تابعنا على

جلـ ... منار

جيل السبعينــــات … والمقاومة في مصر الجريحة

نشرت

في

عندما يهل يناير (2022) يكون قد انقضى نصف قرن على ميلاد واحد من أهم الأجيال السياسية في التاريخ المصري الحديث.

إنه جيل السبعينات الذي تحمل مسؤولية العمل الوطني في مصر الجريحة بأثر هزيمة (1967) وامتد عطاؤه حتى ثورة يناير (2011).

مطلع العام التالي للهزيمة العسكرية (1968) هبت أولى موجات الغضب في مصر الجريحة، وبدا أن هناك جيلاً جديداً يوشك أن يولد .

عبد الله السنّاوى

في ذلك العام الغاضب نشأت حركات وانتفاضات طلابية بأنحاء مختلفة من العالم، وليس في مصر وحدها، أهمها وأكثرها دوياً الانتفاضة الطلابية الفرنسية.

لكل حركة طبيعة وأسباب تختلف عن الأخرى لكن جمع بينها الغضب على ما هو حولها وأمامها وخلفها.

انتشرت في تلك الأيام مسرحية الكاتب البريطاني “جون أوسبورن” : “انظر وراءك في غضب” رغم أنها كتبت في الخمسينات ـ كأنها بدلالات عنوانها ثورة جامحة على الماضي بكل إرثه.

شاعت كتابات الفيلسوف الألماني “هربرت ماركوز” عن دور الطلاب فى صناعة التاريخ، واحتلت صور الثائر الأممي “أرنستو تشي غيفارا” جدران المدن الجامعية رمزاً للتمرد على سطوة النظم.

واشتهرت عبارة أطلقها الأديب السكندري “محمد حافظ رجب”: “نحن جيل بلا أساتذة” تعبيرا عن أحوال ومشاعر ضاقت بأية وصاية، أو أبوة مفترضة، دون أن تصادف الحقيقة، فلا جيل يولد من فراغ منقطع الصلة بما قبله حتى لو تمرد عليه.

بدأت تظهر مجلات الحائط على جدران الكليات الجامعية بأقلام “فلوماستر” وروح متمردة.

وقد استوحيت من الثورة الثقافية في الصين.

كانت مجلات الحائط فى وقتها وظروفها ثورة في حرية التعبير عما تختلج به النفوس دون رقابة، أو مصادرة.

ثورة أتاحت أوسع فرص ممكنة للحوارات المفتوحة.

فى فبراير من ذلك العام الغاضب تبدت صدمة واسعة على خلفية أحكام مخففة بحق المتسببين في هزيمة يونيو من سلاح الطيران.

خرجت تظاهرات فى جامعة الإسكندرية تحتج على الأحكام.

تطورت مطالبها إلى تعبئة موارد البلاد لخوض حرب تحرير سيناء المحتلة وتوسيع المشاركة السياسية فى صناعة القرار.

لم يكن الغضب على ثورة يوليو، أو رفضاً لمبادئها وإنجازاتها، بقدر ما كان احتجاجاً من أجيال جديدة نشأت في ظلها على الأسباب التي أدت إلى الهزيمة العسكرية.

نالت بعض الهتافات من “جمال عبدالناصر”، فهو المسؤول ولا مسؤول غيره.

مال الاتجاه الغالب فى مظاهرات فبراير إلى طلب الخروج من وصاية الأب لا إنكار أبوته، أو طلب المشاركة السياسية لا التنكر لمشروعه.

أفضت انتفاضة (1968) ـ أولاً ـ إلى إلغاء الأحكام التي صدرت وإحالة القضية إلى محكمة عسكرية أخرى.

أفضت ـ ثانياً ـ إلى توسيع مساحة الحريات السياسية داخل الجامعات، وإسناد أدوار حقيقية للاتحادات الطلابية.

كان ذلك تطوراً جوهرياً في البيئة العامة داخل الجامعات ساعد على تطور الحركة الطلابية واتساع الحريات التي اكتسبتها.

وأفضت ـ ثالثاً ـ إلى سريان روح جديدة في الحياة العامة خارج أسوار الجامعات.

