تابعنا على

جور نار

“الهوية الثقافية لموريسكيي تونس” *

نشرت

في

الهوية هويات تتراكم في الزمن و لمَ لا في المكان الواحد … و كما يقول أمين معلوف “هي لا تسنَد دفعة واحدة، بل يتم بناؤها و تحوّلها على طول العمر” … نعم … و نحن في جمهورية تونس عرفنا ذلك و قرأناه و عجبنا من كثرة هذه البناءات التي رفعناها و هدمناها و أعدنا الإنشاء مرارا و تكرارا على مدى ثلاثين قرنا … و ها أن صديقي منذر شريّط يسلّط ضوءه الكشّاف على إحدى هويات هذه البلاد المعمّرة المعمورة، هوية طرأت علينا منذ أربعة قرون و استقرت نهائيا على ما يبدو … اندمجت؟ لم تندمج؟ أضافت؟ لم تضف؟ هذا ما حاول باحثنا الشاب التنقيب عنه، و هذا مما حاولنا مطالعته و مساءلته في كتابه البكر “الهوية الثقافية لموريسكيي تونس” …

عبد القادر المقري Makri Abdelkader
عبد القادر المقري

من هم هؤلاء الموريسكيون؟

يقول الكاتب (ص 36): “هم المسلمون بالأندلس بعد سقوط غرناطة سنة 1492 و هم الذين اجبروا على اعتناق المسيحية و تظاهروا بذلك و فقدوا استعمال اللغة العربية، ثم هاجروا خلال القرن السادس عشر و بداية القرن السابع عشر، و كانت ثقافتهم تختلف عن الثقافة العربية الإسلامية لأسلافهم الملقبين بالأندلسيين و الذين هاجروا من الأندلس قبل القرن السادس عشر” … و قد غادر الموريسكيون إسبانيا فتفرقوا بين النواحي و خاصة بالمغرب العربي … و حط منهم ما يزيد عن 80 ألفا الرِّحال بتونس، و هو العدد الأكبر بين دول شمال إفريقيا، حسب معظم المؤرخين (ص: 37) …

جاء الموريسكيون إلى تونس، خاصة بين سنتي 1609 و 1614 … و قد جلبوا معهم إرثا ثقافيا متنوعا في المعمار و الريّ و الملابس و الموسيقى و الأغذية أثرى و أثّر في تراث تونس و ثقافتها … هذا بديهي و شواهد منه ما زالت قائمة إلى اليوم، و سنعود إليه قليلا في ما بعد … و تأسست مدن لهم أو بهم أو لأجلهم ما تزال تنتشر في شمال البلاد خاصة … و انحدرت منهم عائلات عدة بقيت ألقابها متعاقبة إلى زمننا، و شكّل ذلك جزءا حيويا من فسيفسائنا الوطنية الجميلة …

و لكن ما يدهشني في علم التاريخ و متخصصيه، أنهم لا يقعون في ما نسقط فيه نحن عادة من أوهام نتوارثها كما نتوارث السقوط فيها … فكلما دار بيننا حديث عن الأندلس البعيدة و الوافدين منها القريبين، سارعنا إلى جملة من القوالب الرومانسية التي تكاد تضع الأندلس في مقام الجنة الضائعة، و ذوي الأصل الأندلسي من ذوي الكرامات نزلوا على حضارتنا بردا و سلاما … بينما أتت الحقيقة مختلفة قليلا (و حتى كثيرا) عن هذه الصور الحالمة التي كانت إلى وقت قريب من المسلّمات…

فمخطئ من كان يعتقد أنها قصة عرب مسلمين هربوا من “بلاد الكفر” إلى “بلاد الإيمان” أي بلادنا، سعداء بالرسوّ أخيرا على أرض أشقّاء و أجداد، معترفين لها بفضلها، مندمجين بسرعة بين رعاياها، مضيفين إليهم من فنون و علوم أوروبا النهضة الشيء الكثير … إذ أوّلا، و هذا موضوع الكتاب، كانت لهؤلاء “هوية متفرّدة حافظوا عليها بقواعد نقل مختلفة كالتقية و السرية و التمويه” (ص 11) شأنهم شأن “أمة لها لغتها و دينها و حضارتها” (ص: 15) و قد حافظوا مثلا “على لباسهم المختلف عن العرب و البدو (التونسيين) و على اللغة الإسبانية التي يتسامرون بها” (ص: 143) كما أن “نساء تستور بقين يتبادلن الحديث بالإسبانية إلى أوائل القرن الثامن عشر” (ص: 155)

