تابعنا على

جور نار

الليل زاهي بالقمر ونجومه…

نشرت

في

قررت هذه الأيام أن أخصّص بعض الوقت لإتمام كل ما تأخر من وثائقي العائلية، الصحية منها والمهنية والمدنية…والعقارية…وغيرها من وثائق تتطلّب التحوّل إلى عديد الوزارات ومقابلة الكثير من المسؤولين…وكانت البداية مع عمدة الحي الذي أعرفه من زمن بعيد، عمدتنا هذا مختصّ في لعبة “الخربڨة” ولو نظموا بطولة عالمية في هذه اللعبة لفاز بها عمدتنا دون منافسة…وجدت باب مقرّه مفتوحا فدخلت، اقتربت من مكتبه لأسمع دندنة بصوته، استرقت السمع لأعرف ماذا يدندن عمدتنا أبقاه الله عمدة إلى يوم يموت ويوم يبعث حيّا…

محمد الأطرش Mohamed Alatrash
محمد الأطرش

كانت مفاجأة جميلة صاحبنا يغني وبصوت أجلاف مغاوير وأصحاب الطبلة والبندير…” الليل زاهي بالقمر ونجومه…..وانا زاهي بشــيخ بابا كمولة” تمايلت قليلا مع دندنته وابتسمت وأنا “ارفع عقيرتي” بالسلام…حتى يسمعني… ثم صرخت في وجهه حتى يسمعني قائلا “سلومة” وليس “كمولة” يا مولانا…أجاب ضاحكا “كمولة…كمولة” وأضاف “خلّي هكاكه…خلّي هكاكه”… أخذت ما جئت من أجله وانصرفت وأنا أتساءل عن “كمولة” الذي عوّض سلومة عند عمدة “الحومة”…

توجهت مباشرة إلى مقرّ المعتمدية لألتقي معتمد الجهة لأمر كان عالقا ولا يزال…دخلت بعد استئذان الحاجب الذي فاجأني أيضا بدندنة نفس ما كان يدندنه مولانا عمدة “الحومة”، علما بأن هذا الحاجب من رواد البطولة المحلية للـــ”خربقة” التي يفوز بها يوميا عمدتنا دون حضور جمهور أطال الله أنفاسه حتى اشعار آخر…دخلت مكتب المعتمد مستغربا ما يجري في هذا البلد…بعد السلام وبعض الكلام جلست قبالة المعتمد فسمعت صوتا منبعثا من الكمبيوتر الذي “يجلس” قبالة معتمد الجهة، وكانت المفاجأة نفس القطعة الصوفية التي استمعت إليها عند العمدة وعند حاجب المعتمد…لم أغامر بسؤال المعتمد عن القصّة…لكن دون أن أدري وجدتني أدندن والمعتمد على نفس مقامهم ” الليل زاهي بالقمر والـثريّا…..وانا زاهي بشيخ ابن القفصية”…وهنا التفت إلى المعتمد لأقول له “ابن الدرعية” من اين أتيت بابن القفصية سيدي؟ ضحك وقال “خلّي هكاكه…خلّي هكاكه”…لم أقل شيئا وغادرت بعد ان وعدني أنه سيجيبني عمّا أتيت من أجله في قادم الأيام…

توجهت مباشرة إلى مقرّ الولاية لألتقي الكاتب العام لأمر مدرج في برنامج إتمام بعض الوثائق المعطّلة من زمن بعيد…ولأنه صديقي دخلت دون استئذان الحاجب الذي يعتبر هو أيضا من رواد بطولة العمدة للــ”خربقة” لأجد صاحبي “متسلطنا”…يتمايل وهو يغني مع حضرة سمير العقربي “يا ناس والله يـــــــعز عليا …..بابا الاسمر حكومته مرسومة”…وهنا صرخت عاليا…من اين أتيت بــ”حكومته” “حضرته” وليس ما ذكرت…ما الحكاية يا هذا وما قصّة ما تتغنون به جميعكم…؟؟ نظر إلي وقال”خلّي هكاكه…خلّي هكاكة”…وقفت ونظرت إليه وقلت “أوكي…خلّي هكاكه” …

غادرت في اتجاه مكتب المدير الجهوي للشؤون الاجتماعية ولأنه صديقي دخلت أيضا دون استئذان…لأجد نفسي قبالة مجموعة من موظفي الإدارة وهم يتمايلون على صوت مديرهم وهو يقول “الليل زاهي بالقمر وتمـامه…..وانا زاهي بقدوتي وكــــلامه” توجهت بالسلام للجميع فلم يردّوا عليّ…ولا حتى صديقي المدير الجهوي الذي كان يتمايل صوفيا صحبة حاجبه الذي هو أيضا من روّاد بطولة عمدتنا للــ”خربقة”…نظرت إليه وصرخت “ما أمركم…ما قصّة الليل زاهي…؟؟” أوقف كوراله الصوفي ونظر إلي ضاحكا سعيدا منتصب القامة والأطراف والأعضاء، وقال في تناغم مع كل من هم حوله “خلّي هكاكه…خلّي هكاكه”…

بعد الشؤون الاجتماعية زرت أغلب الإدارات الموجودة بالمدينة، وفي كل إدارة كنت أجد أحد رواد بطولة عمدتنا للعبة “الخربقة”… وفي كل المؤسسات والإدارات استمعت كل مرّة إلى نفس القطعة الصوفية…وسألت نفس السؤال للجميع…وأجابوني نفس الإجابة السحرية “خلّي هكاكه…خلّي هكاكه”…قلت سأسأل صديقي الذي يعمل في ديوان أحد الوزراء عن الأمر فقد اعرف حقيقته وأرتاح … هاتفت صديقي لأستمع إلى تلفونه وهو يدندن نفس القطعة في انتظار رفع صديقي لسماعته…قطعت المكالمة وجلست ساخطا على كرسي أحد المقاهي…استرحت قليلا ثم قررت العودة إلى المنزل لأرتاح من “خلّي هكاكه…خلّي هكاكه”…