نشأت كتابة جديدة ومقاربات مختلفة في الإبداع وميادينه شعراً ورواية وقصة قصيرة ومسرحاً وسينما.

برزت جمعيات وجماعات وبدأ ميلاد جيل جديد من المبدعين والنقاد.

كما أفضت ـ رابعاً ـ إلى صدور بيان (30) مارس الذي تبنى دولة المؤسسات وسيادة القانون وتوسيع المشاركة السياسية.

لم تكن مظاهرات (1968) مجرد احتجاج على الأحكام المخففة بحق بعض المتسببين في الهزيمة، وإلا ما امتدت حتى (1977) بلا انقطاع تقريباً، رغم التغييرات العميقة فى بنية الحكم بعد رحيل “عبدالناصر” (1970) وأحداث مايو (1971)، التي سيطر “أنور السادات” بعدها على مقادير السلطة العليا، وتناقضت السياسات مع ما كان قبلها.

كانت صدمة الهزيمة داعية ـ بذاتها ـ إلى مراجعة شاملة للعيوب والثغرات فى نظام الثورة، التي سمحت أن تقع على هذا النحو المروع.

أفضل تعريف لحركة (1968) أنها مخاض ميلاد وليست الميلاد نفسه، الذي انتظر أربع سنوات حتى استبانت ملامحه فى (1972) قبل خمسين سنة.

ذات مرة قال “عبدالناصر” فى خطاب مفتوح: “إن هذا الجيل من شعب مصر على موعد مع القدر”.

كان ذلك صحيحاً بأكثر مما قدر، لكن الأقدار اختلفت طبيعتها بعد هزيمة يونيو، وما بعد رحيله من انقلابات استراتيجية وسياسية واجتماعية.

الجيل الموعود بثمار الثورة كان هو نفسه الجيل الموجوع بالهزيمة.

كانت التظاهرات الطلابية عام (1972) بحجمها وأثرها إعلاناً مدوياً عن ميلاد جيل جديد.

ارتبطت لحظة الميلاد مع نداء استعادة الأراضي المحتلة بقوة السلاح ورفض المماطلة فى اتخاذ قرار الحرب.

كما ارتبطت بصورة “الفدائي الفلسطيني”، الذي وجد هويته فى بندقيته ـ على ما أنشدت “أم كلثوم” من كلمات “نزار قباني”.

كان الرئيس “السادات” قد تعهد بأن يكون عام (1971) هو “عام الحسم”، لكنه تراجع وأطلق عليه “عام الضباب”؛ حيث الرؤية احتجبت خلف ضباب الحرب الهندية ــ الباكستانية.

بعد يومين من “خطاب الضباب” ــ (15) يناير ــ تصاعدت الاحتجاجات والاعتصامات فى الجامعات المصرية وسرت روح عامة غاضبة. بدت الانتفاضة قوية ومباغتة كأن غضباً مكتوماً قد انفجر .

بدأت الشرارة فى كلية الهندسة بجامعة القاهرة وانتقلت بشرعية غضبها إلى كليات أخرى ومن جامعة القاهرة إلى جامعة الأزهر، ثم إلى جامعات ثالثة ورابعة وخامسة.

ما كان ساكناً فى الحياة العامة أخذ يزمجر بالرفض لأية “حلول سلمية”، يؤجل باسمها قرار الحرب.

صدرت بيانات دعم وتأييد من النقابات المهنية الرئيسية “الصحفيين و “المحامين” و “المعلمين” ثم “المهندسين”، ونقابات أخرى تتابعت دعوتها لـ”حرب تحرير شاملة”.

وصف “السادات” محركي الانتفاضة الطلابية بـ”القلة المندسة”، التي تضلل “القاعدة السليمة”، وهو تعبير شاع على نطاق واسع فى الخطاب الرسمي، واعتمد لسنوات طويلة عند أية أحداث مماثلة حتى استهلك تماماً .

رغم الرقابة على الصحف، إلا أن رياح الغضب وسعت مساحات التضامن مع الحركة الشابة بما يمكن نشره.

