تابعنا على

جلـ ... منار

الكون محبة … لو صافيناه

نشرت

في

منذ حوالي خمس وعشرين عاما، كانت أنجيلا ابنة شهور، كنت اسوق سيارتي وهي في كرسيها الخاص على المقعد الخلفي. الطقس حريق، والسيارة قديمة والمكيف مفلّس.تعطّلت بي وأنا أعبر مدينة تعتبر الأخطر في كاليفورنيا، سكانها من العرق الأسود، وعندما تأخذ بعين الاعتبار أن أعلى نسبة من الجرائم يرتكبها السود في أمريكا، لا شك أن امرأة سترتجف خوفا عندما تقع فريسة سهلة في مدينتهم.

وفاء سلطان

لم تهتز عندي شعرة!

حملت طفلتي واقتربت من تلفون عمومي، ورحت أفتش غن بعض القطع المعدنية من حقيبتي.

نقصني ” دايم” أي قطعة بقيمة عشرة سنتات لأدفع ثمن مكالمة لزوجي.بدا الحل مستحيلا، فالشارع خال من الانس والجان، وكأن حظرا “لمنع التجول” قد طُبق بشدة، ولم يلح في الافق القريب أو البعيد أي محل تجاري.تمسكت بالأمل، وطفا على سطح وعيي يقين من أن مساعدة كونية في طريقها.لم يمكث هذا اليقين طويلا حتى تحول إلى واقع. إذ لمحت رجلا مشردا (هومليس) يخرج بثيابه الرثة من أحد الأزقة وهو يعرج، خرج مادا كفه المليء بالقطع المعدنية وراح يمشي باتجاهي.حييته بلطف، وقلت: هل تقايضني ورقة دولار بقطعة “دايم”؟

فرد: خذي ما تشائين واحتفظي بدولارك!

قلت: ولكنك تبدو محتاجا!

قال: لو أخذت الدولار سأبدو وكأنني بعتك دايم بدولار، وهذا ليس سلوكا جيدا!

مازالت فلسفة هذا الرجل الشحاذ حتى تاريخ تلك اللحظة تدغدغ مشاعري وتبرهن لي أن الكون خيّر ودوما ينثر خيره.

…………

بعد تلك الحادثة بزمن قصير كنا في طريق جبلي إلى مكان ما….انفلقت عجلة السيارة، فاضطررنا للوقوف على منعطف خطير.

لم يعثر زوجي في الصندوق الخلفي على العجلة البديل، كان قد تأكد من سلامتها قبل أن نغادر البيت ونسى أن يعيدها إلى مكانها في السيارة.فاحترنا ماذا نفعل وتسمرنا في مقاعدنا قلقين على سلامة الأطفال.لم تمض دقائق إلا وسائق كبس على فرامله وترجل صائحا: هل تريدون مساعدة؟

شرحنا له الموقف،فركبنا معه وعدنا إلى البيت، وظل مرافقا لزوجي حتى عاد بالعجلة إلى السيارة وقام بتركيبها!

…………

مرة وفي طريقي إلى البنك تذكرت أنه لا يفتح قبل التاسعة صباحا، فعرجت على ماركت واشتريت بعض الحاجات.قررت أن أعيدها إلى البيت قبل أن أذهب إلى البنك خوفا على الحليب واللحوم. رحت لأنبش عن مفتاح البيت من الحقيبة فلم أعثر عليها في السيارة.

جن جنوني، وعدت إلى الماركت بسرعة تزيد عشرين ميلا في الساعة عن السرعة المسموح بها، فخسارة الحقيبة بمحتوياتها ستكون صاعقة.

دخلت الماركت واقتربت من المحاسبة، ثم قلت وأنا أرتجف: هل رأيت حقيبة سوداء؟؟؟ ارتبكت قليلا ثم قالت: اشكري هذين الزوجين اللذين أعاداها إليّ بعد أن عثرا عليها داخل عربة التسويق في المرآب!

كانا يقفا أمامها.فقال الزوج غاضبا: فتحت الحقيبة علني اعثر على هوية أو رقم هاتف، ولما لمحت ما بداخلها تكهربت وفضلت أن أتركها مع البائعة لتتصرف فيها، وتابع: هل أنت مجنونة لتحميلي معك هذا الكم من المال؟؟

قلت: صدقني كنت في طريقي إلى البنك!