فتحت الباب الخارجي للمنزل لأجد نفسي في حضرة “الليل زاهي” مرّة أخرى…وبصوت مرتفع إلى أعلى درجاته ” الليل زاهي بالقمر وتمـامه…….وانا زاهي بقدوتي وكــــلامه…يا ناس انا من خـــــــــدّامه…….بابا الاسمر حضرته مرسومة”…دخلت المنزل لأجد جميع من بداخله يدندنون “الليل زاهي…” أوقفت “اليوتيوب” سالب العقول والقلوب وتسمّرت أمامهم في حالة غضب بعيدة كل البعد عن “الزهو” الذي يتغنون به…وقلت لن تخرجوا من هنا دون أن أعرف ما الحكاية أجابني ابني قائلا “خلّي هكاكه…خلّي هكاكه”…قلت والله لن “أخلّي هكاكه  قبل أن تجيبوني”…نظر إلي ابني ضاحكا وقال…”ألم تسمع بحكاية مالك الزاهي يقال والعهدة على من قال ومن أتى بالخبر ومن نشره ومن كتبه ومن صدّقه انه سيصبح وزيرا أول في حكومة مولانا الثانية…” ثم أضاف “خلّي هكاكه…خلّي هكاكه”…نظرت إليهم جميعا وسألتهم والعمّة “نجلاء” اين ستذهب؟ أجابوا معا في نفس الوقت…”خلّي هكاكه…خلّي هكاكه”…ضحكت وانخرطت معهم في جوقتهم “التلحيسية” لساكن القصبة القادم:

” الليل زاهي بالقمر وتمـامه…….وانا زاهي بقدوتي وكــــلامه
ياناس انا من خـــــــــدّامه…….بابا الاسمر حضرته مرسومة”

وتأكدت أن هذا البلد لن يخرجه مما هو فيه لا قيس ولا المتنبي ولا الحجاج…ولا حتى الشيخ حمد…شعب هذا البلد…يعشق لعق الحذاء الذي يركله…وهوايته ضرب البندير…من ابسط مواطن…إلى أتعس وزير… مرورا بالعمدة…والمعتمد…وسيدي المدير…و”خلّوا هكّاكه…خلوا هكّاكه”…

أكمل القراءة
انقر للتعليق

اترك تعليقا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

جور نار

ورقات يتيم … الورقة رقم 20

نشرت

في

Homme Debout Lisant Un Livre Vectores, Ilustraciones y Gráficos - 123RF

استاذي محسن الحبيب اطال الله عمره لم يكن في تلك الحقبة الاستاذ الكلاسيكي في تعامله معنا ..لم يكن ذلك الاستاذ الحازم الشديد المهاب والذي لا صلة لنا به الا من خلال ما يقدّمه في الفصل حيث (الذبّانة تسمع حسّها) كابن عمه سي رشيد رحمه الله ..وكجلّ الاساتذة انذاك ..

عبد الكريم قطاطة
عبد الكريم قطاطة

سي محسن كان يميل في اسلوبه معنا الى المزج بين الجد والهزل ..وبقدر ما كان حريصا على اثرائنا معرفيا بقدر ما كنّا نجد فيه ذلك الانسان المختلف عندما يقتضي المقام … ربّما سنّه كشاب هو من الاشياء التي جعلته قريبا جدّا منّا .. اتذكّر جيّدا زميلنا مبروك البردعة والذي هو بدوره اصبح استاذا في مادّة العربية اطال الله عمره، رفع اصبعه ذات يوم للمشاركة في الدرس وكان ذلك في بداية السنة الدراسية ..واجتهادا من زميلي مبروك اراد أن يعرّف بنفسه قبل بداية مداخلته فذكر اسمه ولقبه (مبروك البردعة) …فماكان من سي محسن الا ان اجابه: “الله يبارك فيك تفضّل!” … ضجّ الفصل ضحكا وسفّ سي محسن سيجارته سفّة لا يعرف حجمها الا هو وقال: نواصل ..وانتهى الامر ..

سي محسن ايضا كان صديقنا جدّا وهو يشارك معنا في الرحلات المدرسية كمشرف عليها …سي محسن ايضا هو اوّل من فكّر في بعث مجلّة مدرسية يطلق فيها التلاميذ العنان لاقلامهم وسمّاها “الخواطر” وكانت لي اوّل محاولة رسمية للكتابة ضمنها ..سي محسن ايضا كان اذاعيا مساهما في اذاعة صفاقس بالعديد من البرامج الثقافية منذ عاد من بغداد في اواسط الستّينات ..وسي محسن كان مساهما في عديد الجمعيات من المجتمع المدني ..سي محسن هو ايضا مؤلف للعديد من الكتب ومن ضمنها (قال قلمي) وفي اجزاء ثلاثة …وفي سنة 2006 جاء سي محسن كما ذكرت سابقا ليسلّمني نسخة من الجزء الاوّل ..ويقول لي: ابحث عن الصفحة 200 واقرأ … لم يضف شيئا وافترقنا ..في الحقيقة لم نفترق ..ولن نفترق…

