تابعنا على

جور نار

“المدرسة والمجتمع” بنابل : كاينّكم حاضرين

تغطية: “جلّنار”

نشرت

في

في سياق سلسلة نشاطاتها المتصلة بالمدرسة والثقافة، نظمت جمعية المنتدى الثقافي 14 جانفي بنابل بالشراكة مع المندوبية الجهوية للتربية ندوة فكرية بعنوان “المدرسة والمجتمع” وذلك يوم الجمعة 27 ماي 2022 تناولت أربعة محاور كبرى هي على التوالي :

العنف في الوسط المدرسي

علاقة الأولياء بالمدرسة

التوجيه الجامعي مُجتمعيّا

حول إيطيقا الإصلاح التربوي

منصف الخميري Moncef Khemiri
منصف الخميري

“جُلّنار” تابعت المُداخلات العلمية التي أثّثت هذه الندوة  والتي قدّمها على التوالي الدكتور شكري القبلي والدكتور مصطفى الشيخ الزوّالي والأستاذ منصف الخميري والأستاذ عادل الحدّاد، ولكنّ هذه التغطية ستحتفظ فقط بالنّتوءات والمُنحنيات التي ميّزت كل محاضرة على معنى ما ورد من أفكار غير مُتداولة وتناوُلات غير معهودة وتصوّرات حُلول فارقة تُرفع إلى من يهمّهم أمر المدرسة التونسية وما آل إليه وضعها من تأزّم وترهّل… وتُرفع أيضا إلى من لا يهمّه شأن المدرسة إلا كشعار زائف في حملته الانتخابية !

كانت بداية الندوة فرصة أكّد خلالها الأستاذ رضا التليلي، رئيس المنتدى ونائبه الأستاذ محمد نجيب الخليفي وهما المُباشران للشأن التربوي منذ عقود، على أهمية التداول المتبصّر بشأن مختلف أوجه الأزمة المركّبة التي تعيشها مدرستنا التونسية اليوم ومُتعة التشاور بين جميع الأطراف المتدخّلة في نحت مآلات الفعل التّعليمي التعلّمي مستقبلا … في ظل طلب مُجتمعي كبير على المدرسة ولكن في نفس الوقت في ضوء تذمّر واسع من سوء أداء مدرستنا وتراجع مردودها واستفحال عديد الظواهر السلبية التي لم نعهدها في فضاءاتنا التربوية من قبل، والتي تحول دون تحقيق هذه الأحلام الوطنية الكبرى المُعلّقة على مدرسة كنّا نخالها من مَواطن قوّتنا غير القابلة للتّلف.

المداخلة الأولى : قراءة في تاريخ العنف المدرسي، الأسباب والحلول

أهمّ ما ورد في قراءة الباحث الجامعي شكري القبلي أن ظاهرة العنف في الوسط المدرسي وفي محيطه استفحلت بشكل غير مسبوق خلال السنوات الأخيرة كما يُجمع على ذلك جميع المتابعين من مربّين وأولياء وأجهزة نظامية وغير نظامية، لا فقط على مستوى كثافة الاعتداءات المختلفة وحدّة تواترها بل وأيضا على مستوى الأشكال العنيفة وغير المألوفة التي يتجلّى فيها العنف المسجّل داخل أسوار مدرستنا التونسية (استعمال السيوف والسواطير ، إلقاء الملابس النسائية الداخلية في الاعتداء على المربّين…) حتى أن بلادنا أصبحت تحتل المرتبة الثالثة عالميا بعد الولايات المتحدة الأمريكية وفرنسا من حيث حجم العنف المدرسي (حسب المرصد الوطني للشباب وصندوق الأمم المتحدة للسكان بتونس، ديسمبر 2020 ).

وأشار المُحاضر إلى أن أكثر الفئات الشبابية المعنيّة بالعنف المدرسي هي الفئة التي تتراوح أعمارها بين 14 و 17 سنة (أي مرحلة التعليم الإعدادي وبداية التعليم الثانوي، وهي مرحلة عمرية يشهد خلالها المراهق تحوّلان عميقان يُربكانه جدا ويعصفان بتوازنه : من الابتدائي إلى الاعدادي ومن الإعدادي إلى الثانوي) دون مرافقة حقيقية لا من الوسط العائلي ولا من الأسرة التربوية. وعليه، فإن أية خطة وطنية تريد لنفسها النجاعة في تطويق هذه الظاهرة لا بدّ أن تستهدف هذه الشريحة بالذات.

كما نبّه إلى خطورة مسؤولية “الآباء الجدد لأبنائنا” (الفضائيات ومواقع التواصل) في إعادة إنتاج ثقافة العنف داخل الفضاء المدرسي وترذيل قيم الجهد والعمل والانضباط. هذا دون إغفال ظاهرة العنف البدني والرّمزي الذي يتعرّض له التلميذ داخل المدرسة وخارجها والتي مازالت للأسف من الظواهر المسكوت عنها والمُثيرة لحفيظة المسؤولين عنها والهياكل التمثيلية التّابعين لها.

المداخلة الثانية : نحو منظور جديد للعلاقة بين الأولياء والمدرسة في تونس

ينطلق الدكتور مصطفى الشيخ الزوالي من معطيات واقعية وملاحظات ميدانية حول المدرسة وعلاقتها بالأولياء  ومن القرار المفاجئ لوزير التربية في جويلية 2018 القاضي بعدم النزول تحت معدل 15 من 20 في القبول بالإعداديات والمعاهد للنموذجية. ومطالبة شريحة كبيرة من الأولياء بتنظيم دورة تدارك استثنائية للنوفيام والسيزيام.