كما أن نسبتهم ـ حصريا ـ إلى مقاطعة الأندلس الإسبانية تستحق تدقيقا، إذ يوجد منهم من وفدوا من كاتالونيا و قشتالة (ص: 146) … و جميعهم خرجوا من شبه الجزيرة الإيبيرية مُكرهين لا راغبين (ص 15)… و بعضهم جاء مطرودا من فرنسا حيث حاولوا الاستقرار، رغم أن فيهم تجارا أثرياء و معارف إفرنج (ص 40) … أي أن هؤلاء لم يكونوا تونسيين من أصل أندلسي، بل هم إسبان وقع تهجيرهم بالقوة عن موطن و قارّة لم يفارقهم الحنين إليهما …

و يجد توافدهم بتلك الضخامة إلى تونس تفسيره في إطار لعبة سياسية قام بها الاحتلال العثماني … فقد كانت ” الجالية الأندلسية غريبة عن البلاد تماما مثل الأتراك … و قد جعل هؤلاء منها فئة محظوظة نسبيا بالمقارنة مع الأهالي المبعدين عن الهياكل السياسية للبلاد … فأدرك الأندلسيين شعور بالتفوق على الأهالي و هو نفس الشعور الذي نجده عند الأتراك” (ص 38) … و مقابل ذلك، كانت الجالية الوافدة تمثل قاعدة متقدمة للسلطة في عدد من الجهات، و تضع نخبها على ذمة الحكم في إدارة شؤون الدولة (ص 145)

و قد ترتبت عن ذلك نتيجتان: خلق طبقة إقطاعية جديدة تم تمتيعها بإعفاءات جبائية (ص 131) و ضيعات شاسعة بأخصب مناطق البلاد … فانتشروا في أربع من هذه المناطق: ريف العاصمة الفلاحي كأريانة و سكرة و طبربة و مرناق و رادس، ولاية نابل كسليمان و قرمبالية و منزل تميم و منزل بوزلفة و دار شعبان، سهول وادي مجردة كتستور و السلوقية، بنزرت و ما جاورها كماطر و رفراف و رأس الجبل و ماتلين و غار الملح. (ص 42) كما أنهم تحوّزوا على أراضي زغوان الثرية و مياهها (ص 132) و النتيجة الثانية، أن أهالي البلاد ضاقوا ذرعا بهذا التمييز فـ “قامت جماعات محلية (أي الشعب الكريم)  بالتمرد في القرن 18 زمن حمودة باشا على الامتيازات التي حصلت عليها الجالية الأندلسية” (ص: 170)

نأتي الآن إلى باقي عناصر الهوية الثقافية لهؤلاء الوافدين … ذكرنا اللغة الإسبانية التي تشبثوا بها قرابة المائة عام، و كذلك الملابس (المختلفة عن عرب تونس و بدوها، للتذكير) و المعمار ممثلا خاصة في الجامع الكبير بتستور (ص: 150)… كما ذكر الكتاب معتقدات خرافية حول السحر و الجن مردها الخوف بسبب ما عانوه من اضطهاد في اسبانيا (ص: 139) … و تمنيت عليه لو ذكر لنا علاقة هذه الجالية بالتراث الغنائي الأندلسي بما فيه من موشحات و أزجال و مالوف … و لو أن بي شكّا في علاقتهم بذلك رغم وجود مهرجان بتستور ينسب إليهم …

ما يلفت النظر أيضا … غياب أية إضافة صناعية متطورة جاء بها الموريسكيون إلينا من أوروبا عصر النهضة، حيث عُرفت بعدُ الطباعة و أول المناظير الفلكية و حتى الميكروسكوب … دون الحديث عن الاكتشافات الكبرى التي وسّعت جغرافيا أوروبا ترابيّا و اقتصاديا و علميّا …  و دون الحديث أيضا عن فنون الرسم و النحت التي شهدت تطورا مذهلا خاصة في إسبانيا (فيلاسكيز، الغريكو …)، و كذلك الأدب (سيرفانتس) و المسرح … و هنا، يقول أحد الموريسكيين المذكورين في الكتاب لصاحبه: “أُصِبنا بهوس المسرح فلا نتخلف عن أي عرض و قد نشاهد المسرحية الواحدة مرتين أو ثلاثا” (ص: 154) و هو يروي أحداثا حصلت سنة  1604 بمدينة طليطلة … فلماذا ـ يقول قائل ـ لم يجلبوا هذا الفن معهم إلى تونس في ذلك الوقت ؟!

