تابعنا على

جلـ ... منار

تحلل النظام الدولي في اختبار غزة!

نشرت

في

عبد الله السنّاوي
UNFPA Arabstates | "سباق مع الموت" وسط القصف المستمر على غزة، هذا ما تقوله  نساء حوامل لصندوق الأمم المتحدة للسكان

تحللت مؤسساته وقيمه وتقوضت صلاحيته وقدرته على البقاء.

هكذا بدت صورة النظام الدولي في اختبار غزة.
كان العجز شبه مطلق أمام أبشع الجرائم ضد الإنسانية في العصور الحديثة
.

عبد الله السنّاوي
عبد الله السنّاوي

يفي غضون أربع سنوات توالت ثلاثة اختبارات كاشفة لمدى تدهوره وعجزه عن الوفاء بمتطلباته.
كانت جائحة “كوفيد 19” اختبارا جديا لمدى كفاءة المنظومة الصحية الدولية وقدرة النظام الدولي على التساند الإنساني في مواجهة الموت الجماعي، الذي
ضرب بلا رحمة مناطق واسعة من العالم شاملة أوروبا والولايات المتحدة.
أثناء الجائحة ضرب التفكك بنية الاتحاد الأوروبي، الذي عجز عن إبداء الحد الأدنى من التضامن بين أعضائه.
بالوقت نفسه لم تبد الولايات المتحدة أي قدر من الاستعداد لمد يد العون للحلفاء المفترضين، ولم يكن هناك أي دور يعتد به للأمم المتحدة.

كان ذلك مؤشرا على قرب انهيار النظام الدولي، الذي تمسك واشنطن بمقاليد القوة فيه منفردة منذ مطلع تسعينيات القرن الماضي بعد انهيار الاتحاد السوفييتي وانقضاء الحرب الباردة.
ثم تعرض النظام الدولي لاختبار ثان في الحرب الأوكرانية.
طرح على نطاق واسع سؤال: لمن تؤول قيادته وما طبيعة حسابات وتوازنات القوة فيه؟.. لكنه ظل معلقا في فضاء الحرب التي تمددت وأنهكت بتداعياتها العالم كله.
لا الولايات المتحدة كسبت رهاناتها على إذلال موسكو ولا روسيا رفعت الرايات البيضاء رغم العقوبات القاسية التي فرضت على اقتصادها المنهك.

في اختبار أوكرانيا لوحت الولايات المتحدة بسلاح العقوبات أمام بيكين، كما باستعراضات القوة في المحيطين الهادي والهندي، حتى تردع أي تدخل صيني محتمل، اقتصاديا وتسليحيا يدعم موسكو.
في اختبار غزة وجهت رسائل مشابهة لمنع أي طرف إقليمي من “استغلال الوضع” بعد صدمة السابع من أكتوبر.
في الاختبارين لم تنجح الولايات المتحدة، رغم ما استثمرته من عناصر قوة فائقة تخطيطا وتمويلا وتسليحا، فى حصد ما طلبته من أهداف.
في غزة تضررت صورتها بالشرق الأوسط كما لم يحدث من قبل.
كانت تلك خسارة استراتيجية لها تبعات على مصالحها في المنطقة.
بقدر مماثل تضررت قيادتها الفعلية للمنظمة الدولية حيث أبقتها في وضع شلل وعجز.

لم يكن لجوء الأمين العام للأمم المتحدة “أنطونيو غوتيريش” إلى استخدام المادة (99) من ميثاقها، التي تخوله تنبيه مجلس الأمن إلى أية مسألة يرى أنها قد تهدد حفظ السلم والأمن الدوليين، سوى احتجاج على تعطيل صلاحيات المنظمة الدولية بجميع مؤسساتها في وقف الإبادة الجماعية، أو التخفيف من وطأة المأساة الإنسانية المروعة.
الخطوة بذاتها سابقة تاريخية، والمعنى أن الأمور أفلتت وصلاحيات منظومة الأمم المتحدة تعطلت.
أصابع الاتهام نالت الولايات المتحدة قبل أي طرف دولي آخر بحكم قيادتها للنظام الدولي كله.
الأفدح انهيار القيم المؤسسة للأمم المتحدة في حفظ الحريات وحقوق الإنسان وضمان حق الشعوب في تقرير مصيرها.