هذه الواقعة بالذات والتي خلاصتها أن جمهورا واسعا من التونسيين يجد نفسه في كثير من الأحيان في وضع المُطالب بامتيازات تبدو “مشروعة” لكنها غير مستحقّة وفي وضع المُساهم في تكريس قيمة التّواكل والمجهود الأدنى بدلا من إعلاء قيمة الجهد والمثابرة. وعليه، طرح أسئلة على غاية من الأهمية :

  • لماذا تبدو الرداءة منتشرة في كل المجالات؟
  • §        ما الذي يجعل أغلبية الناس في تونس لا تطالب بحقوقها عبر احترام القوانين وإجلال المبادئ المُستندة إليها، وتطالب دائما بالاستثناء ولو على حساب حقوق غيرها؟ 
  • ماذا وراء الجدل الدائر سنويا حول مناظرتي “السيزيام” و”النوفيام’’ وما لُزومهما أصلا؟

وللإجابة عن هذه الأسئلة، يُشير المُحاضر إلى أنه لا بدّ في كل التغييرات الاستراتيجية من توفّر 3 ركائز أساسية :  تحديد الرؤية، توضيح الرسالة وبلورة القيم الأساسية التي سبنبني عليها مشروع التغيير.

بالنسبة إلى الشيخ الزوّالي، علاقة الأولياء مع المدرسة لا بدّ لها أن يُعاد بناؤها وفق منظور جديد يقوم على كسر المدرسة لعُقدة استعلائها وأن يتشبّع المواطن بقيم جديدة تستبعد الفردانية والنفعيّة الضيقة في نفس الوقت. كما يجب التخلي عن فكرة “الإصلاح التربوي الشامل وإلا فلا” لأن الإصلاحات الموضعيّة الدقيقة أكثر يُسرا وأكثر قدرة على الصمود في وجه “مقاومة الفاعلين التربويين” الرافضين لأي تجديد مُرشّح للتشويش على مربّعات رفاههم. أما في ما يتعلّق بإشكال التعليم النموذجي، فيكفي التذكير بحقيقة يُقرّها الجميع وهي أنه ليس هناك من نموذجي في مؤسساتنا النموذجية غير تسمياتها.

المداخلة الثالثة : المدرسة التونسية : هل تعطل تماما دورها كمصعد اجتماعي؟ قراءة في نتائج التوجيه الجامعي لسنة 2021.

بالنسبة إلى الأستاذ منصف الخميري، تلعب المدرسة دور المصعد الاجتماعي إذا سمحت شهائدها التي تمنحها والتكوين الذي تُسديه للفرد بالتحرر من ثقل الموروث العائلي والاجتماعي الذي يأتي به من خارج المدرسة، وأن المدرسة تكون متواطئة في إعادة إنتاج الفوارق الاجتماعية بين التلاميذ إن هي عجزت عن تحييد أثر الحتميّات الاجتماعية.

تمّ التأكيد كذلك في هذه المُداخلة على أن المدرسة التونسية مازالت تشتغل كمصعد اجتماعي ناجع جدا بالنسبة إلى فئة قليلة من التلاميذ (وهم بصفة عامة مَن تُفردهم الدولة بدورة خاصة في التوجيه الجامعي تُطلق عليها دون كبير قلق “توجيه دورة المتفوقين نحو الدراسة بتحضيري المرسى والجامعات الفرنسية والألمانية”). ولكن هذا المصعد يُوصِد أبوابه بعد ذلك ليُحيل مهمّة الصعود إلى السّلالم الخشبية والاسمنتية فتصعد فئة قليلة من “المُثابرين المقاومين” وتترك جمهورا عريضا من التلاميذ يراوحون مكانهم… قبل أن تلفظهم المنظومة من دون أدنى مستويات الكفاءة أو المهارة.

نتائج التوجيه الجامعي للسنة الماضية أفرزت اختلالات بالجملة لا بد من تداركها سريعا لأن السكوت عنها يُعدّ جريمة في حق تونس : 4 أو 5 ولايات فقط تفوز بنصيب الأسد في مسالك التميّز الجامعية وأكثر من نصف البلاد تظل تقتاتُ على ما تبقّى ما مسالك لا تؤدّي إلا إلى البطالة والعطالة وبئس المصير، باكالوريات بأكملها يتنكّر لها التعليم العالي، مؤسسات جامعية تشتغل بأقل من رُبع طاقة استيعابها الأصلية، حوالي ألف مليار هي كُلفة الدراسة بالخارج سنويا…

واختُتمت هذه المداخلة بالتأكيد على الحقيقة التالية : إذا كان اقتصاد المعرفة هو اليوم بصدد تغيير وجه العالم، وإذا كانت آليات هذه المعرفة الاستراتيجية الجديدة تُمنح في المدارس والجامعات، فيعني ذلك أن مستقبل الأجيال القادمة سيتحدد داخل أسوار المدرسة لا خارجها… وعليه فإن إنقاذ مدرستنا من الانهيار النهائي الكامل هو اليوم مهمّة الوطنيين الصادقين… ودون أدنى تأجيل.

الُمداخلة الرابعة : في إيطيقا إصلاح المدرسة، كيف يكون الإصلاح مُمكنا ؟

تحدث الأستاذ عادل الحدّاد عن الإصلاح التربوي في تونس، وهو الذي ترأّس لجنته العليا سنة 2015 وخبِر إكراهاته وعوائقه ووقف على متطلّباته.

يؤكّد أنه ثمة اتفاق مُجتمعيّ عام على أن يعود للمدرسة ألقها كاملا وأن الإصلاح بات ضرورة وطنية قصوى، ولكن ما الذي يمنع قيام هذا الإصلاح ؟

إن الإرادة السياسية على غاية من الأهمية في قيام أي إصلاح، والإمكانيات المادية ضرورية بصورة عامة، لكن في السياق التونسي بالذات لا معنى للنوايا السياسية الصادقة وحجم الإنفاق العمومي على مستلزمات الإصلاح لأنه لا بدّ من توفّر جملة من الشروط الأساسية الأخرى لجعل الإصلاح ممكنا، على معنى أنه لا بدّ من ضرورة توفّر جانب إيطيقي- أخلاقي مسكوت عنه في تونس والذي يعرقل كل محاولة إصلاحية جادّة.

