تابعنا على

جور نار

حكايات صالحة للقسم … وخارجه (2)

نشرت

في

سناء محيدلي: «عروس الجنوب» تنبعث في نيسان
الشهيدة سناء محيدلي

حاولتُ في الورقة الماضية سَرْد بعض الحكايات والقصص الهادفة والقابلة للتوظيف في الدّرس والتكوين بصورة عامة، لتناول قضايا وقيم كونية عديدة كم نحتاجها وبقوّة في مجتمعاتنا التي جرفتها سيول الحداثة دون كبير حصانة تُذكر، أو كبّلتها سلاسل الماضي دون بصيرة نقديّة تُلغي الغثّ وتحتفظ بالأجدر.

منصف الخميري Moncef Khemiri
منصف الخميري

ولمّا بدأت التفكير بمحتوى الورقة الثانية التي تُكمّل الأولى أو تستمر  في نفس نسقها، قلتُ في نفسي لِمَ البحثُ في حكايا من التراث الإنساني أو الأساطير الإغريقية والحال أن مسيرة كل واحد فينا تعُجّ بعشرات القصص والأحداث الجديرة بتقاسمها وتداولها، لما فيها من قيم رمزية تصلح أن تكون محاور تؤثث فترات الصمت الكسول في مساحات التكوين ؟ فقررت أن أستحضر بعض الأحداث التي عشتها شخصيا مع تلاميذ ومتكوّنين في فترات ماضية، ولكن مازالت تتمتّع حسب رأيي ببعض الوجاهة لكي تُطرح مجدّدا.

الحكاية الأولى : أيّهما أجمل، المرأة الأولى أم الثانية ؟

في حصة من حصص درس الفرنسية مع السنوات الثانية أو الثالثة ثانوي خلال ثمانينات القرن الماضي، وكان المحور الذي نشتغل عليه في تلك الفترة  هو الحب والصداقة، رُحت أفتّش في طيّات مجلات فلسطين الثورة وصامد واليوم السابع وبعض أعداد مجلات الهدف والحرية الفلسطينية التي كانت تصلنا تحت المعاطف من الجزائر الشقيقة. وجدتُ ضالّتي بعد جهد دام ساعات طويلة (تعوّضها اليوم مجرد نقرة أو نقرتين على محركات البحث) واخترتُ صورتين لفتاتيْن في ريعان شبابهما، قُمت بتكبيرهما لدى صديقي الشادلي المصوّر الذي حاول جاهدا معرفة الغرض من الاحتفاظ بهاتين الصورتين… فلم يفُز بأكثر من وعد بأن أفسّر له مآلهما حول قهوة مُنشّطة للذاكرة يُعدّها بكثير من المودّة سي محمود، الرجل اللطيف والمؤدّب بالمعهد الذي كنت أدرّس به وكان سي الشادلي قيّما به أيضا (بالإضافة إلى هوايته كمصوّر).

حملت صوري معي وقبل انطلاق الدرس، عرضتُ على تلاميذي أن نقوم بحصة انتخابية نختار خلالها برفع الأيدي وبكل حرية بين الصورة أ والصورة ب بناءً على مقاييس الجمال “العفويّة” المعهودة. أمسكت صورة الفتاة الأولى بيدي اليمنى (أطلقنا عليها الصورة أ) وصورة الفتاة الثانية بيدي اليسرى (وأطلقنا عليها الصورة ب) وسألتهم :

من يُصوّت لفائدة الفتاة أ ويعتبرها الأجمل يرفع يده.  النتيجة : لا أحد ! هل أنتم متأكدون ؟ Oui monsieur

والآن من يُصوّت لفائدة الفتاة ب، أي من يعتبرها أجمل من الأولى ؟ 37 تلميذا إناثا وذكورا يرفعون أيديهم بحماس شديد.

صمتُّ قليلا لاستحثّ فيهم السؤال… حتى تعالت أصواتهم : هي وبعد مسيو ؟؟ من تكون هاتان الفتاتان ؟

قلت بشيء من التأثّر غير المتكلّف أن الفتاة الأولى التي لم يصوّت لفائدتها أحد هي سناء يوسف المحيدلي الملقّبة بعروس الجنوب والتي كانت تنتمي إلى المقاومة الوطنية اللبنانية، وهي التي فجّرت سيارة بيجو 504 كانت تقودها عند حاجز عسكري إسرائيلي بجنوب لبنان في عملية انتحارية أدّت إلى مقتل ضابطين صهيونيين وجرح جنديين آخرين وكان ذلك في أفريل 1985.

تململ كبير داخل قاعة الدرس وبدايات احتجاج سرعان ما أخمدتها حتى أُنهي كلامي.

أما صورة الفتاة الثانية والتي صوّتّم لفائدتها بالإجماع، فهي لفتاة إسرائيلية إسمها إيستر رائيف ليبائي، ضابطة في جيش التساهال الصهيوني وتمارس رياضة السباحة في نفس الوقت على أعلى المستويات…

تلى هذا التقديم جلَبَة حقيقية داخل الفصل قطعها صوتُ تلميذ وقف في كامل سُخطه وشجاعته وإحساس بنوع من “الغُلب” والخذلان :

مسيو… غلّطتنا مسيو، يلزم نعاودو الانتخاب !!!

أجبتُه مُطمئِنًا كونها مجرد لعبة مُفبركة ذات غاية بيداغوجية صِرفة في علاقة بموضوع درسنا اليوم وهو : “هل نعتبر الحب والإعجاب مجرد شعور بالمتعة الذاتية عند تذكّر أو مُجانبة أو مشاهدة شخص نحبّه، أم هو اختيار وحكم يلخص هذا الذي نُحبه وله قيمة ما في عقولنا وقلوبنا”.

