تابعنا على

جور نار

خُرافات تربوية

نشرت

في

لا بدّ من التوضيح منذ البداية أنّ تعبير “أساطير تربوية” أو “خرافات بيداغوجية” Légendes pédagogiques استعمله الفيلسوف الكندي نورمان بايّارجون الذي درّس طويلا بكلية علوم التربية بمونريال.

منصف الخميري Moncef Khemiri
منصف الخميري

يقول بايارجون:“صنعتُ مفهوم الخُرافة البيداغوجية عندما استطعتُ – أنا الذي أُصدم دائما بهيمنة المعتقدات غير المؤسّسة في حقل التربية والتي تكون أحيانا غريبة ومدهشة- الربط بين هذه المعتقدات والأساطير الحضرية التي أصبحت مألوفة بكل تأكيد بالنسبة إلى الكثيرين منكم”.

ويقصد بايّارجون بهذا المفهوم تلك الحكايات التي يتداولها جميع الناس في الفضاء العام أو على مواقع التواصل الاجتماعي في الشأن المدرسي وتكون غير مؤسّسة على نتائج ثابتة لدراسات أو بحوث علمية وأكاديمية مشهود بصدقيّتها.

أما في السياق التونسي، فهنالك أيضا الكثير من المعتقدات التربوية الشائعة بين الناس ولكن بإخضاعها إلى شيء من العقلنة والتمحيص سرعان ما نكتشف إما خطأها أو على الأقل بروز الحاجة الملحّة إلى تنسيبها ومزيد إعمال النظر فيها.

وهذه بعضها :

أولا : المرونة والليونة في التعامل مع التلاميذ… تساعدان على نجاحهم

غالبا ما تُفهم المرونة في مدرستنا وخارجها على أنها مُرادف للتسامح المغلوط إزاء كل ما يأتيه التلميذ وضرورة امتناع المدرسة والمُدرّسين على التسبّب في خلق مناخ من الضغط النفسي الذي يؤثر سلبا على معنوياته ونتائجه. بينما الليونة المطلوبة في الوسط المدرسي هي عدم المسارعة إلى العقاب والسهر على القطع مع العقوبات الكاسرة وتفهّم أسباب التجاوزات المختلفة وخلق المناخات العلائقية الملائمة لبناء علاقات متوازنة. فالحزم مطلوب والانضباط في السلوك إزاء الآخرين وإزاء الدرس والمعرفة هو الذي يخلق تمليذا متوازنا ومتحضّرا ومنضبطا.

ففي المدارس الصينية على سبيل المثال “المعروفة بجديتها المفرطة” حسب أغلب التقارير الدولية، تأسس نظام صارم جدا لكن لم يمنع الأطفال (كما رأيناهم في الأشرطة الوثائقية التي تبثها التلفزات الأوروبية) من اللعب واللهو والابتسامة والفرح البيّن وهم يتوجّهون نحو أقسامهم. وهنا، ليس من حقّنا كتونسيين أن نتناسى بشيء من الكبرياء والمكابرة أن التلميذ التونسي مصنّف في المرتبة الأخيرة عالميا (بعد التلميذ الفرنسي) على مجموع 72 جنسية على مستوى الانضباط المدرسي والاستقامة في السلوك!!!  فالمرونة لا تنفع مطلقا مع هذا الملمح الذي ساهم في صنعه منطق “فلذات أكبادنا” و “الطفل الملك” و “مشكلة ولدي أنّو حسّاس برشة”…

ثانيا : الأساتذة كَسَالى و”شايخين” بالعطل

 ليس هناك أبلغ من الأرقام في تأكيد أو تفنيد مثل هذه “الخرافات التربوية” التي يتناقلها الناس جميعا. فالأرقام الدولية تقول ان الأستاذ يُقضّي حوالي 10 ساعات أسبوعيا في إعداد دروسه و 6 ساعات في إصلاح الفروض والتمارين والأعمال المختلفة و 3 ساعات في البحث عن الوثائق والمراجع لتدعيم دروسه… دون احتساب الـ 20 ساعة في المعدّل التي يُقضّيها الأستاذ داخل الفصل. أي تقريبا بمعدّل حجم العمل الموكول إلى العمال الزراعيين وأعوان المخابز وسوّاق القطارات…أي 40 ساعة وأكثر.

