تابعنا على

جلـ ... منار

جنوب إفريقيا إذ تخوض أبرز معارك العدالة في لاهاي

نشرت

في

شكّل البثّ المباشر لجلسة محكمة العدل الدولية التي رافع فيها وفد جنوب إفريقيا ضد الحرب الإسرائيلية على الفلسطينيين في قطاع غزة، حدثاً استثنائياً في تاريخ القضية الفلسطينية وفي تاريخ القانون الدولي. وعبّر كذلك عن تبدّل جذري في تموضع الدول تجاه المؤسسات والمعاهدات والمواثيق الإنسانية، الكونية نظرياً، التي انبثقت في عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية.

زياد ماجد*

ويمكن التوقّف عند أربع مسائل أثارها الحدث الجلل في مقرّ المحكمة في لاهاي.

المسألة الأولى هي تلك المتعلّقة بالحرب نفسها وبالتوحّش والتدمير وكثافة النيران وتوظيف التكنولوجيا الأكثر تطوّراً لإحداث أكبر أضرار بشرية ومادية ممكنة في رقعة جغرافية صغيرة ومحاصرة ومقصوفة جواً وبراً وبحراً، وفي مدّة زمنية محدودة، على نحو لم نشهد له مثيلاً في العالم منذ عقود، إن لم يكن منذ العام 1945. وقد وصّف الحقوقيّون المترافعون ضمن الفريق الجنوب إفريقي الحرب هذه، لجهة انتهاكاتها الخطيرة لاتفاقية منع الإبادة الجماعية ونتائجها الميدانية والخسائر الفادحة التي أنزلتها بالفلسطينيين ومقوّمات حياتهم، بأسلوب شديد التكثيف والدقة في استعراض المعطيات وتفصيلها.

كما بيّنوا أن الانتهاكات المذكورة حُرّض عليها وجعل حدوثها ممكناً المسؤولون الإسرائيليون الأعلى شأناً، من رئيس الدولة إلى رئيس الحكومة ووزير الدفاع ووزير الأمن القومي ووزير المالية والعشرات من المسؤولين السياسيين والعسكريين، وصولاً إلى الجنود المُحتفين في الميدان بقتل الفلسطينيين وتدمير عُمرانهم. وهذا يؤكّد نيّة الإبادة ثم ترجمتها إلى عمليات تصفيةٍ وجرحٍ لعشرات الآلاف من المدنيّين وتجويع وتهجير لمئات الألوف وتدميرٍ ممنهج لغزّة ومستشفياتها ومؤسساتها الحياتية والخدماتية. ووضعوا كلّ ذلك ضمن تحقيب لمسار تطوّر الأمور قبل الحرب وخلالها.

بهذا المعنى، شهدنا في أعلى محكمة دولية انقلاباً حقوقياً وضع الإسرائيليين في موقع المتّهمين بالإبادة، ملزمين بتبرير أفعالهم وأقوالهم، أمام العالم بأسرِه الذي بوسعه الاستماع إلى كلّ ذلك من دون رقابة، على نحو لم يتعرّضوا له مرّةً في تاريخهم، إذ ظلّوا “فوق القانون”، يُطلّون بغرور على وسائل الإعلام ويتصرّفون بلا مبالاة كاملة تجاه محاوريهم. كما شهدنا عرضاً قانونياً متماسكاً يشرح (بلا مقاطعات معهودة) السياق التاريخي الذي وقعت فيه الأحداث الأخيرة وكيف تولّدت من ثقافة احتلال واستيطان وتمييز عنصري وحصار واستهتار بالقوانين الدولية دفع ويدفع ثمنها الشعب الفلسطيني.

المسألة الثانية تتعلّق بجنوب إفريقيا ذاتها كمندوبة للفلسطينيين في هذه المواجهة القضائية، وما تمثّله سياسياً ورمزياً في عالم اليوم. فالدولة التي خاض شعبها معارك ضد الكولونيالية ثم نظام التفوّق الاستيطاني الأبيض “الأبارتهايد” وانتصر فيهما بقيادة نلسون مانديلا المُتحرّر من السجن ليُنتخب رئيساً، تخوض اليوم أبرز معركة قانونية لوقف إبادة جماعية تنفّذها إسرائيل بحقّ الفلسطينيين.

