تابعنا على

منبـ ... نار

الإيهامات البصرية واختراق المعنى (ج: 3)

نشرت

في

سهل الحاسوب المهمة التفاعلية بين المبدع والأثر التصويري … فالصورة الرقميّة بمجرد ظهورها على شاشة الحاسوب، تبدأ عملية التدخل عليها وتحويرها، و الأثر الرقمي يمكن أن يتحوّل في كل مكان وزمان، على عكس ما يمتاز به الفن التقليدي. وتقول فرانسواز هولتز ـ بونو Françoise HOLTZ-BONNEAU في كتابها الصورة والحاسوب و في مقارنة بين الفنّيْن “عند فراغ الفنان من رسم لوحته، تدخل اللوحة في مرحلة من الجمود النهائي،  لكن عند فراغ  أحد المصورين من بناء صورة تأليفية فإنها تبقى قابلة للتحوير نظرا إلى طبيعتها”[1]. الأعمال التصويرية الرقمية إذن تلتصق بمفهوم المفاجأة  واللامتوقع و الفنان الرقمي يقوم بالفعل ثم ينتظر النتيجة[2]، وهذا ما جعل الكاتبة تقترح مصطلح” اللا تمثّلية”.

رانيا قلسي

أصبحت تقنيات التصوير الفوتوغرافي المعاصر تتجاوز آلة التصوير في مفهومها القديم، ولم تعد الصورة الفوتوغرافية سجينة الغرفة المظلمة حتى تتحوّل على الورق لترى النور. اتخذت الصورة الفوتوغرافية المعاصرة صيرورة جديدة تحددها وترسم ملامحها، لتمر في مرحلة أخرى إلى الحاسوب حيث تخضع لمعالجة ببرمجيات خاصة ومعاصرة.

إن هذا النظام الجديد الذي شاع في تقنية عمل آلة الفوتوغرافيا والذي يعتمد بصفة مباشرة على التكنولوجيا بما فيها تكنولوجيات الطباعة، مكّن التصوير الفوتو- غرافي كما الفوتو- رقمي من تقنيات متعددة ومختلفة أثرت على التجارب والأعمال التشكيلية وغيرها مثل الإشهار. فمع رقمنة الصورة ظهرت تقنيات حديثة للتعامل معها قبل خروجها على المحمل المُخصص، ومرور الصورة بالزمن الافتراضي يفتح الأبواب أمام ظهور العديد من البرمجيات للتلاعب بالصورة كشكل وكمضمون،  فقد أعطت هذه الأخيرة فرصا لا نهاية لها مشبعة بالحريّة والقدرة على التحكم والإبداع.

في قسم هام من الصورة الفوتوغرافية أصبح اليوم التدخل الرقمي والمعالجة بأدوات الحاسوب يلعبان دورا رياديا في إضفاء البعد الفني والتشكيلي على الصورة عمومًا، فالإضافات التشكيلية عند معالجة الصور الملتقطة تتحوّل إلى مادّة يطوعها الفنان لخدمة أفكاره الوجودية أو التشخيصية مهما كانت صعوبة السيناريو أو التخطيط المتخيل من قبل الفنان.

وفي خضم هذا المنهج الإبداعي وجدت البرمجيات الإعلامية التي تعمل على التدخل المباشر والرقمي على الصورة، استعمالا شائعا من قبل عديد الفنانين المعاصرين، وخاصة المصورين الفوتوغرافيين الذين مثلوا وأعادوا تمثيل صورهم الشخصية في شكل لا تمثّلي. ويُعد هذا التجاوز للمفهوم الأصلي للصورة نسقا تشكيليا مستجدا يحقق من خلاله الفنان جملة من التمثلات والمواقف والرُؤى المغرقة في الشخصنة. تُلخص هذه الشواهد الفنية (مارك ديبورد، بنوا دافيد، لورانس دومينوس…) ما سبق ذكره في جملة من التعابير المفضِية إلى العنف والطمس والاغتراب في الواقع المتناوَل بالنقد من قبل الفنان.