وعليه، لا يصُحّ القول مطلقا ان الأساتذة في معظمهم- لا يبذلون جهدا كافيا في علاقة بواجباتهم المهنية خاصة إذا ما أضفنا معاناتهم اليومية إزاء 3 ضغوط كبرى : الإحساس بالعجز إزاء شريحة كبيرة من التلاميذ يفِدون عليه دون تملّك أدنى للمكتسبات الأساسية، والشعور بالغُبن أمام أجر يتدحرج كل يوم ليصبح أدنى من منحة المتشرّدين في أوروبا، وحصول القناعة بأن مركب المدرسة العمومية يغرق أمام أعين دولة أصابها الإعياء والصّمم والعمى.

ثالثا : العلم في الرّاسْ وليس في الكرّاسْ

أطفالنا بصورة عامة لا يعتنون بخطّهم ولا يولون أهمية كبرى لكرّاساتهم التي يمزّقونها إربا إربا في نهاية كل سنة دراسية (ملاحظة: أنا على استعداد اليوم لدفع أي مبلغ لو أُمكّن من إحدى كرّاساتي وأنا طفل صغير)… وظاهرة تقطيع الكراسات أمام المؤسسات التربوية قد تقترن بذلك الشعار البائس الذي يقول ان العلم ليس في الكراس بل في رؤوس بعضهم الفارغة التي تعشّش فيها الأساطير وتخاريف صُنّاع المقولات الخاوية. فكنوز العلم وجواهر المعرفة ودُرر الثقافة مُخبّأة بعناية طيّ الكتب التي ألّفها السّابقون والمراجع التي يكدّ من أجلها المعاصرون. المشكل في رأيي لا يكمن في المرور من الورقي إلى الرقمي لكونها في النهاية مسألة محامل لا غير ولكن المشكل الأكبر يكمن في المرور من الأثر المكتوب حبريّا أو رقميا إلى “ثقافة” الصورة المشهدية والجملة البرقية والتناولات السطحيّة المعمّمة.

رابعا : النجاح بمعدّلات عالية يضمن المستقبل

يجب استبدال هذا الشعار بـ “النجاح بمؤهلات جيدة وشخصية متوازنة يضمن المستقبل”، لأن المعدّلات العالية تضمن الالتحاق بمؤسسات جامعية يتكثّف الإقبال عليها بعد الباكالوريا وبالتالي يرتفع سعر الدخول إليها ولكن المؤهلات الحياتية الواعدة شيء آخر تماما. كم من معدّلات عالية عاد أصحابها من الجامعات الألمانية أو الفرنسية وهم منكسرون لأسباب تتعلق عادة بالقدرة على التأقلم وفقدان المهارات العلائقية وعدم التدرّب على المبادرة وغياب القدرة الفردية على مواجهة الصعوبات وعُسر التعويل على الذات في حلّ إشكاليات يومية… وكلها اقتدارات مطلوبة لم يتهيّأ لها أبناؤنا وبناتنا بشكل مرضي أثناء مراحل دراساتهم الأولى.

خامسا : ذوو النتائج الضعيفة فحسب يتطلبون مرافقة ودعما

يتوزع المتعلّمون عادة إلى 3 أصناف كبرى :  الذين هم بحاجة إلى اللحاق برأس الكوكبة، والذين هم بحاجة إلى المحافظة على نسق تعلّمهم وتثبيت مكتسباتهم، والذين بهم رغبة جامحة للتقدم بسرعة أكبر مقارنة بباقي أفراد المجموعة. وفي الحالات الثلاثة، يحتاج الطفل أو الشاب إلى من يساعده (داخل القسم وخارجه وسط العائلة وبعيدا عن دكاكين الشحن المدرسي) من أجل تدقيق وتجويد ما تعلمه في المدرسة وتحفيزه لجعله يُقبل على التعلّم بابتهاج وعدم امتعاض… وهو استثمار أكاديمي ستتضح نجاعته مع مرور الوقت قبل حلول الدراسات الجامعية.

