تابعنا على

جلـ ... منار

النار في الأرض المقدسة… نبوءات هيكل

نشرت

في

قصة صورة لـ «هيكل» أثناء تغطيته أحداث حرب فلسطين
(م.ح. هيكل أثناء تغطيته لحرب فلسطين 1948)

راح يتذكر ذلك اليوم من شهر مارس عام (1948) عندما دلف إلى “أخبار اليوم”، وكل من قابله يخبره بأن الأستاذ “مصطفى أمين” يسأل من وقت لآخر عما إذا كان وصل الجريدة.
ما إن أطل عليه حتى بادره: “أين أنت.. النقراشي باشا يطلب أن يراك الآن”.

عبد الله السنّاوي
عبد الله السنّاوي

حامت تصورات وتوقعات وتساؤلات غير أن ما جرى لم يرد في تصور، أو توقع.. فقد كان رئيس الحكومة “محمود فهمى النقراشي” مشغولا بما يجري في فلسطين، وأراد أن يستقصي الحقائق من الصحفي الشاب العائد توا من مسارحها الملتهبة.
سأل
مستفهما عن المستعمرات اليهودية وما رآه من استعدادات للحرب كان قد وصفها بأنها “نُذُر شر”.
وسأل متشككا عما إذا كان صحيحا أنه شاهد بنفسه في إحدى المستعمرات “أكثر من ستين مدرعة” على ما روى في سلسلة تحقيقاته “النار في الأرض المقدسة”.

لم يكن رئيس الحكومة مقتنعا بما قرأ وسمع: “أنت يا ابنى الكلام ده جبته منين؟”.. “أنت تبالغ في ما تقول والأمور ليست بالخطورة التي تتحدث عنها”!
لم تكن مصر قررت دخول الحرب.. والرجل الذي أُرسلت قواته إلى فلسطين بعد أسابيع قليلة يتصور أن ما قرأه وسمعه مبالغات صحفي في الرابعة والعشرين من عمره يصوغ مشاهداته بتوابل إثارة تتطلبها مهنته.
هكذا وفرت له التغطية الميدانية الإلمام بحقائق الموقف والقدرة على التنبؤ بما سوف يحدث لاحقا.

منذ ذلك الوقت المبكر استقرت في كتاباته قضية فلسطين، قبل أية قضية أخرى، من “النار فى الأرض المقدسة” إلى “العروش والجيوش” عن يوميات حرب (1948) بالوثائق الرسمية على جزأين إلى “المفاوضات السرية” في ثلاثة أجزاء، وقد كانت الأكثر مبيعا في تاريخ الكتب السياسية العربية.
لمرة أخرى استعاد الأستاذ “محمد حسنين هيكل” بعض المشاعر، التي تملكته في أثناء تغطيته لحرب فلسطين، وهو يوجه رسالة عبر صحيفة “العربي” للشيخ “رائد صلاح”، الذي يطلق عليه “شيخ الأقصى”.

“إن الأقصى معنى كبير قبل أن يكون معلما خالدا بالنسبة لنا جميعا، فهو الحسنيان معا، إذا جازت الاستعارة، فهو تاريخ القداسة، وهو قداسة التاريخ، الأقصى إلى جانب ذلك كله ماثل دائما في حياتى، فالله وحده يعلم عدد المرات التي جئت فيها إلى رحابه قادما عن طريق الخان الأحمر، وهو الطريق المؤدي من أريحا إلى القدس داخلا من باب رأس العامود، ماشيا من حواري خان الزيت على الطريق الواصل إليه، مصليا فيه وماشيا منه إلى كنيسة القيامة داعيا، ثم خارجا لكى أغطى وقائع الأحداث من سنة 1947 إلى سنة 1948 ــ وكاتبا في كل ما نشرت بأنها النار في الأرض المقدسة، غير أن القضية تتعدى أي شخص وأية مؤتمرات صحفية قد يعقدها، فللكلمات طاقتها وحدودها، التي لا تستطيع تجاوزها إذا لم تستند إلى موقف سياسي شعبي واسع من داخل الأرض المحتلة نفسها، فقد شاءت الأقدار أن يتحملوا هم ــ قبل غيرهم وفي مقدمة الصفوف ــ عبء الدفاع عن المسجد الأقصى”.