حتّى تدخل التجربة الفنية هذا العالم المرئي الجديد، كان لزامًا الابتعاد عن المألوف، والبحث عن أداة تُساعد على تحقيق نقلة نوعيّة في الجانب الإيحائي قد تَظهر للبعض على أنها تفتقر للحس الإنساني والدفء البشرى بحسب التناول العامي … ولكن هذه النقلة النوعية قوامها وضع الفنان نفسه في صِدام مع مقولة نهاية الفن بمفهومه الكلاسيكي المادّيPeinture de chevalet ، والذين غالبًا ما يتساءلون عن كيفية إنتاج أعمال فنية يكون منبعها برودة الأجزاء الميكانيكية والإلكترونية للكمبيوتر.

 وقد ينسى كل هؤلاء الرافضين أن وراء كل ورشة افتراضية روحا إنسانية مبدعة تترجم الجانب الحسي المباشر المضمّن في الحياكات الرقمية، وما المجال الرقمي إلا وسيط يعوّض الفرشاة والأدوات المادّية. فالفنان هو الوحيد إن صح القول الذي يستطيع إخراج العالم الرقمي من جموده ليرسم ملامح عالمِه الخاص بكل تفاصيله الخفيّة، حيث بيّن الفنان التشكيلي بصفة عامّة أن له ” الاستعداد والقدرة على إنتاج شيء جديد، أو أنه عمليّة يتحقق الِنتاج من خلاله،ا أو أنه حلّ جديد لمشكلة ما، أو أنه تحقيق إنتاج جديد ذي قيمة من أجل المجتمع”[3].

إذن تسمح أدوات الحاسوب بمختلف أنواعها للفنان بإنعاش قدرته الإبداعية وتؤسس لعلاقة جديدة بين اليد والفكرة، وتحديد هذه العلاقة يُظهر الارتباط الحميمي والعميق بينهما وخاصة في مجال الصورة[4]“. في هذا السياق يمكن الجمع بين دور اليد ودور الفأرة في آلية انجاز العمل الرقمي، حتى إن كوشوت COUCHOT يتجاوز ذلك ليطرح إمكانية  أن يكون” الحاسوب والفأرة ما هما سوى بديل اصطناعي رائع لليد الإنسانية.”[5]

ثورة التكنولوجيا إذن أثرت على الفنان التشكيلي في كل العالم وعلى طريقة تعامله وطرحه لرؤيته الفنية، وذلك يفتح مجالا واسعا لقراءة جديدة لأغلب المفاهيم التشكيلية.

ـ تمّت ـ


[1] Françoise HOLTZ-BONNEAU,  L’image et l’ordinateur , Aubier ,1992.p.261.

[2] Ibid. p.119.

[3] الكسندرو روشكا، الإبداع العام والخاص،  ترجمة غسان عبد الحي أبو فخر، الكويت، عالم المعرفة،1989 ، ص19.

[4] « Il ne s’agit pas de s’enfermer dans une querelle sans issue entre la main et la souris, entre le hand -made et le computer-made, mais de montrer que les deux sont intimement profondément liés et en particulier dans le domaine de l’image. » article de, Marie Pierre- Zuffery, sous-titre de « La main et la souris », fichier PDF.htm, p45. http://flashinformatique. epfl.ch/IMG/pdf_sp-7-page45.pdf

[5] « L’ordinateur et sa souris évidemment, ne pourraient être, en ce sens, qu’une superbe prothèse de la main humaine… » Edmond COUCHOT, Trafiquant de pixels, in : Les Images trafiquées, éds. Jean-Michel PLACE, Paris, 2002, p.160.