قلت كم مرة ان الحياة تهبك احيانا اوسمة لا تقدّر بثمن وها انا استسمحكم في هذه الورقة ان انقل لكم حرفيا واحدا من اغلى الاوسمة في حياتي … انه مقاله الذي كتبه سنة 1999 ولم يكتب لكتابه النشر الا سنة 2005 حول تلميذه عبدالكريم …سي محسن الحبيّب وما ادراك يخصّني بمقال …؟؟؟ هل انتم شاعرون بكمّ السعادة التي تغرقني ولا تميتني .. لن اطيل عليكم لان ما كتبه سي محسن غزير جدّا ومعذرة ان كانت تلك الغزارة ستأخذ من صبركم الكثير ..ولكن ثقتي بأنكم تفهمون ما معنى ان تشاركوني في تذوّق طعم سعادتي والتي اريدها سعادتكم .. قد يغفر لي نشر المقال باكمله (كلّو) … فقط للاشارة هنالك تاريخ اخطأ فيه استاذي ..هو ذكر سنة 1970 والسنة انذاك كانت سنة 1967 …

العنوان “كنت وستظل بما انت .. حاضرا في الذّاكرة”:

“ذاكرة المربّي عادة لا تحتفظ بأسماء وبصفات وبملامح تلاميذه _خاصة مَن لقاؤه بهم محدود، إلاّ الّذين كانوا متميّزين بمواقفهم .. امّا الجادّة النشطة الخصبة او الطائشة الرافضة المشاكسة المتمرّدة العابثة التي تختار التهريج للظهور والتجاوز للريادة ابني الكريم، كنت من بين تلاميذي المتميّزين البارزين ممن تحتفظ بهم وبسلوكهم وبحركاتهم وبمواقفهم الذّاكرة .. والتميّز هذا كان بعيدا عن الشقاوة وسوء السلوك .. ابني كان مرحا تثيره الطرفة الدسمة الجادّة وتستهويه النّادرة الهادفة المثرية .. كان وديعا لطيفا كيّسا بعيدا عن الغلظة والخشونة قولا وفعلا .. وكم يخصب عطاؤه واسهامه في الدرس وفي ملحقاته كلّما كان جوّ القسم خفيفا رائعا مريحا منعشا بعيدا عن التجهّم والفوقية والصدّ والزجر ..

“عندها تراه يجادل ويثابر ويجتهد متحدّيا الصّعاب ومعرقليه ومستفزّيه او هو على الاصحّ يحاول ذلك لانّه يأبى الظلم والاحتقار والتسلّط والاستخفاف … اذكر انه كان شغوفا بالمطالعة وميّالا جدّا للثقافة العامة اضافة الى ما تلزمه به مناهج وبرامج التعلّم من واجبات وفروض ..تراه يسأل عن المعرفة وعن مصادرها… تلقاه توّاقا للطّريف من الجديد تعجبك فيه قوّة الذّاكرة وسرعة الاجابة وحسن التخلّص وعذوبة الاداء ولطف المحاجّة وادب المراء… وينطلق في هذا كلّه من مخزونه الذي كان بالقياس لاترابه خصبا ثريّا متنوّعا… ويستعين في ادائه بطلاقة لسانه وبرقّة نبراته فتستسيغه وتميل اليه وتسايره حتى ولو اشتدّ في مداخلاته واخذه بعض الانفعال وشيء من التحدّي وقليل من المداعبة… ومنذ شبابه الباكر ومنذ عرفته كان يريد ان يلتزم والالتزام في عمره وفي ايّامه غير منتظر ولكنّه كان يختار مسيرة معيّنة ومواقف محدّدة وخيارات مضبوطة حتى تلقاه احيانا صلبا عنودا .. وثباته هذا واعتداده بنفسه قد احرجاه حينا وجلبا له بعض المصاعب وعددا من المواجهين ...

“كان ذلك اثناء تعلّمه وبعده ولكنه كان صبورا جَلِدا ثابتا فتجاوز بذكائه وجدّه ومثابرته وبما وفّر له اطّلاعه، كثيرا من الصعاب … قد كان يمثّل التلميذ الواعي المثقف المتميّز بدقّة ملاحظاته وبقوّة ذاكرته وبالدّفاع عن آرائه .. فيشدّ الآخرين اليه .. فهم امّا معجبون محبّون وامّا حاقدون حاسدون ويسعون للكيد له والتربّص به .. وفي الحالتين وفي كل الحالات بسرعة يجد الجواب الذّكي الطريف فيبهت المشاكس المتربص ويزداد تعلّقا به الصّديق الوفيّ… كان يميل الى الاستطراد وتوليد الافكار فتخاله قد تاه ومال للحشو، ولكنّه لا يتيه انّما يحسن العودة الى المنطلق والى الموصوف فاذا استطراده اثراء وتلوين ولا يستطيعه الا واسع المعرفة ..هذا اذا حاور وجادل واذاع ..واذا كتب وتولّى تحليل القضايا يركب الوصف والخيال وينساب وراءهما فيدعم الاستطراد التحليل واذا بك تقرأ ابداعا وفنّا او شيئا يشبه الابداع والفن …ولا تقرأ تحليلبا جافّا ولا جدلا عقيما ولا شواهد قلقة مبتورة نابية ولا استخلاصا غير سليم .. بل انّك واجد في ما يكتب تسلسلا وتماسكا بعيدين عن الجفاف ..