كان استهداف الصحفيين في غزة وجنوب لبنان داعيا إلى غضب حقوقي ومهني واسع دون أن يكون ممكنا فتح أي تحقيق دولي يحاسب ويردع.
وصلت المأساة إلى ذروتها في تعطيل وكالات الأمم المتحدة المتخصصة عن أداء مهامها، خاصة منظمة الصحة العالمية، ومنظمة الأغذية والزراعة، والمحكمة الجنائية الدولية.
المستشفيات حوصرت وقصفت، وحرب التجويع اتسعت إلى حدود غير مسبوقة، وأية حقوق إنسانية قوضت تماما دون أن يرتفع صوت مؤثر للمنظمة الدولية يضفي عليها صدقية واحتراما.
قصفت مكاتب ومدارس «”الأونروا”، التي أنشئت خصيصا لغوث اللاجئين الفلسطينيين بعد نكبة (1948)، دون صرخة احتجاج تلوح بإنزال العقاب.
بقوة الفيتو الأمريكي ونفوذه، فشل مجلس الأمن، في استصدار قرار يوقف الحرب.

رغم ذلك كله، لم تتمكن إسرائيل بعد مرور أكثر من شهرين من إحراز علامة نصر واحدة.
لم تنجح في اجتثاث “حماس” وتحرير الأسرى والرهائن الإسرائيليين بالقوة دون دفع أثمان سياسية باهظة.
فاوضتها عبر وسطاء قبل أن تقطع الهدن وتعود إلى الحرب.
مع كل إخفاق في المواجهات المباشرة تصعد من ضراوة استهداف المدنيين.
العالم لم يعد يحتمل تمديدا للحرب، التي أسقطت عشرات آلاف الضحايا المدنيين من قتلى ومصابين ومفقودين تحت الأنقاض.
حسب وزير الخارجية الأمريكي “أنتونى بلينكن” فإنه يتعين على القادة الإسرائيليين إنهاء الحرب خلال أسابيع لا أشهر.
الأعباء السياسية للحرب على غزة نالت من مكانة الولايات المتحدة وفرص “جو بايدن” في تمديد ولايته لفترة ثانية بانتخابات (2024).

في إجابة عن سؤال: ماذا بعد؟.. طرحت أفكارا للتداول بعضها تحليق في الأوهام مثل الخروج الآمن للمقاومة على غرار ما حدث عام (1982) بعد احتلال بيروت وترحيل منظمة التحرير الفلسطينية إلى تونس.
الوضع هذه المرة يختلف تماما، فالمقاومة تحارب على أرضها لا على أرض أخرى.
حمل مشهد تعرية مدنيين لإذلالهم بزعم انتمائهم لـ”حماس” والتوسع في القتل العشوائي بدم بارد في الضفة الغربية رسالة عكسية عنوانها: القتال حتى آخر شهيد.
بقوة الصور تبدت الفوارق شاسعة بين معاملة الأسرى الإسرائيليين لدى المقاومة، والأسرى الفلسطينيين في السجون الإسرائيلية.
كانت تلك هزيمة أخلاقية كاملة.

بدا طرح سؤال اليوم التالي على قدر من التعجل: من يملأ فراغ الأمن والسياسة فى غزة؟
أثبتت الحرب أن الأمر لن يكون يسيرا على النحو الذى جرى تصوره من قبل، فالمقاومة فكرة أصيلة وليست مقحمة على المجتمع الفلسطيني.
لا إعادة احتلال غزة مقبولة أمريكيا وأوروبيا وعربيا، ولا إنشاء مناطق عازلة تلقى قبولا من الراعي الأمريكي، ولا استبعاد السلطة الفلسطينية واستبدال محمود عباس برجل آخر حسب مواصفات الاحتلال، يمكن أن يقبله الشعب الفلسطينى رغم أية اعتراضات واسعة على أداء السلطة.

