة ناميبيا جماجم لعدد من ضحايا تلك الإبادة كان الالمان يحتفظون بها في متاحف خاصّة.

وبعيدا عن التسوية التي جرت بين ألمانيا وناميبيا حول هذا الملف فإن الرئيس الفرنسي بدوره وفي حركة مفاجئة هو الآخر أقرّ بمسؤوليّة فرنسا عن الإبادة الجماعية، التي حدثت ضد قبيلة التوتسي سنة 1994.”.ليضيف خلال زيارته إلى رواندا إنّ فرنسا وإن لم يكن لها دور مباشر في عمليّة الإبادة  إلاّ انّها وقفت إلى جانب نظام قاتل وإجرامي في رواندا.. نحن كلنا تخلينا عن مئات الآلاف من الضحايا وتركناهم فريسة لهذه الدائرة الجهنمية”.

ويبدو أن التطهير العرقي وعمليات الإبادة والقتل الجماعي هي ممارسات أوجدها الغرب لبسط سيطرته بصفة كلّية على بلدان دخلها بقوّة السلاح وقهر أهلها من منطلقات عنصرية واستعمارية بحتة…لقد فعلت فرنسا ما فعلت في الجزائر الشقيقة وفي تونس والمغرب، وفي كل البلدان التي استعمرتها إذ عاثت فيها قتلا وترهيبا وجنّدت شبابها عنوة للقتال ضد أعدائها في حروب لم يختاروها وليس لهم بها أي علاقة ، ونهبت خيراتها وبنت مجدها عل كاهل مستعمراتها.

وكذلك فعلت كل البلدان الإستعمارية دون استثناء مثل هولندا وبلجيكا وغيرها، فبريطانيا العظمى حتى وهي تغادر الهند في أواخر الأربعينات من القرن الماضي عمل رئيس وزرائها تشرشل من خلال عملية رسم الحدود على تمزيق وحدة السكان والأراضي وقد جسّد فيلم ” آخر نائب للملك في الهند “ للمخرجة الهندية غورندر شادها الذي أنجز سنة 2017 تلك الحقبة المأساويّة بحرفيّة عالية،

ثمّ لا ننسى إبادة الهنود الحمر أي السكان الأصليين لأمريكا على أيدي البيض الذين سكنوها غصبا، واختطاف الآلاف من الأفارقة  وتسخيرهم كعبيد للعمل في حقول القطن بالجنوب الأمريكي، وكذلك ما جرى في دولة جنوب إفريقيا من ميز عنصري وتنكيل بالسكان الأصليين…  

 هذا الغرب الرسمي الذي بدأ يوزّع اعتذاراته هنا وهناك نجده في المقابل لم يشعر بأي حرج وهو يتحدّث عن أحقيّة الكيان الصهيوني في “الدفاع عن نفسه” ، ولم يجد أي حرج وهو الذي لعب دورا رئيسيا في أصل هذه المأساة من خلال إعطائه لمن لا يستحق ما لا يملك في الإصداع بقول الحق، وغابت عنه الكلمات لإدانة الإبادة الجماعية المتواصلة في حق الشعب الفلسطيني انطلاقا من ذات الدواعي التوسّعيّة الإستعمارية…

ومازلت شعوب عديدة في العالم تنتظر اعتذارا رسميا من الدول المستعمرة قد يساهم في التخفيف من وطأة الماضي الثقيل.. وما الذي يمنع هذا الغرب الذي مازال يدّعي أنّه يعلّمنا أسس الديمقراطية ويدرّسنا مواد حقوق الإنسان من الإعتذار ويكتب صفحة جديدة في التاريخ البشري تعيد شيئا من التوازن إلى العلاقات بين الدول.

أكمل القراءة

مِنْظ ... نار

وطني الذي لم أعد أعرف

نشرت

في

نظرت في كل الاتجاهات وسرت عبر دروب عديدة وامتطيت الهضاب وأسطح البنايات الشاهقة وأعالي الأشجار وتنقّلت بين سائر المدن والقرى والمساكن المتناثرة هنا وهناك، ومشيت في الحقول والوديان وركبت السيارات والحافلات ووسائل النقل بأنواعها وبحثت في كل الثنايا.