هنالك 3 عناصر :

  1. صدام المصالح لأن الإصلاح يضعنا في وضعيات قصوى تتطلب تضحيات “رمزية أو اعتبارية أحيانا” ليست كل الأطراف مستعدة لتقديمها. فمن يقبل على سبيل المثال اليوم بالتخلي عن بعض الشُعب الدراسية التي أثبتت عدم نجاعتها بعد عقود من الممارسة حتى وإن توفّرت الإرادة والإمكانيات ؟! ومن يقبل بإعادة توظيف بعض الموارد البشرية التي لا لزوم لها ؟ ومن سيقبل بوضع خطة وطنية لإعادة تأهيل المُربّين قصد مواكبة التطوّرات الحاصلة في المناهج والمقاربات ؟ وأي تطوير للبرامج في ظل المحافظة على شبكة التعلّمات القائمة ؟ وأية مضامين للبرامج الدراسية دون مرجعية لهذه المضامين ؟ وأي إصلاح حقيقي مع المحافظة على نفس عدد سنوات الدراسة في مختلف المراحل ؟ المسألة إذن مُركّبة وتتجاوز شعار “توفير الإمكانيات والإرادة السياسية”.
  2. الطابع الصوري للقوانين (الذي يُعدّ تحيُّلا ذكيّا على الحق)، فالقانون يُرتّب المصالح وينظمها بالاعتداء على الحقوق ومنها ضرب مبدأ تكافؤ الفرص والإنصاف، هذا المبدأ الذي بدونه لن تتحقّق أية نجاعة لمنظومتنا التعليمية. هذا بالإضافة إلى أن المؤسسة التربوية التونسية  تحوّلت في السنوات الأخيرة إلى مؤسسة تقييم على حساب جودة التكوين وضمان تمكين الناشئة من المكتسبات الأساسية.
  3. قاعدة التنكّر للمُنجز أو تصفية السّابق، فعلى سبيل المثال يبدو اصلاح 2015 والذي ساهم في نحت ملامحه آلاف المربّين والأولياء والخبراء والمهنيين … وكأنه لم يحدث. نحن لا نملك الوعي الأخلاقي بالمُراكمة وتثمين ما أنجزه السّابق، وبالتالي يظل الأمل  في الاصلاح ضعيفا جدا (المُتنفّذ التونسي بصورة عامة لا يحترم أعمال الآخرين ومنجزاتهم).

ويُنهي السيد عادل الحدّاد مداخلته بالوقوف على حقيقة تونسية قاسية وهي أنه يبدو أننا نفتقر إلى إيطيقا للإصلاح…قبل افتقارنا إلى ما يكفي من الموارد وإرادة السياسيين.

أكمل القراءة
انقر للتعليق

اترك تعليقا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

جور نار

سنكتشفُ بعد رحيل العمر

نشرت

في

عندما تضيق مساحات الأمل ويتناقص مخزون التونسيين الاستراتيجي من أوكسيجين حبّ البقاء ويملّ الكلام من الكلام وتتعاظم كتلة العابرين إلى الضفة الأخرى ولا نجد من حِيلٍ نافعة سوى النكتة والبهتة والنّهل من مدّخراتنا من الصّبر والجلَد أو ما تبقّى منهما بعد كل العقود والسنوات الوعرة التي مررنا بها،

منصف الخميري Moncef Khemiri
منصف الخميري

عندما نبلغ هذا المستوى من فقدان المناعة الفردية الداخلية في طريق ليلية لا تعترضك فيها أية دلائل ضوئية على انفراج قريب في الأفق، يُصيبنا ما يُشبه متلازمة القولون العصبي (وهي حسب القواميس الطبية حالة صحية مزمنة وشائعة تصيب الأمعاء الغليظة وتسبب تقلصات وانتفاخا في البطن) بحيث تتراجع شهيّتنا للأكل والحركة والفرح والكتابة والقراءة ومتابعة الأخبار جميعها… وأمام هذا الشدّ العصبي المُزمن، نلجأ إلى أسلوب أجدادنا في الجلوس الهادئ (بقرار واعٍ) أمام مشهد يعرفون دقائق ما يعتمل فيه ويقدّرون جيدا ألاعيب جميع اللاّعبين وفهلوتهم المكشوفة. تسألهم عمّا يجري فتأتي أجوبتهم بصورة عامة مُختصرة ومُمعنة في رميهم -على طريقتهم- بمعاتبات مُؤنّبة وصاعقة ولكن لا يلتقط لظى سخريتها سوى من كان هدفه حب وطنه بإطلاق لا حبّ ما سيجنيه عندما يقول إنه يحب وطنه.

فكأنّي أسمع تنهّدهم قائلين  : سنكشف (نهار الكِشفة) بعد رحيل العُمر :

أنه كان لدينا عنوانا أسطوريّا اسمه “قرطاج” كان من الممكن تثمينه واستثماره وتوظيف أغلى الرّسوم على حق عبور أبوابه بدلا من تحويله إلى “رِتعة” ومرتع وملجإ للفارّين من فُضول الأجوار وتطفّل الأنظار، المدنية منها والأمنية.

وأننا لم نفعل شيئا من أجل شدّ الآلاف من خيرة شبابنا إلى وطنهم الذي حباهم رغم نُدرة موارده- بتكوين أهّلهم للاندماج بيُسر نادر في المنظومات العالمية…بل لعلّنا فعلنا كل شيء من أجل إحباطهم وتخييب آمالهم وجعلهم لا يثقون البتّة في قدرة بلدهم الذي يعشقون، على النهوض يوما وتوفير بيئة قادرة على استيعاب معارفهم ومهاراتهم ولو بمستويات أجور أقل مرتين أو ثلاث من تلك التي يتقاضونها هناك.