أكدت التظاهرات، التي عمت العواصم والمدن الغربية الكبرى، وداخل الولايات المتحدة نفسها دعما وتأييدا للقضية الفلسطينية، التناقض الهائل ما بين مؤسسات دولها والرأي العام فيها.
إنها إشارة تغيير تحت الجلد السياسي.
بصياغة ثانية، إنها إشارة تصدع جديدة ومنذرة في النظام الدولي.

تقوض ذلك النظام دون أن يستبين ما بعده.
لا الصين بوارد ملء فراغ الدور القيادي ولا تقدر بأي مدى منظور على تكاليفه وأثمانه.
يكتفى الصينيون بأدوار المراقبة من بعيد والمواقف المتضامنة دون التورط في الحربين الأوكرانية والفلسطينية.
ولا روسيا مستعدة أن تفتح جبهة صراع جديدة رغم أنها من أكثر المستفيدين استراتيجيا من تراجع الحرب الأوكرانية إعلاميا وسياسيا بعد الحرب على غزة.

إننا أمام تحلل كامل في بنية النظام الدولي يؤشر على فوضى واسعة مقبلة دون أن تتبدى أية إشارة على ميلاد جديد بأي مدى منظور.

ـ عن “الشروق” المصرية ـ

أكمل القراءة
انقر للتعليق

اترك تعليقا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

جلـ ... منار

خالق الفرح

نشرت

في

Peut être une image de 2 personnes et bébé

اتصلت صديقتي غادة بي كي تطمئن عليّ:

ـ وينك ياست الحبايب؟

وفاء سلطان
وفاء سلطان

ـ مع الحبايب أجمع البيض!

يبدو أن أرنب الفصح كان غنيا جدا وكريما جدا هذا العام… نالني منه أربعة عشر بيضة، وجدتُ في داخلها ست دولارات وعشرين قطعة من الشوكولا (أول مرّة بناتي يدفعن لي بدلا من أن أدفع لهن)!

تفوقت علي جازي بأربع بيضات وست دولارات، أما بنجي فلم ينل إلا نصف ماحصلت عليه (لا يهم إذ لا يعرف قيمة الدولار بعد)!

……..

أمطرتني غادة بوعظة دينيّة طويلة جدا، تفوقت فيها على الشيخ الحويني، لقّنتني من خلالها درسا في العبادة وكيفية الاحتفال بالأعياد،

قالت:العيد ليس جمع البيض، العيد يعني ممارسة الصلاة والتعبد وزيارة الكنيسة!

واحتدم النقاش حتى اعترفت لي بأن اليهود (يخرب عمرهم لهم قرص في كل عرس!) قد حولوا كل الأعياد المسيحية لتجارة بالمطلق، وهم الذين اخترعوا سانتا كلوز وأرنب الفصح كي يسرعوا عمليات التسويق، ويصرفوا نظر الناس عن عبادة الله الحق!

فشعرت وكأنني أصغي للقرضاوي يقص علينا حكاية بني قريظة!

يبدو أن حتوتة الشجرة واليهودي الذي سيحتمي وراءها يوم القيامة قد طالت عقول بعض المسيحيين أيضا!

……..

