تابعنا على

جلـ ... منار

الجولة قبل الأخيرة في الحرب الأوكرانية!

نشرت

في

نهاية حقبة ما بعد الحرب الباردة: مغامرة روسيا في أوكرانيا تعيد تشكيل النظام  العالمي برمته | مركز الجزيرة للدراسات

“إنها ضربة فى الظهر”.
كان ذلك توصيفا أطلقه الرئيس الروسي “فلاديمير بوتين” للتمرد العسكري الذي قادته قوات “فاغنر”، الشركة العسكرية الخاصة، التي نشأت تحت عباءته
.

عبد الله السنّاوي

كل شىء مضى مفاجئا وسريعا، لم تتوقع أجهزة الاستخبارات الغربية أن يحدث مثل هذا التمرد، أو أن تهتز صورة الجيش الروسي وسلطة بوتين نفسه على هذا النحو الذي رآه العالم، قبل أن يتقوض التمرد بمصالحة رعاها الرئيس البيلاروسي “ألكسندر لوكاشينكو”.
في
لحظة بدا سيناريو الصدام المسلح بين الجيش وفاغنر غير مستبعد على أبواب موسكو، كأنه هدية عسكرية وسياسية لحلف “الناتو” تلحق بروسيا هزيمة استراتيجية لم تتحقق في ميادين القتال الأوكرانية.

وفي لحظة أخرى سرت تصورات أن كل شىء جرى ترميمه، التمرد أنهي بدون صدام بالسلاح، وقائده غادر إلى بيلاروسيا، وبوتين أكد سلطته تحت قباب الكرملين.
الحقيقة أنه يصعب ترميم الشروخ العميقة التي كشفها التمرد المسلح فى أي مدى منظور.
شروخ في أوضاع الجيش ومستوى أهلية وكفاءة قياداته العليا، وشروخ في المسؤولية السياسية وصناعة القرار بدولة كبرى مثل الاتحاد الروسي.
بأي نظر موضوعي الشرخان مترابطان ويصعب الفصل بينهما، شرخ واحد في حقيقة الأمر.
أخطر ما انطوى عليه تمرد فاغنر التشكيك في شرعية ما أطلق عليها “العملية العسكرية الخاصة”، هل كانت ضرورية لحفظ الأمن القومي الروسي كما يرى بوتين، أم أنها كانت خطأ في التقدير السياسي والتخطيط العسكري حرضت عليه مجموعة ضيقة حول الرئيس الروسي على ما قال “يفجينى بريغوجين” مؤسس الميليشيا المسلحة.

إذا لم يتحسن الأداء العسكري فإن الثقة العامة في قرار الحرب سوف تتقوض تماما.
بقوة الحقائق طالت الحرب الأوكرانية، استنزفت أطرافها المباشرة وغير المباشرة، وامتدت تأثيراتها الكارثية إلى العالم بأسره دون أفق سياسي لأية تسوية ممكنة.
بحسابات السياسة والسلاح فإن ما يطلق عليه “الهجوم الأوكرانى المضاد” يكتسب خطورته من أن نتائجه قد ترسم الخطوط العريضة في مصير الحرب.
بالضبط نحن أمام الجولة قبل الأخيرة قبل الذهاب لتسوية شبه محتمة في نهاية المطاف.

قبل تمرد “فاغنر” كانت صورة الموقف العسكري على النحو التالي:
إذا ما نجحت القوات الأوكرانية في إحداث اختراقات يعتد بها في ميادين القتال، فإن ذلك سوف يكون داعيا لمزيد من التسليح والتدريب وضخ الأموال الغربية في الشرايين الأوكرانية على أمل إلحاق هزيمة استراتيجية بموسكو والحفاظ على مقومات النظام الدولي الحالى، الذي تنفرد بقيادته الولايات المتحدة منذ سقوط جدار برلين وانهيار الاتحاد السوفييتي السابق مطلع تسعينات القرن الماضي.