غريب حقا … خاصة إذا عرفنا أن كل من جاء من هناك كان إما مواطنا عاديّا  أو مزارعا أو فقيها (على غرار الشريف القسطلّي ـ ص: 145) أو حِرَفيّا … و على ذكر الصناعات التقليدية، فكثيرا ما راجت عندنا حكاية صناعة “الشاشية” و كأنها عملية تخصيب لليورانيوم … حتى هذه، هناك شكوك في أن موريسكيينا أتوا بها إلى تونس، إذ أن “صناعة الشاشية مثلا تنسب عادة إلى الأندلسيين، في حين كانت موجودة في تونس منذ الربع الأخير من القرن 16، أي قبل مجيء الأندلسيين إلى بلادنا” (ص: 36) … كما أن”الازدهار الذي عرفته بلادنا خلال القرن 17 لم يكن بفضل قدوم الأندلسيين و إنما يعود لانتعاشة قطاع القرصنة” (ص: 36)

و قد نفهم هذا التعظيم لفضل الموريسكيين على تونس (لا العكس) حين نجد “الرحالة الأوروبيين الذين زاروا تونس خلال القرن 18 يتحدثون عن الدور الريادي الثوري الذي لعبه الأندلسيون في البلاد التونسية منذ حلولهم بها”، فيما ” لم يعبر المؤرخون التونسيون في تلك الفترة عن انبهارهم بالحضور الأندلسي” (ص: 35) … و هنا يتساءل مؤلف الكتاب: “ألم يكن الحديث عن دور ريادي للأندلسيين مجرد أسطورة ابتكرتها المدرسة الاستعمارية؟” (ص: 35) و يستخلص نقلا عن عبد الحميد هنية: “يبدو أن المبالغة في تثمين نتائج الهجرة الأندلسية مردها تلك النظرة القائمة على الذات الأوروبية المركزية” (ص: 57)

صفوة الاعتبار … هذا كتاب يُقرأ و تُعاد قراءته، لا من الباحثين أو الشغوفين بتواريخ الشعوب فحسب … بل من أغلب التونسيين الجاهلين قدر بلادهم كملجأ لمضطهدي العالم شرقه و غربه … و خاصة أولئك الذين ـ عن حق أو باطل ـ يتبرّجون بألقاب و أنساب يرون فيها علوّا على بني وطنهم … و العار يكبر حين يكون ذلك النسب المجيد أجنبيا بالحتم … طبعا، لا ذنب للأحفاد في ما صنعه الأجداد، و لا فضل لهم أيضا … و لن ألوك شعارا عمّ حتى خمّ، حين أقول إن تونس لكل التونسيين، شرط أن يكونوا لها حصرا لا لغيرها …

لقد أُطرِد مئات ألاف الإسبان من بلدهم زمن حرب الاسترجاع و ما بعدها، و عاملهم المؤرخ الغربي “على أنهم مجموعة تحوم حولها شكوك في ما يخص ولاءها للوطن الإسباني” … فهل كثير على “الوطن التونسي” أن يطالب بولاء مماثل؟

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* “الهوية الثقافية لموريسكيي تونس” لمنذر شريط ـ نشر مؤسسة مجمع الأطرش للتوزيع ـ 199 صفحة ـ السنة 2021

أكمل القراءة
انقر للتعليق

اترك تعليقا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

جور نار

“زيدها شويّة”… أو كيف نُواجه سعير الأرقام في تونس

(من خلال أمثلة حيّة)

نشرت

في

ذكّرني التغيير الذي حصل مؤخّرا على رأس المعهد الوطني للإحصاء (احتمالا على خلفية دكتاتورية الأرقام التي لا تُجامل ولا تُعادي) بجملة من الأحداث والوقائع التي عشتُها شخصيا في أكثر من موقع والمُثبِّتة لعقليةٍ تشكّلت في بلادنا منذ العهود السابقة.