تحوّلت جامعة القاهرة، فى ذلك الوقت، إلى مزار لكل من يبحث عن أمل فى المستقبل، أو يريد أن يطل عليه بنفسه.

ولم يكن اقتحام قوات الأمن المركزي للقاعة الرئيسية فى جامعة القاهرة لفض الاعتصام بالقوة، والقبض على أعداد كبيرة من القيادات الطلابية كلمة النهاية فى انتفاضة (1972).

بلغة الشعر وصف “أمل دنقل” فى قصيدته “الكعكة الحجرية” عملية فض اعتصام طلابي فى ميدان التحرير انتقلت إليه طاقة الغضب بعد قمعها فى القاعة الرئيسية بجامعة القاهرة.

نشرت القصيدة لأول مرة فى مجلة “سنابل”، أغنى المجلات الأدبية بمادتها وأفقرها فى الإمكانيات المتاحة، التى أسسها مجموعة من الشعراء الكبار بمواهبهم كـ”محمد عفيفي مطر”.

داست خيول السلطة كل السنابل بعد نشر “الكعكة الحجرية”.

غير أن صوت الشيخ “إمام عيسى” ارتفع بكلمات الشاعر “أحمد فؤاد نجم” فى واحدة من أشهر أغنياته: “أنا رحت القلعة وشفت ياسين”.

فى العام التالى (1973) تحركت فى جامعة القاهرة انتفاضة طلابية جديدة، كما لو أنها استئناف لانتفاضة (1972).

انتقلت الانتفاضة الجديدة بأجوائها إلى الجامعات المصرية الأخرى تحت نفس المطالب: تهيئة الجبهة الداخلية للحرب وتوسيع المشاركة فى صنع القرار ورفض أية مشروعات تسوية سياسية.

جرت تظاهرات واعتصامات وتكرر سيناريو اقتحام قاعة الاحتفالات الكبرى بقوة الأمن المركزي واعتقال أعداد كبيرة من القيادات الطلابية، سرعان ما كان يجري الإفراج عنهم ـ كما جرت العادة فى تلك الأيام.

ولد جيل السبعينيات وسط تساؤلات المستقبل خياراته ومعاركه.

كانت الوطنية المصرية الجريحة حجر الأساس فى بناء وعيه ووجدانه.

تعددت المدارس الفكرية اليسارية التى انتسب إليها، لكن جمعت بينها قاعدة واحدة: طلب تحرير سيناء المحتلة والاستعداد لخوض حرب محتمة.

فى عنفوان التمرد والثورة تبلورت عند جيل السبعينات ضرورات بناء نظام ديمقراطي يتسع للتنوع السياسي.

بعد خمسين سنة على ميلاد ذلك الجيل، فإن تجربته بامتدادها الزمنى تستدعى التوقف أمامها بالتحية والمراجعة.

ـ عن “الشروق” المصرية ـ

أكمل القراءة
انقر للتعليق

اترك تعليقا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

جلـ ... منار

خالق الفرح

نشرت

في

Peut être une image de 2 personnes et bébé

اتصلت صديقتي غادة بي كي تطمئن عليّ:

ـ وينك ياست الحبايب؟

وفاء سلطان
وفاء سلطان

ـ مع الحبايب أجمع البيض!

يبدو أن أرنب الفصح كان غنيا جدا وكريما جدا هذا العام… نالني منه أربعة عشر بيضة، وجدتُ في داخلها ست دولارات وعشرين قطعة من الشوكولا (أول مرّة بناتي يدفعن لي بدلا من أن أدفع لهن)!

تفوقت علي جازي بأربع بيضات وست دولارات، أما بنجي فلم ينل إلا نصف ماحصلت عليه (لا يهم إذ لا يعرف قيمة الدولار بعد)!

……..

أمطرتني غادة بوعظة دينيّة طويلة جدا، تفوقت فيها على الشيخ الحويني، لقّنتني من خلالها درسا في العبادة وكيفية الاحتفال بالأعياد،

قالت:العيد ليس جمع البيض، العيد يعني ممارسة الصلاة والتعبد وزيارة الكنيسة!