بعد أقل من ثمانية أعوام على رحيله في (17) فبراير (2016) تأكدت مجددا وبأقوى صورة رمزية الأقصى في الصراع العربي الإسرائيلي.
لم تكن مصادفة أن تحمل عملية السابع من أكتوبر اسم “طوفان الأقصى”.
تحمل الفلسطينيون وحدهم، كما توقع وتنبأ، عبء الدفاع عن المسجد الأقصى، وتكاليف إحياء القضية الفلسطينية، التي جرى الظن أنها ذهبت إلى النسيان.
الذاكرة أقوى سلاح في الدفاع عن القضايا العادلة.
وقد كان دوره جوهريا في إحياء الذاكرة وتوثيق الصراع على المنطقة، وفلسطين في قلبها.
“لا يوجد شيء في الأدبيات المتاحة عن الشرق الأوسط الحديث، يقارن بسرده المحكم المفصل عما حدث في أثناء حربي 1967 و1973 إلى ما قبل أوسلو».

“كتاب المفاوضات السرية أفضل من مئات الأطروحات المتخصصة في الشرق الأوسط، على أقل تقدير يمكنك أن تعرف من خلال ذلك الكتاب أن عملية السلام حققت 90٪ من مطالب طرف و 10٪ من مطالب طرف آخر، وأن ذلك سوف يؤدي لصدمة مستقبلية”.
هكذا كتب الدكتور “إدوارد سعيد” في صحيفة “الجارديان” البريطانية عام (1996) تحت عنوان “المراقب المستقل”.
بصورة أو بأخرى فإن “هيكل” و”سعيد” تشاركا، كلٌّ بطريقته ومن موقعه، في كشف حقيقة أوسلو وعملية السلام كلها.

لم يكن ذلك رجما بالغيب.
النبوءات السياسية تكتسب صدقيتها من ملامسة الواقع بلا تزييف وقراءة الحسابات والتوازنات والمصالح ونصوص الاتفاقيات وما خلفها دون أوهام.
[كان إدوارد سعيد أول من لمح الخلط الواقع في الصف الفلسطيني وشخصه، وشاركنا معا فى اجتماع خاص فى جنيف سنة (1988) هدفه بحث الخيارات المطروحة على القيادة الفلسطينية، مع لحظة تعرضت فيها لضغوط شديدة لكي تقدم ما يطلق عليه “تنازلات”… ثم توافقنا في ما بعد بغير اتفاق على ردة فعل إزاء موقف واحد من اتفاقية أوسلو، وشرحت موقفى لأول مرة في محاضرة في الجامعة الأمريكية، لكن إدوارد في أمريكا كان يتحدث إلى العالم، فقد رفع صوته صافيا، متصاعد الإيقاعات، معبرا بحيوية خلابة، شاهدا بالحق على دور الموقف والمثقف، وحين يختار المعلم أن تصل ذخيرته إلى العالم الأوسع بسرعة دون انتظار التأثير البطيء في المحيط الأكاديمي، فهو يريد أن يلحق الحوادث ويلامس المستقبل، وكذلك يسبق موتا يعرف أنه في انتظاره، وكان ذلك مشهدا جليلا من أي منظور تقع عليه عين أو يستشعره وجدان].

كان ذلك ما كتبه على صفحات جريدة “العربى” عند رحيل المفكر الفلسطينى الأكبر في سبتمبر (2003).
كانت قد مضت سنوات طويلة وقاسية على اليوم الذي خط فيه باسم الرئيس “جمال عبدالناصر مطلع ستينات القرن الماضي في رسالة شهيرة إلى الرئيس الأمريكي “جون كينيدي”: “من لا يملك أعطى وعدا لمن لا يستحق.. ثم استطاع الاثنان من لا يملك ومن لا يستحق بالقوة والخديعة أن يسلبا صاحب الحق الشرعي حقه في ما يملك وفي ما يستحق”.
بدت تلك إشارة بليغة لوعد “بلفور”، الذي مهد لتأسيس الدولة العبرية في فلسطين المحتلة.
ما بين وعد بلفور وتهويد ما تبقى من أراض فلسطينية محتلة بدا متأكدا أنه إذا لم يتنبه العرب والفلسطينيون إلى ما قد يتعرضون له من نكبات جديدة فإنها واقعة لا محالة.

بنظرة إلى حقائق الصراع فإن المقاومة الفلسطينية بحجم التضحيات التي بذلت أثمانها الباهظة في غزة تبدو كمحاولة بطولية لوقف حدوث نكبة ثانية.