أكمل القراءة
انقر للتعليق

اترك تعليقا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

منبـ ... نار

هل تتخلص تونس من مكبلات صندوق النقد الدولي وتبحث عن مصادر بديلة؟

نشرت

في

تونس-صندوق النقد الدولي: السلطات التونسيّة تلتزم باحتواء كتلة الاجور في  حدود 15 بالمائة من الناتج في 2022 - إدارتي

رغم الصعوبات الاقتصادية والمالية التي تفاقمت لأسباب معلنة وأخرى مجهولة، ما تزال تونس صامدة ورافضة لشروط صندوق النقد الدولي، موفية بالتزاماتها المالية تجاه دائنيها إذ بلغت نسبة خلاص الديون إلى موفى شهر جويلية 2023 48%. فهل يؤشر هذا على إرادة من تونس للتخلص من هيمنة القطب الواحد وانفتاحها في تعاملاتها المالية و التجارية على أسواق جديدة؟

فتحي الجميعي

يتأهب العالم لإرساء نظام عالمي جديد متعدد الاقطاب بعد إزاحة نظام القطب الواحد والمتمثل في الهيمنة الامريكية المطلقة على جميع القطاعات ومعظم الدول وحليفها الاستراتيجي الاتحاد الاوروبي. وقد ساهمت الحرب الروسية- الاوكرانية الى حد بعيد في ظهور قطب اقتصادي وعسكري جديد، خاصة بعد بداية التقارب الروسي-الصيني والمضي قدما في تركيز “بركس” بنك التنمية الجديد والمكون من أسماء الدول الأكثر نموا اقتصاديا بالعالم وهي البرازيل، روسيا، الهند، الصين وجنوب افريقيا.

وقد اتفق رؤساء هذه الدول على مواصلة التنسيق في أكثر القضايا الاقتصادية العالمية الآنية، وتتالت اللقاءات على المستوى الأعلى لزعماء دول البركس BRICS منذ سنة 2008 قصد مزيد التشاور والتنسيق، وتواصلت الى سنة 2023 مع العلم ان مساحة هذه الدول تمثل 40% من اليابسة وعدد سكانها يقارب 40% من سكان العالم.

و بالعودة إلى تونس و رغم توقيعها مع الاتحاد الأوروبي مذكرة تفاهم لإرساء شراكة استراتيجية و شاملة، والتزام هذا الأخير بمساعدتها على بناء نموذج تنمية مستدام و غير إقصائي، و دعم ميزانيتها بمبلغ سيمنح كاملا بعنوان سنة 2023. وامام انفتاح روسيا على رفع نسق التبادل التجاري بينها ودول المغرب العربي، واعتماد مصر كبوابة لتنمية هذا التبادل مع اعتماد العملات المحلية بديلا عن الدولار، وإعراب تونس عن استيراد الحبوب من روسيا باسعار تفاضلية والتزام هذه الأخيرة بتسهيل المعاملات وتنشيطها هذا من ناحية، و من ناحية أخرى وبحصول الجمهورية التونسية على قرض ميسر بقيمة 1200 مليون دينار ومنحة بقيمة 300 مليون دينار من السعودية وسعيها إلى رفع قيمة صادراتها وفي مقدمتها مادة الفوسفات. هل تتخلى عن التعامل مع صندوق النقد الدولي في انتظار ارساء بركس وبداية التعامل معه كشريك اقتصادي ومالي؟ …

ـ يتبع ـ

أكمل القراءة

منبـ ... نار

سياسة “فرق تسد”… هدمت كل الاستراتيجيات العربية؟

نشرت

في

الجامعة العربية التي لا يريد أحد رئاستها!

إن الغرب و على امتداد التاريخ يولي الأهمية الكبرى لمصالحه في كافة أنحاء العالم، و يؤمن إيمانا راسخا بأن الكائن البشري هو كائن مقدس و خاصة إذا تعلق الأمر ببني جلدته،

فتحي الجميعي

إلا أنه و منذ تحرر البلدان المستعمرة من الاحتلال المباشر، أصبحت البلدان الغربية تفكر في غزو جديد لمستعمراتها القديمة. فوقع غزوها أولا اقتصاديا و ثقافيا ثانيا، و كان لزاما عليها إن تتبع استراتيجية “فرق تسد”. كيف ذلك؟ إن أول ما سعت إليه و بمؤامرة مع الكيان الصهيوني هو إمضاء اتفاقية “كامب دافيد”، و هذه أول ضربة للعروبة إذ شلت كل تواصل بين جل الحكومات العربية و مصر، و بذلك استطاعت إن تهدم كل الاستراتيجيات العربية التي كانت تهدف إلى تأسيس كيان عربي موحد، و إنشاء جيش عربي قادر على الوقوف في وجه الكيان الغاصب وخلق قوة اقتصادية هائلة تخلص العرب من التبعية المتواصلة للغرب،