ومن أهم الاستنتاجات التي توصّلنا إليها معا ودون أي تعسّف أن :

أولا : الجمال الذي كنا بصدد تقييمه هو جمال “بلاستيكي تشكيلي” بالمعنى الفني للكلمة، دون معانٍ أخرى مُضافة إليه، ويبقى جمالا بشريا طبيعيا مثله مثل جمال الأشجار والأودية والأزهار والأمطار.

ثانيا : “العقل يتكلم ويبرهن بينما الحب يغني وينشد”  كما يقول ألفريد دي فينيي.

ثالثا : الجمال نسبي ومرتبط عضويا بالمعنى أو القيمة التي نضفيها على الشخص/ الشيء الذي نحب (لذلك على سبيل المثال كل واحد فينا يعتبر أن أمّه هي أجمل نساء الكون).

رابعا : الإيديولوجيا والانتماء هما مصفاة لتكرير مواقف البشر جميعا ومعالجتها ويصعب جدا أن تكون تقييمات البشر لما حولهم متخلصة تماما من تلك العيون والجداول الخفيّة التي تروي كياننا وتسقي دواخلنا.

والاستنتاج الطريف النهائي هو أننا لو وُلدنا في سيبيريا أو الألسكا أو الغروينلاند لكنّا نتنقّل بواسطة عربات تجرّها الكلاب ولكان الناس يُقبّلون بعضهم البعض عن طريق التلامس بالأنف خوفا من التصاق شفاههم من شدّة البرد الذي يصل إلى 50 درجة تحت الصفر… بما يُبرهن على كوننا أبناء سياق بشكل خالص، وذلك في قيمنا وأخلاقنا وعلاقاتنا وتديّننا ومقاييس الجمال لدينا.

الحكاية الثانية : موزار العبدولي، “التلميذ الفنّان” يُحال على مجلس التأديب

ذكّرتني حادثة التلميذة بمعهد الفنون بالعمران نور عمّار التي تمّ طردها مؤخرا على خلفية كلام توجّهت به إلى أحد أساتذتها على صفحات الويب، بتلميذي موزار العبدولي الذي درّسته في سنّ السابعة عشرة من عمره تقريبا، وكان تلميذا متميّزا ومتأثّرا بشكل ما باسمه الموسيقي، مزهُوّا بوسامته، فكان يرتدي ملابس فاقعة اللون شيئا ما ويعتني بتسريحة شعره في غير تفسّخ أو ابتذال لكنه كان مؤدّبا ولطيفا جدا ويحصل غالبا على علامات مقنعة في اللغة الفرنسية (بلغني السنة الماضية أنه يقيم حاليا بأحد البلدان الأوروبية).

دُعيتُ ذات يوم من قِبل الإدارة أن أحضر مداولات مجلس التأديب، وكان تلميذي موزار من التلاميذ المُحالين على المجلس بموجب تقرير في شأنه حرّره القيم العام للقسم الخارجي مؤكّدا (في لغة مخفريّة بائسة) أن التلميذ المعني سيّء السلوك ويتطاول على شخصه ويرفض الامتثال إلى تعليمات الإدارة. سألت صاحب التقرير عمّا حدث بالضبط مع موزار… فذكّرني بأنه يُدرك جيدا مكانته لديّ (في استباق خبيث لتأويل دفاعي اللاحق والمتوقع عن موزار) وأكّد أن موزار كان يشدُّ سرواله بحزام عريض تُزيّنه مسامير لامعة وتتوسّطه حلقة مُذهّبة دائرية لشدّ انتباه التلاميذ الآخرين وبثّ الفوضى داخل المعهد. (وكاد يُضيف كونه كان يُعدُّ لتنفيذ عمل إرهابي خطير !)

دافعتُ بكل ما أوتيت من حضور رمزي عن موزار وحاولت الإقناع بأنه من الطبيعي أن يعتني الشباب بمظهره وأن يحاول لفت الانتباه والتباهي وحتى التنافخ …. واعتبرتُ ساعتها أنني حققت انتصارا جزئيا لأن القيم العام لم يستطع فرض عقوبة الطرد النهائي ولا عقوبة الــ 15 عشر يوما التي اقترحها المدير … فرضنا، مجموعة الأساتذة الحاضرين، أن لا تتعدّى العقوبة 7 أيام… وهي أدنى عقوبة يمكن أن تُسلّط عليه لأن عقوبة الطرد بثلاثة أيام يمكن أن يتخذها مدير المؤسسة دون دعوة المجلس إلى الانعقاد.

حكاية نور عمّار وحكاية موزار عبدولي هما من نفس الجنس تقريبا وتعكسان عقلية متحجّرة ترفض أي انزياح في علاقة بالقيم والأخلاق السائدة، وتُكرّس فكرة أن الفضاء المدرسي هو فضاء قُدُسي يتعيّن فيه على “الجُموع” الانصياع لأوامر الشيوخ وتعليمات الكبار.

كتبتُ عديد المرّات أنني لست من دُعاة “الحْنانة الفارغة” وأن التلميذ محمول على السلوك السويّ دون تربية على الخنوع ومعانقة معاني الحرية والانعتاق دون تشجيع على التهوّر والابتذال. ولكن لديّ يقين أنه ليس ثمة من تجاوز أو سوء سلوك أو فعل تلمذي ما، يُبرّر كسْر تلميذ والدفع به نحو مسارات مجهولة التداعيات بالطرد أو الإهانة أو  الإذلال أو الشتم أو التحقير. فمن الطبيعي أن يُخطئ الشاب أو الشابة (وأن يتم التوقّف حتما عند ذلك الخطأ بشكل مرن ومتبصّر) ولكن ليس من حقّنا نحن الكبار (أساتذة ومعلمين وإداريين ومتدخلين متنوعين في الفعل التربوي) أن نُسيء التقدير ونخطئ.