“عشقه للوصف وللخيال اضرّا به في تحاليله الادبية وفي انشائه عند بداية المرحلة الثانية من التعليم الثانوي (الرابعة آداب سابقا سنة 1970 ، الاصح سنة 1967 ) هذا الكبوة وهذا الفشل لم يقعداه ولم يثنيا عزمه …انّما تخلّص منهما في سنته السادسة لكنه ظلّ يحنّ للوصف للخيال فشدّني تقويم كتاباته ولكنّه صمد وايقن انه الى المبدعين اميل .. فاختار الوصف والتصوير والخيال والتوليد مستفيدا من مطالعاته ومؤهلاته… وفتحت له مجلّة المعهد صدرها فاذا هو يساهم في اعدادها واخراجها مضمونا وشكلا صحبة نخبة من زملائه الاخيار وكان لي شرف رفقتهم والاستعانة بهم…

“هذه الصفات والملامح قد اهّلتك لتضطلع احسن الاضطلاع بادوارك ومكّنتك من افحام مخاصميك بالعمل والجدّ ومن مواجهة مشاكسيك بالصبر والتغافل عنهم ودفعتك لتواصل السّعي والتحدّي وتقديم الافادة والنفع .. وقد دفعت ضريبة النجاح والانتشار والارتقاء سلواك حبّ الصادقين اليك ورضاهم عمّا يصلهم اينما كانوا ممّا يفيض به قلمك وما يصدع به صوتك ..وصمدت وخرجت ناجحا متميّزا كلّما ساهمت او شاركت بالرأي .بالخبر ..بالنادرة .. بالشاهد ..نجاحك لم يرض البعض ولكن ما ذنبك ؟ ارضاء جميع الناس شيء لا يُنال …

“ابني صديقي وزميلي ..مادمت تنثر ما تؤمن به وما تراه مثمرا وسليما فلا تثريب عليك … فالخصب الثّري مهما اخفته الغيوم فانه باد يوما، وما دمت تدرك يقينا صدى مساهماتك ورضى الناس عنها فلا تكترث بمن ناصبوك العداء… وقد حان الوقت ليأخذ قلمك نصيبا هاما مما ينحته فكرك ويبوح به وجدانك وليتك تنصرف الى تدوين بعض تجاربك ببياضها وبسوادها بحلوها وبمرّها فاحسب انّها لصدقها ستكون مفيدة ولست اوّل من علّمته الرّماية فرماك ..وارد ان تعثر وغير مقبول الا ان نقوم اذا عثرنا او عثّرونا ..

“ابني الكريم ..من منطلق حنان الابوّة وصفائه ومن صدق الصّداقة ونبلها وقداستها، اهمس في اذنك قائلا ومناشدا لجسمك عليك حقّ ولحاجة الخلاّن الاوفياء لجسمك السّليم لتظلّ بفكرك النّابض وبادائك البليغ قريبا منهم قائما بينهم واصلا اليهم ..اعتن بصحّتك واعزم هجرة ما يؤذيك مادّيا ومعنويّا واخرج دوما يدك من جيبك بيضاء لا تؤذي المستنشقين …وحتّى القاك او يصلني صداك احيّيك مكبرا ومعتزا بكل الايّام التي عرفتك فيها وبكل ما تضمّنته …وستظلّ في الذاكرة …محسن الحبيّب”

_انتهى المقال.

مرّة اخرى وانا انقل لكم هذا المقال الوسام من استاذي احسّ والله برغبة جامحة في البكاء ..فسّروا كما شئتم هذه الرغبة، فسّروا كما شئتم ماهيّة وروعة البكاء عندي ..ولكن احسّ والله برغبة لا توصف في ان اطبع بوسة لا تشبه اي بوس على جبين الرحمان حبّا وحبّا وحبّا للرحمان …هل اصف لكم بعضا منّي الان …انا كموج المحيطات في صخبه الجميل فاشتهي الابحار في يمّه والغرق في احشائه حتى انتعش وانتشي ايما نشوة… واطفو واطفو واطفو… انا كخطاف الربيع في تجمّعه وتفرّقه في عنان السماء بل كربيع الربيع .. وانا كسرب نمل وهو يوشوش لاسراب النّمل الاخرى و يدعو كلّ العشيرة الى الولوج الى بيوتها حتى لا يحطمنّها سليمان وجنوده وهم لا يشعرون …

بإيجاز انا كسابح سابح سابح في ملكوت الله …استاذي الكبير قد اكون حققت لك ولكلّ من علّمني بعض السّعادة والرّضى عمّا بذرتموه فينا ..ولكن سعادتي اكبر عندما تتأكّدون جميعا انّنا قبس صغير من نوركم وا نّنا حاولنا وما زلنا نحاول (حتى يهلّ علينا هلال اجلنا) تقديم شيء من قبسكم … حتى نسعدكم اكثر ونسعد اصدقاءنا اكثر واكثر ….. انذاك اغنّي لك ولهم: “.والقمر من فرحنا (و قبسكم) حينوّر اكثر ..والنجوم حتبان لينا اجمل واكبر والشجر قبل الربيع حنشوفو اخضر” …

ـ يتبع ـ

أكمل القراءة

جور نار

ورقات يتيم … الورقة رقم 19

نشرت

في

وجاءت الرابعة آداب او كما يلقبها سي احمد الزغل مدير “معهد الحيّ” الرابعة عذاب، لانّنا اتعبنا العديد من الاساتذة والقيّمين … وربّما ما كان يشفع لنا انه بقدر عفرتتنا بقدر تميّزنا …

عبد الكريم قطاطة
عبد الكريم قطاطة

توجّهي الى شعبة الآداب كان اختيارا وامنية نعم بالنسبة لي… ولكنّه كان ايضا الامكانية الوحيدة، فانا كنت في تعلّمي “كرارطي” … عبارة كم اجدها جميلة ومعبرة اي نكركر والقسم على الله من الكرّيطة في المعدل العام تكركير … فمعدلاتي في المواد العلمية وخاصة الرياضيات لا تتجاوز الخمسة على عشرين .. ومعدلاتي في المواد (متاع التمحريث) التاريخ والجغرافيا والتربية الدينية والمدنية، فوق المتوسط بقليل ..اما في الفرنسية “ما قال حد لحد” منذ داودي مسيو دوميناتي عام السيزيام ..ماذا بقي ..؟؟ العربية وكنت متميزا فيها كذلك الانكليزية ومواد الترفيه …الرياضة والموسيقى … و حتى الرسم وكما تعرفون كنت “شلاكة” ومن النوع البلاستيكي … اذن اين المفر ..؟؟