لم يكن هناك ما ينبئ بتغييرات ميدانية يعتد بها في معادلات القوة على الأرض، وكانت تلك معضلة ماثلة أمام صناع القرار فى حلف “الناتو”.
أما إذا أخفق الهجوم المضاد في تحقيق أهدافه المعلنة، أو توقفت اختراقاته عند حدود جزئية، كما هو حادث الآن، فإن ذلك سوف يكون داعيا لطرح سؤال الجدوى على الاقتصادات الغربية المنهكة وتبدأ الضغوطات المضادة من داخل القارة الأوروبية، والولايات المتحدة نفسها، لإنهاء الحرب والبحث في وسائل أخرى غير الاستغراق في المستنقع الأوكراني.

في أوضاع الاستنزاف المتبادل لا يستبعد الطرفان المتصارعان، روسيا وحلف الناتو، سيناريو التسوية السياسية، غير أن كليهما غير مستعد أن يسلم بهزيمة مبكرة، أو أن يقبل باشتراطات الطرف الآخر.
إنه الصراع على مستقبل النفوذ والقوة في عالم يتغير.
الحرب غير محتملة، هذا صحيح، لكن التسليم بالهزيمة كارثة استراتيجية كاملة.
السيناريو الأرجح أن تمتد الحرب إلى جولة أخيرة بعد انقضاء الجولة الحالية قبل الحديث جديا فى فرص وسيناريوهات التوصل إلى تسوية سياسية وفق موازين القوى على الأرض.

يستلفت النظر في الجولة قبل الأخيرة دخول الرئاستين الأمريكية والروسية على خط حروب الدعايات قبل أن تستولي “فاجنر” على المشهد الإعلامي العالمي كله.
“جو بايدن” كاد يزاحم وزير خارجيته انطونى بلينكن في التعليق على مجريات الحوادث بالحرب الأوكرانية وما حولها من صراعات وصدامات سياسية واقتصادية.
ربما أراد أن يقول: “أنا قادر تماما على صنع القرار وتحمل مسؤولية الدفاع عن المصالح الأمريكية العليا”، غير أنه أمر بألا يصدر عن أي مسؤول أو دبلوماسي أمريكي أي تعليق على تمرد “فاجنر” حتى لا تكون مادة يستخدمها “بوتين” لكسب معركة وجوده.

و”فلاديمير بوتين” كاد يزاحم المتحدثين العسكريين الروس في التعليق على جولة القتال الحالية.
ربما أراد أن يقول إن قبضته محكمة على القرارين العسكري والسياسي في الكرملين، وأن الهجوم المضاد سوف يفشل لا محالة، ملوحا بالخيار النووي إذا ما تهددت حدود الدولة الروسية.
بعكس “بايدن” زاد معدل حضوره الإعلامى بعد التمرد العسكرى واصفا الذين قاموا به بـ”الخونة”.

دفع بوتين ثمنا باهظا من هيبته الشخصية برهانه على بناء جيش مواز موال له من المرتزقة بعد عام (2014) إثر استعادة شبه جزيرة القرم، وروسيتها ثابتة تاريخيا.
لعبت “فاجنر” دورا مؤثرا خارج روسيا شاملة دولا في أفريقيا والمنطقة العربية ودورا أكثر أهمية فى حسم الصراع على باخموت المدينة الأوكرانية الاستراتيجية بعدما فشل الجيش فى حسمها.

بعكس قواعد الانضباط العسكري أطلق مؤسس “فاجنر” اتهامات خطيرة لقيادة الجيش دون أن يتدخل بوتين، خشية إغضاب أى طرف، وكانت النتيجة إفلات كل الخيوط من يده، لا قيادة الجيش تحدثت أثناء ساعات الأزمة، كأنها اختفت من الوجود، ولا قيادة فاغنر أبدت احتراما لتوجيهاته وتحداه مؤسسها أن روسيا تحتاج رئيسا جديدا.
وصلت قمة المأساة الروسية عند سيطرة ميليشيا من المرتزقة على المنطقة العسكرية الجنوبية فى “روستوف” دون مقاومة.