يا سيدتي زرت عشرات بل مئات المعابد (من كلّ الأشكال والألوان)، ورأيت فيها الكثيرين من المنافقين والدجالين وتجار الدين، الذين أبعدوني عن الله سنينا ضوئية…

ياسيدتي أقدس بيت للعبادة بيتي وبيوت أولادي، فهي الأمكنة الوحيدة التي أضمن طهارتها من الفساد والرذيلة…

ياسيدتي من لم يرّ الله في سلة بيض الأرنب الذي يشرفنا في عيد الفصح، وفي قبعة سانتا كلوز الذي يزورونا في عيد الميلاد، لا يستطيع أن يراه في أي مكان آخر…

يا سيدتي لا أريد أحدا يفرض عليّ الهه وطريقة عبادته لذلك الإله…

ياسيدتي من لا يستطيع أن يُدخل الفرح على قلب طفل لا يعرف الله…

يا سيدتي من لا ينحني ويصلي للإله القابع في عيني حفيدي آدم، لم يمارس يوما الصلاة…

..أعتذر إن كان إلهي مغايرا لما يعنيه لكِ الإله….لم أفرض يوما إلهي على أحد، ولا أريد لأحد أن يفرض عليّ الهه، والطريقة التي يعبد بها ذلك الإله.

……..

أغلقت سماعة الهاتف، ولسان حالي يتضرع إلى الله: يارب لا تجعلني من عبادك “المؤمنين” فلقد ضقت ذرعا بهم!

بل اجعلني من عبادك الذين يَفرحون ويُفرحون، فالفرح هو أنت أينما حلّ..

اجعلني من عبادك الذين جاؤوا لنا بسانتا كلوز وبأرنب الفصح، وجعلوا حياتنا أسهل وأبهى بعلومهم ومعرفتهم.

……..

قرأت منذ يومين قولا للرئيس الفرنسي ديغول: كيف سأحكم دولة تنتج 246 نوعا من الجبن؟؟؟

وأنا أقول: لا حاجة لك أن تحكمها فالله وحده يحكمها،

الله وحده يتواجد حيث توجد النعمة والوفرة والعطاء…

أما الندرة والشح فتسود حيث تتحكم العقول العقيمة والمريضة!

……..

كل عيد فصح وأنتم وجميع أرانب الأرض بخير!

Coloriage Lapin de Pâques à côté d'un panier d'œufs - Dessin gratuit

أكمل القراءة

جلـ ... منار

بفلوسي!

نشرت

في

Images de Voleur Argent – Téléchargement gratuit sur Freepik

السيدة سهير موظفة في منتصف العمر وأم لثلاثة شياطين، وهي من الطراز الذي لا يتذوق الدعابة ولا يفهمها. علمتني الحياة أن أظرف وأروع الدعابات طرًا تأتي من هذا الطراز، فهم لا يفتعلون الظرف .. إنهم ظرفاء بالطبيعة. أسخف الدعابات تأتي غالبًا ممن يعتقدون أنهم ظرفاء، وأدعو الله ألا أكون منهم.

أحمد خالد توفيق

قرأت ملحقًا لإحدى الصحف الشهيرة مؤخرًا، فوجدته مليئًا بصور أشخاص ظرفاء يضحكون في استمتاع، مع نكات من نوع (اركبي قبل الحصان ما يشوفك).. (حماتي عملت مفاجأة وجت تقعد معانا شهر).. منتهى السماجة.

هذا ليس موضوعنا على كل حال. موضوعنا هو السيدة سهير.

سألتني السيدة سهير عن طبيب أنف وأذن وحنجرة جيد لأن أذنها مسدودة منذ فترة، فاقترحت عليها دكتور سيد الشماشرجي .. هذا رجل بارع يجيد عمله وصديق قديم. توكّلتْ السيدة على الله وذهبتْ له في العيادة ودفعت مبلغًا باهظًا من المال للكشف. تقول إنها دخلت لترى قزمًا مسنًا ينظر لها في كراهية من خلال المرآة التي تثبت على الجبهة إياها، فلما فتحت فمها لتقول:

ـ”إنها أذ………………………..”