تلميذ يُحرم من الدرس مؤقتا أو بصفة نهائية هو جُرم تقترفه المدرسة (بكل من فيها) التي لم تقدر على احتضان أبنائها بامتيازهم ومثابرتهم وأخطائهم وانحرافاتهم أيضا قبل أن يكون مسؤولية التلميذ نفسه.

أكمل القراءة
انقر للتعليق

اترك تعليقا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

جور نار

إنت وما جاب العود… عن مسلسلات رمضان

نشرت

في

أخبار مسلسلات رمضان 2024: مواعيد عرض مسلسل فلوجة 2 بطولة ريم الرياحي في  رمضان 2024 والقنوات الناقلة - المشهد

عبد القادر المقري:

لي شبه يقين أن مسلسلاتنا التونسية (تماما كسينمائنا) محظوظة حظا يكسر الحجر كما يقال … فهي أقرب ما تكون إلى تلاميذ ذات فترة من عمر وزارة التربية، وهي تجربة المقاربة بالكفايات … لا أحد يأخذ صفرا، لا أحد يسقط في امتحان، لا أحد يعيد عامه، ولا أحد يتم طرده لضعف النتائج …

عبد القادر المقري Makri Abdelkader
عبد القادر المقري

بل لا قياس أساسا لأي جهد … الكل ناجح، والكل ممتاز، والكل متفوق، والكل نابغة بني ذبيان … والدليل أننا عند نهاية مهرجان من مهرجاناتنا أو عرض فيلم من أفلامنا، لا تسمع سوى الشكر، ولا تقرأ سوى المدح، و لا ترى سوى الحمد على نعمة السينما والذين أدخلوها إلى تونس … تماما كما يحصل عقب كل رمضان مع أعمالنا الدرامية، إن وُجدت … فدائما عندك جوائز لأحسن عمل، وأفضل مخرج، وأبرع ممثل، و أقوى سيناريو، وأكبر وأجمل وأبهى وأمتع وأروع … يا دين الزكش، كما يقول صديقي سلامة حجازي … يعني كل بلاد العالم (بما فيها هوليوود وبوليوود وقاهرة وود ودمشق وود) تنجح فيها أعمال وتفشل أعمال، إلا عندنا فيبدو أننا الفرقة الناجية …

… أو فرقة ناجي عطا الله !

هذه السنة، أتاح لي زميل مسؤول بإحدى الإذاعات أن أتفرج على قسم كبير من مسلسلين تونسيين مرة واحدة… قلت أتاح لي بعد أن رجاني مشكورا أن أدلي برأيي في هذا وذاك، وأنا اليائس منذ أعوام من مستوى مسلسلاتنا خاصة حين جنح معظمها إلى تقليد عمل أعتبره كارثة فنية بكل المقاييس، وهو مسلسل “مكتوب” … وصار الكل يستنسخ منه استنساخ أهل الغناء والمسرح لعرضي النوبة والحضرة طوال الثلاثين سنة الأخيرة … وكيف لا يفعلون وهم وجدوا الوصفة السهلة التي لا تكلّف تعبا ولا وجع رأس … فمثلما بإمكانك أنجاز “عرض” فني لا نص فيه ولا فكرة مبتكرة بل تكديس جملة من أغاني التراث وإلصاق بعضها ببعض، بإمكان الواحد أن “يبيض” مسلسلا لا قصة فيه ولا حوار ولا سيناريو… فقط عندك ركام من عارضي وعارضات الأزياء، يقولون في ما بينهم كلاما من الحزام فما أدنى منه، ويعيشون في بذخ لا تحلم به أميرة خليجية، ويستبيحون القوانين أصغرها وأكبرها، ولا قيم توقفهم ولا منطق ولا نواميس مجتمع … عكعك وهي حالّة معك، كما يردد شباب هذه الأيام …

إذن أخذا بخاطر صديقي، تفرجت صاغرا في اثنين من أعمالنا المعروضة لرمضان هذا العام، قائلا لعل الأمور تحسنت عمّا تركتها، وربما ظلمت مبدعينا الفتيان وهم يفتحون البلدان ويغزون الفضاء في غفلة مني … وبما أن ذلك فاتني على المباشر، فقد لجأت إلى التساجيل التي تبث على الإنترنت، وأطوي الأرض طيا حتى أرى أكثر ما يمكن ولا أتسرع في الحكم على أحد … رأيت إذن جزءا كبيرا من مسلسل “فلوجة 2” على الحوار التونسي، وجزءا مماثلا من “رقوج 1” (بما أنهم يبرمجون لجزء ثان على ما سمعت) … وأعطيت رأيي في حدود ما شاهدت، وواصلت بعد ذلك باقي الحلقات حتى تكتمل الفكرة وأكون بدوري من المحتفلين ختاما بأفضل عمل وممثلين ومخرجين إلى آخر الليستة … وعلى حق …