مولدي الهمامي Hamammi Mouldi
مولدي الهمامي

لم أعد أعرف أمكنة ألفتها حتى صارت هي أنا وأنا هي ولم أتبيّن الوجوه التي تملؤ ذاكرتي بحبّها للحياة وللعمل والبذل، فأين أنت يا وطني الذي أعرف..أين أنت يا وطني الذي ملأت كياني منذ زمن حليب أمي، أين أنت يا وطني الذي علّمتني كيف تعشق الأوطان بنسائمك وأمطارك وسحبك، بشواطئك وبحارك ووديانك، بأناسك الطيّبين هم الجود والكرم الذين حرثوا أرضك وزرعوها بعد أن نزعها الأجداد بالعزم والفداء من المستعمر الغاشم،

أين أنت يا وطني بأعراسك ومواسم أفراحك التي لا تنتهي، أين أنت يا وطنا الطبيعة فيه هبة من الله جعلت فصولنا أربعة، وفي كل فصل تجود الأرض بخيراتها فأين صيفك الذي هو الحياة وفرحتها والسماء وصفاؤها ، والشواطئ وزرقتها ، والسهرات وبهجتها ، أين صيفك يا وطني الذي تفوح منه رائحة السنابل وهي تحصد، والفاكهة وهي تطيب وتقطف، أين خريفك يا وطني خريف السواعد وهي تحرث وتزرع قوت أبنائك.

أين شتاؤك يا وطنا بسحبه وأمطاره والليالي البيض والليالي السود اللّي ينبت فيها كل عود وربيعك الذي كان يكسو أرضك يا وطني بالأقحوان والزهور وشقائق النعمان…

أين أنت يا وطني الذي لفّني في رايته الحمراء وجعل همّتي تسكن مع الأهلّة والنجوم…

أين مدرستي ومعهدي وجامعتي وأساتذتي وأقراني وزملائي … دماء الحياة في شرايينك يا وطني

أين طبرقة بمرجانها ، و نابل بأسواقها وفخارها ،والحمامات بمنتجعها ،وسوسة حيث البحر يعانق زرقة السماء، وصفاقس وزيتها وزيتونها، وقابس ورمّانها وبهاء حنائها، وجربة التي افتتن بها أوليس، وتطاوين وقصورها البربرية، أين واحات في الجريد وقفصة وقبلي معجزة الحياة في قلب الصحراء، أين القيروان وسجّادها، و تستور و مالوفها وجنانها، أين سهول جندوبة وسليانة ومرتفعات الكاف وبحيرتها، وسباسب القصرين وغلة سيدي بوزيد ، أين رائحة الفل والياسمين التي تفوح من مساكننا ومن قلوبنا، أين لياليك الزاهية،  أين أعيادك التي ترفع فيها راياتك لتعانق أشعة الشمس وترفرف في الأفق على مدى البصر، أين أعيادك التي بها نفرح   وأطفالنا …

 لقد أصبحنا يا وطني قطّاع طرق، ومنافقين في حبّك، ونمعن في ذلك ، وبتنا جرادا يأتي على الأخضر واليابس، ونأكل بعضنا وننهش، لقد فصلناك عن أجسادنا فتحوّلت إلى صحراء تتسوّل الماء وأرضا لا تنتج ، ووجها حزينا  حفرته التجاعيد هي أخاديد الفقر والأمراض، وجسدا أنهكته العلل والسنوات العجاف.. جعلناك يا وطني كما وصف أديبنا الكبير محمود المسعدي منحدرا لجبل أخشب غليظ حزيز نباته كالإبر، أرضه ظمأى و سماؤه صفراء و غباره كثيف.

فأين أجدك حتى أسألك كيف الاعتذار يا وطني …؟؟

أكمل القراءة

مِنْظ ... نار

ومن المقامات ما لم يكتبه الهمذاني ولا الحريري!