شعبة الرياضيات امامكم وشعبة العلوم وراءكم وحتى شعبة ترشيح المعلمين اعتبرها نوعا من “المحقرانية” وانا الطموح الى هيمالايا في احلامي .. ثم جانب الولع بالادب والشعر والاغنية والمسرح والموسيقى والجنون والهبال لا مكان له خارج شعبة الاداب … كنّا نحن تلاميذ شعبة الاداب نسخر جدا من جماعة شعبة الرياضيات خاصة وننعت شعبتهم بـ “علوم البهائم” … وكنا نتفنن في التهكم على اختياراتهم ونكتب لهم معارضات شعرية من نوع “قل لمن يدّعي في المات فلسفة وجدت ايكسا وغابت عنك ايغراكو… { x y …المات هي الرياضيات } كنّا نعتبر انفسنا اسياد القوم دون منازع …البقية كانوا في جلّهم “محارث خدمة” بينما نحن الفن والوعي والجمال …وهذا يعني في سنّنا تلك وفي الحقيقة الهرج والمرج والعفرتة ..كنا اكثر التلاميذ شيطنة قرابة الاربعين تلميذا لا يمكن وصفهم الا _مقطّرين ……من …….الكلاب …(خاطيني ذلك هو ما يقال عنا)…

انذاك بمعهد الحي كان لكل شعبة قسم واحد يجمع تلاميذها اذن لا وجود لاداب واحد واداب 2 وكذلك بالنسبة للشعب الاخرى … وشعبة الاداب انذاك هي طليعة الشعب في عديد الانشطة المدرسية، وحتى في النشاطات غير المدرسية بتاتا … في بداية تلك السنة تغيّرت كثيرا نوعية الاساتذة ..ومنذ تلك السنة بدأنا نحن تلاميذ الاداب خاصة ندخل نقلة نوعية في فكرنا وسلوكنا ووعينا ..فعلاوة على اهمية المحاور التي ندرسها في كل المواد والتي ستعدّنا للسنة المقبلة لتجاوز الجزء الاول من البكالوريا… حيث كانت الباكالوريا في ذلك الزمن نمتحن فيها على جزأين جزء اول سنة خامسة والجزء الثاني سنة سادسة … علاوة على ذلك كنّا محظوظين جدّا جدا جدّا …. لا مقارنة بالشعب الاخرى في معهد الحيّ فقط بل مقارنة بكل المعاهد الاخرى بصفاقس وهي اربعة: الحي ّ الليسيه، هادي شاكر، التكنيك 9 افريل و”ليسيه دي جون في” معهد الفتيات المحاذي للبلدية الكبرى الان…

كنّا نتميّز بظاهرة كانت موجودة فقط في الحيّ: الاساتذة المسيّسين جدا، ومن فصائل مختلفة ..الدستوري وهل يخفى الخروع ؟؟ مع احترامي للشرفاء منهم ولكن اعني بالخروع “القوّادة” القذرون، لان القوّادة العاديين موجودون في كل الاحزاب منذ معركة الاحزاب …بل ووجودهم طبيعي ويجب ان يكون لانه لم يخلق لحد الان نظام دون شرطة رسمية وشرطة سريّة ..والقوّادة القذرون هم من يبيعوا الاب ..الام ..الاخ ..الشرف ..من اجل حفنة من المال او من الجاه …وهؤلاء ايضا موجودون وتزايد عددهم بعد نكسة 14 جانفي …

اعود لفصائل اساتذتنا انذاك حيث كان فيهم اليوسفيون ..القوميون ..الناصريون ..البعثيون ..جل اساتذة المواد الرئيسية (عربية تاريخ جفرافيا فلسفة في مرحلة لاحقة) هم خريجو دراسات جامعية بسوريا والعراق خاصة …لذلك كانوا ومنذ السنة الرابعة آداب يبثون فينا الوعي بواقعنا التونسي وبالواقع العربي عموما …وتخيلوا (كريّم واترابه) ينصتون الى هذه النغمات الجديدة في دراستنا وهم مزبهلّون بمعارف سياسية جديدة … تخيّلوا الان ونحن نلتقي في ساحة المدرسة وفي استراحة العاشرة صباحا او الرابعة ظهرا كيف ننظر الى رعاع القوم في الشعب الاخرى ..كان الواحد منا يلبس جلباب عبد الناصر (روح الامة العربية) كما تقول احدى الاغاني المصرية … فيتصدّر الحلقات وبالكاد يحفظ بعض المقولات للريّس وبعض المواقف ليبرز عضلاته …

منذ السنة الرابعة آداب بدأنا عملية التماهي مع كل من هو نجم في ميدانه ..ففي الفن مثلا كنت كثيرا ما اقف امام المرآة لاردد اغاني العندليب خاصة.. وفي المسرح كنت اتماهى مع حسين رياض رغم فارق السن بيننا… وفي العشق والغرام كنت اتماهى مع ابطال احسان عبدالقدوس خاصة ….فكنت اكتب قصصا وهمية لحكايات غرام لم اعشها ابدا ..وكنت اتفنن في تصوير كريّم العاشق الولهان، ولكن المعذّب دوما .. ولست ادري لماذا اقرن كل قصصي بالنهايات غير السعيدة على عكس الافلام المصرية … وحتى تلك الافلام المصرية لم تعد تقنعني ربما لاني اكتشفت سذاجتها وتشابه قصصها ..بداية حب ..صدّ من الحبيب ..ثم نهاية سعيدة …لذلك بدأت اتحوّل الى باحث عن الوان سينمائية اخرى …انذاك اكتشفت افلام القوة والبطولة الجسدية (هركيل وماسيست)…