ـ عن “الشروق” المصرية ـ

أكمل القراءة
انقر للتعليق

اترك تعليقا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

جلـ ... منار

خالق الفرح

نشرت

في

Peut être une image de 2 personnes et bébé

اتصلت صديقتي غادة بي كي تطمئن عليّ:

ـ وينك ياست الحبايب؟

وفاء سلطان
وفاء سلطان

ـ مع الحبايب أجمع البيض!

يبدو أن أرنب الفصح كان غنيا جدا وكريما جدا هذا العام… نالني منه أربعة عشر بيضة، وجدتُ في داخلها ست دولارات وعشرين قطعة من الشوكولا (أول مرّة بناتي يدفعن لي بدلا من أن أدفع لهن)!

تفوقت علي جازي بأربع بيضات وست دولارات، أما بنجي فلم ينل إلا نصف ماحصلت عليه (لا يهم إذ لا يعرف قيمة الدولار بعد)!

……..

أمطرتني غادة بوعظة دينيّة طويلة جدا، تفوقت فيها على الشيخ الحويني، لقّنتني من خلالها درسا في العبادة وكيفية الاحتفال بالأعياد،

قالت:العيد ليس جمع البيض، العيد يعني ممارسة الصلاة والتعبد وزيارة الكنيسة!

واحتدم النقاش حتى اعترفت لي بأن اليهود (يخرب عمرهم لهم قرص في كل عرس!) قد حولوا كل الأعياد المسيحية لتجارة بالمطلق، وهم الذين اخترعوا سانتا كلوز وأرنب الفصح كي يسرعوا عمليات التسويق، ويصرفوا نظر الناس عن عبادة الله الحق!

فشعرت وكأنني أصغي للقرضاوي يقص علينا حكاية بني قريظة!

يبدو أن حتوتة الشجرة واليهودي الذي سيحتمي وراءها يوم القيامة قد طالت عقول بعض المسيحيين أيضا!

……..

يا سيدتي زرت عشرات بل مئات المعابد (من كلّ الأشكال والألوان)، ورأيت فيها الكثيرين من المنافقين والدجالين وتجار الدين، الذين أبعدوني عن الله سنينا ضوئية…

ياسيدتي أقدس بيت للعبادة بيتي وبيوت أولادي، فهي الأمكنة الوحيدة التي أضمن طهارتها من الفساد والرذيلة…

ياسيدتي من لم يرّ الله في سلة بيض الأرنب الذي يشرفنا في عيد الفصح، وفي قبعة سانتا كلوز الذي يزورونا في عيد الميلاد، لا يستطيع أن يراه في أي مكان آخر…

يا سيدتي لا أريد أحدا يفرض عليّ الهه وطريقة عبادته لذلك الإله…

ياسيدتي من لا يستطيع أن يُدخل الفرح على قلب طفل لا يعرف الله…

يا سيدتي من لا ينحني ويصلي للإله القابع في عيني حفيدي آدم، لم يمارس يوما الصلاة…

..أعتذر إن كان إلهي مغايرا لما يعنيه لكِ الإله….لم أفرض يوما إلهي على أحد، ولا أريد لأحد أن يفرض عليّ الهه، والطريقة التي يعبد بها ذلك الإله.

……..

أغلقت سماعة الهاتف، ولسان حالي يتضرع إلى الله: يارب لا تجعلني من عبادك “المؤمنين” فلقد ضقت ذرعا بهم!

بل اجعلني من عبادك الذين يَفرحون ويُفرحون، فالفرح هو أنت أينما حلّ..

اجعلني من عبادك الذين جاؤوا لنا بسانتا كلوز وبأرنب الفصح، وجعلوا حياتنا أسهل وأبهى بعلومهم ومعرفتهم.

……..

قرأت منذ يومين قولا للرئيس الفرنسي ديغول: كيف سأحكم دولة تنتج 246 نوعا من الجبن؟؟؟

وأنا أقول: لا حاجة لك أن تحكمها فالله وحده يحكمها،

الله وحده يتواجد حيث توجد النعمة والوفرة والعطاء…

أما الندرة والشح فتسود حيث تتحكم العقول العقيمة والمريضة!

……..

كل عيد فصح وأنتم وجميع أرانب الأرض بخير!

Coloriage Lapin de Pâques à côté d'un panier d'œufs - Dessin gratuit

أكمل القراءة

جلـ ... منار

بفلوسي!