نبدأ بفلّوجة … هو أولا استمرار لقصة السنة الماضية التي أثارت أكثر من ضجة لدى رجال التعليم ونسائه … والسبب أن احداث المسلسل تدور في وحوالي معهد ثانوي فيه كل شيء إلا الدراسة … مخدرات في قارعة الطريق، علاقات جنسية بوها كلب بين الجميع والجميع، ولادات خارج إطار الزواج وغير ذلك … والعجيب أن احتجاج المربين قابلته عاصفة تبريرية كانت دائما السند الرئيسي لسامي الفهري ومسلسلاته … من نوع: أليس هذا واقعنا؟ ألا تحدث يوميا مثل هذه الفضائح؟ هل ما زال عندنا تعليم؟ ألم يهبط مستوى مؤسساتنا التربوية منذ زمن؟ هل نغطي عين الشمس بالغربال؟ أما كفاكم نفاقا؟؟ … ويصل التبرير إلى ذروته بالتهجم على الأساتذة أنفسهم … “ماهي جرايركم” … “ما هو من جرة” انغماسكم في الدروس الخصوصية وإهمالكم لعملكم الأصلي … “ماهي نقاباتكم” وإضراباتكم ومطالبكم وزياداتكم المتلاحقة، وبسببها أفلست المعاهد وصارت بؤرا فاسدة، فيما هرب الجميع إلى التعليم الخاص… وغير ذلك وغير ذلك …

ولم يقل أحد من هؤلاء لسامي الفهري: وأنت، ما غايتك من الترويج لهذه المظاهر؟

وبقطع النظر عن صحة كل هذا في المطلق، والإحصائيات التي ما زالت لصالح التعليم العمومي في الباكالوريا وغيرها مهما حصل … فإن هذا التعميم يظلم كثيرا من أهل التعليم الأوفياء وجهدهم في إنجاح تلاميذهم وتمكينهم من مستوى جيد دون مقابل عدا مرتب شهري بعرق الجبين … كما يحط هذا التقييم الشمولي من قدر أبنائنا وبناتنا المربين والمربيات الأشراف وأغلبهم يتمسك بفضائلنا وأخلاقنا … فهل كل أساتذتنا متحرشون بتلميذاتهم كما في المسلسل، وهل كل أستاذاتنا ومديرات معاهدنا شغلهن الشاغل إقامة علاقات جنسية مع هذا التلميذ أو ذاك الرجل العابر؟ …

وحتى إن حصلت بعض حالات فماذا تمثل نسبتها؟ 1 بالمائة؟ اثنان؟ ثلاثة بالمائة ولا أعتقد ذلك وسط مئات آلاف من منظوري وزارة التربية … ومن يقول أكثر عليه بإجبار الوزارة على التحقيق العاجل ويكون معها فيه، ثم أين منظمات الأولياء والتربية والأسرة؟ لو كانت معاهدنا على شاكلة معهد سامي الفهري، فمن الأحرى غلق مؤسساتنا التعليمية وإحالة ميزانية الوزارة نحو قطاعات أكثر احتياجا كالشؤون الاجتماعية أو الثقافة أوالفلاحة والصيد البحري … بل ربما نضع كل ما نملك بين يدي الأمن والقضاء حتى يقضيا القضاء المبرم على الداء الذي استفحل ويهدد بنسفنا من الجذور …

فلوجة في جرئه الثاني لم يشذ عنه في الجزء الأول … لا بل هو يستمر في شذوذه الآخر … عن كل ما هو مجتمع وأعراف وقيم ولنقُلْ أيضا، مسؤولية … فالعمل الدرامي ليس مجرد نقل للواقع (هذا إذا كان واقعا) بل فيه طرح ورسالة وتأثير مباشر خاصة مع طغيان الصورة ووسائل الاتصال الحديثة … الفهري ومرؤوسته سوسن الجمني، يتملّحان طولا وعرضا بما يمكن أن ينتج في مجتمعنا من تغيير سلوكات جراء ما يعرضانه في كل مسلسل …

ـ يتبع ـ

أكمل القراءة

جور نار

هل ستقع المواجهة بين إيران والكيان الصهيوني؟

نشرت

في

الرابطة الدولية للخبراء والمحللين السياسيين - هل تملك اسرائيل ان توجه  ضربتها الى إيران؟

لم تكن التهديدات من هذا الطرف او ذاك توحي بخطر شن حرب بين إيران و اسرائيل، ذلك ان طهران كانت عمليا تتفادى مواجهة مباشرة مع اسرائيل المدعومة من الولايات المتحدة وتعي بان الكيان اللقيط لا يعدو أن يكون إحدى ثكنات القوة الأعظم.

محمد الزمزاري Mohamed Zemzari
محمد الزمزاري

و لم يتهور الايرانيون المعروف عنهم العمل بصمت و عقلانية و تقبل بعض الخسائر المفترضة و المنتظرة مقابل تنويع مواطىء اقدامهم و تركيز مواقع قد تخدمهم لاحقا دون أي تسرع عاطفي ممثل في رد فعل غير محسوب الهدف او النتائج … لقد دفعت إيران قرابين كثيرة منذ التسعينات ضحايا لاغتيالات الموساد و المخابرات الأمريكية المتعاونة من تفجير مراكز نووية إلى اغتيال علماء او قيادات عسكرية هامة و الظاهر ان الإيرانيين يرسمون أهدافهم الاستراتيجية على المدى الطويل والتي يعتبرونها اهم بكثير من صراعهم مع الكيان الصهيوني… وقد نجحت لحد الان السياسة الإيرانية في تركيز اذرع في عدد من البلدان العربية ذات مكانة استراتيجية هامة مثل سوريا و العراق ولبنان و اليمن، وهي ساعية اليوم لغرس امتداد لها بالأردن، كما عمدت خلال هذه الأسابيع إلى دعم حكومة السودان ومدها بالطائرات المسيرة التي قلبت موازين المعارك ضد قوى الدعم السريع.