منصف الخميري Moncef Khemiri
منصف الخميري

 مفادُ هذه العقلية  كسْر المحرار إذا باح بنتائج لا تتطابق مع انتظارات المسؤول السياسي، والهروب بصناديق الاقتراع عندما كان يتوقع طلبة التجمع الحاكم عدم الفوز  في انتخابات المجالس العلمية كما كان يحصل في الجامعة التونسية… وعقلية “زيدها شوية” هذه نجد لها أثرا أيضا في نسيج العلاقات الأسرية وفي تعاطي عموم الناس مع الظواهر المختلفة وتفاصيل حياتهم اليومية، لأن الترقيع في ثقافتنا أعلى صوتا دائما من المعالجة الجذرية لمصادر أوجاعنا، وآليات والتسكين والتخفيف والتليين والتقليل والتمسكين منوالٌ قائم بذاته في رُبوعنا.

فعلى سبيل المثال عندما يُنتهك حقّ البنت في الميراث، لا يُجمِعُ أغلب الناس على إرجاع الحق إلى أصحابه بل يجنحون إلى المحافظة على الوضع القائم مع إضافة جملة ترقيعية  “زيدها شوية ووخيّان كيف آمس كيف اليوم” … وعندما تعوجّ حيطان البنّائين المُبتدئين تجد دائما من يحاول التنسيب بشكل ماكر “ثمة شوية عوَج صحيح آما توة باللّيقة تتسوى” … وعندما يعجز بعض الأطباء عن تشخيص مرض ما بدقّة، يسقطون في ما يُشبه تقليعات التنمية البشرية  “والله ما عندك شيْ، المشكل الكل في راسك، عندك برشة هلواس. آقف قدام المراية وصيح مانيش مريض توة ترتاح”…

المثال الأول : نسب النجاح في السنة الأولى بكلية العلوم

في بداية الألفية الجديدة، طلب المسؤول الأول عن مكتب الدراسات والتخطيط والبرمجة التابع للديوان بوزارة التعليم العالي، من رئيس مصلحة متابعة النتائج الجامعية (السيد ت.ع وهو من روى لي تفاصيل الحادثة) مدّه بنتائج آخر السنة الجامعية بالنسبة إلى كلية العلوم بتونس، فلمّا لاحظ أن نسبة النجاح العامة (في كل الاختصاصات مجتمعة) تراجعت خلال ذلك العام من 33 إلى 27 % أشعل سيجارة وسحب منها نفسا عميقا كمن يبحث عمّا يُساعده على ابتلاع نسبة التراجع التي سيُسأل عنها أمام وزيره آنذاك…ثم قال له في شبه توسّل “لا شويّة بالكل سامحني سي فلان، من رايي تزيدها شوية”.

المثال الثاني : في نفس الوزارة

في 2007، عندما انطلق تطبيق منظومة إمد على مراحل وكانت شهادة الأستاذية ماتزال قائمة جزئيا ريثما تحلّ محلّها شهادة الإجازة، طلب الوزير من المدير العام للشؤون الطالبية مدّه بإحصائيات حول مدى إقبال التلاميذ الناجحين الجدد في الباكالوريا على الإجازات الجديدة مقارنة بإقبالهم على الأستاذيات. ولمّا كانت النتائج الأوّلية مؤكدة لتوجّه الناجحين في الباكالوريا أغلبيّا نحو اختيار شهادة الأستاذية بدلا من الإجازة الجديدة، وبالتالي مُخيّبة لآمال من كان يتوقّع أن “إصلاح إمد” سيُعطي أُكله مباشرة بعد الشروع في إنفاذه بما يبرّر وجاهة الاختيار وسلامته، تمّ التشكيك في سلامة الأرقام فأعيد الاحتساب من جديد لتستقر نتائجه على نفس ما عبّر عنه المسح الأوّل، فلم تبق لديهم أية ذريعة سوى تسجيل ذلك على حساب ضعف الإعلام وجهل الأغلبية الساحقة من الأولياء بمزايا النظام الجديد… “وعلى أية حال توة نزيدوها شوية نسبة الإقبال على الإجازات في التدخلات الإعلامية دون تقديم أرقام دقيقة حول المسألة” … كانت هذه هي الفتوى التي أوجدوها للخروج من المأزق.