رغم مشاعر البهجة المعلنة والمكتومة فى الغرب لم يكن هناك تقدم عسكرى أوكرانى كبير يستثمر في الاضطراب الشديد الذي ضرب القوات الروسية.
التداعيات ما زالت في أولها.. تطور بعد آخر وجولة بعد أخرى تؤكد الحقائق نفسها في الحرب الأوكرانية، أنها صدام على المصالح والنفوذ وأحجام القوة في عالم يتغير، وقد كانت أوكرانيا مسرحا مختارا لاختبارات القوة لا جوهر الصراع نفسه.
بمعنى آخر، يدفع الشعب الأوكراني الثمن فادحا لحرب نظام دولي استهلك زمنه وقدرته على البقاء.

الحسابات الخاطئة أطالت المعاناة الأوكرانية، لا روسيا لحقت بها هزيمة استراتيجية، ولا الغرب سلم للسلاح الروسي بمطالبه الأمنية.
رغم التصعيد حافظ الطرفان الدوليان بدرجة أو أخرى على قواعد الاشتباك.. “الناتو”، رغم اندفاعه تسليحا وتدريبا وتخطيطا وإمدادا استخباراتيا، يحرص على نفي انخراطه في الحرب.
روسيا تلمح إلى ذلك الانخراط دون إعادة توصيف للحرب كصدام مع الناتو، فلكل توصيف حساباته وتكاليفه.

بمقتضى الأحوال الراهنة تلوح روسيا أن سلامة أراضيها خط أحمر حتى كادت تدخل في احتراب أهلي داخل عاصمتها موسكو.
الورقة النووية حاضرة في المشهد المتأزم كـ”عنصر ردع”، يلوح به دون استخدامه، لكن قد يفلت الزمام فى سيناريو أو آخر.
بافتراض شبه مستحيل لكنه طرح نفسه: ماذا يحدث إذا ما تمكنت “فاجنر” من السيطرة على المخزون النووي الروسى؟

الغرب أقلقه السؤال.. والقيادة الروسية على لسان نائب رئيس مجلس الأمن القومي “ديمترى ميدفيديف” قالت: “لن نسمح”.. دون أن توضح كيف؟
الحقيقة الكبرى في المشاهد المضطربة أن النظام الدولي القديم تهالك تماما وسقوطه مسألة وقت بغض النظر عن الطريقة التي سوف تنتهى بها الحرب الأوكرانية.

أكمل القراءة
انقر للتعليق

اترك تعليقا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

جلـ ... منار

الكائن المفرد

نشرت

في

Peut être une image de laurier des montagnes

قال لي عندما عجز عن مواجهتي، وبعد سيل من الشتائم: “الله صنعك وكسر القالب”! وهو تعبير يستخدمه السوريون عندما يسخرون من شخص ما.

وفاء سلطان
وفاء سلطان

بالنسبة لي، نعم عندما صنعني الله كسر القالب، ولَم يصنع به شخصا آخر على شاكلتي. أما بالنسبة لك،فأنت حر، إذا أردت أن ترى نفسك كما يقال بالإنكليزي cookie cuter، أي مصنوعا بنفس قالب المعمول الذي صنع بقية الأقراص في صينية واحدة!

كانت ستي أم علي تجيد صنع الكبيبات المحشية بالسلق، ومن باب الطرفة كانت تحشي قرصا واحدا خلافا عن الأقراص البقية بالحمص المسلوق بدلا من السلق، وتقول لنا: سيكون محظوظا من يعثر بالصدفة على هذا القرص.

…….

لطالما شعرت، ومنذ نعومة أظفاري، بأنني ذلك القرص الفريد من نوعه في طنجرة مليئة بالأقراص المنسوخة من نفس المادة،ولطالما أسعدتني فرديتي وإحساسي بتميزي!…

في المرحلة الابتدائية كنت محط سخرية الطلاب بسبب قصري وصغر حجمي مقارنة بغيري، وكلما تبلورت قدراتي الدراسية كلما صار الآخرون يرونني أطول مما ظنوا، وأكبر مما توهموا.

بقيت هكذا حتى هذه اللحظة، مقتنعة أن ما يعيبني يتلاشى أمام ما يميزني!