ويبقى السؤال: لو لم يصادف الامر أنني وصلت في اللحظة التي همّ بها هذان الزوجان ـ وهما في الثمانين من العمر ـ بمغادرة المغازة، من يضمن لي أن تعترف هذه الشابة التي لم تتجاوز العشرين من عمرها بالحقيبة؟ فهي مازالت غضة، وقد تكون أكثر حاجة إلى المال وأقل حكمة وتعقلا من أن تعيدها!

…………

منذ حوالي اسبوعين اتفقت مع شخص ما على أن نلتقي في مرآب أحد البنوك لتوقيع وثيقة ما من البنك.وصلت قبله وأعلمته أنني أنتظر في سيارتي ذات الموديل كذا واللون كذا.تأخر قليلا فأسندت رأسي على المقود وكأنني أغط في نوم عميق.أعادتني إلى انتباهي طرقات خفيفة على الشباك،فتحت النافذة وإذا بامرأة تقول: هل أنت بخير؟ أم تحتاجين لمساعدة؟قلت: شكرا على اهتمامك، أنتظر أحدا هنا!

…………

هذا الصباح وبعد تغيّب دام عدة أيام عن مقهاي المفضل بسبب انشغالي، فاجأني مدير المقهى وإحدى العاملات وهما يغنيان لي Happy Birthdayويحملان لي قطعة من الكيك! تذكروا عيد ميلادي لأن أولادي وفي العام الماضي احتفلوا لي به في ذلك المقهى كيف تشعر لو أن غريبا تذكر عيد ميلادك بعد مضي عام من معرفته بتاريخه، ثم جاء ليبارك لك به؟؟؟ألا تشعر بأنك موصول به كونيا؟!!

…………

تلك هي حياتي، كانت ولم تزل وستبقى تواصلا كونيا،وانفتاحا لكل ماهو خيّر وجميل….ليس هذا وحسب، بل امتنانا لأصغر ذرة خير أتلقاها من الكون، ولكل جميل فيه!

في أقسى اللحظات وأشدها حرجا لا يغادرني ذلك اليقين من أن مساعدة كونية في طريقها إليّ وبسرعة الضوء…أعدّل دائما جهاز الارسال والاستقبال الكامن في خفايا روحي ليتناغم مع الجهازالكوني للاستقبال والارسال،

فلا يفوتني دفق منه أيا كان حجم ذلك الدفق، والكون لا يتدفق إلا يسرا وثراء

…………

نعم أنا ثرية وميسورة ليس بسبب حجم حسابي البنكي، الذي ـ وفي حقيقة الأمرـ بالكاد يسد الفواتير ومتطلبات الحياة في أمريكا، وما أكثرها!!

بل أنا ثرية وميسورة لأنني موصولة بالحساب البنكي للكون،وهذا الحساب يعطيك حسب حاجتك وحسب درجة تناغمك معه وانفتاحك عليه، والأهم من ذلك بكثير: يعطيك حسب درجة قبولك لأن تكون معبرا ـ وليس حاجزا ـ لكل دفق يصلك منه

…………

يقول العالم الروحاني الهندوسي المتصوف :

Vivekananda A man may have never entered a temple, nor performed any ceremony; but if herealize God within himself, and is thereby lifted above the vanities of the world, that manis holy man, a saint, call him what you will(

لو أن انسانا ما، لم يدخل في حياته معبدا ولم يمارس طقسا دينيّا، ولكنه استطاع أن يتعرف على الله الذي في عمقه، ومن ثمّ ارتقت به هذه المعرفة فوق غرور العالم،هذا الإنسان هو المقدس….هو قديس…..هو أي لقب جميل سوف تمنحه اياه!

…………

أما أنا فأقول: ما يتبقى من جمال روحك بعد أن تغادر معبدك وتترك وراءك طقوسك هو الجزء الكوني ـ أو الالوهي

ـ الذي يسكنك، وكل ما مثلّته داخل المعبد هو غرور العالم!

أكمل القراءة
انقر للتعليق

اترك تعليقا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

جلـ ... منار

الكائن المفرد

نشرت

في

Peut être une image de laurier des montagnes

قال لي عندما عجز عن مواجهتي، وبعد سيل من الشتائم: “الله صنعك وكسر القالب”! وهو تعبير يستخدمه السوريون عندما يسخرون من شخص ما.