المثال الثالث : مشاركة التلاميذ التونسيين في تقييم “بيزا”  الدولي

كانت تونس من أولى الدول العربية التي تشارك في البرنامج الدولي لتقييم الطلاب “بيزا”، وذلك منذ سنة 2003، وهو تقييم دولي لقيس قدرة الطلاب في سن 15 عامًا (أي نهاية السنة التاسعة أساسي لدينا) على استخدام معارفهم ومهاراتهم في القراءة والرياضيات والعلوم لمواجهة تحديات الحياة الواقعية كل 3 سنوات. سنة 2015 احتلت تونس المرتبة 65 على 70 دولة مشاركة في الاختبارات (رتبة تقاسمتها تونس مع لبنان ضمن هذا التقييم الذي شمل عيّنة من 540 ألف تلميذ من مختلف أنحاء العالم).

وبدلا من مُواجهة الأسباب العميقة التي أدّت إلى تصنيف تلاميذنا التونسيين في ذيل الترتيب العالمي وهو مؤشر تُنكّس له الأعلام الوطنية لأنه يعكس وضع الوهن الموجع الذي باتت عليه منظومتنا التربوية، اختارت دولتنا أن تُقاطع هذه المحطة التقييمية الكونية مُفرغةً المحرار من زئبقه وضخّه ضمن خطابها الرسمي القائل بأن المؤشرات التي ينبني عليها التقييم صُنعت على مقاس التلميذ الأوروبي والسنغافوري والياباني وليس على مقاس التلميذ التونسي الذي يدرس ضمن بيئة خصوصية ووفق برامج ومناهج خصوصية !

المثال الرابع : 0.4 نسبة نموّ ليست من شِيمنا

دوّن المؤرّخ الجامعي نورالدين الدڨي على صفحته الرسمية يوم 23 مارس ما يلي :

“المعلوم أن المعهد الوطني للإحصاء لا يستنبط الأرقام؛ وليس مطلوبا منه تزويقها؛ فمهمته حسب نصوصه الـتأسيسية : “جمع المعلومات الإحصائية الخاصة بالبلاد و معالجتها و تحليلها و نشرها بالتنسيق مع الهياكل العمومية الأخرى”، وما نشره المعهد مؤخرا عن نسبة النمو الاقتصادي بتونس لسنة 2023 التي حددها ب 4 .0 بالمائة، وعن نسب البطالة : 4 .16 بالمائة، هو انعكاس أمين لقدرات الجهاز الإنتاجي الوطني…”

لكن وكما أسلفنا بالنسبة إلى الأمثلة السابقة، بدلا من مُعالجةٍ رصينة ومتأنية للأسباب الحقيقية والعميقة التي أدّت إلى هذه النتائج الموضوعية، تمّ اللجوء إلى إجراء تحوير على رأس هذه المؤسسة الوطنية ذات الطابع التقني والخِبري الصرف التي ظلّت علاقتها بصاحب القرار السياسي على مرّ السنوات منذ تأسيسها سنة 1969 مُتأرجحة بين نشر الأرقام كما هي أو في أسوإ الأحوال التعتيم عليها وعدم الإدلاء بها قصد التداول العام ولكن (وحسب شهادة عديد الكفاءات التي مرّت بنهج الشّام وتعمل اليوم بمؤسسات دولية وإقليمية مرموقة) لم يحدث أن تمّ تزوير الأرقام أو التلاعب بها.

أستعيد في النهاية ما قاله أحد المفكّرين “يمكنك أن تراوغ رجال الشرطة لكنه من الصعب جدا مراوغة بداهة الإحصائيات”.

.