لكن الحدث الذي جد اخيرا و الذي تمثل في ضرب الصهاينة للقنصلية الإيرانية بسوريا والقضاء على واحد من اكبر القيادات الحربية و التنسيقية قد يؤجج ما كان كامنا بين الكيان وطهران. فإسرائيل ترغب منذ سنوات في توريط حلفائها الأمريكان في حرب ضد إيران وقد تراءت لنتنياهو فرصة سانحة للدفع نحو هذه الحرب المرغوب فيها اولا و لتمديد بقائه في الحكم و إتمام خططه النازية من تهجير و مجازر و تدمير لغزة و لاحقا للضفة الغربية، وهنا لم يبق لإيران بد من رد فعل قوي لحفظ ماء الوجه و تأديب الكيان الذي تجاوز الخطوط الحمراء و ضرب القنصلية الإيرانية التي تمثل سيادتها و صورة قوتها أمام الجميع وخاصة لدى اذرعها وأنصارها في المنطقة.

ومنذ ساعات أعلنت المخابرات الروسية عن تحديد ضربات او حرب خاطفة ممكنة الوقوع قريبا جدا و دعت مواطنيها لملازمة الحذر بالشرق الأوسط وخاصة بالكيان الصهيوني و منذ اكثر من ساعة دعت الولايات المتحدة مواطنيها في الأرض المحتلة وتل أبيب خاصة الى نفس الحذر. اذن فالوضع قابل جدا لوقوع حدث هام مدمر ليس باسرائيل فقط لكن أيضا بايران اعتمادا على ان الكيان الصهيوني يرغب فعليا في خلق مواجهة مع ظهران ستقودها الولايات المتحدة دون شك.

هل ستصدر الضربة الإيرانية انطلاقا من قاعدة احد اذرعها؟ هل سيكون الهدف محطة ديمونة النووية او ايلات او تل ابيب؟ اظن ان ضرب تل أبيب مستبعد مما يبعث على الظن بان الهدف المحتمل هو: إما إحدى السفارات الاسرائيلية في بلد خليجي او قصف إحدى المدن او المطارات الكبرى بالكيان الصهيوني. فيما يبدو أن الولايات المتحدة لا ترغب حاليا في خلق بؤرة حرب جديدة مكلفة قبل انتخابات نوفمبر القادم و لن تصل اية ضربة مهما كانت صدمتها إلى دفع بايدن إلى رد فعل ضد إيران …

أكمل القراءة

جور نار

ورقات يتيم … الورقة 25

نشرت

في

‫جمال عبدالناصر‬‎

عبد الكريم قطاطة:

الساقية مسقط رأسي في تلك الحقبة ومن خلال حانوت الحلاّق شكّلت في حياتي نواة لشلّة من الاصدقاء متنوّعة سنّيا، مهنيّا، تعليميّا … وفكريّا … وهذه ميزة كبرى في تجربتي مع الحياة ..

عبد الكريم قطاطة
عبد الكريم قطاطة

فاختلاط الفرد بهذه الشرائح على اختلافها هو الكفيل اولا برؤية انسانية بعيدة عن التمييز والتّنخْوب (محاولة اشتقاق من نخبة) ..وثانيا نتعلّم فيها ومنها اشياء لن نجدها في تعليمنا مهما تعلّمنا .. استحالة ….في تلك الشلّة كان هنالك التلميذ والمرمّاجي والحذّاء والبطّال والمهني ..وكانت لقاءاتنا يوميّة وفي كل المناسبات ..يوم الاحد مثلا كان للعب البولاط ومباراة او اثنتين في كرة القدم . في رمضان ننهي مشوار الافطار مع عائلاتنا في دقائق معدودة ونهرع الى حانوت الحلاق لسهرات حتى قرب موعد السحور… طبعا دون نسيان قلق عيّادة من خروجي المبكّر ودخولي المتاخر … وهل تصير تاكزة من غير فحمة ؟؟ ..

في فصل الصّيف نبحث كل ليلة عن حفلات الاعراس لـ “نهُدّ” على اصحابها ونقتحمها طوعا او كرها … وبعدها كنّا كثيرا ما نواصل السهرة حتى شروق الشمس على ضفاف شاطئ بحر سيدي منصور … في محطة قهوة حمزة حيث تلك البرّاكة الجميلة وسط البحر … نتوسّد “الضريع” أي حشائش البحر ..الارض بساطنا والسماء لحافنا وموسيقى خرير المياه تعزف ابهى التقاسيم ….امّا في عيدي الفطر والاضحى فتلك اطباق اخرى …. كنا نستعد لسهرة العيد استعدادا مادّيا فليلتها تعني ليلة القبض على السينما … قاعات السينما في مثل تلك المناسبات وفي اغلبها تبرمج 4 افلام لزوارها بمعدّل فيلمين في بداية السهرة وفيلمين في نهايتها . ازمنة .// deux grands films//..وكانت كل قاعة مختصّة بنوعية معينة من الافلام فقاعة الماجستيك كان اختصاصها الافلام الهندية… وقاعات الهلال والكوكب وبغداد والكوليزيه كانت تختص بالافلام المصرية فيما تبقى الافلام الغربية بانواعها الكاوبوي والبوليسية من مشمولات قاعات النور.. والراكس ..والاطلس ..