ولا شكّ أن التذكير بالتحالف السياسي والتعاون الأمني والعسكري والاقتصادي الوثيق الذي ربط إسرائيل بنظام الأبارتهيد الجنوب إفريقي على مدى عقود وللحظة سقوطه من جهة، ومشهديّة المواجهة القضائية والتضاد بين التنوّع والتعدّد الثقافي والعرقي والديني اللذين تجسّدهما جنوب إفريقيا، والانتقاء والتماثل وعنجهية العنصرية التي تجسّدها النخبة الإسرائيلية، هذين التذكير والمشهدية، يُفسّران بعض أسباب الاهتمام المُواطني العالمي الاستثنائي بما يجري، ومقدار غيظ الإدارات الأمريكية والأوروبية منه، وارتباكها تجاهه وتعليق الناطقين باسم بعضها عليه بطريقة مبتذلة ورقيعة.

والمسألة الثالثة ترتبط بتبدّلٍ في هويات المدافعين عن القانون الدولي الإنساني اليوم، الذي يُريد ورثة المبادِرين الغربيّين إلى تصميمه كشأن إنساني بعد الحربين الكونيّتين، “استعادته” وجعله أداةً يحتكرون استخدامها في الجغرافيا التي يقرّرون وفي التوقيت الذي يرون وحدهم وجوبه، وفق استثناءات يفرضونها بدورهم، وغالباً ما تتقاطع في ما يخصّ إعلاء إسرائيل عليه وحمايتها من تبعات انتهاكاتها المتكرّرة له.

فأن تنتزع منهم جنوب إفريقيا مبادرة اللجوء إليه، وأن تناصرها في ذلك أمام محكمة العدل الدولية أو تجاه المحكمة الجنائية دول مثل البرازيل وبوليفيا والشيلي وبنغلاديش وسواها، وتطالب بتطبيق هذا القانون ومعاييره ومواثيقه على إسرائيل التي كرّروا في الآونة الأخيرة دعمها وتغطية جرائمها، فالأمر مدعاة تفكير في احتمالات انتقال فعل السهر ـ ادّعاءً أو واقعاً ـ على السلام العالمي وسيادة الحقّ والقانون في العلاقات الدولية من واشنطن ولندن وباريس وبرلين إلى جنوب إفريقيا والبرازيل وغيرهما من ديمقراطيّات الجنوب الصاعدة سياسياً واقتصادياً.

المسألة الرابعة تتّصل بما يمكن توقّعه قانونياً من المحكمة بعد الدفاع الإسرائيلي الذي سعى إلى التشكيك في أمرين: أمر حدوث الإبادة في غزّة والتحريض الرسمي عليها، وأمر صلاحية الشكوى الجنوب إفريقية ذاتها.

ويجوز القول في ما يخصّ الأمر الثاني أن الحجّة الإسرائيلية بانعدام مشروعية الشكوى إذ أن لا “خلاف” ثنائياً بين إسرائيل وجنوب إفريقيا أو لا تبادليّة في هذا الخلاف تستدعيها، ولا استنفاد لسُبل بتّ الخلاف إن وُجد عبر القنوات الديبلوماسية قبل اللجوء إلى المحكمة، حجّة ساقطة. فجنوب إفريقيا تحرّكت بعد أسابيع من بدء الحرب وتحوّلها بحسبها إلى عملية إبادة حذّرت منها أكثر من مرّة في الأمم المتحدة وعبر الطلب إلى مدّعي عام المحكمة الجنائية التحقيق في الجرائم المرتكبة في سياقها وفي مراسلات مباشرة مع تل أبيب. وهي بالتالي تحرّكت بعد كلّ ذلك وفق ما تُمليه اتّفاقية منع الإبادة التي وقّعت عليها.