أكمل القراءة

جور نار

إنت وما جاب العود… عن مسلسلات رمضان

نشرت

في

أخبار مسلسلات رمضان 2024: مواعيد عرض مسلسل فلوجة 2 بطولة ريم الرياحي في  رمضان 2024 والقنوات الناقلة - المشهد

عبد القادر المقري:

لي شبه يقين أن مسلسلاتنا التونسية (تماما كسينمائنا) محظوظة حظا يكسر الحجر كما يقال … فهي أقرب ما تكون إلى تلاميذ ذات فترة من عمر وزارة التربية، وهي تجربة المقاربة بالكفايات … لا أحد يأخذ صفرا، لا أحد يسقط في امتحان، لا أحد يعيد عامه، ولا أحد يتم طرده لضعف النتائج …

عبد القادر المقري Makri Abdelkader
عبد القادر المقري

بل لا قياس أساسا لأي جهد … الكل ناجح، والكل ممتاز، والكل متفوق، والكل نابغة بني ذبيان … والدليل أننا عند نهاية مهرجان من مهرجاناتنا أو عرض فيلم من أفلامنا، لا تسمع سوى الشكر، ولا تقرأ سوى المدح، و لا ترى سوى الحمد على نعمة السينما والذين أدخلوها إلى تونس … تماما كما يحصل عقب كل رمضان مع أعمالنا الدرامية، إن وُجدت … فدائما عندك جوائز لأحسن عمل، وأفضل مخرج، وأبرع ممثل، و أقوى سيناريو، وأكبر وأجمل وأبهى وأمتع وأروع … يا دين الزكش، كما يقول صديقي سلامة حجازي … يعني كل بلاد العالم (بما فيها هوليوود وبوليوود وقاهرة وود ودمشق وود) تنجح فيها أعمال وتفشل أعمال، إلا عندنا فيبدو أننا الفرقة الناجية …

… أو فرقة ناجي عطا الله !

هذه السنة، أتاح لي زميل مسؤول بإحدى الإذاعات أن أتفرج على قسم كبير من مسلسلين تونسيين مرة واحدة… قلت أتاح لي بعد أن رجاني مشكورا أن أدلي برأيي في هذا وذاك، وأنا اليائس منذ أعوام من مستوى مسلسلاتنا خاصة حين جنح معظمها إلى تقليد عمل أعتبره كارثة فنية بكل المقاييس، وهو مسلسل “مكتوب” … وصار الكل يستنسخ منه استنساخ أهل الغناء والمسرح لعرضي النوبة والحضرة طوال الثلاثين سنة الأخيرة … وكيف لا يفعلون وهم وجدوا الوصفة السهلة التي لا تكلّف تعبا ولا وجع رأس … فمثلما بإمكانك أنجاز “عرض” فني لا نص فيه ولا فكرة مبتكرة بل تكديس جملة من أغاني التراث وإلصاق بعضها ببعض، بإمكان الواحد أن “يبيض” مسلسلا لا قصة فيه ولا حوار ولا سيناريو… فقط عندك ركام من عارضي وعارضات الأزياء، يقولون في ما بينهم كلاما من الحزام فما أدنى منه، ويعيشون في بذخ لا تحلم به أميرة خليجية، ويستبيحون القوانين أصغرها وأكبرها، ولا قيم توقفهم ولا منطق ولا نواميس مجتمع … عكعك وهي حالّة معك، كما يردد شباب هذه الأيام …

إذن أخذا بخاطر صديقي، تفرجت صاغرا في اثنين من أعمالنا المعروضة لرمضان هذا العام، قائلا لعل الأمور تحسنت عمّا تركتها، وربما ظلمت مبدعينا الفتيان وهم يفتحون البلدان ويغزون الفضاء في غفلة مني … وبما أن ذلك فاتني على المباشر، فقد لجأت إلى التساجيل التي تبث على الإنترنت، وأطوي الأرض طيا حتى أرى أكثر ما يمكن ولا أتسرع في الحكم على أحد … رأيت إذن جزءا كبيرا من مسلسل “فلوجة 2” على الحوار التونسي، وجزءا مماثلا من “رقوج 1” (بما أنهم يبرمجون لجزء ثان على ما سمعت) … وأعطيت رأيي في حدود ما شاهدت، وواصلت بعد ذلك باقي الحلقات حتى تكتمل الفكرة وأكون بدوري من المحتفلين ختاما بأفضل عمل وممثلين ومخرجين إلى آخر الليستة … وعلى حق …