بالمناسبة، لم ألبس في حياتي حذاء نسائيا ذا كعب عال، إلا مافرضته بعض المناسبات النادرة، لأن الصورة التي أحملها في ذهني لنفسي، تظهرني أشمخ من أطول نخلة دخلت كتاب غينيس للأرقام القياسية.

…….

كثيرة هي المرات التي أشعر خلالها أن الغيرة تنهش قلب شخص ما، فأتساءل بيني وبين نفسي: هل غرت في حياتي من شخص ما؟

أحاول جاهدة، ومن خلال استرجاع شريط حياتي، أن أتذكر موقفا واحدا شعرت عنده بالغيرة الحقيقية من أحد، فلا أذكر!

لقد كتب لي قدري أن أقابل بعضا من أشهر وأغنى وأهم الشخصيات في العالم، ولَم أتلاش أمامهم، بل كان ينتابني إحساس غارق في لغزيته، بأنني ذلك القرص الذي ميزته أم علي في طنجرتها، ووصفته بانه قرص الحظ!

حتى بين أكثر الأشخاص تميزا في العالم، لم أشعر يوما أنني أقل تميزا.

…….

جمعني لقاء مرة مع Rupert Murdoch ،العملاق الملقب بأبي الإعلام، والذي يقال أنه يملك الإعلام في العالم كله. كنت أجلس على يمينه، وضع يده على كتفي، وخضنا في حديث، شعرت خلاله بأنني المعلم وبأنه التلميذ، علما بأنه أكبر مني عمرا بأكثر من ربع قرن، ويزن بيتي ذهبا وفضة، وإنجازاته وشهرته ضربت كل الآفاق!ا

انتابني هذا الإحساس لسببين اثنين، لا ثالث لهما:- أولهما وأهمهما إيماني بتميزي، وبأن القالب الذي صنعت فيه، يختلف عن قالبه، ولا يقل أهمية!-

وثانيهما: تواضعه ورفعة أخلاقه، وقدرته على الإصغاء!لو لم يكن هو الآخر مؤمنا بتميزه لما اكتسب تلك الصفات!

…….

هذا الإحساس لو امتلكته ستعيش حياتك سعيدا وراضيا، لأنك لن تقارن يوما بينك وبين الآخرين، ولو فعلت لما أزعجتك الفروق، بل على العكس لاعتبرتها برهانا على أن الله قد صنعك وكسر القالب!

هناك فرق بين أن تكون مغرورا وبين أن تشعر بأنك مميز. الغرور هو آلية دفاعية يحاول اللاوعي أن يتبناها ليغطي بها إحساسا عميقا بالدونية.

هذه الآلية تمنح الشخص شعورا مؤقتا بالراحة، لا يلبث أن يعمق شعوره الحقيقي بالدونية. أما الإحساس بالتميز، فينبع من ثقة دفينة وثابتة بالنفس، تساعدك على أن تكون متواضعا، لأنك تشعر بأنه لا أحد يستطيع أن يلغي الآخر بتميزه، إذ أن كل واحد متميز بطريقته، كما لو كنت قلما في علبة التلوين، لونك يميزك عن الجميع، ولون كل قلم آخر يميزه!

في لوحة الحياة للونك دور، وللألوان الأخرى أدوارها.

….كبر هذا الدور أم صغر لا يهم، لأن اللوحة لا تكتمل بدونه!

…….

لم تكن الحياة في نظري يوما حلبة صراع يتهاوش فيها الواحد مع الآخرين، بل هي بستان لا زهرة فيه تشبه الأخرى، والزهرة التي ترفض أن تشرئب معتزة بفرديتها وجمالها، ستُمسخ عشبة ضارة تعيش ملتصقة بالتربة، ومتطفلة على جذور الأزهار!

أذكر قولا لمفكر أمريكي نسيت اسمه:

Being the best is great, I’m number one.But being unique is greater, I’m the only one.

(سأكون عظيما عندما أكون الأفضل، وسأعتبر نفسي الأول…لكنني سأكون أعظم عندما أعيش فرديتي، وسأعتبر نفسي الأوحد….)

…….