هل هو تعويض للجانب الجسدي (اللي على قدّو) في عبدالكريم ؟؟ هل هو التماهي مع البطل الذي لا يهزم ؟؟ هل هو بحث عن اثراء العالم السمعي البصري ..؟؟؟ ربما هي تلك الاسباب مجتمعة مع بعضها البعض..وكنا انذاك نتفنن في تغيير اسماء الممثلين النجوم فنقول عن “ستيف ريفز” سطا فريفش… ونقول عن “ايدي كونستاتين” هادي قسمطيني… ونقول عن “جيوليانو جيمّا” جيلاني بوجمعة ….تقولون سخافات ..؟؟ ومن قال اننا لم نكن سخيفين ايضا …؟؟؟

في بداية السنة الرابعة آداب بدأت اولى مصائبي مع الاداب العربية ..كان انذاك مدرّسنا الاستاذ محسن الحبيّب في اول سنة له بمعهد الحيّ ..استاذ شاب ومتميّز جدا وندين له جميعا بأنه واحد ممن اثروا فينا ايما تاثير في المرحلة الثانية من التعليم الثانوي ..كان على درجة كبيرة من الكفاءة من جهة وكان صديقنا جميعا اي “بحبوح” بالحاء وليس بالجيم …وكان الفرض الاول لاختبارنا جميعا وجاء يوم اعادة الفروض بعد اصلاحها … وصل الى اسمي وقال… 6 على عشرين …ولانه كان شديد الملاحظة انتبه الى اترابي بالقسم وهم ينظرون اليّ بدهشة … عبدالكريم ….6 على عشرين ..؟؟؟ كانت الصدمة انذاك بالنسبة لي موجعة … انا 6 على عشرين ؟؟ هذا تخربيش كرامة … وغبت تماما عن بقية الدرس …اصبت يومها بصمم لا مثيل له … تماما كذلك الذي ينزل فجأة في اعماق بئر من الغيبوبة فلا يسمع شيئا على الاطلاق …الاصوات تتحوّل الى ازيز …

كانت المشاعر مختلطة ..كنت اتصوّر بعض اترابي القادمين من فصول اخرى يتهامسون سخرية: “موش هذا عبدالكريم اللي ضاربو في روحو وبتباهى بأنو ما كيفوش في العربية ؟؟؟” …كنت اتصوّر الم وخيبة البعض من زملائي ممن عاصرونى في القاعة رقم 6 من الاولى حتى الثالثة ثانوي وعبدالكريم قائدهم في مادة العربية… يشبه تماما ذلك الطاهر بن حسن البطل التونسي في الملاكمة والذي تحلّق حوله التونسيون وطاهر نا يتبارى مع غاني اسمه بوازون (سمّ عافاكم الله) على بطولة افريقيا وما ان بدأت الجولة الاولى في ثوانيها حتى سقط الطاهر بضربة قوية من ايدي بوازون السامة ..والمعلّق التونسي ابراهيم المحواشي رحمه الله يستجدي الطاهر ويقول يا طاهر قوم ..يا طاهر في طولك ..يا طاهر في عرضك ..يا طاهر ما تخليناش ضحكة قدام اللي يسوى واللي ما يسواش ..ولكنها كانت القاضية …

وعشت حالة فقدان الوعي بكل ما يدور حولي انذاك ..رغم اني لم افقد الوعي ..ورنّ جرس الحيّ المزعج جدا وكانه صافرة الدعوة الى الالتجاء في المخابئ بفعل غارة قد تحدث …وهذا الجرس الغبي لم يفهم ان الغارة حدثت وسقطت شهيدا لها بصاروخ جو ارض عيار 6 على عشرين ..رن الجرس اذن معلنا انتهاء ساعة سي محسن الحبيّب وهممت بالخروج وبلعن الساعة التي عرفت فيها محسن الحبيّب ..الا انه فاجأني بقوله ..عبدالكريم ما تخرجش …عندي ما نحكي معاك …انصعت على مضض ولولا طاقة الصّبر التي عمّرتني طوال عمري لكنت “سبّيت قراقر جدّ والدين بو محسن الحبيّب والعربيّة والعالم بكلوّ” { اما ما ياخذكمش الهلس تبقبيق وبرّة …لست سبابا مطلقا وانا لحد الان قضّيت مع زوجتي وابنائي 36 سنة ولم اتفوه يوما بسبّة واحدة او بكلمة بذيئة، وهذه الاخيرة كانت بيني وبين اصدقائي زادنا اليومي في عمر ما .. وفي زمن ما . وبكل تفنّن واتقان}…

انزوى بي سي محسن الحبيّب اطال الله عمره وقال: شوف يا ولدي انا نعرف راهو انك كنت الاول في العربية مانيش راقد على اوذاني شفت نتايجكم الكل في السنة الماضية …اما توة راك في مرحلة جديدة متاع كتابة ..يلزمك تفهم انو كتابتك يلزمها تبعد عن الجانب الوصفي وتولّي كتابة تحليلية نقدية وانا عندي ثقة فيك وناكدلك من هنا لاخر السنة توصل تاخذ 12 على عشرين .. …نعم 12 على عشرين، وهو على فكرة افضل عدد انذاك لتلميذ متميّز عند سي محسن الحبيّب … في حياة الواحد منّا اوسمة لا نعرف مكنونها الا بعد مرور سنوات العمر …ذات يوم وبعد ان انتهيت من عملي امام مصدح حبيبتي اذاعة صفاقس (رغم انف من يحبّ ولا يحبّ) اعلمني زميلي المكلّف بالاستقبال في مدخل الاذاعة ان شخصا ما يريد مقابلتي ..خرجت ….فاذا بي امام جبل الاساتذة في الاداب العربية …سي محسن الحبيّب…