وسنتظاهر زيفا بعد رحيل العمر، بأننا فهمنا الآن أن سنة إضافية واحدة تجتازها مدرستنا دون ترميم، مُرادفها آلاف البطّالين والمُنحرفين والمُلاحقين أمنيا والمُرشحين لاجتياز بحار الموت خلسة والمُهرّبين وأصحاب اللواحق العدلية (بحكم أن المدرسة هي التي كانت تحول أن تكون لديهم سوابق) وكل المُساهمين بشكل نشيط في إنتاج مجتمع يعيش تحت مستوى الجهل والميل الطبيعي إلى الفوضى وعقلية التدمير : تدمير الذات والأسرة والطبيعة وتهديم السقف على الجميع.  

وسنعرف يوم المُكاشفة الكبرى أننا أضعنا سنوات ثمينة جدا كان بإمكاننا استثمارها في تصويب صورة “التونسي” التي اهتزّت كثيرا خلال السنوات الأخيرة حتى بِتنا نهمس بجنسيتنا همسًا في مطارات العالم وشوارعه… والحال أننا قادرون تماما على صُنع صورة أخرى لنا ندُكّ بها ترويجاتهم عنّا وتعاليهم الزائف إزاءنا، لأننا نتميّز عن باقي شعوب الأرض بكون السؤال التقليدي “ما هي الخيرات التي يزخر بها بلدٌ معيّن ؟” لا ينطبق علينا نحن التونسيين بل ينسحب علينا السؤال الأكثر إثارة وهو “ما الذي لا تزخر به تونس حتى تكون أجمل وأسعد بلاد الدنيا ؟”.  

وسنكتشف كذلك في ساعة متأخرة من ليل العُمر أن عدد التونسيين ضئيل جدا بالمقاييس الأسيوية (خاصة إذا خصمنا منه حوالي 1.816.833 تونسي يُقيمون بصفة قانونية بالخارج أي حوالي خُمس مُجمل التونسيين) وكان من الممكن تماما – لو كانت تونس مقاطعة أوروبية –  أن يكون نصيب الفرد التونسي من الناتج المحلي الإجمالي أعلى من اللوكسمبورغ أو إيرلندا أو النرويج.

وسنُدرك بعد فوات الأوان أننا بدّدنا وقتا ثمينا في بعث لجان التحقيق التي تظل تراوح مكانها إلى أن ينسى الناس مواضيع تحقيقها، وإطلاق الاستشارات التي تظل نتائجها رهن الرفوف، وإعلان مشاريع الإصلاح التي تتعطل قبل انطلاقها، وإطلاق النوايا الواعدة التي تغمرها مياه الأحداث فتضحى بسرعة نسيًا منسيّا.   

وسنفيق عندما يصبح جسم البلد غير قادر على مزيد تحمّل النكسات والانكسارات، أن بلدانا كنّا نُدعّمها بالخبرة والتجربة والمهارة في شتى المجالات ( في التعليم والمواصلات وتشييد الجسور والطرقات والخدمات السياحية والتقنيات الفلاحية…) قطعت أشواطا متقدمة أكثر منا في صنع شروط مناعتها وسيادتها، ويكفي اليوم أن نتجول في شوارع أثيوبيا أو المغرب أو رواندا أو البلدان الخليجية لنقف على هذه المفارقة.

وسنفتح أعيننا مشدوهين يوم لا ينفع الاندهاش أننا أخفقنا في ترويض كل منعرجات الطريق التي اعترضت مسيرتنا، وأخفقنا كذلك في إنشاء عقلية مجتمعية بنّاءة لا ينتشي أصحابها لمجرّد الاستماع إلى أخبار الإيقاف والإعفاء والإحالة والاستماع حتى كاد الخطاب اليومي للتونسيين يخضع إلى استقطاب ثُلاثي فريد في العالم : فإما معارك طاحنة في الملاعب أو معْمعَات يومية في الدوائر والمحاكم، أو كذلك شبكات تهريب واتّجار خطيرة يُطاح بها على الطرقات العامة. إن العقلية السائدة اليوم لم يعد يُغريها الحديث في مشاكلنا المزمنة إلا من زاوية تقليبها على جميع أوجهها من أجل الاحتفاظ فحسب بما يزرع مزيدا من الشعور بالخيبة والرّيبة والهزيمة.

وسيُفرض علينا عندما تستكمل الحلقة دورتها أن نُحدّق مليّا في مرآة التاريخ وأن نُجيب بدون مواربة عن الأسئلة الفادحة : بماذا نفعنا بلادا أعطتنا بلا حساب وبِم أفدنا الانسانية التي نأكل من فيئها  العلمي والتكنولوجي يوميا، وما هي مؤثّثات المشهد الذي سنُورّثه لأبنائنا وماذا كسبنا من الإيذاء المجاني الذي سبّبناه لبعضنا البعض وأية الجنّات الكاذبة التي ستؤوي القتلة والمحرضين على الفتك والهتك وبِأية إنجازات حققناها أو صُروح بنيْناها ستحتفظ سجلات التاريخ ؟

وسيقول عنّا أحفادنا  “نهار الكِشفة” إن :

أجدادنا العُتاة برعوا في رياضات مختلفة وأجادوا فنونها مثل رياضة التفرّد بالتقوى والوطنية وتخوين أو تكفير سواهم، ورياضة نفخ الصّدور والجيب المقعور ورياضة توليد خطابات تُسكر قائلها لكنها لا تقول شيئا له معنى، ورياضة “رمي الجُلّة” على أهداف وهمية لا أثر لها على حياة الناس ومعيشهم وتوقهم إلى مغادرة حالة الاستثناء الدائم والسّعد النائم. 