ويُرجّح أن تُصدر المحكمة بالتالي قراراً في غضون أسبوعين يطلب وقف العمليات العسكرية الإسرائيلية “خشية مخاطر حدوث الإبادة”. ويبدأ بعد ذلك، في ما يخصّ الأمر الأول، النظر في مسألة الإبادة نفسها، إن لجهة وقوعها أو لجهة التحريض على تنفيذها. ويُتوقّع هنا أن تأخذ المداولات والردود وقتاً طويلاً، قد يصل لسنوات قبل البتّ بشأنها، إذ أن القول بحدوث “إبادة جماعية” محفوف بالمحاذير وشديد التطلّب لجهة الاثباتات ولجهة تمييز “الإبادة” عن “جرائم الحرب” و”الجرائم ضد الإنسانية” (بما فيها “التطهير العرقي”). وقد بدا جلياً أن الوفد القانوني الممثّل لإسرائيل بدا معنياً بشكل خاص بنفي “مأسسة” أو “رسمية” الدعوات للإبادة (التي أشارت جنوب إفريقيا إلى تكرارها على أعلى مستوى في إسرائيل)، ذلك أن نجاحه في ذلك يُطيح بمبدأ شارطٍ للقول بحصول إبادة، وهو إثبات النيّة أو التحريض أو الدعوة السافرة للتنفيذ.

بمعنى آخر، وفي مفارقة فظيعة، يبدو الإسرائيليون قابلين باعتبار بعض ارتكاباتهم في ظلّ ما يدّعون أنه
“دفاع عن النفس” أو “حرب على الإرهاب” جرائم حرب أو جرائم ضد الإنسانية لتجنّب الحديث عن “الإبادة”
في موازاة عمل محكمة العدل الدولية الذي سيتواصل لفترةٍ إذن، سيكون مهماً ضغط الدول الخمس التي تحرّكت رسمياً، أي جنوب إفريقيا وبوليفيا وجيبوتي وبنغلاديش وجزر القمر، مدعومةً من الشيلي ومن مئات الأفراد والجماعات والتحالفات الحقوقية، طالبةً من المدّعي العام في المحكمة الجنائية الدولية تحمّل مسؤولياته والتحقيق في الجرائم الواقعة في قطاع غزة والضفة الغربية والقدس الشرقية. ففلسطين انضمت إلى معاهدة روما، وعمل المحكمة الجنائية متاحٌ بالتالي قانونياً فوق أراضيها، وسيكون له إن حصل أثرٌ مهم على مسار القضايا الحقوقية دولياً، وليس فقط فوق جغرافيا غزة.

في الخلاصة، يمكن القول إن ما شهدناه على مدى يومين في لاهاي، حدث تاريخي، سيبقى وقع ما تُلِيَ فيه ومشهديّته ماثلَين أمامنا وأمام أجيال ستستعيده لتدرس أهمّيته وتأثيره على فلسفة القانون وعلى منظومة العلاقات الدولية وتوازناتها. وسيقى ماثلاً أيضاً ليذكّرنا ويذكّر سوانا أن نساءً ورجالاً من جنوب إفريقيا (وإيرلندا وبريطانيا) وقفوا يوماً بتنوّعهم وعِلمهم وقِيمهم ونُبل كلماتهم وتمثيلهم لمئات ملايين البشر على امتداد العالم، ليدافعوا عن مُستضعفين في فلسطين ويتصدّوا لآلة قتلٍ إسرائيلية همجية مدعومةٍ من حكومات أمريكا وألمانيا وإنكلترا وفرنسا، وُمتواطئٍ معها من حكوماتِ دولٍ أُخرى عديدة. وهم بذلك، حفظوا للإنسانية ولقيمة العدالة الأسمى موقعاً، لا شكّ أن كثراً من بعدهم سيدافعون عنه رغم الصعاب وغطرسة الأقوياء.

ـ عن “القدس العربي” ـ

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

*كاتب وأكاديمي لبناني

أكمل القراءة
انقر للتعليق

اترك تعليقا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

جلـ ... منار

خالق الفرح

نشرت

في

Peut être une image de 2 personnes et bébé

اتصلت صديقتي غادة بي كي تطمئن عليّ:

ـ وينك ياست الحبايب؟

وفاء سلطان
وفاء سلطان

ـ مع الحبايب أجمع البيض!

يبدو أن أرنب الفصح كان غنيا جدا وكريما جدا هذا العام… نالني منه أربعة عشر بيضة، وجدتُ في داخلها ست دولارات وعشرين قطعة من الشوكولا (أول مرّة بناتي يدفعن لي بدلا من أن أدفع لهن)!

تفوقت علي جازي بأربع بيضات وست دولارات، أما بنجي فلم ينل إلا نصف ماحصلت عليه (لا يهم إذ لا يعرف قيمة الدولار بعد)!