نشرت

في

Images de Voleur Argent – Téléchargement gratuit sur Freepik

السيدة سهير موظفة في منتصف العمر وأم لثلاثة شياطين، وهي من الطراز الذي لا يتذوق الدعابة ولا يفهمها. علمتني الحياة أن أظرف وأروع الدعابات طرًا تأتي من هذا الطراز، فهم لا يفتعلون الظرف .. إنهم ظرفاء بالطبيعة. أسخف الدعابات تأتي غالبًا ممن يعتقدون أنهم ظرفاء، وأدعو الله ألا أكون منهم.

أحمد خالد توفيق

قرأت ملحقًا لإحدى الصحف الشهيرة مؤخرًا، فوجدته مليئًا بصور أشخاص ظرفاء يضحكون في استمتاع، مع نكات من نوع (اركبي قبل الحصان ما يشوفك).. (حماتي عملت مفاجأة وجت تقعد معانا شهر).. منتهى السماجة.

هذا ليس موضوعنا على كل حال. موضوعنا هو السيدة سهير.

سألتني السيدة سهير عن طبيب أنف وأذن وحنجرة جيد لأن أذنها مسدودة منذ فترة، فاقترحت عليها دكتور سيد الشماشرجي .. هذا رجل بارع يجيد عمله وصديق قديم. توكّلتْ السيدة على الله وذهبتْ له في العيادة ودفعت مبلغًا باهظًا من المال للكشف. تقول إنها دخلت لترى قزمًا مسنًا ينظر لها في كراهية من خلال المرآة التي تثبت على الجبهة إياها، فلما فتحت فمها لتقول:

ـ”إنها أذ………………………..”

أخرسها بشخطة، ودس منظارًا في أذنها فكاد يثقبها، ثم قال في عصبية وقرف:

ـ”شمع .. لابد من غسل الأذن”

وقبل أن تفهم كان يضع طبقًا معدنيًا تحت أذنها ويدس فوهة مسدس الماء في أذنها، فتصرخ ألمًا، ثم تشعر بطوفان من الماء الدافئ يدخل أذنها ويبدو أنه يبلل مخها ذاته ويخرج من الأذن الأخرى.

ثم قال لها بذات القرف:ـ”هناك قطرات للأذن .. استعمليها !”

خرجت من الغرفة شاعرة بالإهانة، كأنما تربص بها عشرة أبطال مصارعة فأوسعوها لكمًا وركلاً. وقبل أن تفهم ما يحدث انقض عليها الممرض الجالس في الخارج ليقول في قرف:

ـ”خمسون جنيهًا !”

ـ”ماذا ؟”

ـ”أتعاب غسل الأذن خمسون جنيهًا …

“إذن ففيم كان الكشف الباهظ؟

دفعت ما طلبه هذا القرصان وهي ترتجف غيظًا، كما أن أذنها كانت تؤلمها جدًا. ومشت في الشارع شاعرة بشعور السكير الذي يطردونه من الحانة بعد منتصف الليل لأنهم يريدون الإغلاق. قدماها غير ثابتتين ولا تفهم ما يحدث، دعك من أن زوال انسداد أذنيها جعلها تشعر بدوار وبرد غريبين.

لما عادت للبيت اتصلت بي لتنفجر في غل، شاتمة ذلك اللص النصاب الذي تقاضى كل هذا المبلغ في ثلاث دقائق. والأسوأ هو مبلغ الخمسين جنيهًا .

. كان يجب أن تكفي أتعاب الكشف لكل شيء.

بعد أشهر كانت تطالع الصحيفة فوجدت صورة عروسين .. المحاسب سمير سيد الشماشرجي تزوج المحاسبة هيام منصور .. الزفاف كان حلمًا من أحلام ألف ليلة وليلة وأقيم في فندق فاخر بالقاهرة. قالت لي في غيظ:

ـ”بفلوسي!! لقد زوج ابنه بمالي ذلك اللص!”

حكيت لها ذات مرة عن السيارة الفاخرة التي ابتاعها المهندس محمود سيد الشماشرجي ابن الطبيب الشهير، فصاحت في غل:

ـ”بفلوسي!!… يستطيع أبوه عمل أشياء كثيرة بالخمسين جنيهًا التي تقاضاها لغسل أذني!”