نبدأ بفلّوجة … هو أولا استمرار لقصة السنة الماضية التي أثارت أكثر من ضجة لدى رجال التعليم ونسائه … والسبب أن احداث المسلسل تدور في وحوالي معهد ثانوي فيه كل شيء إلا الدراسة … مخدرات في قارعة الطريق، علاقات جنسية بوها كلب بين الجميع والجميع، ولادات خارج إطار الزواج وغير ذلك … والعجيب أن احتجاج المربين قابلته عاصفة تبريرية كانت دائما السند الرئيسي لسامي الفهري ومسلسلاته … من نوع: أليس هذا واقعنا؟ ألا تحدث يوميا مثل هذه الفضائح؟ هل ما زال عندنا تعليم؟ ألم يهبط مستوى مؤسساتنا التربوية منذ زمن؟ هل نغطي عين الشمس بالغربال؟ أما كفاكم نفاقا؟؟ … ويصل التبرير إلى ذروته بالتهجم على الأساتذة أنفسهم … “ماهي جرايركم” … “ما هو من جرة” انغماسكم في الدروس الخصوصية وإهمالكم لعملكم الأصلي … “ماهي نقاباتكم” وإضراباتكم ومطالبكم وزياداتكم المتلاحقة، وبسببها أفلست المعاهد وصارت بؤرا فاسدة، فيما هرب الجميع إلى التعليم الخاص… وغير ذلك وغير ذلك …

ولم يقل أحد من هؤلاء لسامي الفهري: وأنت، ما غايتك من الترويج لهذه المظاهر؟

وبقطع النظر عن صحة كل هذا في المطلق، والإحصائيات التي ما زالت لصالح التعليم العمومي في الباكالوريا وغيرها مهما حصل … فإن هذا التعميم يظلم كثيرا من أهل التعليم الأوفياء وجهدهم في إنجاح تلاميذهم وتمكينهم من مستوى جيد دون مقابل عدا مرتب شهري بعرق الجبين … كما يحط هذا التقييم الشمولي من قدر أبنائنا وبناتنا المربين والمربيات الأشراف وأغلبهم يتمسك بفضائلنا وأخلاقنا … فهل كل أساتذتنا متحرشون بتلميذاتهم كما في المسلسل، وهل كل أستاذاتنا ومديرات معاهدنا شغلهن الشاغل إقامة علاقات جنسية مع هذا التلميذ أو ذاك الرجل العابر؟ …

وحتى إن حصلت بعض حالات فماذا تمثل نسبتها؟ 1 بالمائة؟ اثنان؟ ثلاثة بالمائة ولا أعتقد ذلك وسط مئات آلاف من منظوري وزارة التربية … ومن يقول أكثر عليه بإجبار الوزارة على التحقيق العاجل ويكون معها فيه، ثم أين منظمات الأولياء والتربية والأسرة؟ لو كانت معاهدنا على شاكلة معهد سامي الفهري، فمن الأحرى غلق مؤسساتنا التعليمية وإحالة ميزانية الوزارة نحو قطاعات أكثر احتياجا كالشؤون الاجتماعية أو الثقافة أوالفلاحة والصيد البحري … بل ربما نضع كل ما نملك بين يدي الأمن والقضاء حتى يقضيا القضاء المبرم على الداء الذي استفحل ويهدد بنسفنا من الجذور …

فلوجة في جرئه الثاني لم يشذ عنه في الجزء الأول … لا بل هو يستمر في شذوذه الآخر … عن كل ما هو مجتمع وأعراف وقيم ولنقُلْ أيضا، مسؤولية … فالعمل الدرامي ليس مجرد نقل للواقع (هذا إذا كان واقعا) بل فيه طرح ورسالة وتأثير مباشر خاصة مع طغيان الصورة ووسائل الاتصال الحديثة … الفهري ومرؤوسته سوسن الجمني، يتملّحان طولا وعرضا بما يمكن أن ينتج في مجتمعنا من تغيير سلوكات جراء ما يعرضانه في كل مسلسل …

ـ يتبع ـ

أكمل القراءة

جور نار

هل ستقع المواجهة بين إيران والكيان الصهيوني؟

نشرت

في

الرابطة الدولية للخبراء والمحللين السياسيين - هل تملك اسرائيل ان توجه  ضربتها الى إيران؟

لم تكن التهديدات من هذا الطرف او ذاك توحي بخطر شن حرب بين إيران و اسرائيل، ذلك ان طهران كانت عمليا تتفادى مواجهة مباشرة مع اسرائيل المدعومة من الولايات المتحدة وتعي بان الكيان اللقيط لا يعدو أن يكون إحدى ثكنات القوة الأعظم.