أكمل القراءة

جور نار

نخبة براقش

نشرت

في

تونس لا تحتمل "18 أكتوبر" آخر - Actualités Tunisie Focus
ما بقي من “زاورة” 18 أكتوبر

مثل فئران المصيدة، يتعالى صراخ الكثيرين من ساستنا القدامى الذين صاروا رغم أنوفهم معارضين… ومثل نفس فصيلة القارض الصغير، لا يجد فاقدو السلطة هؤلاء متعاطفا أو مشفقا أو حتى سامعا لنداءاتهم … للأسف، بكل أسف …

عبد القادر المقري Makri Abdelkader
عبد القادر المقري

نتأسف عليهم لا كأفراد فالذاكرة الشعبية لا تحفظ لهم أي جميل حتى ترده لهم … ولكن نأسف لموت مشاعر عدة في قلوبنا، ولاندثار قيم سامية من ضمائرنا وعقولنا … ومن المفارقة أن الذي قتل فينا المشاعر والقيم، هم هؤلاء أنفسهم الذين يتوسلون إلينا اليوم كي نكون في صفهم … نعم … حين كانوا قبل هذا بعيدين عن السلطة أو عن البلاد، كان أغلبنا يحترمهم ويساندهم ولو في السر، ويقرأ منشوراتهم المهرّبة ويقول ليتهم يعودون يوما فهؤلاء هم أمل البلاد وفرسانها القادمون … ودار الزمن دورته وانتقلوا من خارج الوطن إلى داخله، ومن داخله إلى سدة حكمه، وحلم ملايين ومئات آلاف بالجنة التي تجري من تحتها الأنهار …

طبعا لا نقصد بالجنة وأنهارها أن تصبح تونس في ثراء سويسرا خلال شهر أو سنة أو حتى عشر، ولكننا على الأقل تصوّرنا حكما رشيدا ومسؤولين زاهدين وأيد نظيفة … هل كثير ذلك علينا؟ هل مستحيل؟ … أنحن أقل مقاما من أقطار أمريكا اللاتينية وارثة الطغم العسكرية، أو جنوب شرقي آسيا المثقلة بتاريخ إقطاعي لا يرين، أو جزء من إفريقيا جنوبي الصحراء المنهكة بألفيّات من العبودية والقبلية والاستعمار في أبشع ألوانه؟؟ ثم لنعد إلى خطابات نخبنا ومقالاتها ومؤلفاتها وتنظيراتها طوال عقود … لم يكن يتفوق عليها صراحة إلا “كلام الله في التوراة” كما قال شاعر … وفوق هذا، معظم أشخاص نخبنا شاب قرناها بين المهجر والسجن والتجربة ونقض التجربة وقراءة سير الأولين والآخرين … خاصة سير الساسة الذين نجحوا والساسة الذين طمرتهم المزبلة … فهل هناك من درس وهناك من استخلص وهناك من قال أنا لها؟

أكثر عبارة كانت نخبنا تتداولها وعادت إليها اليوم بعد أفول شمسها هي: الشعب… كانوا يلومون النظام السابق على أنه لا يراعي مصالح الشعب، وينفذ سياسات ضد الشعب، ويأتمر بتعليمات من أعداء الشعب، وينهب أموال الشعب، ويلعب بمستقبل أبناء الشعب… ولطالما قرأنا إنشاءات ممتعة في التغزل بشعبنا على أعمدة “الرأي” و”الموقف” و”المغرب العربي” و “البديل” و”الجرأة” وحتى “فجر” حمادي تفجيرات … ولكن حينما جاءت ساعة الجد ووُضع هؤلاء حيث يمكن لهم تنفيذ هيامهم بهذا الشعب، تشعّبت أمامهم السبل بين الشعب التونسي و”شعوب” عائلاتهم وجهاتهم وأحزابهم ومموّليهم …

علماء النفس اخترعوا مصطلحا ظريفا اسمه “عقدة ستوكهولم” ومفادها أن السجين عندما يطول به المقام تنشأ بينه وبين سجّانه وشائج مودّة وانسجام … جماعتنا السجناء السابقون في زنزانات النظام زادوا على هذا الانسجام شوطا إضافيا هو تبادل الأدوار … أي أن تتقمص الضحية دور الجلاّد حين يأتي دورها في الحكم وهذا ما فعلوه … بعد استوكهولم، لك أن تسمي العقدة الجديدة عقدة قرطاج، أو عقدة القصبة، أو عقدة باردو، أو الثلاث معا … أصبحوا في زمنهم يرفضون الاحتجاج عليهم والنقد بل ويطالبون بالتطبيل لهم عبر مظاهر عدة أهمّها اعتصام زيتون أمام مقر التلفزة في 2012 … وها قد انكبّ سعد تلفزتنا وإعلامنا عموما مذّاك بعد فترة تحضّر ومهنية موجزة …

ومهما كان استهتارهم بهذا الشعب وسوء ظنهم فيه، ومهما كان جديرا بهذه المعاملة أم لا، فيبدو أن في تاريخ السياسة ثوابت من الصعب تجاهلها:

  1. الشعوب قد تكون غبية، أو تتغابى، أو تتغافل، أو تتسامح، او تنسى مؤقتا، ولكنها في لحظة ما، تستفيق وتتذكر كل شيء، وتحاسبك أعسر حساب
  2. قد يكون للدهاء دور في نجاح رجل السياسة، ولكن ذلك لا يجدي دون الحرص على سمعة فوق كل الشبهات، وهي وحدها التي تحدد بقاء السياسي إن لم يكن في منصبه ففي ذاكرات الناس وتاريخ الحضارات … عيدي أمين وموبوتو وكمباوري وبينوشيه كانوا دهاة حكم وسياسة، ولكن مهما طال بهم المطال فقد لفظتهم الذاكرة ولم يبق من صداهم سوى الدموية والفساد الفاحش… في حين يرسخ اسم “توماس سنكارا” كواحد من العظماء رغم فترة حكمه القصيرة المثالية.
  3. جميع الزعماء الذين كان لهم تأثير في حياة شعوبهم والإنسانية، كان زهدهم في مباذخ الدنيا مضرب الأمثال… فهم يشتركون في عدم امتلاك ثروات أو مكاسب شخصية عدا مرتباتهم، وفي تعلق همتهم برفاه شعبهم بدل رفاه ذويهم … ليسوا أنبياء طبعا ولكنهم إليهم أقرب في الطموح إلى الأعلى، إلى الأسمى، إلى الخلود بدل الحسابات البنكية… وكثيرون حاولوا النبش في “تركات” بورقيبة وعبد الناصر وبومدين وهوشي منه … فلم يجدوا سوى بقية من آخر راتب، وثروة حقيقية من الإنجازات والذكر الطيب.
  4. كاذب من يقول إن السياسة الشاطرة وعود كاذبة أو لا تكون، وهذا من ترويجات مبرري عشريتنا القاتمة… لا يا سيدي، فالسياسة فيها معارك ومضارب هذا صحيح، ولكن حدا أدنى من الصدق (بل حدأ أقصى) والأخلاق ضروري إذا كان السياسي يريد أن يخدم الناس فعلا وينتظر منهم عرفانا … لسنا نتحدث عن مدينة فاضلة، ولكنها “مدينة” فقط، اي جمهرة مواطنين تملك مصيرهم اليوم، ويملكون مصيرك غدا وبعد غد.
  5. نجوم المجتمع بشتى أنواعهم هم قدوات وأمثلة أعلى للشباب، فما بالك بالنجم الأشهر في كل مجتمع أي القائد السياسي، إن لم يعط المثال فمن يعطيه؟ … وهناك مقولة ذائعة مفادها أن رجل السياسة تفكيره في الانتخابات القادمة، فيما يفكر رجل الدولة في “الأجيال القادمة”،

إلخ …

ـ يتبع ـ

أكمل القراءة

جور نار

ورقات يتيم … الورقة 35

نشرت

في

Bac 2020 : tous les résultats sont disponibles - Le Parisien

عبد الكريم قطاطة:

.. لعلّ افظع ما في الامتحانات عموما والمفصلية خاصّة في حياة التلميذ او الطالب… سيزيام ..باكالوريا ..اجازة .الخ … ليس الامتحان او ما قبله ..بل مرحلة الانتظار …اووف ..كم هو مرهق (ما اثقل ريحو) … انذاك يعيش الواحد منّا ساعات تُعد فيها الثواني بالدهور … تتحوّل عقارب الساعة فيها الى ثعابين تترصّد كل طاقة الصّبر فينا لتمتصّها “وعيننا حيّة”…

عبد الكريم قطاطة
عبد الكريم قطاطة

اتذكّر جيدا يوم الاعلان عن نتائج الباكالوريا الذي جاء “بعد ما تمرجنا” صبرا … افقت يومها على غير عادتي صباحا وكعادتي كان ملاذي نادي الاصدقاء (حانوت الحلاق) ودخّنّا ما كتب الله لنا من سجائر ..وتثاقل اليوم في خطاه وسلّمنا على افراد الشلّة مغادرين في اتجاه معاهدنا ..وتابعنا سي المبروك الحمّاص بدعواته لنا بالتوفيق … ويخُصّني لست ادري اقتناعا ام حبّا بكلمات لي وحدي (نعرفك تنقّزها يا كُريّم) ..فيما انبرى بواحمد حلاقنا… ممثلا لندمائه يتوعّد ويتهدّد بابشع المقذوفات اللفظية اذا لم ينل نصيبه والندماء من بنت العنبة بعد نجاحنا .. كنت الوحيد من ضمن اصدقاء المراجعة الذي يدرس بالحي ..لذلك وجدتني بباب الجبلي آخذ طريق العين مترجّلا قاصدا معهدي …

كانت ساعة باب الجبلي العملاقة تشير الى الثالثة بعد الظهر .. وكنت منذ لحظة نزولي من الحافلة انظر الى الاماكن زاوية زاوية نظرة مودّع .. يومها ملأت عينيّ بكل تفاصيل الاشياء التي عشتها .. يومها شبعت بالنظر الى بائع الجيلاط والكريمة، المنتصب في قلب ساحة محطة الحافلات ..بشاربيه العريضين _ وبعين تقلي والاخرى تصب في الزيت (هذه عبارة كنّا نقولها عن من له عين ونصف في تركيبة الرؤية عنده )…يومها شبعت بالنظر ايضا لذلك الذي قضّى كل عمره وهو يبيع في بضاعة لا يزيد ثمنها الجملي عن عشرات المليمات وهو يردد “اباري بابور الباكو بدورو”… وهذه لمن يجهلها تعني ابرا كانت لتسريح الرؤيا في عين البابور الذي كان يستعمل كـ”ڨاز” لطهي الطعام …ثم يضيف نفس البائع: “فلايات مرايات” …وعبثا حاولت ان اجد العلاقة بين اباري البابور والفلايات وهذه تستعمل انذلك لقتل القمل بعد العثور عليها في رؤوسنا الوسخة …وللامانة علاقات جل العائلات انذاك مع معشر الحشرات من العقرب وصولا الى الوشواشة ومرورا بالقمل والبق والبرغوث كانت جيّدة ..