وفاء سلطان
وفاء سلطان

بالنسبة لي، نعم عندما صنعني الله كسر القالب، ولَم يصنع به شخصا آخر على شاكلتي. أما بالنسبة لك،فأنت حر، إذا أردت أن ترى نفسك كما يقال بالإنكليزي cookie cuter، أي مصنوعا بنفس قالب المعمول الذي صنع بقية الأقراص في صينية واحدة!

كانت ستي أم علي تجيد صنع الكبيبات المحشية بالسلق، ومن باب الطرفة كانت تحشي قرصا واحدا خلافا عن الأقراص البقية بالحمص المسلوق بدلا من السلق، وتقول لنا: سيكون محظوظا من يعثر بالصدفة على هذا القرص.

…….

لطالما شعرت، ومنذ نعومة أظفاري، بأنني ذلك القرص الفريد من نوعه في طنجرة مليئة بالأقراص المنسوخة من نفس المادة،ولطالما أسعدتني فرديتي وإحساسي بتميزي!…

في المرحلة الابتدائية كنت محط سخرية الطلاب بسبب قصري وصغر حجمي مقارنة بغيري، وكلما تبلورت قدراتي الدراسية كلما صار الآخرون يرونني أطول مما ظنوا، وأكبر مما توهموا.

بقيت هكذا حتى هذه اللحظة، مقتنعة أن ما يعيبني يتلاشى أمام ما يميزني!

بالمناسبة، لم ألبس في حياتي حذاء نسائيا ذا كعب عال، إلا مافرضته بعض المناسبات النادرة، لأن الصورة التي أحملها في ذهني لنفسي، تظهرني أشمخ من أطول نخلة دخلت كتاب غينيس للأرقام القياسية.

…….

كثيرة هي المرات التي أشعر خلالها أن الغيرة تنهش قلب شخص ما، فأتساءل بيني وبين نفسي: هل غرت في حياتي من شخص ما؟

أحاول جاهدة، ومن خلال استرجاع شريط حياتي، أن أتذكر موقفا واحدا شعرت عنده بالغيرة الحقيقية من أحد، فلا أذكر!

لقد كتب لي قدري أن أقابل بعضا من أشهر وأغنى وأهم الشخصيات في العالم، ولَم أتلاش أمامهم، بل كان ينتابني إحساس غارق في لغزيته، بأنني ذلك القرص الذي ميزته أم علي في طنجرتها، ووصفته بانه قرص الحظ!

حتى بين أكثر الأشخاص تميزا في العالم، لم أشعر يوما أنني أقل تميزا.

…….

جمعني لقاء مرة مع Rupert Murdoch ،العملاق الملقب بأبي الإعلام، والذي يقال أنه يملك الإعلام في العالم كله. كنت أجلس على يمينه، وضع يده على كتفي، وخضنا في حديث، شعرت خلاله بأنني المعلم وبأنه التلميذ، علما بأنه أكبر مني عمرا بأكثر من ربع قرن، ويزن بيتي ذهبا وفضة، وإنجازاته وشهرته ضربت كل الآفاق!ا

انتابني هذا الإحساس لسببين اثنين، لا ثالث لهما:- أولهما وأهمهما إيماني بتميزي، وبأن القالب الذي صنعت فيه، يختلف عن قالبه، ولا يقل أهمية!-

وثانيهما: تواضعه ورفعة أخلاقه، وقدرته على الإصغاء!لو لم يكن هو الآخر مؤمنا بتميزه لما اكتسب تلك الصفات!

…….

هذا الإحساس لو امتلكته ستعيش حياتك سعيدا وراضيا، لأنك لن تقارن يوما بينك وبين الآخرين، ولو فعلت لما أزعجتك الفروق، بل على العكس لاعتبرتها برهانا على أن الله قد صنعك وكسر القالب!

هناك فرق بين أن تكون مغرورا وبين أن تشعر بأنك مميز. الغرور هو آلية دفاعية يحاول اللاوعي أن يتبناها ليغطي بها إحساسا عميقا بالدونية.

هذه الآلية تمنح الشخص شعورا مؤقتا بالراحة، لا يلبث أن يعمق شعوره الحقيقي بالدونية. أما الإحساس بالتميز، فينبع من ثقة دفينة وثابتة بالنفس، تساعدك على أن تكون متواضعا، لأنك تشعر بأنه لا أحد يستطيع أن يلغي الآخر بتميزه، إذ أن كل واحد متميز بطريقته، كما لو كنت قلما في علبة التلوين، لونك يميزك عن الجميع، ولون كل قلم آخر يميزه!