شلّتنا ونظرا إلى المستوايات التعليمية المتفاوتة كانت تنتمي الى القاعات الشرقية فاما افلام الثنائي فريد شوقي ومحمود الملّيجي او الافلام الغنائية وخاصة عبدالحليم وشادية او الافلام التاريخية من نوع صلاح الدين الايوبي ورابعة العدوية _وهذا الفلم ابكاني في ذلك الزمن لاوّل مرة في علاقتي بالافلام …وبالذات في فقرته الاخيرة عندما يحضر فريد شوقي في موت رابعة ويقول لها باعين دامعة (سامحيني يا رابعة) وتبدا رابعة او روحها كما صوّرها المخرج بغناء واحدة من اروع الاغاني الدينية لحدّ يوم الناس هذا (الرضاء والنور ) … ومن الافلام ايضا التي شدّتنا في تلك الحقبة وبدرجة مذهلة فلم عنتر وعبلة ..واصبحنا نردّد في كل فوز في البولاط او كرة القدم (عنتر حيّ)…

الحديث عن سينما ليلة العيد تسبقه اشياء … ليلة العيد بصفاقس تعني ثلاثة عناصر لتأثيثها .. السينما كما ذكرت ..كسكروت السهرة على بساطته واحيانا ببطاطا _مخنونة _.وخاصّة .. العنصر الاهم ..نهج الباي ..نهج الباي المنجي سليم حاليا هو اشهر نهج في المدينة العتيقة بصفاقس اولا لانه يربط بين المدينة العتيقة والمدينة العصرية اي من باب الجبلي الى باب الديوان، وثانيا لانه نهج يتكدّس فيه كل ما يحتاجه المواطن ليلة العيد من شراءات …احذية عطور وخاصّة ملابس … ومن العادات التي كانت تسود سكان اهالي صفاقس انهم يستعدّون فقط ليلة العيد لشراء ملابس والعاب الاطفال ..ليلة العيد دون غيرها ..ذلك يعني ان الازدحام ليلتها على اشدّه . … وتلك هي بغية جميع الشُلل ..كان بامكان اي واحد من ايّة شلّة تفادي الزحام عبر المرور بانهج اخرى . للوصول الى باب البحر (المدينة العصرية) _…لكن الم اقل لكم ان الزحام هدفنا ..عفوكم لم نكن يوما من شلّة اللصوص التي تغتنم ولحدّ الان مثل هذه الفرص … باش ادّوّر صوابعها … معاذ الله ..بل كنّا لصوصا من نوع آخر ..

كنا نطمع في تلك الزحمة بالالتصاق بعيدا عن العفوية باي جسد انثوي تضعه الاقدار امامنا … وكل واحد واش تهزّ مغرفتو في تلك الليلة …وكثيرا ما كنّا نُرجم بنظرات مرعبة من امرأة تنتبه الى افعالنا “الخايبة” وهي تحس بشيء ما يوقظ جسدها .من الخلف ….فكنّا نلتفت الى من وراءنا ونصيح فيهم (يزّيو من الدزّان) ثم نعود الى تلك المرأة المرعبة بنظراتها النارية لنقول لها في شبه حياء وكثير من الخبث (خاطيني راهم يدزّو فيّا) ..ولأن تلك المرأة قادرة على فك شفرة مقصدنا فانها تواصل زمجرتها وتصيح: “لا حتى انت حليّس مليّس ..يلعن بو هالفيّة” … وسعيد منّا من يجد امامه واحدة اما انها (عزوزة ما يهمّها قرص) او هي ايضا من عشّاق الزحام لانّها فرصتها الوحيدة (مرّتان في السنة) كي تعيش الزحام .ولذّات الزحام .. وينتهي مشوار نهج الباي وتنتهي فرصة الالتصاق القسري بين بعض “كلاب السوق” امثالنا وبين نساء مزمجرات مرعدات وبين اخريات راغبات متمتعات ..في اتنظار عيد آخر ..والتصاق آخر …

العلاقة مع الشلة لم تكن لتفصلني عن مكونات الساقية من اناس آخرين وسلوكياتهم خاصّة ..كانت العين الرقيبة فيّ حاضرة وبامتياز ..كنت استغرب جدا من احد بائعي المواد الغذائية بانواعها وهو وسخ الهندام ولحيته لا تعرف الحلاق الا مناسباتيا من صنف زوروني كل سنة مرّة .. مبالغة برشة ؟؟؟ طيب خليوها مرّتين ..وما انجمش نطيّح راني مسبّق راس مالي ..وما تلحّوش عليّا برشة …. لذلك كنّا عندما نذكر اسمه نردد فقط: “هاكة اللي يكيّل في الحليب حافي” … احد روّاد الساقية كان يشتغل بمخبزة اختصاصها رحي القمح والشعير وطهي حلويات رمضان في فرنه ..كان في كلمة “تكارّي” وهذه مشتقّة من تكروري ..كانت سيجارته الارتي لا تفارق مبسمه وكان نحيفا وكان ايضا رمادي الملامح من شدّة علاقته غير الودّية بالنظافة . هو.تماما كرماد فرنه ..مما يحكى عنه انه دخل ذات يوم على حين غفلة الى منزله فوجد احدهم باركا على زوجته … خرج مهرولا لاخيه الاكبر والقدوة والقاضي في العائلة اي في القبيلة وهو يشتكي له ما راى فما كان من اخيه الا ان اجابه: اش ماشي نقلّك النساء يعملو . زعمة حتى هو طايح من السلّوم ؟؟؟. ويضيف ..صبّر روحك وخي يخّي ربّي ما قالش كيدهنّ عظيم … فيجييه هذا رايك ؟؟ طأطأ اخوه راسه وقال استرها واستر روحك اما خير والا تعمل فضيحة في ام صغارك ..وبصوت مهموم اجاب صاحب الكوشة ..رايك والبركة ..اللي تقول انت اكهو ..وما ان خرج هذا المركوب على زوجته حتى نظر اليه اخوه واتبعه بتمتمة: “حتى انت اش من دغفة فقت بيها كان تو” …زعمة ثمة منها حكاية حرام المحارم ؟؟..