سادسا : مستوى التعليم كان أفضل في السابق

“يا حسرة على قراية بكري” و “مستوى التعليم طاح” و “برة شوف التلامذة اليوم كيفاش يكتبو” الخ… خطاب الحنين هذا يكاد يؤثث كل البيوت وكل المقاهي التونسية لأن قتامة المدرسة في الماضي كانت صامتة ومسكوت عنها بعناية بوليسية فائقة، وحجم الانقطاع أصبح فاضحا جدا لأن التمدرس أضحى بالملايين وليس ببعض الآلاف فقط كما كان في السابق.

كنا ربما نكتب بشكل جيد والبعض منا يعرف جيدا قواعد الحساب أو قواعد رسم الهمزة ويحفظ عن ظهر قلب حروف الجرّ أو الفرق بين الصفة والحال، لكننا لم نكن نعرف الحواسيب ومتاهات العالم الرقمي والذكاء الاصطناعي وتحليل المعطيات في وقت قياسي وبالتالي القدرة على اتخاذ القرارات. فأبناؤنا وبناتنا اليوم أقدر منا بكثير (لما كنا في سنّهم) على فهم المركّب وأسرع منا في اكتساب المهارات وأكثر قدرة منا على اكتساب مفاتيح ولوج العالم بلغاته وحضاراته ومقتضياته المختلفة.

سابعا : الإصلاح التربوي الشامل سيُخرج مدرستنا العمومية من أزمتها الخانقة

أولا صفة “الشمولية” لا تعني أن تتحدث أدبيّات الإصلاح السابقة واللاحقة عن كل الجوانب التي تهمّ الفعل التربوي كالحياة المدرسية والتجهيزات والتعلّمات وخارطة الشعب ومنظومة التوجيه والبرامج والكتب المدرسية الخ… بل تعني أساسا أن تمسح المعالجات المقترحة كافة المرافق ذات العلاقة بالمدرسة وأن تؤمن الدولة في أعلى مستوياتها بأن التربية تعلو ولا يُعلى عليها (تصوّرا وتمويلا وتحشيدا) وأن يصبح التدريس مهارة استثنائية يتعيّن على القائمين به “الاستفاقة مبكّرا جدا” كما يقول التعبير الفرنسي وأن يُصبح لدينا في تونس مدرسة (بمستوياتها التحضيرية والابتدائية والإعدادية والثانوية والجامعية والمهنية) بمستوى هدر يقارب درجة الصفر. بمعنى أن أي تلميذ أو طالب أو متكوّن يجب أن يُلبسهُ المجتمع “سِوارا إلكترونيا تربويا” يسمح بالتعرّف على مربّع تواجده الذي لا يجب أن يخرج عن دائرة الدراسات العامة أو المراحل التكوينية التمهينية في شتى المجالات أو الدورات التدريبية المُفضية إلى تشغيل مباشر أو الحلقات التأهيلية الدامجة في مجالات مخصوصة وطنيا ودوليا.

وبالتالي يمكن أن نُنجز أفضل إصلاح تربوي على الإطلاق تنظيرا وإنشاءً وصياغة ولا يُفضي بالضرورة إلى نتائج ميدانية ملموسة تنهض يمُخرجات المدرسة وترتقي بأدائها.