في لوحة الحياة للونك دور، وللألوان الأخرى أدوارها.

….كبر هذا الدور أم صغر لا يهم، لأن اللوحة لا تكتمل بدونه!

…….

لم تكن الحياة في نظري يوما حلبة صراع يتهاوش فيها الواحد مع الآخرين، بل هي بستان لا زهرة فيه تشبه الأخرى، والزهرة التي ترفض أن تشرئب معتزة بفرديتها وجمالها، ستُمسخ عشبة ضارة تعيش ملتصقة بالتربة، ومتطفلة على جذور الأزهار!

أذكر قولا لمفكر أمريكي نسيت اسمه:

Being the best is great, I’m number one.But being unique is greater, I’m the only one.

(سأكون عظيما عندما أكون الأفضل، وسأعتبر نفسي الأول…لكنني سأكون أعظم عندما أعيش فرديتي، وسأعتبر نفسي الأوحد….)

…….

لم أسعَ في حياتي لأنافس الآخرين على الأفضل، وهذا أقل ما يعنيني،بل سعيت ـ وسأظل أسعى ـ لأعيش فرديتي و تميزي!

هذا الأمر حررني من نار الغيرة وسطوة الغل الذي يخلفه الصراع، وسربلني بسكينة الرضى ونشوة الإعتزاز بالذات!

لستُ ماري كوري ولم أسجل يوما براءة اختراع،

كذلك، ليست ماري كوري وفاء سلطان، ولم تقفز يوما فوق كل الحواجز والثوابت والتابوهات لتساهم في إعادة خلق إنسان!

هكذا نحن في الحياة مختلفون ومميزون…

لكن لكل منا نفس القيمة ونفس الأهمية،إلا – اللهم- من آمن أنه ليس سوى مجرد قرص محشو بالسلق في طنجرة أم علي… عندها سيرى نفسه أقل شأنا من قرص الحظ في تلك الطنجرة، وسيعيش عمره دون أن يشعر بتميزه،أو أن يلعب الدور الذي تميز ليلعبه.

نعم كل منا جاء إلى الحياة فريدا من نوعه، فالله يكسر القالب كلما صنع إنسانا، وقدرته الإبداعية تتجسد في تنوع تلك القوالب!

…….

اكتشف مايميزك، وقف شامخا ومعتزا بنفسك، حتى ولو وجدت نفسك تشرئب وحيدا ومختلفا عمن حولك، كبذرة حملتها الرياح وحطت بها في حقل مغاير لطبيعتها، فنمت زهرة مميزة عما يحيط بها.

…….

تذكر بأن الطبيعة قد ميزت كل منا، ليلعب دورا مختلفا وليجعل لوحة الحياة أجمل، لا ليعبث به. كلما شعرت بقبحك تأكد أنك تمارس دورا غير دورك، وكلما شعرت بجمالك كان ذلك دليلا على أنك تعيش حقيقتك، وتترك وراءك بصمات أصابعك…

أكمل القراءة

جلـ ... منار

واشنطن والدولة الفلسطينية… حقّ النقض وعربدة التناقض

نشرت

في

استخدام واشنطن حقّ النقض (الفيتو)، لتعطيل مشروع قرار يطالب بمنح فلسطين العضوية الكاملة في الأمم المتحدة، ليس آخر حلقات المسلسل الأمريكي في هذا الصدد، فالحلقات المقبلات لن تُعدّ ولن تُحصى أغلب الظنّ. لعله، في المقابل، أحدث مظاهر التناقض الفاضح في السلوك الدبلوماسي للقوّة الكونية الأعظم، كلما اتصل الأمر بمصالح دولة الاحتلال الإسرائيلي.

صبحي حديدي
صبحي حديدي

والأصل في الأمر لا ينطوي على انحطاط صارخ في طرائق التلفيق وحدها، بل يشمل أيضاً ذلك البؤس الهابط في تدبّر اللغة والمفردات، والتحايل على معانيها الأبسط ودلالاتها الدنيا. فما من إدارة أمريكية تخلّت، صراحة ونهائياً، عن خرافة حلّ الدولتين كمخرج لـ”نزاع” فلسطيني ـ إسرائيلي لا يخمد يوماً حتى يندلع أشدّ اشتعالاً؛ ومع ذلك، ما من إدارة أمريكية إلا واستخدمت حقّ النقض لتعطيل أيّ قرار ينقل التمثيل الفلسطيني في الأمم المتحدة من مستوى المراقب إلى العضوية الكاملة. لا أحد، في أيّة إدارة، سوف يضع السلوك الأمريكي تحت توصيف التناقض، حتى حين يجنح هذا أو ذاك من كبار ممثلي الإدارة إلى منطق كسيح ركيك في تبرير استخدام الفيتو.