واحتدم النقاش حتى اعترفت لي بأن اليهود (يخرب عمرهم لهم قرص في كل عرس!) قد حولوا كل الأعياد المسيحية لتجارة بالمطلق، وهم الذين اخترعوا سانتا كلوز وأرنب الفصح كي يسرعوا عمليات التسويق، ويصرفوا نظر الناس عن عبادة الله الحق!

فشعرت وكأنني أصغي للقرضاوي يقص علينا حكاية بني قريظة!

يبدو أن حتوتة الشجرة واليهودي الذي سيحتمي وراءها يوم القيامة قد طالت عقول بعض المسيحيين أيضا!

……..

يا سيدتي زرت عشرات بل مئات المعابد (من كلّ الأشكال والألوان)، ورأيت فيها الكثيرين من المنافقين والدجالين وتجار الدين، الذين أبعدوني عن الله سنينا ضوئية…

ياسيدتي أقدس بيت للعبادة بيتي وبيوت أولادي، فهي الأمكنة الوحيدة التي أضمن طهارتها من الفساد والرذيلة…

ياسيدتي من لم يرّ الله في سلة بيض الأرنب الذي يشرفنا في عيد الفصح، وفي قبعة سانتا كلوز الذي يزورونا في عيد الميلاد، لا يستطيع أن يراه في أي مكان آخر…

يا سيدتي لا أريد أحدا يفرض عليّ الهه وطريقة عبادته لذلك الإله…

ياسيدتي من لا يستطيع أن يُدخل الفرح على قلب طفل لا يعرف الله…

يا سيدتي من لا ينحني ويصلي للإله القابع في عيني حفيدي آدم، لم يمارس يوما الصلاة…

..أعتذر إن كان إلهي مغايرا لما يعنيه لكِ الإله….لم أفرض يوما إلهي على أحد، ولا أريد لأحد أن يفرض عليّ الهه، والطريقة التي يعبد بها ذلك الإله.

……..

أغلقت سماعة الهاتف، ولسان حالي يتضرع إلى الله: يارب لا تجعلني من عبادك “المؤمنين” فلقد ضقت ذرعا بهم!

بل اجعلني من عبادك الذين يَفرحون ويُفرحون، فالفرح هو أنت أينما حلّ..

اجعلني من عبادك الذين جاؤوا لنا بسانتا كلوز وبأرنب الفصح، وجعلوا حياتنا أسهل وأبهى بعلومهم ومعرفتهم.

……..

قرأت منذ يومين قولا للرئيس الفرنسي ديغول: كيف سأحكم دولة تنتج 246 نوعا من الجبن؟؟؟

وأنا أقول: لا حاجة لك أن تحكمها فالله وحده يحكمها،

الله وحده يتواجد حيث توجد النعمة والوفرة والعطاء…

أما الندرة والشح فتسود حيث تتحكم العقول العقيمة والمريضة!

……..

كل عيد فصح وأنتم وجميع أرانب الأرض بخير!

Coloriage Lapin de Pâques à côté d'un panier d'œufs - Dessin gratuit

أكمل القراءة

جلـ ... منار

بفلوسي!

نشرت

في

Images de Voleur Argent – Téléchargement gratuit sur Freepik

السيدة سهير موظفة في منتصف العمر وأم لثلاثة شياطين، وهي من الطراز الذي لا يتذوق الدعابة ولا يفهمها. علمتني الحياة أن أظرف وأروع الدعابات طرًا تأتي من هذا الطراز، فهم لا يفتعلون الظرف .. إنهم ظرفاء بالطبيعة. أسخف الدعابات تأتي غالبًا ممن يعتقدون أنهم ظرفاء، وأدعو الله ألا أكون منهم.

أحمد خالد توفيق

قرأت ملحقًا لإحدى الصحف الشهيرة مؤخرًا، فوجدته مليئًا بصور أشخاص ظرفاء يضحكون في استمتاع، مع نكات من نوع (اركبي قبل الحصان ما يشوفك).. (حماتي عملت مفاجأة وجت تقعد معانا شهر).. منتهى السماجة.

هذا ليس موضوعنا على كل حال. موضوعنا هو السيدة سهير.