……..

أمطرتني غادة بوعظة دينيّة طويلة جدا، تفوقت فيها على الشيخ الحويني، لقّنتني من خلالها درسا في العبادة وكيفية الاحتفال بالأعياد،

قالت:العيد ليس جمع البيض، العيد يعني ممارسة الصلاة والتعبد وزيارة الكنيسة!

واحتدم النقاش حتى اعترفت لي بأن اليهود (يخرب عمرهم لهم قرص في كل عرس!) قد حولوا كل الأعياد المسيحية لتجارة بالمطلق، وهم الذين اخترعوا سانتا كلوز وأرنب الفصح كي يسرعوا عمليات التسويق، ويصرفوا نظر الناس عن عبادة الله الحق!

فشعرت وكأنني أصغي للقرضاوي يقص علينا حكاية بني قريظة!

يبدو أن حتوتة الشجرة واليهودي الذي سيحتمي وراءها يوم القيامة قد طالت عقول بعض المسيحيين أيضا!

……..

يا سيدتي زرت عشرات بل مئات المعابد (من كلّ الأشكال والألوان)، ورأيت فيها الكثيرين من المنافقين والدجالين وتجار الدين، الذين أبعدوني عن الله سنينا ضوئية…

ياسيدتي أقدس بيت للعبادة بيتي وبيوت أولادي، فهي الأمكنة الوحيدة التي أضمن طهارتها من الفساد والرذيلة…

ياسيدتي من لم يرّ الله في سلة بيض الأرنب الذي يشرفنا في عيد الفصح، وفي قبعة سانتا كلوز الذي يزورونا في عيد الميلاد، لا يستطيع أن يراه في أي مكان آخر…

يا سيدتي لا أريد أحدا يفرض عليّ الهه وطريقة عبادته لذلك الإله…

ياسيدتي من لا يستطيع أن يُدخل الفرح على قلب طفل لا يعرف الله…

يا سيدتي من لا ينحني ويصلي للإله القابع في عيني حفيدي آدم، لم يمارس يوما الصلاة…

..أعتذر إن كان إلهي مغايرا لما يعنيه لكِ الإله….لم أفرض يوما إلهي على أحد، ولا أريد لأحد أن يفرض عليّ الهه، والطريقة التي يعبد بها ذلك الإله.

……..

أغلقت سماعة الهاتف، ولسان حالي يتضرع إلى الله: يارب لا تجعلني من عبادك “المؤمنين” فلقد ضقت ذرعا بهم!

بل اجعلني من عبادك الذين يَفرحون ويُفرحون، فالفرح هو أنت أينما حلّ..

اجعلني من عبادك الذين جاؤوا لنا بسانتا كلوز وبأرنب الفصح، وجعلوا حياتنا أسهل وأبهى بعلومهم ومعرفتهم.

……..

قرأت منذ يومين قولا للرئيس الفرنسي ديغول: كيف سأحكم دولة تنتج 246 نوعا من الجبن؟؟؟

وأنا أقول: لا حاجة لك أن تحكمها فالله وحده يحكمها،

الله وحده يتواجد حيث توجد النعمة والوفرة والعطاء…

أما الندرة والشح فتسود حيث تتحكم العقول العقيمة والمريضة!

……..

كل عيد فصح وأنتم وجميع أرانب الأرض بخير!

Coloriage Lapin de Pâques à côté d'un panier d'œufs - Dessin gratuit

أكمل القراءة

جلـ ... منار

بفلوسي!

نشرت

في

Images de Voleur Argent – Téléchargement gratuit sur Freepik

السيدة سهير موظفة في منتصف العمر وأم لثلاثة شياطين، وهي من الطراز الذي لا يتذوق الدعابة ولا يفهمها. علمتني الحياة أن أظرف وأروع الدعابات طرًا تأتي من هذا الطراز، فهم لا يفتعلون الظرف .. إنهم ظرفاء بالطبيعة. أسخف الدعابات تأتي غالبًا ممن يعتقدون أنهم ظرفاء، وأدعو الله ألا أكون منهم.