و بذلك استطاعت البلدان الغربية و على رأسها الولايات المتحدة الأمريكية أن تواصل نهب خيرات الشعوب العربية و في مقدمتها النفط، و أن تجمد كل سعي لخلق أي افق سياسي لحل القضية الفلسطينية، كما استفاد الغرب من الحرب الداخلية اللبنانية و الجولان السوري المحتل للتوغل في العمق الفلسطيني.

إن إيهام العرب بأن الغرب ساع لإيجاد حل للقضية الفلسطينية، هو أكذوبة كبري امتدت على أكثر من عشرين سنة وهي ما سمي بـ” المفاوضات الإسرائيلية الفلسطينية” من اجل حل لخلق دولتين تعيشان جنبا إلى جنب بسلام مقابل التطبيع مع إسرائيل، مما جعل الرؤساء العرب المشاركين في المبادرة يهرولون دون ” فرملة” عند كل دعوة مزعومة لهذه المفاوضات العبثية دون إدراك أنها مضيعة للوقت، وهي رهان خاسر لا محالة. و توفي أبو عمار بعد أن حقن سما فتوفيت معه القضية، و ترك ما بقي من أرض فلسطين مقسمة بين الصفة الغربية و قطاع غزة، و ظل الصراع قائما بين الفصيلين المتناحرين، و بات الفوز بالكرسي هو الهدف، و ظل الشعب الفلسطيني مقسما على غرار أرضه.

و جاءت أحداث الحادي عشر من سبتمبر فاستغلت الولايات المتحدة الأمريكية هذا الحدث أحسن استغلال لتصبح الإمبراطورية الكبرى، مترامية الأطراف من الخليج إلى المحيط، فنشرت أساطيلها الحربية، و حركت آلتها العسكرية الجهنمية تجاه أفغانستان و العراق، و هكذا أباحت لنفسها بتعلة حماية مصالحها أن تبيد العراق بعد أن سلبته كل مقومات التقدم و الحضارة، و أجهزت عليه بإغراقه في ديون لا نهاية لها، و اقتتال لا مخرج منه، فضاع الوطن، و نكس العلم، و دنست الأرض..

و حل “الربيع العربي”، فاستبشرت الشعوب على أمل أن تبنى الأوطان على أنقاض أخرى بنيت على التبعية للغرب، و انخرام السياسات، و إذلال الشعوب. و إذا بهذه الثورات أو بعضها تنقلب إلى حروب أو اقتتال داخلي غذته الفتن، و ذكاه أصحاب المصالح، و الانتهازيون و مصاصو دماء الشعوب، و راسمو السياسات المسقطة.

إن الكيان العربي لم يوحد، و لن يتحرر من براثن التبعية المقيتة للغرب، و لن يتوحد أو يوحد مادام الجرح العربي ينزف، و ما دام الهدف هو السلطة، و مادام الحاكم يطبق سياسات الغرب و المحكوم ينفذ هذه الأجندات الأجنبية…إن الغرب هو المستفيد الوحيد في غياب الوعي العربي بالمخاطر التي تتهدده. فبداية من القرن العشرين أو منذ آواخر القرن التاسع عشر وهو وطن محتل، و شعب مقتل بآلة الغرب و جنوده، وهو الآن يقتل من جديد في غزة بنفس الآلة الصهيوأمريكية و غيرها من الدول الغربية الحليفة. فهل استطاع العرب لجم العدو و إيقاف الإبادة الجماعية في حق الشعب الفلسطيني؟؟ 

أكمل القراءة

منبـ ... نار

غسّان كنفاني في فضاء غزّة

نشرت

في

8تموز1972) الذكرى السنوية لاغتيال غسان كنفاني: اختزال الشخصية وتشييئها -  الملتقى الفلسطيني

إن تفاقم الجريمة الصهيونية في غزة خاصّة منذ 7  أكتوبر  المنقضي وإنّ هول الدّمار وأشكال الموت التي تحمله إلينا الصورة بكل أصنافها قد يخلّف فينا – بالإضافة إلى التعاطف الإنساني اللامشروط – مشاعر أخرى متضاربة غريبة.