نفس صاحب الكوشة هذا شاهدته يوما في رمضان وهو يستقبل حرفاءه بصينيات الدرع والڨاطو والمقروض الاسمر لتاخذ مكانها في الفرن حتى تحلّي البيوت في عيد الفطر ..شاهدته وهو يستقبل فتاة بالكاد في ربيعها السادس عشر ولكنّها جسديّا “هسكة” وهي ترمق عينيه اللتين جحظتا في ما تحت وما فوق الميني جيب الذي ترتديه … وبخبث انثوي صبّحت عليه وقالت: “امّي مسلّمة عليك وقالتلك ارميهولي تو” …ما اخيب نيّنكم … راهي تقصد المقروض… الا ان صاحبنا كانت نيّته تماما كنيّتكم ..لم يشأ ان يرد عليها في صبيحة رمضانية و حشيشة الدخان ضاربتلو الطّاسة متاع مخّو … فادار وجهه مستعيذا من الشيطان (الذي بداخله) لان الشياطين في رمضان توصد الابواب في وجهها وتدخل في عطلتها السنوية … الا ان هسكتنا الجميلة جدا والمثيرة جدا والخبيثة جدا تصرّ على اعادة كليبها الصباحي بعد ان عرفت انه فعل فعلته في “رواشك” صاحب الكوشة …وكاد يسيل لعابه من فمه ومن هنالك .. ورددت الاسطوانة (قالتلك امّي ارميهولي تو) نظر اليها صاحبنا وانفجر بتمتمة: “يا بنتي امش على روحك خير ما الواحد يفطر عليك في سيدي رمضان الفضيل” …وحاولوا فقط معي ان تجدوا تفسيرا للعلاقة بين “نفطر عليك” و “سيدي رمضان الفضيل” …

من شقاواتنا كشلّة في تلك الحقبة وفي الساقية، اننا وبعد كل سهرة كنا نقف امام متجر صغير لنكمل السهرة هنالك ..ونختمها بالتبوّل في فتحة مدخل المفتاح (المجليق) ونذهب اليه في الغد ليشكو لنا همومه من كلاب السوق الذين كثيرا ما يعطرون متجره بعطورهم .. رحمه الله وغفر الله لنا تعطيرنا لحانوته ..واحد اخر كان ثريّا جدا (ما يعرفش طرف مالو وين) ولكنّه وكسائر الاثرياء كان واحدا من بخلاء الجاحظ.. وكنّا في فصل اللوز نستمتع جدا بالذهاب الى جنانه الكبير والبعيد عنه وعنّا 3 كلم لنسرق لوزه الفريك ودليلنا في السرقة ابن اخيه… ثم وفي ساعة متاخرة من الليل نذهب الى فيلّته الفاخرة بالساقية ونتربع على فيراندته لنفترس بشهيّة ما سرقناه ونترك له القشور مشتتة على الفيراندا … وقد يداهمنا احيانا اذان صلاة الفجر فنسرع في مغادرتنا المكان باعتباره من المواظبين على صلاتهم بالمسجد …وما ان يصل المؤذّن الى مقولة (الصلاة خير من النوم) حتى يردّ الواحد منّا (حتى النّوم فصيّل ما عندك ما تقول فيه) … وفي الغد ينتشر خبر سرقة جنان ذلك الثّري وخاصّة حرقته وهو يقول لكبار الساقية (لا ومازاهمش سرقوني جاو للفرندا متاعي وكملوا سهريتهم وخلّلاولي القشور.. الله لا تربّحهم اولاد الحرام …وكان كل ذلك يحفّزنا للروبولات او وكما يقول عبالعال (كماااااااااااااااااان) …

في الساقية ايضا عرفت انماطا اخرى من اناس طيبين للغاية… فعلاوة على سي المبروك حمّاصنا الطّيب رحمه الله هنالك الحاج البقلوطي، حائك السراويل التقليدية والبلوزات الرجالية ..هو.دائم الابتسامة وديع الملامح ولم نستطع يوما تحديد عمره… كان كلما سالناه عن عمره يبتسم ويقول 38 سنة ..ولم ندر لحد الان كم يبلغ من العمر ..كان هنالك صاحب كرّيطة، اي “كرارطي” بالمعنى الحقيقي للكلمة لا المجازي (والتي تعني زير نساء)… كان اسمه “الشنّة” ولقبه بربّة … وهما اسما ولقبا غريبان جدا ..لكن ميزته انه كان دائم الغناء وبصوت عال وطربي، لم اره يوما مهموما …ربما هو من القلائل الذين فهموا انه وعلى حد قول اندريه مالرو (الحياة لا تساوي شيئا ولكن لا شيء يساوي الحياة) …او وعلى حد تعبير شابّينا ابي القاسم (خذ الحياة كما جاءتك مبتسما … في كفّها الغار او في كفّها العدم) …

شخصيّة اخرى اشتهرت في الساقية ببّفائيتها ..هو “دلاّل” خاصّة في قطاع الغنم …تقدّم به العمر واصبح بالكاد ينافس السلحفاة في سرعتها …كان كلّما قام بالدلال على نعجة مثلا بدءا بـ”يا باب الله” وتدريجيا يرتفع الثمن من مشتر الى آخر … يحدث ان تمر بجانبه امرأة بسفساريها وتضع يدها على ظهر النعجة فتجده يابسا لا لحرمانها من كبشها بل لسنّها المتقدّم وربّما للاثنين معا فتشير الى صاحبنا الدلاّل بقولها: “تي هذي حطبة” …ويلتقطها من فمها وتصبح دلالته من نوع (راهي حطبة)… وقد ياتي اخر وينعتها بـ “هذي وافية ماشية تموت” … فيردد: “راهي وافية ماشية تموت” _…لماذا يفعل ذلك دون غضب لا من صاحب النعجة الذي امّنه على بيعها، ولا من شرذمة العابثين امثالنا ونحن نتصيّد الفرصة لابداء تعاليق تعدد عيوب بضاعته حتى يرددها بحذافيرها ..؟؟؟