ذات مرة نشرت إحدى المجلات حوارًا مع دكتورة اسمها غادة تتحدث عن جولتها في اليابان ودول جنوب شرق آسيا. قالت في الحوار إنها زوجة واحد من أهم أطباء الأنف والأذن والحنجرة في مصر، وهو الدكتور سيد الشماشرجي.هنا صاحت السيدة سهير:

ـ”بفلوسي…!.. زوجته الشمطاء تجوب العالم كله بالخمسين جنيهًا”

رأيت أن الأمر تحول إلى هاجس أو وسواس قهري بالنسبة لها، فلولا ما في ذلك من مبالغة لطلبت من د. سيد الشماشرجي أن يرد لها مالها كي يتجنب هذه اللعنة السرمدية. لا شك أنه سيصاب بمرض عضال وينفق أضعاف الخمسين جنيهًا لعلاجه، لأن السيدة سهير – كما نقول في العامية – مش مسامحة!

العكس يحدث أحيانًا. الحكاية هي أنني منذ أعوام اشتركت في واحدة من مطبوعات اليونسكو الشهرية، والاشتراك ثلاثون جنيهًا في العام تقريبًا. ثم وجدت أن الأعداد تتكدس وأنا لا أطالعها… جاءت لحظة الحقيقة وقررت أنني لست بحاجة لهذه المطبوعة وكتبت خطابًا أعتذر فيه عن عدم الاشتراك لعام آخر.. أرسلوا لي يسألون عن السبب فلم أرد.

بعد أشهر قرأت في الصحف الخبر التالي (وهذا الكلام حقيقي على فكرة):

ـ”اليونسكو مهددة بالإفلاس لأن الولايات المتحدة خفضت مساهمتها في تمويل المنظمة”

طبعًا لم أحتج لأسئلة أكثر .. لقد تدهورت حالتهم المادية فعلاً عندما تركتهم، وعندما كففت عن دفع ثلاثين جنيهًا كل عام.

يبدو أن هذه المنظمة كانت تعتمد كلية على فلوسي.

قصة أخرى طريفة عندما كنت مدعوًا لمهرجان أدبي في قطر خليجي شقيق. كان طعام الفندق ممتازًا، وأنت تعرف عقدة البوفيه المفتوح. ربما هي فرصتك الأخيرة كي تجرب حساء التوم اليوم أو الباتاي أو القبوط أو الدجاج بالطريقة الإيرانية، أو حساء المنسيتروني وشرائح سمك الكنعد بالليمون.. ملعقة من كل شيء وسوف تكتشف أن الطبق مليء جدًا وأن ثيابك تضيق.

بعد ثلاثة أيام فتحت جهاز التلفزيون في الفندق، فوجدت أن حكومة البلد الثري مجتمعة لمناقشة الانهيار الاقتصادي الذي حدث مؤخرًا!.

شعرت بخجل شديد لأنني تجاوزت حدود الضيافة، وحاولت جاهدًا ألا أجرب سوى صنف واحد في الوجبة. إن شراهتي كفيلة بتدمير دولة فعلاً.

نعود للسيدة سهير التي أضناها التفكير في مالها…الحقيقة أنها ليست واهمة تمامًا. لا شك أن مالها ساهم بقدر ضئيل جدًا – كذرة في جسد – في نفقات رحلة آسيا.

هذا المفهوم ينطبق على الدول نفسها: عندما يعتدي عليك أمين الشرطة ويصفعك أو يطلق عليك الرصاص، أو يلفق لك قضية مخدرات بأحرازها مستعملأً قطعة البانجو في جيبه، فهو في الحقيقة يتقاضى راتبه من جيبك. حتى الرصاصة التي استقرت في رأسك أنت دفعت ثمنها.

المتظاهرون دفعوا بالكامل ثمن الغاز الذي يستنشقونه.

محصل الكهرباء الذي يخرب بيتك يتقاضى الراتب منك أنت.

هذا ينطبق على كل موظف في الدولة من أصغر رأس لأكبر رأس. كل المستشارين الذين يحصدون المليارات كل عام. من أين يحصلون على هذه المبالغ الفلكية؟ من جيبك طيعًا.

في الخارج يؤمنون أن رئيس الدولة نفسه موظف يتقاضى راتبه من جيوبهم، وعليهم أن يعرفوا ما فعل به، بينما في الدول العربية يسود المفهوم الأبوي القبلي الذي خرب بيوتنا:

أنت تعيش بما يجود به الحاكم عليك…

شيخ القبيلة الذي يقذف لك بصرّة من الذهب، بينما أنت في الواقع شاركت بقطعة نقدية في هذه الصرة.