سألتني السيدة سهير عن طبيب أنف وأذن وحنجرة جيد لأن أذنها مسدودة منذ فترة، فاقترحت عليها دكتور سيد الشماشرجي .. هذا رجل بارع يجيد عمله وصديق قديم. توكّلتْ السيدة على الله وذهبتْ له في العيادة ودفعت مبلغًا باهظًا من المال للكشف. تقول إنها دخلت لترى قزمًا مسنًا ينظر لها في كراهية من خلال المرآة التي تثبت على الجبهة إياها، فلما فتحت فمها لتقول:

ـ”إنها أذ………………………..”

أخرسها بشخطة، ودس منظارًا في أذنها فكاد يثقبها، ثم قال في عصبية وقرف:

ـ”شمع .. لابد من غسل الأذن”

وقبل أن تفهم كان يضع طبقًا معدنيًا تحت أذنها ويدس فوهة مسدس الماء في أذنها، فتصرخ ألمًا، ثم تشعر بطوفان من الماء الدافئ يدخل أذنها ويبدو أنه يبلل مخها ذاته ويخرج من الأذن الأخرى.

ثم قال لها بذات القرف:ـ”هناك قطرات للأذن .. استعمليها !”

خرجت من الغرفة شاعرة بالإهانة، كأنما تربص بها عشرة أبطال مصارعة فأوسعوها لكمًا وركلاً. وقبل أن تفهم ما يحدث انقض عليها الممرض الجالس في الخارج ليقول في قرف:

ـ”خمسون جنيهًا !”

ـ”ماذا ؟”

ـ”أتعاب غسل الأذن خمسون جنيهًا …

“إذن ففيم كان الكشف الباهظ؟

دفعت ما طلبه هذا القرصان وهي ترتجف غيظًا، كما أن أذنها كانت تؤلمها جدًا. ومشت في الشارع شاعرة بشعور السكير الذي يطردونه من الحانة بعد منتصف الليل لأنهم يريدون الإغلاق. قدماها غير ثابتتين ولا تفهم ما يحدث، دعك من أن زوال انسداد أذنيها جعلها تشعر بدوار وبرد غريبين.

لما عادت للبيت اتصلت بي لتنفجر في غل، شاتمة ذلك اللص النصاب الذي تقاضى كل هذا المبلغ في ثلاث دقائق. والأسوأ هو مبلغ الخمسين جنيهًا .

. كان يجب أن تكفي أتعاب الكشف لكل شيء.

بعد أشهر كانت تطالع الصحيفة فوجدت صورة عروسين .. المحاسب سمير سيد الشماشرجي تزوج المحاسبة هيام منصور .. الزفاف كان حلمًا من أحلام ألف ليلة وليلة وأقيم في فندق فاخر بالقاهرة. قالت لي في غيظ:

ـ”بفلوسي!! لقد زوج ابنه بمالي ذلك اللص!”

حكيت لها ذات مرة عن السيارة الفاخرة التي ابتاعها المهندس محمود سيد الشماشرجي ابن الطبيب الشهير، فصاحت في غل:

ـ”بفلوسي!!… يستطيع أبوه عمل أشياء كثيرة بالخمسين جنيهًا التي تقاضاها لغسل أذني!”

ذات مرة نشرت إحدى المجلات حوارًا مع دكتورة اسمها غادة تتحدث عن جولتها في اليابان ودول جنوب شرق آسيا. قالت في الحوار إنها زوجة واحد من أهم أطباء الأنف والأذن والحنجرة في مصر، وهو الدكتور سيد الشماشرجي.هنا صاحت السيدة سهير:

ـ”بفلوسي…!.. زوجته الشمطاء تجوب العالم كله بالخمسين جنيهًا”

رأيت أن الأمر تحول إلى هاجس أو وسواس قهري بالنسبة لها، فلولا ما في ذلك من مبالغة لطلبت من د. سيد الشماشرجي أن يرد لها مالها كي يتجنب هذه اللعنة السرمدية. لا شك أنه سيصاب بمرض عضال وينفق أضعاف الخمسين جنيهًا لعلاجه، لأن السيدة سهير – كما نقول في العامية – مش مسامحة!