أخرسها بشخطة، ودس منظارًا في أذنها فكاد يثقبها، ثم قال في عصبية وقرف:

ـ”شمع .. لابد من غسل الأذن”

وقبل أن تفهم كان يضع طبقًا معدنيًا تحت أذنها ويدس فوهة مسدس الماء في أذنها، فتصرخ ألمًا، ثم تشعر بطوفان من الماء الدافئ يدخل أذنها ويبدو أنه يبلل مخها ذاته ويخرج من الأذن الأخرى.

ثم قال لها بذات القرف:ـ”هناك قطرات للأذن .. استعمليها !”

خرجت من الغرفة شاعرة بالإهانة، كأنما تربص بها عشرة أبطال مصارعة فأوسعوها لكمًا وركلاً. وقبل أن تفهم ما يحدث انقض عليها الممرض الجالس في الخارج ليقول في قرف:

ـ”خمسون جنيهًا !”

ـ”ماذا ؟”

ـ”أتعاب غسل الأذن خمسون جنيهًا …

“إذن ففيم كان الكشف الباهظ؟

دفعت ما طلبه هذا القرصان وهي ترتجف غيظًا، كما أن أذنها كانت تؤلمها جدًا. ومشت في الشارع شاعرة بشعور السكير الذي يطردونه من الحانة بعد منتصف الليل لأنهم يريدون الإغلاق. قدماها غير ثابتتين ولا تفهم ما يحدث، دعك من أن زوال انسداد أذنيها جعلها تشعر بدوار وبرد غريبين.

لما عادت للبيت اتصلت بي لتنفجر في غل، شاتمة ذلك اللص النصاب الذي تقاضى كل هذا المبلغ في ثلاث دقائق. والأسوأ هو مبلغ الخمسين جنيهًا .

. كان يجب أن تكفي أتعاب الكشف لكل شيء.

بعد أشهر كانت تطالع الصحيفة فوجدت صورة عروسين .. المحاسب سمير سيد الشماشرجي تزوج المحاسبة هيام منصور .. الزفاف كان حلمًا من أحلام ألف ليلة وليلة وأقيم في فندق فاخر بالقاهرة. قالت لي في غيظ:

ـ”بفلوسي!! لقد زوج ابنه بمالي ذلك اللص!”

حكيت لها ذات مرة عن السيارة الفاخرة التي ابتاعها المهندس محمود سيد الشماشرجي ابن الطبيب الشهير، فصاحت في غل:

ـ”بفلوسي!!… يستطيع أبوه عمل أشياء كثيرة بالخمسين جنيهًا التي تقاضاها لغسل أذني!”

ذات مرة نشرت إحدى المجلات حوارًا مع دكتورة اسمها غادة تتحدث عن جولتها في اليابان ودول جنوب شرق آسيا. قالت في الحوار إنها زوجة واحد من أهم أطباء الأنف والأذن والحنجرة في مصر، وهو الدكتور سيد الشماشرجي.هنا صاحت السيدة سهير:

ـ”بفلوسي…!.. زوجته الشمطاء تجوب العالم كله بالخمسين جنيهًا”

رأيت أن الأمر تحول إلى هاجس أو وسواس قهري بالنسبة لها، فلولا ما في ذلك من مبالغة لطلبت من د. سيد الشماشرجي أن يرد لها مالها كي يتجنب هذه اللعنة السرمدية. لا شك أنه سيصاب بمرض عضال وينفق أضعاف الخمسين جنيهًا لعلاجه، لأن السيدة سهير – كما نقول في العامية – مش مسامحة!

العكس يحدث أحيانًا. الحكاية هي أنني منذ أعوام اشتركت في واحدة من مطبوعات اليونسكو الشهرية، والاشتراك ثلاثون جنيهًا في العام تقريبًا. ثم وجدت أن الأعداد تتكدس وأنا لا أطالعها… جاءت لحظة الحقيقة وقررت أنني لست بحاجة لهذه المطبوعة وكتبت خطابًا أعتذر فيه عن عدم الاشتراك لعام آخر.. أرسلوا لي يسألون عن السبب فلم أرد.