أكمل القراءة
انقر للتعليق

اترك تعليقا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

جور نار

ورقات يتيم … الورقة 26

نشرت

في

Dessins Gratuits à Colorier - Coloriage Autobus à imprimer

{ما ابلدك} في حياة كل فرد منا محطات ابدا ان تُلغى من الذّاكرة …ليست بالضرورة مجلّدا في بداياتها .. قد تكون كلمة ..آهة … كلمة .. نبزة .. نظرة .. ولكن قد “تشقلب” التاريخ كلّه …وتبعثر حتى الجغرافيا ..

عبد الكريم قطاطة
عبد الكريم قطاطة

دعوني اقدّم لكم وكتوطئة لـ “ما ابلدك” انموذجا من نماذج شقلبة التاريخ والجغرافيا …. مازلت اذكر في اسابيعي الاولى بباريس اثناء دراستي فيلما بورنوغرافيا شاهدته باحدى القاعات المختصّة لتلك النوعية …كنا ـ نحن البلهاء في عالم العلاقات الحميمة بين المرأة والرجل ـ ننتظر بكل لهفة اكتشاف تلك النوعية ..وبقدر ما كانت مثيرة جدا لغرائزنا بقدر ما كانت مهمّة جدا في تطوير مفهومنا لتلك الحميمية … لاّننا تعلمنا ثم تعوّدنا نحن البلهاء بعد تجربتنا خارج منظومة الداعشيين، ان المراة كائن حيّ له رغباته ومن حقّه علينا الا نكون معه داعشيين …اي نذبحه من الوريد الى الوريد عاطفيا ..فكريا.. اجتماعيا .. وجنسيا ..كنا في جلّنا فصيلة حيوانية همّها الوحيد الركوب متى نشاء ..كيفما نشاء.. دون ايّ اعتبار لـ “متى شاءت وكيفما شاءت”… المرأة عندنا جارية لا يحقّ لها ان تكون لها رغباتها .. لا يحقّ لها ان تكون انسانة ..الانسان هو لقب للذّكر دون الانثى … واذا تجرأت يوما احداهن على المطالبة بحقها الشرعي في حياتها كانسانة نُعتت بـ “هاكي ما تصلحش وماهياش بنت اصل”…ق لت تجرأت لان معظمهن “يبلعو السكينة بدمها” ويدخلن كهف الشقاء المأساوي ..كهف الموت البطيء .. كهف حياة لا حياة فيها …

ذات يوم دخلت القاعة بعد ان انطفأت الانوار وحان وقت الفيلم ..في تلك الفترة لم اكن لاجرؤ على ولوج القاعة حتى اتفادى وجوه الحاضرين ..وهذه بلاهة اخرى لان الحضور لا يمكن ان يكونوا الا من نفس فصيلتي فكيف اخجل منهم ؟؟؟ وعندما فهمت ذلك اصبحت “رقعة” و على حد قول عيّادة رحمها الله “لا تحشم لا تجعر”وتختمها بـ ” يقشّر بهتك”… وها انا ابحث لحدّ الان عن معنى يقشّر بهتك …دخلت القاعة وكان عنوان الفيلم “إيمانويل 2″… لا يهمني انذاك لماذا 2 وماهو إيمانويل 1 .. كل ما همّني يومها الصور البالغة الاثارة للنجمة “سيلفيا كريستيل” المعلّقة على اللوحة الاشهارية لقاعة السينما بالحيّ اللاتيني بباريس … الفيلم يمكن حوصلته في جمل قليلة ..بائعة هوى “تفتّق” جمالا وانوثة، اصبحت ثريّة جدّا باعتبار علاقاتها المتعددة مع الاثرياء طالبي اللذّة …ولأن الثراء في المجتمعات منذ قارون الى حد اثرياء ما قبل وبعد 14 جانفي يصبحون “محترمين جدا” حتى ولو كانوا بائعي لذّة او بائعي كلمات ..فانّ إيمانويل لم تشذّ عن القاعدة … بل اصبحت سيدة مجتمع وفاعلة جدّا في الاعمال الخيرية … وهي خاسرة حاجة ..؟؟؟ تدلل على بدنها، راس مالها ..