الرابح الاكبر والوحيد في هذا العالم الحشراتي هو سي القلال ..هذا كان مزوّد صفاقس الوحيد بادوية الحشرات ينتصب بحانوته قرب زنقة عنّقني وفي رواية اخرى زنقة الفنطازية ..كنا نرتجف منه ومن حانوته ونحن صغار عندما نرى الصورة الاشهارية المعلقة على حانوته (عقرب صفراء) ترتعد لها الفرائص… قد لا ينتبه لها روّاد ذلك النهج حاليّا اما لانقطاع علاقتنا الديبلوماسية في صفاقس مع فصيلة العقرب بعد ان تربّضت الغابات وانقراض العقارب منها ..او للصدأ الذي علق بتلك اللوحة والتي لم يعد يظهر منها الا مناطح نلك العقرب ..الا اني ولحد الان وكلما مررت من امامه لم انس ان ادعو له بالرفاه واليمن والبركة وبالرحمة له ولوالديه …. لاننا معه فقط وبدوائه السحري العجيب عشنا الرفاه بعد ان استسلم البق نهائيا لمفعول دوائه اصبحنا نستعمل الجرافات صباحا (قاعد نبالغ راني) لجرف هاجوج وماجوج البق كل صباح بعد ان سقط في فخ دواء سي القلال المزطّل الى حد الموت ..وكذلك بالنسبة لكامل طاقم الحوش الذي يتميّز بسقفه الخشبي في بيوته والذي هو في جلّه منخور بياجوج وماجوج البق …

عندما اخذت طريقي الى معهدي (الحي) استوقفني مدفع رمضان ..يااااااااااااااه كم كنّا ننتظره نحن تلاميذ الحي لنستمتع بطلقته الرمضانية الرهيبة عندما يصادف خروجنا توقيت الافطار …انذاك في ايامنا المدرسية لم يكن هنالك توقيت خاص بالدراسة في رمضان ..انذاك كان رمضان ياتينا شتاء في جل سنواته ..وعندما تنتهي الدراسة على الساعة السادسة مساء ليس مسموحا لنا بالافطار الا بعد مغادرة القسم .ولكن (دُوّيو !) كنّا نركّز جدا وجيّدا مع اقتراب وقت الافطار على سمفونية المدفع ..التشايكوفسكية عادة …وكما تعلمون تشايكوقسكي معروف بسمفونياته الصاخبة … والمدفع على بعد مائتي متر منّا و”عينك ما ترى النور”، ينغمس كل واحد منّا في ما اعدّه لافطاره ..كنت من الذين يفطرون على نوع من الحلويّات يُدعى “هريسة باللوز” قطعة صغيرة في حجمها لا تتجاوز ربع الكف ولكن خير من بلاش ..ثم الاكل في القسم لا يمكن ان يكون وليمة … قد يتغاضى الاستاذ في حنّية على تلاميذه ولكن تبقى دائما في خانة “انا ما نقلك وانت ما يخفاك” و”كان استاذك عسل ما تاكلوش الكل”….هما دقيقتان او ثلاث وتنتهي اصوات “تخشخيش” القراطيس التي نحمل فيها افطارنا … ونعود الى الدرس دون ان نعود ..فكيف لبطن خاوية من جهة ولشوق ولهفة لا توصف الى السيجارة، ان نعود الى الدرس او يعود الدرس إلينا …وللامانة ايضا وباستثناء الاستاذ الهرماسي الذي كان يشعل سيجارته وقت الافطار (رغم اني لم اتصوره يوما صائما يعني عازقو كما عزقناه نحن فيما بعد) باستثنائه لم اعش يوما مع استاذ يتناول ولو قرص حلوى وقت الافطار ..

وصلت الى الحي ..كانت الساعة تقترب من الثالثة والنصف . لم يكن هناك عدد مهم من التلاميذ اذ ان وقت الاعلان عن النتائج حُدّد بداية من الساعة الخامسة مساء .. اش جابك يا عبدالكريم في ها الوقت ..؟؟ لا ادري ..ربّما كنت غير قادر على مزيد الانتظار …ربما كنت ومازلت من الذين يستبقون المواعيد ولا اريد ان ينتظرني الاخر ..ربما هو الخوف من نتيجة سلبية لا قدّر الله وربّما الاستئناس بالمكان يخفّف من وطأتها …ربّما الثقة في النفس او النرجسيّة كما يراها البعض فيّ اردت من خلالها تشييئا الحدث وتهميشه و كأني اقول ها انا جاهز وبقلب اسد للحدث … عفوا سيّدي الاسد ..فتشبّهي بك هو مجازي لا غير، ما تاخذش في خاطرك منّي، نفدلك معاك راهو ..او ربما هو هذا كلّ هذه المشاعر ملخبطة في بعضها …الا انّه ومع مرور الوقت احسست بانقباض رهيب وعلى غير عادتي ..احسست بضغط يتسلل الى صدري ..وتهاطلت الصور على شاشتي ..عيّادة .. حبيبتي ..الشلّة … اصدقاء المراجعة واولهم صديق عمري ..اساتذتي بالمعهد … زملائي في الدراسة ..ماذا لو ؟..ماذا لو .؟.. ماذا لو ….؟؟؟؟

لم اخف يوما من امتحان نتيجة او انتظارا ..يومها لا ادري كيف اصف احساسي لكم … لم يكن خوفا بل كان ضياعا ..ماذا لو…لو هذه لم استفق منها الا على احد القيمين وهو يُعد المصدح بتلك الجملة المعهودة (ساه ساه) اي يقوم بتجربة الصوت…وهذا يعني ان الاعلان عن النتائج سيداهمنا ..كنّا متحلّقين جميعا كعناقيد طيور .. مشرئبة اعناقنا الى البوق هنالك ..وكأننا سنستمع باعيننا لا بآذاننا ..وكانت جل الوجوه اشبه بكعبات بطاطا مسموطة ..ممتقعة لا نبض فيها ..وبدأ سي احمد بسلاسل القائمات ..كنت اسمع ولا اسمع ..حتى دوّى صوت قائمتي في شعبة الاداب وانطلق المشوار ..دريرة ..الفقي ..القسمطيني ..ثم .. ..منطقيا بعد قسمطيني انت يا ولد قطاطة ..الا تقول هكذا الابجدية ..؟؟ زعمة المرة هاذي ما خدموش بالابجدية ..كيفاش ..؟؟ ويني انا ؟؟؟ اش معناها ..وفات فلوسك يا ولد قطاطة ..؟؟ باع وروّح ..؟؟ فاتك القطار ؟؟؟ وانتهت سلسلتي … اسمي غير موجود ..لم اتذكّر تحديدا كيف انسلخت من وسط الجموع وحملت رجليّ اللتين لم تعودا قادرتين على حملي ..قللك اسد وقلب اسد …. خرّف يللّي تخرّف ..