محمد الزمزاري Mohamed Zemzari
محمد الزمزاري

و لم يتهور الايرانيون المعروف عنهم العمل بصمت و عقلانية و تقبل بعض الخسائر المفترضة و المنتظرة مقابل تنويع مواطىء اقدامهم و تركيز مواقع قد تخدمهم لاحقا دون أي تسرع عاطفي ممثل في رد فعل غير محسوب الهدف او النتائج … لقد دفعت إيران قرابين كثيرة منذ التسعينات ضحايا لاغتيالات الموساد و المخابرات الأمريكية المتعاونة من تفجير مراكز نووية إلى اغتيال علماء او قيادات عسكرية هامة و الظاهر ان الإيرانيين يرسمون أهدافهم الاستراتيجية على المدى الطويل والتي يعتبرونها اهم بكثير من صراعهم مع الكيان الصهيوني… وقد نجحت لحد الان السياسة الإيرانية في تركيز اذرع في عدد من البلدان العربية ذات مكانة استراتيجية هامة مثل سوريا و العراق ولبنان و اليمن، وهي ساعية اليوم لغرس امتداد لها بالأردن، كما عمدت خلال هذه الأسابيع إلى دعم حكومة السودان ومدها بالطائرات المسيرة التي قلبت موازين المعارك ضد قوى الدعم السريع.

لكن الحدث الذي جد اخيرا و الذي تمثل في ضرب الصهاينة للقنصلية الإيرانية بسوريا والقضاء على واحد من اكبر القيادات الحربية و التنسيقية قد يؤجج ما كان كامنا بين الكيان وطهران. فإسرائيل ترغب منذ سنوات في توريط حلفائها الأمريكان في حرب ضد إيران وقد تراءت لنتنياهو فرصة سانحة للدفع نحو هذه الحرب المرغوب فيها اولا و لتمديد بقائه في الحكم و إتمام خططه النازية من تهجير و مجازر و تدمير لغزة و لاحقا للضفة الغربية، وهنا لم يبق لإيران بد من رد فعل قوي لحفظ ماء الوجه و تأديب الكيان الذي تجاوز الخطوط الحمراء و ضرب القنصلية الإيرانية التي تمثل سيادتها و صورة قوتها أمام الجميع وخاصة لدى اذرعها وأنصارها في المنطقة.

ومنذ ساعات أعلنت المخابرات الروسية عن تحديد ضربات او حرب خاطفة ممكنة الوقوع قريبا جدا و دعت مواطنيها لملازمة الحذر بالشرق الأوسط وخاصة بالكيان الصهيوني و منذ اكثر من ساعة دعت الولايات المتحدة مواطنيها في الأرض المحتلة وتل أبيب خاصة الى نفس الحذر. اذن فالوضع قابل جدا لوقوع حدث هام مدمر ليس باسرائيل فقط لكن أيضا بايران اعتمادا على ان الكيان الصهيوني يرغب فعليا في خلق مواجهة مع ظهران ستقودها الولايات المتحدة دون شك.

هل ستصدر الضربة الإيرانية انطلاقا من قاعدة احد اذرعها؟ هل سيكون الهدف محطة ديمونة النووية او ايلات او تل ابيب؟ اظن ان ضرب تل أبيب مستبعد مما يبعث على الظن بان الهدف المحتمل هو: إما إحدى السفارات الاسرائيلية في بلد خليجي او قصف إحدى المدن او المطارات الكبرى بالكيان الصهيوني. فيما يبدو أن الولايات المتحدة لا ترغب حاليا في خلق بؤرة حرب جديدة مكلفة قبل انتخابات نوفمبر القادم و لن تصل اية ضربة مهما كانت صدمتها إلى دفع بايدن إلى رد فعل ضد إيران …

أكمل القراءة

صن نار