السيدة سهير لم تبالغ في تصوراتها. هي فقط بالغت في أهمية الخمسين جنيهًا التي دفعتها

أكمل القراءة

جلـ ... منار

بِع وَردًا ولا تلعن الحياة

نشرت

في

Peut être une image de amarante

لم يمنعني المطر من أن أمارس طقوسي هذا الصباح.على العكس تماما، فالمطر هو أكثر الظواهر الطبيعية التي تسهل عليّ التواصل مع الكون وقراءة رسائله!

وفاء سلطان
وفاء سلطان

دخلت مقهاي المفضل لاحتسي فنجان قهوتي،ورحت أتأمل بعمق كل شيء حولي لأستشف الرسالة الكونية لهذا اليوم، إذ لم يمر يوم ونسي الكون فيه أن يخصني ببريده، ومن ذلك البريد أستمد كل صباح حكمة تزيدني شوقا للصباح الذي يليه… على يساري جلست سيدة، وقبالتي لمحت سيدة أخرى… وبين السيدتين كانت الرسالة واضحة وجليّة، وتحمل حكمة ولا أجمل… كلا السيدتين دخلت المقهى لنفس الغاية، دخلتاه تنشدان بعض الدفء، وهربا من زخات المطرالتي لم ترحم رأسا من لسعاتها!

السيدة على يساري، ومن ثيابها تعرف أنها مشردة وتعيش في الشوارع… والسيدة على يميني تحمل سطلا من الورود وتنظر عبر الزجاج أملا في لحظة صحو لتركض إلى الخارج وتستمر في بيع ورودها للمارة!..

تحسستُ طاقتها التي تفيض حبا للحياة، فاقتربت منها علني أمتصُّ بعضا منها!

اشتريت وردة ودار بيننا حديث شيق، علمت من خلاله أنها متقاعدة في منتصف الستينات من عمرها، وأنها تمارس تلك الهواية التي تدرّ عليها ربحا جيدا، كي تبرهن لنفسها أنها مازالت منتجة، علما بأن راتبها التقاعدي يكفيها من الناحية المادية!

اسمها روز، وتصرّ أن لها من اسمها نصيبا، فهي تعشق الورود وتشعر بسعادة عامرة عندما تبيع أحدا وردة!

تقول: ليس ما أجنيه من بيع الورود ما يسعدني أكثر، وإنما البسمة التي أرسمها على شفاه الناس!

وتتابع: لم يشتر أحد وردة إلا وبطريقة لا شعورية قام على الفور بشمّها، تسحرني تعابير الوجوه عندما تشمّ ورودي، واشعر أنني ساهمت في رسم تلك التعابير…

ثم شكرتني على شرائي لإحدى ورودها، وتمنت لي يوما جميلا!

……..

بينما في الوقت نفسه، يقترب مدير المقهى من السيدة الأخرى، ويتمتم في اذنها، فتخرج وتجر وراءها رائحة قاتلة!

لا أتصور أنه طلب منها أن تغادر، إذ لا يستطيع بالقانون أن يفعل ذلك، بل طلب منها أن تحرك عربتها المليئة بأغراضها لأنها تعترض المدخل إلى المقهى!

……..

نعم، تلك هي الحياة مجرد قرارات، وأنت مسؤول عن قراراتك!

سيدة قادتها قرارتها لتكون مشردة تفترش الشوارع وتلتحف السماء، وأخرى قادها قرارها لأن تمارس هواية محببة لنفسها، كبرهان على أنها مازالت تعشق الحياة، ومازالت بكامل وعيها لتعيشها بعمق!

……..

أما أنا فعدت لأمارس شغفي، وأنهي كتابا كنت قد بدأته الليلة السابقة…الكتاب بعنوان:

?What would you do if you knew you could not fail

(ماذا ستكون قد فعلت لو علمت أنك لن تفشل؟)

في الفصل السابع من الكتاب، جاءت تلك العبارة:”لو أن حلمك قد وقع فانكسر وتحوّل إلى ألف شظية، إياك أن تخاف من أن تلتقط على الأقل واحدة منها لتبدأ من جديد”

……..

لا يوجد أحد فينا إلاّ وتشظى حلمه يوما،

وحدهم الذين قرروا أن يتمسكوا ـ ولو بشظية واحدة ـ ليبدؤوا من جديد،

وحدهم قد بدؤوا ووصلوا إلى حيث يريدون!

السيدة المشردة وبائعة الورود من الأمثلة الحيّة.

……..

بع وردا ولا تلعن الحياة، فالحياة تلعن من يلعنها!

أكمل القراءة

صن نار