لم أسعَ في حياتي لأنافس الآخرين على الأفضل، وهذا أقل ما يعنيني،بل سعيت ـ وسأظل أسعى ـ لأعيش فرديتي و تميزي!

هذا الأمر حررني من نار الغيرة وسطوة الغل الذي يخلفه الصراع، وسربلني بسكينة الرضى ونشوة الإعتزاز بالذات!

لستُ ماري كوري ولم أسجل يوما براءة اختراع،

كذلك، ليست ماري كوري وفاء سلطان، ولم تقفز يوما فوق كل الحواجز والثوابت والتابوهات لتساهم في إعادة خلق إنسان!

هكذا نحن في الحياة مختلفون ومميزون…

لكن لكل منا نفس القيمة ونفس الأهمية،إلا – اللهم- من آمن أنه ليس سوى مجرد قرص محشو بالسلق في طنجرة أم علي… عندها سيرى نفسه أقل شأنا من قرص الحظ في تلك الطنجرة، وسيعيش عمره دون أن يشعر بتميزه،أو أن يلعب الدور الذي تميز ليلعبه.

نعم كل منا جاء إلى الحياة فريدا من نوعه، فالله يكسر القالب كلما صنع إنسانا، وقدرته الإبداعية تتجسد في تنوع تلك القوالب!

…….

اكتشف مايميزك، وقف شامخا ومعتزا بنفسك، حتى ولو وجدت نفسك تشرئب وحيدا ومختلفا عمن حولك، كبذرة حملتها الرياح وحطت بها في حقل مغاير لطبيعتها، فنمت زهرة مميزة عما يحيط بها.

…….

تذكر بأن الطبيعة قد ميزت كل منا، ليلعب دورا مختلفا وليجعل لوحة الحياة أجمل، لا ليعبث به. كلما شعرت بقبحك تأكد أنك تمارس دورا غير دورك، وكلما شعرت بجمالك كان ذلك دليلا على أنك تعيش حقيقتك، وتترك وراءك بصمات أصابعك…

أكمل القراءة

جلـ ... منار

واشنطن والدولة الفلسطينية… حقّ النقض وعربدة التناقض

نشرت

في

استخدام واشنطن حقّ النقض (الفيتو)، لتعطيل مشروع قرار يطالب بمنح فلسطين العضوية الكاملة في الأمم المتحدة، ليس آخر حلقات المسلسل الأمريكي في هذا الصدد، فالحلقات المقبلات لن تُعدّ ولن تُحصى أغلب الظنّ. لعله، في المقابل، أحدث مظاهر التناقض الفاضح في السلوك الدبلوماسي للقوّة الكونية الأعظم، كلما اتصل الأمر بمصالح دولة الاحتلال الإسرائيلي.

صبحي حديدي
صبحي حديدي

والأصل في الأمر لا ينطوي على انحطاط صارخ في طرائق التلفيق وحدها، بل يشمل أيضاً ذلك البؤس الهابط في تدبّر اللغة والمفردات، والتحايل على معانيها الأبسط ودلالاتها الدنيا. فما من إدارة أمريكية تخلّت، صراحة ونهائياً، عن خرافة حلّ الدولتين كمخرج لـ”نزاع” فلسطيني ـ إسرائيلي لا يخمد يوماً حتى يندلع أشدّ اشتعالاً؛ ومع ذلك، ما من إدارة أمريكية إلا واستخدمت حقّ النقض لتعطيل أيّ قرار ينقل التمثيل الفلسطيني في الأمم المتحدة من مستوى المراقب إلى العضوية الكاملة. لا أحد، في أيّة إدارة، سوف يضع السلوك الأمريكي تحت توصيف التناقض، حتى حين يجنح هذا أو ذاك من كبار ممثلي الإدارة إلى منطق كسيح ركيك في تبرير استخدام الفيتو.