احيانا يحس الواحد منّا انه اتفه من حشرة … لا قيمة لا هيبة لا شجاعة .. عندما تخذل الاقدار واحدا منّا يتحوّل ولو حينيّا الى كومة رماد ..انذاك سرت وحدي شريدا ..محطم الخطوات ..تهزّني انفاسي .. تخيفني لفتاتي .. كهارب ليس يدري من اين او اين يمضي .. شك ضباب حطام ..بعضي يمزق بعضي ..بعضي يمزق بعضي ..صدقا كانت تلك حالتي وقتها …ربّما هي من المرّات القلائل في حياتي التي احسست فيها بالغثيان والتيه والضباب والقرف … كنت كعمود خشب .. لا حرارة في جسدي ..لم استطع وانا وحدي لا الكلام مع نفسي ولا البكاء عليها ..كنت شبه آدمي .. وكان عليّ ان اقوم برد فعل بشيء ما ..عبدالكريم لم يجد وقتها الا عبدالكريم فعليه ان يرُد الفعل عليه ..هيّا انت غير جدير حتى بامتطاء الحافلة للعودة الى حوشك …على ساقيك وياسر فيك … وكان ذلك ..قرابة العشرة كيلومترات مترجلا لاني لم اكن وقتها جديرا بعبارة راجل …لم ادر بالضبط كيف وصلت الى المنزل … لكن لن انسى زهمولة امّي وابي واخوتي وهم ينتظرون وصول عريس الباكالوريا ..قلت زهمولة وجمعها زهامل ومعناها طيفهم ..لان وصولي كان ليلا بعد اول واخر ماراتون مشي في حياتي (10 كم) ..وكانوا ينتظرونني في راس الزنقة ..حيث لا انوار ولا هم يبصرون ..وقديما قالوا “الظلام ستّار كل العيوب”..

وجاء صوت احد المتجمهرين من سكان الحوش يسأل وانا اقترب: اشنوة يا كريّم وليّد والاّ بنيّة ؟؟ …هل رأيتم كم ظّلمت المرأة منذ عقود ..لأن وليّد تعني النجاح وبنيّة تعني الفشل …سألتكم بربّ العزّة كم من امرأة بالف رجل ..؟؟..ماضيا وحاضرا ويوم البعث حيث الجنة تحت اقدام الامّهات ..لم اُجب ..وفي صمتي الاجابة …لم ار وجه اي واحد منهم .. دخلت وتمرقدت ..ولم انم ..لم انم بتاتا ..كيف ساواجه غدا القوم يا قوم ..امّي ..القبيلة في الحوش … اصدقائي في الشلة ..سي المبروك …وتلك المسكينة التي تنتظرني حتى اخلّصها من هذا الخطيب الذي نزل فجأة نزول الصاعقة علينا …وقبل ان ينهض الجميع غادرت الحوش ..لاشكو الى سيجارتي همّي (على الخواء) ثم بدأت الحياة تدبّ في و على الساقية و بدأت الحوانيت تُفتح ..وبدأت الاوجه تتساءل وانا اجيب برأسي لا ونفس الردود ..موش كاتبة ..الله غالب ..ما تعمل شيء في بالك ..بول عليها (حاشاكم) تمشي تفعل وتترك ..

كل واحد بنغمتو وكل واحد يغنايتو ..وانا بعضي يمزّق بعضي ..حتى وصل رضا ..علمت انه نجح وعلم اني لم انجح ..عانقته بكل حب وسعادة له مشوبة بألمي على اننا سنفترق ..لم يعلّق ولكنه اراد تهدئتي بقوله ..تعرف اللي السنة ومنذ 1965 اقل نسبة نجاح في الباكالوريا … اكتشفت بعدها ان باكالوريا دفعة 1970 لم ينجح فيها الا 3298 تلميذا ..وهي اضعف نتيجة منذ 1965 لحد يوم الناس هذا … مع اخذ عامل النسبية بعين الاعتبار ..نعم ..ومن سوء اقداري اني كنت من المنتمين لهذه الدفعة …ولكن الانكى والامرّ والاغرب والمُدمّر والمُروّع اني تحصّلت مرّة اخرى على 6 في العربية …..؟؟؟ لست ادري اي قدر هذا ..؟؟ لم افهم ما سرّ ارتباط خيباتي بالـ 6 على عشرين في مادّة العربية وانا كنت دوما فارسها …؟؟….. استاذي سي محسن في تلك المادّة صرخ يومها بكل غضب وقال مستحيل ..مستحيل ..مستحيل …والانكى والامرّ والاغرب والمدمّر والمُروّع اني لو تحصّلت على 7 من عشرين لكنت من الناجحين باعتبار ضارب المادة 4…

موش شيء يقهر ..؟؟؟ كل هذه العناصر القهرية فعلت فعلتها فيّ وبدأت ارى الحياة بنظارات سوداء قاتمة جدا .. جدا ..جدا .. ولا بد ان افعل شيئا ما .. ويا لهول ما قررت … …

ـ يتبع ـ

أكمل القراءة

صن نار