كنت انذاك احمل سيجارتي بين يديّ ودون ادنى شعور منّي رميتها وكأنني اتخلّص من اداة جريمة … احشم يا عبدالكريم تتكيّف قدّام استاذك ؟؟؟ وشكونو؟؟؟ سي محسن بكلّو … رغم انّي لم اشاهد استاذا يدخّن كما سي محسن كمّا ونوعا ..هو يلتهم السيجارة التهاما ويشعلها من اختها .. نظر اليّ سي محسن وقال ..اتكيّف يا ولدي توّة انا ما نعرفكش تتكيّف من وقت الرابعة ثانوي؟ …اما بوك محسن راهو بطّلو ان شاء الله تبطّلو كيفي … قلت له: اه اه ..ما يصيرش..العين ما تعلاش على الحاجب .._ثم وبعناق لم يخل من الطبطبة سلمت عليه بحرارة وقلت …حاجتك بحاجة سي محسن ؟؟؟ اجاب حاجتي بيك ..تفضّل سي محسن على عيني وراسي ….اخرج من محفظته كتابا وقال هذا هديتي اليك ..انت فخر لي .. وللحيّ …

ياااااااااااااااااااااااااااااااااه في حياتنا قد نمرض قد نعتلّ قد نشقى …قد نفتقد البعض من اكسيجيننا ولكن مجرّد حركة قد تكون كلمة قد تكون صورة، قد تكون عذوبة العذاب تحلّق بنا في عالم سحري فتحولنا بين لحظة واخرى.. بين ساعة واخرى …بين يوم وليلة ….من النقيض الى النقيض من الضياع الى وجود الوجود ….فمابالكم بكتاب يؤلفه سي محسن الحبيّب الاستاذ المميّز فوق العادة بحق (موش بترضيات سياسوية) ويهديه لتلميذه الذي صفعه يوما بستة على عشرين، ليعود به في نهاية السنة الى موقعه الحقيقي 12 على عشرين ثم ماذا لو علمتم بفحوى كتابه يااااااااااااااااااااااااه ازّاي ازّاي اوصف لكم حبّي وسعادتي ازّاي … …

ـ يتبع ـ

أكمل القراءة

جور نار

لو يتيسّر لنا في نهايات حياتنا إرجاع عدّاد العُمر إلى الصّفر…

نشرت

في

… لاعتذرنا شاكرين !

في عتبة متقدّمة من سلّم الحياة ننضُج قليلا ونتعلّم أكثر كيف نتآلف مع أكثر مظاهر الحياة توحّشا ونتمرّس على أي نحو  نستوعب خيباتنا ونُنسّب نجاحاتنا المزعومة وحتى النهايات المحتومة نفسها نتوصّل إلى السخرية منها والتعالي على نعيق أصواتها المُزمجرة والمُرافقة لنا منذ لحظة البدايات الأولى.

منصف الخميري Moncef Khemiri
منصف الخميري

 فلو نحسب في الستّين كم من مرّة كِدْنا نلينُ لنداءاتها اللّجوج، لاعتبرنا أنه كُتب لنا أن نعيش آلاف المرّات في الحياة الواحدة. نهزأ منها لأننا نرفض أن نكون في حالة سراح مؤقّت، وهو إجراء زجري أشدّ وطأة على الإنسان من الإيداع النافذ.  

قد يكون تحت وطأة الخطوات العملاقة التي يقطعها الذّكاء الاصطناعي ربما، والنجاحات الباهرة التي تحققها الاختصاصات الطبية المختلفة والتصنيع الدّوائي ورفاه الحياة بصورة عامة، أن فكّرتُ بإمكانية أن نُسأَل عند حُلول مساء العُمر إن كنا نرغب في مزيد من الحياة … فكانت إجابتي مباشرة وباتّة وغير متردّدة بأن “الاستطالة” الاصطناعية المُقترحة لا أُرحّب بها شخصيا، لأسباب عديدة، منها  :

 ___ الاقتناع العميق بأن المُتع بأنواعها بناتُ ساعتها واللذات الُمُقتنصة في غفلة من القدر عابرةٌ لا محالة، وشذى الحياة زائلٌ يؤدّي وظيفته الآنيّة -كما عطور النساء الفاخرة-  ويتبخّر سريعا غير آبهٍ بالتخليد والتمديد والإقامة الدائمة. وكأن المعرفة المُسبقة بالنهايات والمآلات تُفسد بشكل مَا مذاق “الغنائم” أو على الأقل تجعلنا نذهب إليها دون كبير وَهْم أو عظيم إقبال. ومن حسن حظنا من جهة أخرى أن العلم المُسبق بنهايات الآلام والأيام الصعبة، يُخفّف هو الآخر من حدّة أوجاعها وأنينها.  وتأسيسا على ذلك، يُصابُ الانسان بنوع من التعفّف (لا يعني الترفّع أو التعالي) الذي يجعله مُقتنعا بحدّ الكفاف ومُكتفيا بتلذّذ أبسط الأشياء وأيسرها مثل تلمّظك بذِكر كِسرة أمّك التي لا تُضاهي عذوبتها النديّة أشهى أطباق الدّنيا، أو مراقبة نحلة تُلقّح حقولا نباتية بأكملها دون ادّعاء ولا تؤذي شيئا أبدا لا في الأرض ولا في السّماء، أو كذلك تأمّل سلحفاة تشيح بوجهها وكامل كيانها متحوّلة إلى كتلة صخرية في وجه عالم مُناوئ تزدريه.