بعد أشهر قرأت في الصحف الخبر التالي (وهذا الكلام حقيقي على فكرة):

ـ”اليونسكو مهددة بالإفلاس لأن الولايات المتحدة خفضت مساهمتها في تمويل المنظمة”

طبعًا لم أحتج لأسئلة أكثر .. لقد تدهورت حالتهم المادية فعلاً عندما تركتهم، وعندما كففت عن دفع ثلاثين جنيهًا كل عام.

يبدو أن هذه المنظمة كانت تعتمد كلية على فلوسي.

قصة أخرى طريفة عندما كنت مدعوًا لمهرجان أدبي في قطر خليجي شقيق. كان طعام الفندق ممتازًا، وأنت تعرف عقدة البوفيه المفتوح. ربما هي فرصتك الأخيرة كي تجرب حساء التوم اليوم أو الباتاي أو القبوط أو الدجاج بالطريقة الإيرانية، أو حساء المنسيتروني وشرائح سمك الكنعد بالليمون.. ملعقة من كل شيء وسوف تكتشف أن الطبق مليء جدًا وأن ثيابك تضيق.

بعد ثلاثة أيام فتحت جهاز التلفزيون في الفندق، فوجدت أن حكومة البلد الثري مجتمعة لمناقشة الانهيار الاقتصادي الذي حدث مؤخرًا!.

شعرت بخجل شديد لأنني تجاوزت حدود الضيافة، وحاولت جاهدًا ألا أجرب سوى صنف واحد في الوجبة. إن شراهتي كفيلة بتدمير دولة فعلاً.

نعود للسيدة سهير التي أضناها التفكير في مالها…الحقيقة أنها ليست واهمة تمامًا. لا شك أن مالها ساهم بقدر ضئيل جدًا – كذرة في جسد – في نفقات رحلة آسيا.

هذا المفهوم ينطبق على الدول نفسها: عندما يعتدي عليك أمين الشرطة ويصفعك أو يطلق عليك الرصاص، أو يلفق لك قضية مخدرات بأحرازها مستعملأً قطعة البانجو في جيبه، فهو في الحقيقة يتقاضى راتبه من جيبك. حتى الرصاصة التي استقرت في رأسك أنت دفعت ثمنها.

المتظاهرون دفعوا بالكامل ثمن الغاز الذي يستنشقونه.

محصل الكهرباء الذي يخرب بيتك يتقاضى الراتب منك أنت.

هذا ينطبق على كل موظف في الدولة من أصغر رأس لأكبر رأس. كل المستشارين الذين يحصدون المليارات كل عام. من أين يحصلون على هذه المبالغ الفلكية؟ من جيبك طيعًا.

في الخارج يؤمنون أن رئيس الدولة نفسه موظف يتقاضى راتبه من جيوبهم، وعليهم أن يعرفوا ما فعل به، بينما في الدول العربية يسود المفهوم الأبوي القبلي الذي خرب بيوتنا:

أنت تعيش بما يجود به الحاكم عليك…

شيخ القبيلة الذي يقذف لك بصرّة من الذهب، بينما أنت في الواقع شاركت بقطعة نقدية في هذه الصرة.

السيدة سهير لم تبالغ في تصوراتها. هي فقط بالغت في أهمية الخمسين جنيهًا التي دفعتها

أكمل القراءة

جلـ ... منار

بِع وَردًا ولا تلعن الحياة

نشرت

في

Peut être une image de amarante

لم يمنعني المطر من أن أمارس طقوسي هذا الصباح.على العكس تماما، فالمطر هو أكثر الظواهر الطبيعية التي تسهل عليّ التواصل مع الكون وقراءة رسائله!