الطريف قد يتمثل في أنّ حلقات المسلسل لا تتكرر، على النحو الأعلى إثارة للملل، فحسب؛ بل يحدث أيضاً أن يتكئ التبرير الأمريكي الأحدث لاستخدام الفيتو على تناقض من قلب التناقض، أو في محيطه وأمامه وخلفه. وهكذا يقول وزير الخارجية الأمريكي إنّ “الوصول إلى دولة فلسطينية يتطلب تحقيق التهدئة في غزة أوّلا”، ولكنه يتناسى أنّ واشنطن أفشلت مشاريع قرارات وقف إطلاق النار أو هدنة في حرب إبادة تتواصل منذ ستة أشهر ونيف.

ولا سبيل، أيضاً، إلى مساءلة هذا المنطق الأمريكي، المُعاق ذاتياً وإرادياً في الواقع، بصدد تناقض تكويني آخر، يسير هكذا: إذا كان البيت الأبيض يريد دولة فلسطينية عبر الوسائل الدبلوماسية فقط (وكأنّ الأمم المتحدة ساحة حرب وليست هيئة دبلوماسية)؛ فكيف ستتحقق معجزة مثل هذه إذا كان الطرف الآخر، الإسرائيلي، لا يرفض فكرة الدولة الفلسطينية من الأساس فقط، بل يأبى الدخول في أيّة مفاوضات مع أيّ فريق فلسطيني، حتى إذا اختُزل إلى مقاطعة/ شبه بلدية في رام الله؟

طرافة أخرى ذات صلة بحكاية (لعلها أقرب إلى الكوميديا، منها إلى التراجيديا) العلاقة الأمريكية مع الهيئة الأممية ذاتها؛ فقبل المندوبة الدائمة الحالية، ليندا غرينفيلد، كانت سوزان رايس قد رفعت بطاقة الـ “فيتو” مراراً وتكراراً في وجه أيّ إجماع دولي ضدّ أية من جرائم دولة الاحتلال. وقبل الاثنتين شهد العالم إصرار البيت الأبيض على تعيين جون ر. بولتون في المنصب ذاته، رغم أنّ جوهر موقف الرجل من المنظمة التي سيعمل فيها كان، ببساطة: الاحتقار التامّ!

كوندوليزا رايس، وزيرة الخارجية آنذاك، دافعت عن بولتون بطريقة مبتكرة حقاً: إنه ليس أوّل كارهي هيئة الأمم في لائحة مندوبي أمريكا الدائمين. وبالفعل، قبله كان هناك باتريك موينيهان، وجين كيركباتريك، و… كانت مادلين ألبرايت.

ففي مطلع عام 1993، أثناء تقديم شهادة تثبيتها في المنصب هذا، قالت ألبرايت إنها “لن تسمح بالتنازل عن السيادة الأمريكية للأمم المتحدة، في منطقة ذات مصالح حيوية للولايات المتحدة في أيّ مكان من العالم”. ولعلّ ذلك “العالم” يتذكّر، ليس دون مزيج خاصّ من الاستطراف والاستياء، صراع الديكة الذي نشب بين ألبرايت والأمين العام الأسبق بطرس بطرس غالي، حول صلاحيات مجلس الأمن الدولي بالذات؛ حين كانت تتهكم: “أليس من المضحك أن يعتقد أنه قادر على استخدام الفيتو ضدّ سياسات الولايات المتحدة”؟

كان مضحكاً بالفعل، ودفع الرجل ثمنه سريعاً؛ والحال مضحك اليوم أيضاً، وهكذا سيبقى كلما توجّب أن ترتفع يد أمريكية لإعلان النقض و… وعربدة التناقض!

أكمل القراءة

جلـ ... منار

روسيا وغزة من المسافة صفر!

نشرت

في

ما أهمية الدعوة الروسية لعقد لقاء بين الفصائل الفلسطينية لإنهاء الانقسام؟ -  14.02.2024, سبوتنيك عربي

مرة بعد أخرى يطرح السؤال الروسي نفسه تحت وهج النيران فى غزة بحثا عن شيء من التوازن الدولي المفتقد منذ انهيار الاتحاد السوفييتي مطلع تسعينات القرن الماضي وانفراد الولايات المتحدة بقيادة العالم والتحكم فى مصائره‫.‬

عبد الله السنّاوي
عبد الله السنّاوي

هناك الآن خشية واسعة من الانجرار المحتمل إلى حرب إقليمية واسعة تشمل إيران ودولا أخرى تتداخل معها المصالح الاستراتيجية الروسية‫.