العكس يحدث أحيانًا. الحكاية هي أنني منذ أعوام اشتركت في واحدة من مطبوعات اليونسكو الشهرية، والاشتراك ثلاثون جنيهًا في العام تقريبًا. ثم وجدت أن الأعداد تتكدس وأنا لا أطالعها… جاءت لحظة الحقيقة وقررت أنني لست بحاجة لهذه المطبوعة وكتبت خطابًا أعتذر فيه عن عدم الاشتراك لعام آخر.. أرسلوا لي يسألون عن السبب فلم أرد.

بعد أشهر قرأت في الصحف الخبر التالي (وهذا الكلام حقيقي على فكرة):

ـ”اليونسكو مهددة بالإفلاس لأن الولايات المتحدة خفضت مساهمتها في تمويل المنظمة”

طبعًا لم أحتج لأسئلة أكثر .. لقد تدهورت حالتهم المادية فعلاً عندما تركتهم، وعندما كففت عن دفع ثلاثين جنيهًا كل عام.

يبدو أن هذه المنظمة كانت تعتمد كلية على فلوسي.

قصة أخرى طريفة عندما كنت مدعوًا لمهرجان أدبي في قطر خليجي شقيق. كان طعام الفندق ممتازًا، وأنت تعرف عقدة البوفيه المفتوح. ربما هي فرصتك الأخيرة كي تجرب حساء التوم اليوم أو الباتاي أو القبوط أو الدجاج بالطريقة الإيرانية، أو حساء المنسيتروني وشرائح سمك الكنعد بالليمون.. ملعقة من كل شيء وسوف تكتشف أن الطبق مليء جدًا وأن ثيابك تضيق.

بعد ثلاثة أيام فتحت جهاز التلفزيون في الفندق، فوجدت أن حكومة البلد الثري مجتمعة لمناقشة الانهيار الاقتصادي الذي حدث مؤخرًا!.

شعرت بخجل شديد لأنني تجاوزت حدود الضيافة، وحاولت جاهدًا ألا أجرب سوى صنف واحد في الوجبة. إن شراهتي كفيلة بتدمير دولة فعلاً.

نعود للسيدة سهير التي أضناها التفكير في مالها…الحقيقة أنها ليست واهمة تمامًا. لا شك أن مالها ساهم بقدر ضئيل جدًا – كذرة في جسد – في نفقات رحلة آسيا.

هذا المفهوم ينطبق على الدول نفسها: عندما يعتدي عليك أمين الشرطة ويصفعك أو يطلق عليك الرصاص، أو يلفق لك قضية مخدرات بأحرازها مستعملأً قطعة البانجو في جيبه، فهو في الحقيقة يتقاضى راتبه من جيبك. حتى الرصاصة التي استقرت في رأسك أنت دفعت ثمنها.

المتظاهرون دفعوا بالكامل ثمن الغاز الذي يستنشقونه.

محصل الكهرباء الذي يخرب بيتك يتقاضى الراتب منك أنت.

هذا ينطبق على كل موظف في الدولة من أصغر رأس لأكبر رأس. كل المستشارين الذين يحصدون المليارات كل عام. من أين يحصلون على هذه المبالغ الفلكية؟ من جيبك طيعًا.

في الخارج يؤمنون أن رئيس الدولة نفسه موظف يتقاضى راتبه من جيوبهم، وعليهم أن يعرفوا ما فعل به، بينما في الدول العربية يسود المفهوم الأبوي القبلي الذي خرب بيوتنا:

أنت تعيش بما يجود به الحاكم عليك…

شيخ القبيلة الذي يقذف لك بصرّة من الذهب، بينما أنت في الواقع شاركت بقطعة نقدية في هذه الصرة.

السيدة سهير لم تبالغ في تصوراتها. هي فقط بالغت في أهمية الخمسين جنيهًا التي دفعتها

أكمل القراءة

جلـ ... منار

بِع وَردًا ولا تلعن الحياة

نشرت

في

Peut être une image de amarante

لم يمنعني المطر من أن أمارس طقوسي هذا الصباح.على العكس تماما، فالمطر هو أكثر الظواهر الطبيعية التي تسهل عليّ التواصل مع الكون وقراءة رسائله!