الطريف قد يتمثل في أنّ حلقات المسلسل لا تتكرر، على النحو الأعلى إثارة للملل، فحسب؛ بل يحدث أيضاً أن يتكئ التبرير الأمريكي الأحدث لاستخدام الفيتو على تناقض من قلب التناقض، أو في محيطه وأمامه وخلفه. وهكذا يقول وزير الخارجية الأمريكي إنّ “الوصول إلى دولة فلسطينية يتطلب تحقيق التهدئة في غزة أوّلا”، ولكنه يتناسى أنّ واشنطن أفشلت مشاريع قرارات وقف إطلاق النار أو هدنة في حرب إبادة تتواصل منذ ستة أشهر ونيف.

ولا سبيل، أيضاً، إلى مساءلة هذا المنطق الأمريكي، المُعاق ذاتياً وإرادياً في الواقع، بصدد تناقض تكويني آخر، يسير هكذا: إذا كان البيت الأبيض يريد دولة فلسطينية عبر الوسائل الدبلوماسية فقط (وكأنّ الأمم المتحدة ساحة حرب وليست هيئة دبلوماسية)؛ فكيف ستتحقق معجزة مثل هذه إذا كان الطرف الآخر، الإسرائيلي، لا يرفض فكرة الدولة الفلسطينية من الأساس فقط، بل يأبى الدخول في أيّة مفاوضات مع أيّ فريق فلسطيني، حتى إذا اختُزل إلى مقاطعة/ شبه بلدية في رام الله؟

طرافة أخرى ذات صلة بحكاية (لعلها أقرب إلى الكوميديا، منها إلى التراجيديا) العلاقة الأمريكية مع الهيئة الأممية ذاتها؛ فقبل المندوبة الدائمة الحالية، ليندا غرينفيلد، كانت سوزان رايس قد رفعت بطاقة الـ “فيتو” مراراً وتكراراً في وجه أيّ إجماع دولي ضدّ أية من جرائم دولة الاحتلال. وقبل الاثنتين شهد العالم إصرار البيت الأبيض على تعيين جون ر. بولتون في المنصب ذاته، رغم أنّ جوهر موقف الرجل من المنظمة التي سيعمل فيها كان، ببساطة: الاحتقار التامّ!

كوندوليزا رايس، وزيرة الخارجية آنذاك، دافعت عن بولتون بطريقة مبتكرة حقاً: إنه ليس أوّل كارهي هيئة الأمم في لائحة مندوبي أمريكا الدائمين. وبالفعل، قبله كان هناك باتريك موينيهان، وجين كيركباتريك، و… كانت مادلين ألبرايت.

ففي مطلع عام 1993، أثناء تقديم شهادة تثبيتها في المنصب هذا، قالت ألبرايت إنها “لن تسمح بالتنازل عن السيادة الأمريكية للأمم المتحدة، في منطقة ذات مصالح حيوية للولايات المتحدة في أيّ مكان من العالم”. ولعلّ ذلك “العالم” يتذكّر، ليس دون مزيج خاصّ من الاستطراف والاستياء، صراع الديكة الذي نشب بين ألبرايت والأمين العام الأسبق بطرس بطرس غالي، حول صلاحيات مجلس الأمن الدولي بالذات؛ حين كانت تتهكم: “أليس من المضحك أن يعتقد أنه قادر على استخدام الفيتو ضدّ سياسات الولايات المتحدة”؟

كان مضحكاً بالفعل، ودفع الرجل ثمنه سريعاً؛ والحال مضحك اليوم أيضاً، وهكذا سيبقى كلما توجّب أن ترتفع يد أمريكية لإعلان النقض و… وعربدة التناقض!

أكمل القراءة

جلـ ... منار

روسيا وغزة من المسافة صفر!