فتحي بوغرارة

 وأزعم أنّ بعض هذه المشاعر على الأقل غير مسبوق منها الخجل من أغلب ما وضعناه سابقا في خانة الصعوبات والمشاكل، ومنها الإحساس بما يمكن تسميته “بالفخر الهش” ونحن نتابع إصابات يوميّة تحققها المقاومة الفلسطينية الباسلة في صفوف العدو الصهيوني المرتعب، ولكنها إصابات لا تُنسي ما بقي فينا من عقل تباعد موازين القوى الحربية والمالية في هذه المعركة ولا تُنسينا تجدّد خذلان حكومات العرب لشعوبها، فتتجاور بوارق الفخر فينا مع ما أدمنّا عليه من عميق الحزن والخسران العربيين …

حين فكّرت مرارا في كتابة بعض الكلمات تصدمني الصور مجددا لتحمل أهوالا صباحية وليلية جديدة، فتكتئب الكلمات وتنكمش ثم تذوي، فما الكلام الذي يمكن أن يكون في مستوى هذه المأساة/ الملحمة الفلسطينية؟ ما الذي يمكن أن تقدمه كلمات تائهة متردّدة إلى هذه المقاومة الجبارة وهي تعاند الموت كل يوم ؟…

إلى أن شاهدت يوما في إحدى القنوات شيخا يجلس على تلّ صغير من الحجارة هو ما بقي من منزله المدمّر ضمن حيّ سكني سُحق بالكامل في مشهد جحيمي، حمد الصحافي الله على سلامة الشيخ ثم سأله : “وين بدك تروح يا عمّ؟” فأجابه “وين بدّي روح، أنا قاعد هون على حجارة بيتي”، وهنا لمع في ذاكرتي  غسّان كنفاني لأنه – في تقديري في تلك اللحظة- أقدر الناس على فهم الدلالة العميقة لعبارة “حجارة بيتي”، فليس الحجر عند هذا المسنّ الأبيّ مجرّد حجر، وليست أرض غزّة وبحرها عند الغزّاويين مجرد أرض وبحر وليست أسواق القدس وأنهجها عند المقدسيّين مجرّد أسواق وأنهج، ليست مجرّد أمكنة أو أشياء. إنّها “فضاءات حميمة” مؤثثة بقطع الرّوح مكتنزة بجواهر الذات، كيف لهذا الرجل أن يعتبر بيتا شيّدته يداه ووضع بين جدرانه عمره وعمر زوجته  وأبنائه ثم ارتوت الأرض المقام عليها من دماء شهيدين من أبنائه كيف له أن يراه حجرا …مجرد حجر،  تذكّرت كنفاني الذي أعطى ما أعطاه للسرديّة الفلسطينية من جمالية كونيّة في رواياته الأربع المكتملة [1] ، فتراءى لي وقد مثّل بحياته وموته صورة لا تضاهى تجمع في اتّساق عجيب بين المقاومة المسلّحة بخلفيتها السياسية من جهة والمغامرة الجمالية الأدبية من جهة ثانية، كان  من أهمّ قيادات الجبهة الشعبية مقاوما للمحتلّ وللرجعية العربية وللمرض [2] ومع ذلك وجد القدرة ليعطي بعضه خالصا للأدب وخاصة للرواية من حيث هي مُنجز فني يطلب الكونيّة وإن كان ذا محمول سياسي.