أحمد خالد توفيق

قرأت ملحقًا لإحدى الصحف الشهيرة مؤخرًا، فوجدته مليئًا بصور أشخاص ظرفاء يضحكون في استمتاع، مع نكات من نوع (اركبي قبل الحصان ما يشوفك).. (حماتي عملت مفاجأة وجت تقعد معانا شهر).. منتهى السماجة.

هذا ليس موضوعنا على كل حال. موضوعنا هو السيدة سهير.

سألتني السيدة سهير عن طبيب أنف وأذن وحنجرة جيد لأن أذنها مسدودة منذ فترة، فاقترحت عليها دكتور سيد الشماشرجي .. هذا رجل بارع يجيد عمله وصديق قديم. توكّلتْ السيدة على الله وذهبتْ له في العيادة ودفعت مبلغًا باهظًا من المال للكشف. تقول إنها دخلت لترى قزمًا مسنًا ينظر لها في كراهية من خلال المرآة التي تثبت على الجبهة إياها، فلما فتحت فمها لتقول:

ـ”إنها أذ………………………..”

أخرسها بشخطة، ودس منظارًا في أذنها فكاد يثقبها، ثم قال في عصبية وقرف:

ـ”شمع .. لابد من غسل الأذن”

وقبل أن تفهم كان يضع طبقًا معدنيًا تحت أذنها ويدس فوهة مسدس الماء في أذنها، فتصرخ ألمًا، ثم تشعر بطوفان من الماء الدافئ يدخل أذنها ويبدو أنه يبلل مخها ذاته ويخرج من الأذن الأخرى.

ثم قال لها بذات القرف:ـ”هناك قطرات للأذن .. استعمليها !”

خرجت من الغرفة شاعرة بالإهانة، كأنما تربص بها عشرة أبطال مصارعة فأوسعوها لكمًا وركلاً. وقبل أن تفهم ما يحدث انقض عليها الممرض الجالس في الخارج ليقول في قرف:

ـ”خمسون جنيهًا !”

ـ”ماذا ؟”

ـ”أتعاب غسل الأذن خمسون جنيهًا …

“إذن ففيم كان الكشف الباهظ؟

دفعت ما طلبه هذا القرصان وهي ترتجف غيظًا، كما أن أذنها كانت تؤلمها جدًا. ومشت في الشارع شاعرة بشعور السكير الذي يطردونه من الحانة بعد منتصف الليل لأنهم يريدون الإغلاق. قدماها غير ثابتتين ولا تفهم ما يحدث، دعك من أن زوال انسداد أذنيها جعلها تشعر بدوار وبرد غريبين.

لما عادت للبيت اتصلت بي لتنفجر في غل، شاتمة ذلك اللص النصاب الذي تقاضى كل هذا المبلغ في ثلاث دقائق. والأسوأ هو مبلغ الخمسين جنيهًا .

. كان يجب أن تكفي أتعاب الكشف لكل شيء.

بعد أشهر كانت تطالع الصحيفة فوجدت صورة عروسين .. المحاسب سمير سيد الشماشرجي تزوج المحاسبة هيام منصور .. الزفاف كان حلمًا من أحلام ألف ليلة وليلة وأقيم في فندق فاخر بالقاهرة. قالت لي في غيظ:

ـ”بفلوسي!! لقد زوج ابنه بمالي ذلك اللص!”

حكيت لها ذات مرة عن السيارة الفاخرة التي ابتاعها المهندس محمود سيد الشماشرجي ابن الطبيب الشهير، فصاحت في غل:

ـ”بفلوسي!!… يستطيع أبوه عمل أشياء كثيرة بالخمسين جنيهًا التي تقاضاها لغسل أذني!”

ذات مرة نشرت إحدى المجلات حوارًا مع دكتورة اسمها غادة تتحدث عن جولتها في اليابان ودول جنوب شرق آسيا. قالت في الحوار إنها زوجة واحد من أهم أطباء الأنف والأذن والحنجرة في مصر، وهو الدكتور سيد الشماشرجي.هنا صاحت السيدة سهير:

ـ”بفلوسي…!.. زوجته الشمطاء تجوب العالم كله بالخمسين جنيهًا”

رأيت أن الأمر تحول إلى هاجس أو وسواس قهري بالنسبة لها، فلولا ما في ذلك من مبالغة لطلبت من د. سيد الشماشرجي أن يرد لها مالها كي يتجنب هذه اللعنة السرمدية. لا شك أنه سيصاب بمرض عضال وينفق أضعاف الخمسين جنيهًا لعلاجه، لأن السيدة سهير – كما نقول في العامية – مش مسامحة!