ما طبيعة وحدود الدور الروسي إذا ما أفلتت كتل النيران من مكامنها؟

روسيا ليست الاتحاد السوفييتي هذه حقيقة يستحيل إغفالها قبل إصدار الأحكام والتحليق في فراغ التصورات.. لكنها لاعب جوهري لا يمكن تجاهله في العلاقات الدولية‫.‬

قوة كبرى، لكنها ليست عظمى في أوضاعها الحالية من اقتصاد مستنزف بأثر العقوبات المفروضة عليها وتراجع قدراتها على الإسناد الاستراتيجي فإنه من غير الممكن التعويل عليها فى ردع الدور الأمريكي‫.‬

حاولت السياسة الروسية منذ اندلاع الحرب أن تجد لنفسها دورا مؤثرا بقدر ما تطيقه أحوالها مدفوعة بمصالحها الاستراتيجية في أكثر أقاليم العالم أهمية وخطورة وتأثيرا على مستقبلها المنظور‫.‬

أدانت العدوان على غزة دبلوماسيا وسياسيا في المنتديات الأممية دون أن تدخل طرفا مباشرا في الأزمة المشتعلة بالنيران والمخاوف‫.‬

إذا ما نشبت حرب إقليمية واسعة يصعب أن يظل الدور الروسى في حدوده الحالية مكتفيا بإدانة العدوان على غزة، أو استخدام حق النقض في مجلس الأمن لإجهاض أية مشروعات قرارات أمريكية تعمل على إدانة المقاومة الفلسطينية، أو تمديد العدوان على غزة والتنكيل بأهلها‫.‬

وفق موسكو فإن مشروعات القرارات، التي دأبت الولايات المتحدة على طرحها، “مسيسة بشكل مبالغ فيه”‫.‬

عندما مررت الولايات المتحدة بالامتناع عن التصويت قرارا قدمته عشر دول غير دائمة العضوية في مجلس الأمن ينص على وقف مؤقت للحرب خلال شهر رمضان، اغتالته في اللحظة نفسها باعتباره (غير ملزم)‬ ووفق واشنطن: المواقف الروسية غير بناءة في محاولة حل الصراع‫.‬

كانت تلك حدود المساجلة الاستراتيجية الأمريكية مع موسكو‫.‬ تركزت الإدانات الروسية على واشنطن أكثر من تل أبيب، على الطرف الداعم للحرب لا الطرف المباشر فيها‫.‬ إنها حسابات معقدة تحاول أن تتضامن مع غزة دون أن تلحق أضرارا تربك أية تفاهمات سابقة مع إسرائيل بشأن قواعد الاشتباك فى سوريا‫.

‬ لم يكن خافيا على أحد المكاسب الاستراتيجية المفاجئة التي جنتها روسيا بأثر اندلاع الحرب على غزة‫.‬

تراجعت أولوية الحرب الأوكرانية في الخطابين السياسي والإعلامي الدوليين، حتى كادت تنسى وسط طوفان المآسي الإنسانية في القطاع المعذب‫.

‬ رافقت حرب غزة بتداعياتها وأجوائها ومساجلاتها أوضاعا عسكرية مستجدة على الجبهة الأوكرانية لم تعد سيناريوهات كسب الحرب وإذلال موسكو واردة‫.‬

عاد الحديث عن حلول سياسية، أو الذهاب مجددا إلى التفاوض دون أن تبدي موسكو حماسا، فالوقت يعمل لصالحها وسيناريوهات تقليص تمويل الحرب غير مستبعدة‫.‬

إذا ما انتهت الحرب على غزة الآن فإن موسكو سوف تتصدر رابحيها‫.‬

كلما تأكد المأزق الأمريكي المزدوج في حربي غزة وأوكرانيا يستشعر الكرملين ثقة كبيرة في مستقبله المنظور، أن يكسب حربه فى أوكرانيا، يحفظ أمنه القومي عند حدوده المباشرة، ويفرض أغلب مطالبه على الحلفاء الغربيين‫.