نشرت

في

ما أهمية الدعوة الروسية لعقد لقاء بين الفصائل الفلسطينية لإنهاء الانقسام؟ -  14.02.2024, سبوتنيك عربي

مرة بعد أخرى يطرح السؤال الروسي نفسه تحت وهج النيران فى غزة بحثا عن شيء من التوازن الدولي المفتقد منذ انهيار الاتحاد السوفييتي مطلع تسعينات القرن الماضي وانفراد الولايات المتحدة بقيادة العالم والتحكم فى مصائره‫.‬

عبد الله السنّاوي
عبد الله السنّاوي

هناك الآن خشية واسعة من الانجرار المحتمل إلى حرب إقليمية واسعة تشمل إيران ودولا أخرى تتداخل معها المصالح الاستراتيجية الروسية‫.

ما طبيعة وحدود الدور الروسي إذا ما أفلتت كتل النيران من مكامنها؟

روسيا ليست الاتحاد السوفييتي هذه حقيقة يستحيل إغفالها قبل إصدار الأحكام والتحليق في فراغ التصورات.. لكنها لاعب جوهري لا يمكن تجاهله في العلاقات الدولية‫.‬

قوة كبرى، لكنها ليست عظمى في أوضاعها الحالية من اقتصاد مستنزف بأثر العقوبات المفروضة عليها وتراجع قدراتها على الإسناد الاستراتيجي فإنه من غير الممكن التعويل عليها فى ردع الدور الأمريكي‫.‬

حاولت السياسة الروسية منذ اندلاع الحرب أن تجد لنفسها دورا مؤثرا بقدر ما تطيقه أحوالها مدفوعة بمصالحها الاستراتيجية في أكثر أقاليم العالم أهمية وخطورة وتأثيرا على مستقبلها المنظور‫.‬

أدانت العدوان على غزة دبلوماسيا وسياسيا في المنتديات الأممية دون أن تدخل طرفا مباشرا في الأزمة المشتعلة بالنيران والمخاوف‫.‬

إذا ما نشبت حرب إقليمية واسعة يصعب أن يظل الدور الروسى في حدوده الحالية مكتفيا بإدانة العدوان على غزة، أو استخدام حق النقض في مجلس الأمن لإجهاض أية مشروعات قرارات أمريكية تعمل على إدانة المقاومة الفلسطينية، أو تمديد العدوان على غزة والتنكيل بأهلها‫.‬

وفق موسكو فإن مشروعات القرارات، التي دأبت الولايات المتحدة على طرحها، “مسيسة بشكل مبالغ فيه”‫.‬

عندما مررت الولايات المتحدة بالامتناع عن التصويت قرارا قدمته عشر دول غير دائمة العضوية في مجلس الأمن ينص على وقف مؤقت للحرب خلال شهر رمضان، اغتالته في اللحظة نفسها باعتباره (غير ملزم)‬ ووفق واشنطن: المواقف الروسية غير بناءة في محاولة حل الصراع‫.‬

كانت تلك حدود المساجلة الاستراتيجية الأمريكية مع موسكو‫.‬ تركزت الإدانات الروسية على واشنطن أكثر من تل أبيب، على الطرف الداعم للحرب لا الطرف المباشر فيها‫.‬ إنها حسابات معقدة تحاول أن تتضامن مع غزة دون أن تلحق أضرارا تربك أية تفاهمات سابقة مع إسرائيل بشأن قواعد الاشتباك فى سوريا‫.

‬ لم يكن خافيا على أحد المكاسب الاستراتيجية المفاجئة التي جنتها روسيا بأثر اندلاع الحرب على غزة‫.‬

تراجعت أولوية الحرب الأوكرانية في الخطابين السياسي والإعلامي الدوليين، حتى كادت تنسى وسط طوفان المآسي الإنسانية في القطاع المعذب‫.

‬ رافقت حرب غزة بتداعياتها وأجوائها ومساجلاتها أوضاعا عسكرية مستجدة على الجبهة الأوكرانية لم تعد سيناريوهات كسب الحرب وإذلال موسكو واردة‫.‬

عاد الحديث عن حلول سياسية، أو الذهاب مجددا إلى التفاوض دون أن تبدي موسكو حماسا، فالوقت يعمل لصالحها وسيناريوهات تقليص تمويل الحرب غير مستبعدة‫.‬

إذا ما انتهت الحرب على غزة الآن فإن موسكو سوف تتصدر رابحيها‫.‬

كلما تأكد المأزق الأمريكي المزدوج في حربي غزة وأوكرانيا يستشعر الكرملين ثقة كبيرة في مستقبله المنظور، أن يكسب حربه فى أوكرانيا، يحفظ أمنه القومي عند حدوده المباشرة، ويفرض أغلب مطالبه على الحلفاء الغربيين‫.