وفاء سلطان
وفاء سلطان

دخلت مقهاي المفضل لاحتسي فنجان قهوتي،ورحت أتأمل بعمق كل شيء حولي لأستشف الرسالة الكونية لهذا اليوم، إذ لم يمر يوم ونسي الكون فيه أن يخصني ببريده، ومن ذلك البريد أستمد كل صباح حكمة تزيدني شوقا للصباح الذي يليه… على يساري جلست سيدة، وقبالتي لمحت سيدة أخرى… وبين السيدتين كانت الرسالة واضحة وجليّة، وتحمل حكمة ولا أجمل… كلا السيدتين دخلت المقهى لنفس الغاية، دخلتاه تنشدان بعض الدفء، وهربا من زخات المطرالتي لم ترحم رأسا من لسعاتها!

السيدة على يساري، ومن ثيابها تعرف أنها مشردة وتعيش في الشوارع… والسيدة على يميني تحمل سطلا من الورود وتنظر عبر الزجاج أملا في لحظة صحو لتركض إلى الخارج وتستمر في بيع ورودها للمارة!..

تحسستُ طاقتها التي تفيض حبا للحياة، فاقتربت منها علني أمتصُّ بعضا منها!

اشتريت وردة ودار بيننا حديث شيق، علمت من خلاله أنها متقاعدة في منتصف الستينات من عمرها، وأنها تمارس تلك الهواية التي تدرّ عليها ربحا جيدا، كي تبرهن لنفسها أنها مازالت منتجة، علما بأن راتبها التقاعدي يكفيها من الناحية المادية!

اسمها روز، وتصرّ أن لها من اسمها نصيبا، فهي تعشق الورود وتشعر بسعادة عامرة عندما تبيع أحدا وردة!

تقول: ليس ما أجنيه من بيع الورود ما يسعدني أكثر، وإنما البسمة التي أرسمها على شفاه الناس!

وتتابع: لم يشتر أحد وردة إلا وبطريقة لا شعورية قام على الفور بشمّها، تسحرني تعابير الوجوه عندما تشمّ ورودي، واشعر أنني ساهمت في رسم تلك التعابير…

ثم شكرتني على شرائي لإحدى ورودها، وتمنت لي يوما جميلا!

……..

بينما في الوقت نفسه، يقترب مدير المقهى من السيدة الأخرى، ويتمتم في اذنها، فتخرج وتجر وراءها رائحة قاتلة!

لا أتصور أنه طلب منها أن تغادر، إذ لا يستطيع بالقانون أن يفعل ذلك، بل طلب منها أن تحرك عربتها المليئة بأغراضها لأنها تعترض المدخل إلى المقهى!

……..

نعم، تلك هي الحياة مجرد قرارات، وأنت مسؤول عن قراراتك!

سيدة قادتها قرارتها لتكون مشردة تفترش الشوارع وتلتحف السماء، وأخرى قادها قرارها لأن تمارس هواية محببة لنفسها، كبرهان على أنها مازالت تعشق الحياة، ومازالت بكامل وعيها لتعيشها بعمق!

……..

أما أنا فعدت لأمارس شغفي، وأنهي كتابا كنت قد بدأته الليلة السابقة…الكتاب بعنوان:

?What would you do if you knew you could not fail

(ماذا ستكون قد فعلت لو علمت أنك لن تفشل؟)

في الفصل السابع من الكتاب، جاءت تلك العبارة:”لو أن حلمك قد وقع فانكسر وتحوّل إلى ألف شظية، إياك أن تخاف من أن تلتقط على الأقل واحدة منها لتبدأ من جديد”

……..

لا يوجد أحد فينا إلاّ وتشظى حلمه يوما،

وحدهم الذين قرروا أن يتمسكوا ـ ولو بشظية واحدة ـ ليبدؤوا من جديد،

وحدهم قد بدؤوا ووصلوا إلى حيث يريدون!

السيدة المشردة وبائعة الورود من الأمثلة الحيّة.

……..

بع وردا ولا تلعن الحياة، فالحياة تلعن من يلعنها!

أكمل القراءة

صن نار