‬ خسارة الحرب الأوكرانية قد تفضي إلى تفكك الدولة الروسية، وكسبها يساعد إلى حدود بعيدة في استعادة الأوزان الروسية السابقة، أو تأسيس نظام دولي جديد على أنقاض الهيمنة الأمريكية شبه المطلقة‫.‬

بصورة مباشرة تداخلت روسيا في ملف المصالحة الفلسطينية حتى تكون هناك إجابة أخرى عن سؤال اليوم التالي‫.‬

دعت إلى اجتماع في عاصمتها لفصائل المقاومة، شملت الدعوة الحكومة الفلسطينية، توصلت الاجتماعات إلى مخرجات تساعد على إنشاء حكومة فلسطينية من التكنوقراط وإعادة بناء منظمة التحرير الفلسطينية بضم حركتي “حماس” والجهاد”، غير أن تلك المخرجات تقوضت تماما بإعلان سلطة رام الله حكومة جديدة دون تشاور مسبق‫.‬

الأوزان والأدوار كلها الآن على المحك إذا ما جرى الانجراف إلى حرب إقليمية واسعة‫.‬

المصالح الروسية عند المسافة صفر.. في مرمى النيران مباشرة‫.‬

انخراط روسيا فى أية حرب إقليمية مكلف وأثمانه لا تحتمل بالنظر إلى ما أصابها من إنهاك سياسي واقتصادي وعسكري في الحرب الأوكرانية‫.

‬ التجاهل شبه مستحيل وخسائره قد تفضى إلى هزائم استراتيجية لا قبل لموسكو على تحملها‫.‬ إنه مأزق استراتيجي محكم‫.‬

المثير هنا أن روسيا والولايات المتحدة لا تريدان، وليس من مصلحتهما بأي حساب، توسيع نطاق الحرب في غزة إلى صدامات إقليمية واسعة لا يعرف أحد كيف تنتهي‫.‬

إنه السؤال الأكثر إلحاحا من المسافة صفر وإجابته تتوقف على طبيعة وحجم الرد المنتظر على استهداف القنصلية الإيرانية في دمشق‫.‬

الرد قادم لا محالة، والأطراف كلها باستثناء الحكومة الإسرائيلية تتمناه محدودا رهانا على أنها تساعد “بنيامين نتنياهو” في بقائه على رأس الحكومة حتى لا يزج به خلف قضبان السجون بتهمتيى الاحتيال والرشى فضلا عن مساءلته في تقصيره الفادح يوم السابع من أكتوبر

في السياق يسعى “نتنياهو” إلى اقتحام رفح، لكنه واقع تحت ضغط الإدارة الأمريكية التي لا تكف عن طرح بدائل عليه، خشية أن يفضى ذلك الاجتياح إلى مجازر بشرية تنال من مليون ونصف المليون نازح في تلك المدينة الحدودية الضيقة‫.

‬ من وقت لآخر تتصاعد احتمالات اشتعال الجبهة اللبنانية بكاملها، أو نقل مركز المواجهات إلى الشمال بذريعة الأمن وعودة النازحين الإسرائيليين‫.‬

جر المنطقة كلها إلى حرب واسعة هو أخطر سيناريوهات التصعيد الإسرائيلي المحتملة‫.‬

والأمريكيون لم يتورعوا عن التهديد بالتدخل المباشر إذا ما تعرضت إسرائيل إلى الخطر‫.‬ هكذا فإن سيناريو الحرب الإقليمية الواسعة لا يمكن استبعاد الانزلاق إليه‫.‬

حسب التأكيدات الروسية فـ”إن أحدا لم يطلب منا أن نتدخل للتهدئة”‫.‬

كانت تلك إشارة مبطنة إلى إدراكها قدر ما يصيبها من أضرار استراتيجية إذا ما اندفعت كتل النيران إلى المنطقة كلها واستعدادها في الوقت نفسه للعب أية أدوار تمنع الحرب الإقليمية المحتملة‫.‬

ـ عن “الشروق” المصرية ـ

أكمل القراءة

صن نار