‬ خسارة الحرب الأوكرانية قد تفضي إلى تفكك الدولة الروسية، وكسبها يساعد إلى حدود بعيدة في استعادة الأوزان الروسية السابقة، أو تأسيس نظام دولي جديد على أنقاض الهيمنة الأمريكية شبه المطلقة‫.‬

بصورة مباشرة تداخلت روسيا في ملف المصالحة الفلسطينية حتى تكون هناك إجابة أخرى عن سؤال اليوم التالي‫.‬

دعت إلى اجتماع في عاصمتها لفصائل المقاومة، شملت الدعوة الحكومة الفلسطينية، توصلت الاجتماعات إلى مخرجات تساعد على إنشاء حكومة فلسطينية من التكنوقراط وإعادة بناء منظمة التحرير الفلسطينية بضم حركتي “حماس” والجهاد”، غير أن تلك المخرجات تقوضت تماما بإعلان سلطة رام الله حكومة جديدة دون تشاور مسبق‫.‬

الأوزان والأدوار كلها الآن على المحك إذا ما جرى الانجراف إلى حرب إقليمية واسعة‫.‬

المصالح الروسية عند المسافة صفر.. في مرمى النيران مباشرة‫.‬

انخراط روسيا فى أية حرب إقليمية مكلف وأثمانه لا تحتمل بالنظر إلى ما أصابها من إنهاك سياسي واقتصادي وعسكري في الحرب الأوكرانية‫.

‬ التجاهل شبه مستحيل وخسائره قد تفضى إلى هزائم استراتيجية لا قبل لموسكو على تحملها‫.‬ إنه مأزق استراتيجي محكم‫.‬

المثير هنا أن روسيا والولايات المتحدة لا تريدان، وليس من مصلحتهما بأي حساب، توسيع نطاق الحرب في غزة إلى صدامات إقليمية واسعة لا يعرف أحد كيف تنتهي‫.‬

إنه السؤال الأكثر إلحاحا من المسافة صفر وإجابته تتوقف على طبيعة وحجم الرد المنتظر على استهداف القنصلية الإيرانية في دمشق‫.‬

الرد قادم لا محالة، والأطراف كلها باستثناء الحكومة الإسرائيلية تتمناه محدودا رهانا على أنها تساعد “بنيامين نتنياهو” في بقائه على رأس الحكومة حتى لا يزج به خلف قضبان السجون بتهمتيى الاحتيال والرشى فضلا عن مساءلته في تقصيره الفادح يوم السابع من أكتوبر

في السياق يسعى “نتنياهو” إلى اقتحام رفح، لكنه واقع تحت ضغط الإدارة الأمريكية التي لا تكف عن طرح بدائل عليه، خشية أن يفضى ذلك الاجتياح إلى مجازر بشرية تنال من مليون ونصف المليون نازح في تلك المدينة الحدودية الضيقة‫.

‬ من وقت لآخر تتصاعد احتمالات اشتعال الجبهة اللبنانية بكاملها، أو نقل مركز المواجهات إلى الشمال بذريعة الأمن وعودة النازحين الإسرائيليين‫.‬

جر المنطقة كلها إلى حرب واسعة هو أخطر سيناريوهات التصعيد الإسرائيلي المحتملة‫.‬

والأمريكيون لم يتورعوا عن التهديد بالتدخل المباشر إذا ما تعرضت إسرائيل إلى الخطر‫.‬ هكذا فإن سيناريو الحرب الإقليمية الواسعة لا يمكن استبعاد الانزلاق إليه‫.‬

حسب التأكيدات الروسية فـ”إن أحدا لم يطلب منا أن نتدخل للتهدئة”‫.‬

كانت تلك إشارة مبطنة إلى إدراكها قدر ما يصيبها من أضرار استراتيجية إذا ما اندفعت كتل النيران إلى المنطقة كلها واستعدادها في الوقت نفسه للعب أية أدوار تمنع الحرب الإقليمية المحتملة‫.‬

ـ عن “الشروق” المصرية ـ

أكمل القراءة

صن نار