العكس يحدث أحيانًا. الحكاية هي أنني منذ أعوام اشتركت في واحدة من مطبوعات اليونسكو الشهرية، والاشتراك ثلاثون جنيهًا في العام تقريبًا. ثم وجدت أن الأعداد تتكدس وأنا لا أطالعها… جاءت لحظة الحقيقة وقررت أنني لست بحاجة لهذه المطبوعة وكتبت خطابًا أعتذر فيه عن عدم الاشتراك لعام آخر.. أرسلوا لي يسألون عن السبب فلم أرد.

بعد أشهر قرأت في الصحف الخبر التالي (وهذا الكلام حقيقي على فكرة):

ـ”اليونسكو مهددة بالإفلاس لأن الولايات المتحدة خفضت مساهمتها في تمويل المنظمة”

طبعًا لم أحتج لأسئلة أكثر .. لقد تدهورت حالتهم المادية فعلاً عندما تركتهم، وعندما كففت عن دفع ثلاثين جنيهًا كل عام.

يبدو أن هذه المنظمة كانت تعتمد كلية على فلوسي.

قصة أخرى طريفة عندما كنت مدعوًا لمهرجان أدبي في قطر خليجي شقيق. كان طعام الفندق ممتازًا، وأنت تعرف عقدة البوفيه المفتوح. ربما هي فرصتك الأخيرة كي تجرب حساء التوم اليوم أو الباتاي أو القبوط أو الدجاج بالطريقة الإيرانية، أو حساء المنسيتروني وشرائح سمك الكنعد بالليمون.. ملعقة من كل شيء وسوف تكتشف أن الطبق مليء جدًا وأن ثيابك تضيق.

بعد ثلاثة أيام فتحت جهاز التلفزيون في الفندق، فوجدت أن حكومة البلد الثري مجتمعة لمناقشة الانهيار الاقتصادي الذي حدث مؤخرًا!.

شعرت بخجل شديد لأنني تجاوزت حدود الضيافة، وحاولت جاهدًا ألا أجرب سوى صنف واحد في الوجبة. إن شراهتي كفيلة بتدمير دولة فعلاً.

نعود للسيدة سهير التي أضناها التفكير في مالها…الحقيقة أنها ليست واهمة تمامًا. لا شك أن مالها ساهم بقدر ضئيل جدًا – كذرة في جسد – في نفقات رحلة آسيا.

هذا المفهوم ينطبق على الدول نفسها: عندما يعتدي عليك أمين الشرطة ويصفعك أو يطلق عليك الرصاص، أو يلفق لك قضية مخدرات بأحرازها مستعملأً قطعة البانجو في جيبه، فهو في الحقيقة يتقاضى راتبه من جيبك. حتى الرصاصة التي استقرت في رأسك أنت دفعت ثمنها.

المتظاهرون دفعوا بالكامل ثمن الغاز الذي يستنشقونه.

محصل الكهرباء الذي يخرب بيتك يتقاضى الراتب منك أنت.

هذا ينطبق على كل موظف في الدولة من أصغر رأس لأكبر رأس. كل المستشارين الذين يحصدون المليارات كل عام. من أين يحصلون على هذه المبالغ الفلكية؟ من جيبك طيعًا.

في الخارج يؤمنون أن رئيس الدولة نفسه موظف يتقاضى راتبه من جيوبهم، وعليهم أن يعرفوا ما فعل به، بينما في الدول العربية يسود المفهوم الأبوي القبلي الذي خرب بيوتنا:

أنت تعيش بما يجود به الحاكم عليك…

شيخ القبيلة الذي يقذف لك بصرّة من الذهب، بينما أنت في الواقع شاركت بقطعة نقدية في هذه الصرة.

السيدة سهير لم تبالغ في تصوراتها. هي فقط بالغت في أهمية الخمسين جنيهًا التي دفعتها

أكمل القراءة

جلـ ... منار

بِع وَردًا ولا تلعن الحياة

نشرت

في

Peut être une image de amarante

لم يمنعني المطر من أن أمارس طقوسي هذا الصباح.على العكس تماما، فالمطر هو أكثر الظواهر الطبيعية التي تسهل عليّ التواصل مع الكون وقراءة رسائله!