نشرت

في

حدّثنا أحدهم قال…”كناّ مجموعة من التجّار على رأس قافلة بالسلع حافلة، أدركنا المساء ونحن في قلب الصحراء، فقرّرنا الإستراحة عند مشارف واحة وأنخنا الجمال ووضعنا عنها الأحمال ونصبنا الخيام وأعددنا من الطعام ما حضر وستر وبينما نحن نتسامر وندخّن بعض السجائر، سمعنا صوت خيول قادمة من بعيد وهي تقترب وصهيلها يزيد …

مولدي الهمامي Hamammi Mouldi
مولدي الهمامي

فقمنا على عجل نستجلي الخبر، فإذا بكوكبة من الفرسان كأنّهم من نسل الشيطان، وقد استلّوا سيوفهم وهم يصيحون ويرعدون ويزبدون ، فانتابنا خوف شديد وسلّمنا الأمر للحميد المجيد ، فأحاطوا بنا من كل الزوايا وأغلقوا كل الثنايا، فتقدّم زعيمهم هو يفرك العنينين كأنّه لم ينم ملء الجفنين، وصاح ماذا تفعلون ومن أين أنتم آتون ؟؟ فقال أحدنا وأنتم من أنتم ؟؟ قال نحن المهرّبون، فقال صاحبنا وماذا تريدون بالله عليكم فالرفاق حائرون ونحن تجار صغار لا علاقة لنا بالتهريب لا من بعيد ولا من قريب،

“ثم ماذا تهرّبون نخشى أن تكون الممنوعات فيلحقنا الأذى ونحن أبرياء فقال لا تخافوا وضحك ضحكة صفراء وأمر أصحابه بالنزول وفكّ الأحمال عن البغال و الخيول ثم قال هل عندكم طعام  قلنا نعم شيئا من الخبز والزيتون فقال يا لها من عيشة المغبون، وبعد زمن قصير انصرف الجمعان كلّ إلى مكانه لأخذ قسط من الراحة، وأفقنا فجرا فلم نر للجماعة أثرا…فاعددنا العدّة للرحيل، وانطلقنا نحثّ الخطى ونقصّر الطريق بالغناء والإبل تجيبنا بالرغاء، حتى بلغنا ظهرا المدينة، فاستوقفنا العسس عند القنطرة وطلبوا منّا جوازات المرور حتى نتمكّن من العبور، وفرضوا علينا تنبري بدينار وضرورة الإستظهار بالبي سي آر…

فأخرجنا الوثائق  من بين الأحمال بصعوبة وكانت كلّها مضروبة…وبعد زمن قصير دخلنا سوق المدينة وبدت لنا كئيبة حزينة ، وفرشنا البضاعة وبقينا على تلك الحال ساعة أو بعض الساعة …وفجأة سمعنا جلبة ناحية السوق وعرك ومعروك ورأينا الناس في هيجان كأنّهم حجارة بركان يفرّون من المكان كأنّ بهم مسّ من الجان فسألنا أحدهم فقال لنا اهربوا إلى فجّ بعيد إنّه الكوفيد، وإذا برجل أحاط  به رجال الحماية وأدخلوه أقرب بناية وبقينا نحن في أمكنتنا متسمّرين منتظرين تطوّر الأحداث ، ولبسنا الكمّامات، وتركنا بين بعضنا مسافات، ثم كثر الهرج والمرج وهاجت الخلايق وماجت وتحوّلت السوق إلى حلبة نزاع وصراع واختلط الحابل بالنابل وتناثرت الخضر والغلال والأقفاف والسلال، والفراخ  تقاقي بين السواقي، والديكة تصيح في مهبّ الرّيح ،

كانت الخراف  تهرول هنا وهناك كأنّها جزء من العراك ، وحمار ينهق ورجل يشهق ما يلحق، وآخر إذا ما طلّع ساق فالأخرى تغرق، والمشهد  كلّه يمكن وصفه بالسريالي فكأنّه لوحة لسلفادور دالي، فقرّرنا الرحيل في الآن قبل فوات الأوان، لكن الفضول كان أكبر منّا، وأردنا معرفة ماذا يجري حتّى ندري ما لا ندري، وكلّما مرّ بجانبنا أحد بادرناه بالسؤال عن الحال لكن لا أحد يعرف السبب حتى يبطل العجب، وبينما نحن في حيرة وغصرة أقبل علينا أحد المهرّبين وقد ألفنا وألفناه ورمى علينا الصحبة وبها رميناه وألقى التحيّة في الحين وقال ألا تعلمون  ماذا يحدث…

فقلت بالله عليك أسرع فأنا أعاني بسبب شدّة العطش من الشهّيقة، قال وما الشهيقة ، قلت هي تعرف عندكم  بالفوّاقة، فقال لا تعجبوا إنّها الفوضى الخلاقة، ثم ضحك حتى بانت أسنانه وطلع لسانه، وانصرف وانصرفنا .

أكمل القراءة

صن نار