هذه النماذج من متساكني ساقيتي رسّخت في شخصيّتي وفي فكري وفي اعمالي بعد سنوات متقدمة اشياء هامّة جدا… لعلّ ابرزها ان كل فرد ومهما كان سلوكه مهما كانت طبقته الاجتماعية مهما كان مستواه التعليمي هو مهم جدّا وعلينا ان لا نلغيه في كل ما نعمل …

في اواخر السنة الرابعة آدابا حدثان هامان اثّرا جدا على كُريّم ..نعم جدّا … اوّلهما نكسة جوان 67 …انا خرّيج معهد الحي الذي اغلب اساتذته قوميون ..نصحو يوما على الخبر الفاجعة ..هزيمة العرب وبالتحديد عبد الناصر في حرب جوان مع اسرائيل …كانت صدمة لا توصف… كانت مشاعرنا ممتزجة بألم انتصار اسرئيل على العرب ولكن خاصّة بخسارة عبدالنّاصر الريّس الذي كان بالنسبة لنا الزعيم الاسطوري ..خاصّة والاعلام الحربي المصري انذاك يبشّر برمي اسرئيل في البحر …. عبدالناصر ذلك القومي العروبي الى اخمص قدميه لم يتفطن إلى أن رئيس أركانه كان اثناء الهجوم الاسرائيلي في ملاهيه مع برلنتي مزطولا ..؟؟ ولم يتفطن إلى خيانة روسيا له وهي تجهزه بعتاد حربي فاسد .؟؟؟.. ياااااااااااااه كم هو مؤلم وكم كانت الصدمة قوية …

لم نستطع وقتها تحديد موقفنا ..هل ننتفض غضبا على من احببنا ام نشفق عليه ؟؟؟.. وهل باستطاعتنا ان نغضب و نلعن من نحب مهما فعل ..مهما فعل …مهما فعل ؟؟؟ … او هل نثمّن ما قاله بورقيبة في خطاب اريحا …ام نبقى دوما اعداء لبورقيبة حتى ولو كان على حق ؟؟ وبدأت المظاهرات في تونس ..الدستوريون ينددون بالريّس الطاووسي وغير الواقعي سياسيا مفتخرين بالآراء الحصيفة لبورقيبة ..والقوميون منددين باسرائيل وامريكا … دون المس من زعامة عبدالناصر ..اذكر يومها اني كنت من ضمن التلاميذ الذين خرجوا من معهد الحي (ضمن القوميين)واتجهنا الى الليسيه (معهد الهادي شاكر) لنخرج تلاميذه معنا الذين لا حس سياسي لهم انذاك مقارنة بنا نحن ابطال الحي الزيتوني … ولنتوجّه الى المدينة العصرية نجوب شوارعها ونهتف بسقوط اسرائيل وامريكا … وكان جلّ الرجال الكبار ينظرون الينا في صياحنا وهو يسخرون قائلين متهكمين: اش ثمّة ؟؟ اشبيهم هالفروخ يعيّطوا …؟؟؟ … اي انهم كانوا خارج سياق ما يقع في العالم ..وهذه طبيعة اغلب متساكني تونس عموما في تلك الازمنة …اهتمامهم بالسياسة “نيانتي” …مفقود تماما … واحيانا المفقود افضل من الموجود واعني به ذلك الموجود ، المزعج ..الغبي …الانفلاتي .. والمدمّر …

وعندما يخبرهم البعض عن اسباب تظاهرنا ..يواصلون: “وهذوما اش يفهمو فيها تي خ…….هم مازال في ص….. هم” … (صدقا كتبتها كاملة دون نقصان الاحرف ولكن وكقارئ وجدتها “ناتنة ذوقيّا” فاصلحت وحذفت بعض الاحرف ..المهم وصلت الفكرة) … لذلك انا واحد من الذين يتفهمون جيدا خروج تلاميذ المعاهد للتظاهر …في كل الازمنة … انه تدرّب لتكوين الذات ..لنحتها .. للقادم ..شريطة ان تخلو تلك المظاهرات من اي شكل من اشكال العنف، وذلك بتأطير من قادتها … وربّما ما خفّف علينا صدمة نكسة العرب خروج ملايين المصريّين للشارع عندما اعترف عبد الناصر بمسؤوليته الكاملة وبتخلّيه عن الحكم ..يومها خرجت مصر لتقول له انت الريّس وستبقى الريّس … وعاد الريّس ليهيّئ كما ينبغي لحرب العبور …والتي اخذ وسامها السادات …وبقطع النظر عن كل التحوّلات الجذرية التي حدثت لي في ما بعد ايديولوجيّا فاني اعتبر كلاّ من عبد الناصر وبورقيبة وبكل سلبياتهما واخطائهما من افضل الزعماء العرب ماضيا وحاضرا …

الحدث الثاني في اواخر سنتي الرابعة آدابا كان ….هو في الحقيقة لم يكن كان فقط بل هو كمّ هائل من الافعال الناقصة كان صار.. ليس … بات … وكما تعلمون من ميزات هذه الافعال انها ترفع المبتدأ وتنصب الخبر ..فما بالكم اذا كانت تجرّ المبتدا ويصبح الخبر في خبر اصبح … يتبع ؟؟ يتبع ونصف وثلاثة ارباع وخرّوبة …

ـ يتبع ـ

أكمل القراءة

صن نار