وفاء سلطان
وفاء سلطان

دخلت مقهاي المفضل لاحتسي فنجان قهوتي،ورحت أتأمل بعمق كل شيء حولي لأستشف الرسالة الكونية لهذا اليوم، إذ لم يمر يوم ونسي الكون فيه أن يخصني ببريده، ومن ذلك البريد أستمد كل صباح حكمة تزيدني شوقا للصباح الذي يليه… على يساري جلست سيدة، وقبالتي لمحت سيدة أخرى… وبين السيدتين كانت الرسالة واضحة وجليّة، وتحمل حكمة ولا أجمل… كلا السيدتين دخلت المقهى لنفس الغاية، دخلتاه تنشدان بعض الدفء، وهربا من زخات المطرالتي لم ترحم رأسا من لسعاتها!

السيدة على يساري، ومن ثيابها تعرف أنها مشردة وتعيش في الشوارع… والسيدة على يميني تحمل سطلا من الورود وتنظر عبر الزجاج أملا في لحظة صحو لتركض إلى الخارج وتستمر في بيع ورودها للمارة!..

تحسستُ طاقتها التي تفيض حبا للحياة، فاقتربت منها علني أمتصُّ بعضا منها!

اشتريت وردة ودار بيننا حديث شيق، علمت من خلاله أنها متقاعدة في منتصف الستينات من عمرها، وأنها تمارس تلك الهواية التي تدرّ عليها ربحا جيدا، كي تبرهن لنفسها أنها مازالت منتجة، علما بأن راتبها التقاعدي يكفيها من الناحية المادية!

اسمها روز، وتصرّ أن لها من اسمها نصيبا، فهي تعشق الورود وتشعر بسعادة عامرة عندما تبيع أحدا وردة!

تقول: ليس ما أجنيه من بيع الورود ما يسعدني أكثر، وإنما البسمة التي أرسمها على شفاه الناس!

وتتابع: لم يشتر أحد وردة إلا وبطريقة لا شعورية قام على الفور بشمّها، تسحرني تعابير الوجوه عندما تشمّ ورودي، واشعر أنني ساهمت في رسم تلك التعابير…

ثم شكرتني على شرائي لإحدى ورودها، وتمنت لي يوما جميلا!

……..

بينما في الوقت نفسه، يقترب مدير المقهى من السيدة الأخرى، ويتمتم في اذنها، فتخرج وتجر وراءها رائحة قاتلة!

لا أتصور أنه طلب منها أن تغادر، إذ لا يستطيع بالقانون أن يفعل ذلك، بل طلب منها أن تحرك عربتها المليئة بأغراضها لأنها تعترض المدخل إلى المقهى!

……..

نعم، تلك هي الحياة مجرد قرارات، وأنت مسؤول عن قراراتك!

سيدة قادتها قرارتها لتكون مشردة تفترش الشوارع وتلتحف السماء، وأخرى قادها قرارها لأن تمارس هواية محببة لنفسها، كبرهان على أنها مازالت تعشق الحياة، ومازالت بكامل وعيها لتعيشها بعمق!

……..

أما أنا فعدت لأمارس شغفي، وأنهي كتابا كنت قد بدأته الليلة السابقة…الكتاب بعنوان:

?What would you do if you knew you could not fail

(ماذا ستكون قد فعلت لو علمت أنك لن تفشل؟)

في الفصل السابع من الكتاب، جاءت تلك العبارة:”لو أن حلمك قد وقع فانكسر وتحوّل إلى ألف شظية، إياك أن تخاف من أن تلتقط على الأقل واحدة منها لتبدأ من جديد”

……..

لا يوجد أحد فينا إلاّ وتشظى حلمه يوما،

وحدهم الذين قرروا أن يتمسكوا ـ ولو بشظية واحدة ـ ليبدؤوا من جديد،

وحدهم قد بدؤوا ووصلوا إلى حيث يريدون!

السيدة المشردة وبائعة الورود من الأمثلة الحيّة.

……..

بع وردا ولا تلعن الحياة، فالحياة تلعن من يلعنها!

أكمل القراءة

صن نار