غسّان كنفاني هو بالتّأكيد من أقدر الروائيين العرب على “تفضية الأمكنة”  في سرده الروائي [3](La spatialisation des lieux)  فيخلّصها من بعدها الجغرافي المرجعي ويحلّق بها في عالم المعاني والقيم الكونيّة، “فالمكان – عنده- هو المادة التي يتشكل منها الفضاء  الذي يتخذ عبر مسار الحكاية جوهره الذهني الاستعاري “.

كان غسّان كنفاني مثالا فريدا [4] للجمع بين الالتزام السياسي والحرّية الجماليّة، فبعض رواياته فيها تجريب وانفتاح على آخر أساليب السرد الروائي في زمنه (استفادته من تيار الوعي في روايته “ما تبقى لكم” مثلا)، وقد يكون هذا الجمع هو أخطر ما لاحظه العدو الصهيوني ليعجّل باغتياله، فأعطى بموته الدليل على جدوى الكلمة وفعلها.

وليس من الصدفة في شيء أن تكون الأرض موضوعا مركزيا في روايات كنفاني خاصة وفي الرواية الفلسطينية والعربية عامة، فلقد كان الفلسطينيون الشاهد الأبرز على فقدان الأرض والبيت و”العش الأليف” على حد عبارة غاستون باشلار، على فقدان الأرض زمن الاحتلال المغتصب قاتل الأطفال ومُهجّرهم.

 الفلسطيني منذ صغره متمسّك بالكلمة لأن أرضه وبيته مهددان باستمرار، ليست الكلمة والذاكرة والحلم عنده ترفا ولا مجرد لعبة مجازية إنما هما عماد للبيت الفلسطيني الأكثر أمانا منذ بدأ التهجير، لذلك يجب أن نتوقف عن بلاهة الاندهاش من فصاحة الأطفال الفلسطينيين أمام أعين الكاميرا وخاصة حين ينظرون في أعين جنود العدوّ.

الشعب الفلسطيني محكوم بالشعر والشعريّة لأن الشعر عنده ليس مجرّد كلمات منظومة موقّعة، إنه أسلوب حياة ومسألة بقاء، فأمام تهاوي العالم واندحار القيم كلّها لا خيمة تؤويه وتقيه غير خيمة الكلمة.

ربما لهذا كلّه ولغيره لم يفلت كنفاني طيلة حياته الغنيّة الشجاعة الحزينة عنان الكلمة، لذلك علينا أن نحتفي به في هذه الأيام الصعبة الموجعة، فيكون التذكير برواياته وقصصه ومسرحياته وإعادة نشرها وتوزيعها شكلا من أشكال مساندة القضية الفلسطينية عبر تجذيرها في فضاء الذاكرة الإنسانية بالكلمة الكونية الخالدة.  

إني أرى غسّان يستيقظ صباح السّابع من أكتوبر، فيقول مبتسما بعد سماع أول الأخبار: “ها نحن ندقّ على جدران الخزّان بقوّة هذه المرّة”.


هوامش:

[1]نشر غسّان كنفاني أربع روايات مكتملة هي: رجال في الشمس، ما تبقى لكم، أم سعد، عائد إلى حيفا، ثم نشرت بعد موته روايات أخرى لم يتسن لغسّان إنهاؤها وهي : برقوق نيسان، الأعمى والأطرش، من قتل ليلى الحائك؟

[2] كان مصابا بمرض السكري

[3]  اهتممت بهذا الموضوع في نطاق رسالة ماجستير في الأدب الحديث نافشتها سنة 2006 بكلية سوسة للآداب، لجنة متكونة من الأساتذة الأفاضل: أحمد حيزم رئيسا، محمد رشاد ثابت مؤطرا وعبد الله تاج مقررا، وقد أنجزتها تحت عنوان “إنشائيّة الفضاء في قصص غسّان كنفاني الروائي”

[4]  يقول يوسف إدريس في مقدمة الأعمال الكاملة لغسّان: “أحسست لأول مرة بفخر أني كاتب من كتاب القصة العربية حين استشهد غسان كنفاني”.

أكمل القراءة

صن نار