وفاء سلطان
وفاء سلطان

دخلت مقهاي المفضل لاحتسي فنجان قهوتي،ورحت أتأمل بعمق كل شيء حولي لأستشف الرسالة الكونية لهذا اليوم، إذ لم يمر يوم ونسي الكون فيه أن يخصني ببريده، ومن ذلك البريد أستمد كل صباح حكمة تزيدني شوقا للصباح الذي يليه… على يساري جلست سيدة، وقبالتي لمحت سيدة أخرى… وبين السيدتين كانت الرسالة واضحة وجليّة، وتحمل حكمة ولا أجمل… كلا السيدتين دخلت المقهى لنفس الغاية، دخلتاه تنشدان بعض الدفء، وهربا من زخات المطرالتي لم ترحم رأسا من لسعاتها!

السيدة على يساري، ومن ثيابها تعرف أنها مشردة وتعيش في الشوارع… والسيدة على يميني تحمل سطلا من الورود وتنظر عبر الزجاج أملا في لحظة صحو لتركض إلى الخارج وتستمر في بيع ورودها للمارة!..

تحسستُ طاقتها التي تفيض حبا للحياة، فاقتربت منها علني أمتصُّ بعضا منها!

اشتريت وردة ودار بيننا حديث شيق، علمت من خلاله أنها متقاعدة في منتصف الستينات من عمرها، وأنها تمارس تلك الهواية التي تدرّ عليها ربحا جيدا، كي تبرهن لنفسها أنها مازالت منتجة، علما بأن راتبها التقاعدي يكفيها من الناحية المادية!

اسمها روز، وتصرّ أن لها من اسمها نصيبا، فهي تعشق الورود وتشعر بسعادة عامرة عندما تبيع أحدا وردة!

تقول: ليس ما أجنيه من بيع الورود ما يسعدني أكثر، وإنما البسمة التي أرسمها على شفاه الناس!

وتتابع: لم يشتر أحد وردة إلا وبطريقة لا شعورية قام على الفور بشمّها، تسحرني تعابير الوجوه عندما تشمّ ورودي، واشعر أنني ساهمت في رسم تلك التعابير…

ثم شكرتني على شرائي لإحدى ورودها، وتمنت لي يوما جميلا!

……..

بينما في الوقت نفسه، يقترب مدير المقهى من السيدة الأخرى، ويتمتم في اذنها، فتخرج وتجر وراءها رائحة قاتلة!

لا أتصور أنه طلب منها أن تغادر، إذ لا يستطيع بالقانون أن يفعل ذلك، بل طلب منها أن تحرك عربتها المليئة بأغراضها لأنها تعترض المدخل إلى المقهى!

……..

نعم، تلك هي الحياة مجرد قرارات، وأنت مسؤول عن قراراتك!

سيدة قادتها قرارتها لتكون مشردة تفترش الشوارع وتلتحف السماء، وأخرى قادها قرارها لأن تمارس هواية محببة لنفسها، كبرهان على أنها مازالت تعشق الحياة، ومازالت بكامل وعيها لتعيشها بعمق!

……..

أما أنا فعدت لأمارس شغفي، وأنهي كتابا كنت قد بدأته الليلة السابقة…الكتاب بعنوان:

?What would you do if you knew you could not fail

(ماذا ستكون قد فعلت لو علمت أنك لن تفشل؟)

في الفصل السابع من الكتاب، جاءت تلك العبارة:”لو أن حلمك قد وقع فانكسر وتحوّل إلى ألف شظية، إياك أن تخاف من أن تلتقط على الأقل واحدة منها لتبدأ من جديد”

……..

لا يوجد أحد فينا إلاّ وتشظى حلمه يوما،

وحدهم الذين قرروا أن يتمسكوا ـ ولو بشظية واحدة ـ ليبدؤوا من جديد،

وحدهم قد بدؤوا ووصلوا إلى حيث يريدون!

السيدة المشردة وبائعة الورود من الأمثلة الحيّة.

……..

بع وردا ولا تلعن الحياة، فالحياة تلعن من يلعنها!

أكمل القراءة

صن نار