___ الانتباه الموجع مع بداية الهبوط التدريجي لطائرة العُمر إلى أن القسمة بين حلو الحياة ومرّها غير عادلة بالمرة، لأن عربدة الفاقة والعوْز (بشتى أشكاله ومعانيه) أعلى صوتا من موسيقى الحُبور والبهجة والفرح الموفور. وإذا صادف أن استقر الانسان في وضع يتوفر على قدر من المقبولية، سرعان ما يستحضر أن له أطفالا هنا مُهدّدين وإخوة هناك يُحاصرون وأن حروبا مُدمّرة تُطل برأسها في كل حين لتذكيرنا بأن الإنسانية متجهة نحو الفوضى والمتعة-الساندويتش والبقاء للأقوى، أكثر من اتجاهها نحو بناء إنسان جديد يقطع مع حيوانيته وجشعه ومستودعات الحقد فيه.

___ التقدير العارم لبعض ما عِشناه من لحظات مشتهاة -على بساطتها- ولما توفّر لنا من مساحات فرح طبيعي خالٍ من المُضافات والأكسسوارات باهظة الثمن استولينا عليه في البطاح والحقول والأنهار وبين صفحات الكتب النادرة جدا في طفولتنا (وخاصة عندما تُنذر الصفحات الأولى من رواية “ابنة البيّار” لمارسيل بانيول بوجود مشاهد للحب والعلاقة الحميمية بين باتريسيا و”جاك مازيل” الطيّار المنحدر من عائلة غنيّة). وقد يكون من حسن حظ الجيل الذي عايش قصص إحسان عبد القدّوس (وفيلم الوسادة الخالية الذي وُلد من رحِمها) وقصص نجيب محفوظ وثلاثيّة جول فاليس … أنه لم تتوفّر لديه فرصٌ حقيقية للمقارنة الاجتماعية والخضوع إلى نير تقليعات الموضة والنّبض الاستهلاكي بصورة عامة، حتى كدنا نخال أن العالم كله يأكل ويسكن ويفرح ويمرح ويلبس بنفس الطريقة بما جعلنا لا نتذمّر كثيرا من نقص الرفاه أو غيابه تماما بحكم أننا لا نعرفه.

___ لأنه لا ذُنوب اقترفناها لنندم عليها أو نبحث لها عن مَمَاحٍ. نتصالح أيضا مع النهايات الموعودة ونرفض التمديد لاعتقادنا بأننا لم نُذنب في حق غيرنا أو نحصل على بعض ما وصلنا إليه بوسائل كريهة تمنعنا من مواجهة أنفسنا صباحا في المرآة. بل أعتقد شخصيا أن جيلا بأسره وفي مواقع مختلفة افتكّ مكانته بفعل كدّه ومثابرته وتضحياته دون أعطية أو هِبات من أحد… كجيلِ المعلمين الذين جابوا أرياف تونس ومداشرها ناشرين المعرفة ومفاتيح وُلوج العالم، والممرّضين الذين لقّحوا ضد أمراض السلّ والكزاز والحصبة في أعالي الجبال، والأمنيين الذين أنجبوا أطفالهم كل واحد في بلدة، والمهندسين الذين بنوا مُنشآت الاسمنت والفولاذ والخزف، والفلاحين الذين برعوا في جعل العالم يلتفت ناحيتنا في أكثر من عنوان… هكذا جيلٌ حريّ به أن يفخر بكونه أدّى دوره كاملا وبما استطاع، في تشييد حِصن كان بالإمكان تثمينُه واستكمال بناء طوابقه المتبقية.

___ لأنه وجب الإقرار بأن العصر لم يعد عصرنا واللغة التي يتكلّمها لا نستطيع فكّ حرفها

قد يبدو أمرا طبيعيا أن يكون لكل جيل مرجعياته ومُثُله وموسيقاه وطرائقه الخاصة في المراودة والخِداع ونصب الكمائن لكن لم يكن ثمّة قطيعة حادّة بين الأجيال المتعاقبة كما هو الحال اليوم، بل يظلّ دائما الجيل السابق يُلوّن بعض الجوانب في حياة الجيل اللاحق ويُنيرها ولا يفكّ ارتباطه به. 

عصرٌ هجينٌ كهذا، حيث لا قيمة للأشياء إلا حسب ما تدرّه من أرباح ولا مكانة للأفراد إلا بمقدار ما يأتونه من عَراء أو هُراء أو هذْي تطرب له آذان المُغفّلين… وحيث يُقصى فيه الفلاسفة والمفكّرون والمُصلحون من فضاءات التأثير والتأصيل ليحتلها المُهرّجون والمُطبّلون والغواني وبائعو الأواني… عصرٌ كهذا أُعدّ لأُناسٍ ليسوا نحنُ ولذائقة غير ذائقتنا لأننا من المؤمنين بوجاهة المثل القائل بـ “أن أعقلكم وأكثركم حِكمة من عرف متى يغادر الطاولة … في صمت ودون إحداث ضجيج” (بتصرف عن شارل أزنافور).

أقول في النهاية بأنني أنتمي إلى جيل لم يعد يهمّه أن يُبهر أو يُقنع أو يستميل أحدا، لأنه لم يعد قادرا على “تحمّل تكاليف الصّداقة ولا عبء المشاعر” على رأي شارل بوكوفسكي. 

أكمل القراءة

صن نار