الا انها كانت تعيسة جدا في علاقاتها الجنسية مع حرفائها …لم تعرف يوما رغم حرفيّتها المبهرة في مهنتها ..لم تعرف يوما الشيق (قمة المتعة الجنسية لدى المرأة) … الجميع يعتبرها بركان جنس… فقط هي من تّوقن بانها قالب ثلج ….ولا شيء غير قالب ثلج …وان ما تقوم به مع حرفائها قمّة في التمثيل لا غير …إيمانويل هذه كرهت حياتها ..فلا المال ولا الجاه ولا الاسم المجتمعي ما يصنع السعادة ..استفاقت على حقيقة هامة في وجود الواحد منّا … لا سعادة دون توازن بين الروح والجسد … وكم منّا من هم تعساء رغم كل مظاهر البهرج والفرح والسعادة الموهومة ..انه ماكياج ولا شيء غيره … قررت إيمانويل مغادرة البلاد نهائيا بحثا عن توازنها ..وكان الحدث مهمّا بالنسبة لوسائل الاعلام … احدى سيّدات المجتمع ستغادر ..وتحوّلت فيالق الصحفيين لتغطية الحدث ..وصلت السيدة إيمانويل الى المطار وتوجّهت الى مدرج طائرتها الخاصة لتصعد السلّم واضواء فلاشات المصوّرين تلاحقها …وصلت الى اخر السلّم واستدارت وكما يفعل السياسيون لتشير بيدها الى اشباه الصحفيين الذي جاؤوا لتغطية رحيل بائعة هوى … زعمة زعمة سيدة مجتمع… رفعت يدها باشارة الوداع ثم توقفت لحظة و “اُغمن عليّ اُغمن عليّ”… ايمانويل هبطت “ما في عينها بلّة” …

احاط بها حرسها الخاص …والذين لحد الان لم افهم ما معنى ان يقبل الانسان ان يكون كلب حراسة على انسان آخر …و افاقت ايمانويل … وابعدت ايدي الحراس عنها ثم نظرت الى معشر المصورين… نزعت معطفها الحريري… رمت به في الهواء .نزعت حذاءها العالي ..والحقته بالمعطف … واسرعت في نزولها باتجاه احد المصورين التلفزيين ..وصلت اليه وارتمت في احضانه تقبّله بنهم وروح وعشق لم تعشه يوما …وحكت لكل الصحفيين “غريبتها” … قالت: ايمانويل سيّدة المجتمع هذه كما تعتقدون …كانت اتعس امرأة في المجتمع ..اليوم وانا على بعد بعض الثواني من مغادرة بلدي ومغادرة تاريخي وجغرافيتي التقت عيني بعين زميلكم هذا فحدث امر سحري …لقد عشت لاول مرة في حياتي شبقي دون ان يلمسني هذا الرجل … لذلك هو رجل عمري …سابيع كل ما املكه واتبرع به الى الجمعيات الخيرية وساقبل ـ ان قبل هو ـ بالعيش معه في اي كوخ ..وينتهي الفيلم بطرح “اتشقليب” لم تعشه يوما ايمانويل مع اي رجل عرفته… انا ما نقللكم وانتم ما يخفاكم …

في السنة الرابعة آداب حدثتكم عن حدثين كانا هامّين في حياتي ..نكسة جوان …والتي اتينا عليها في الورقة السابقة .. وهاكم الحدث الثاني …كنت كعادتي كل يوم امتطي الحافلة التي تقلّني من ساقيتي الى باب الجبلي كتلميذ من جملة اترابي ..كنا نعرف بعضنا البعض ان لم يكن بالاسم فباللقب ..وكنا حريصين خاصّة على تتبّع آثار زميلاتنا التلميذات اعزّهن الله ومتّعنا حتى بابتسامة عابرة منهن … اما النّافع ربّي … حتى الابتسامة في زمننا مهرها غال جدا ..وان حدثت فهي لابد ان تكون في مأمن من كل العيون …عيون ابناء العم والجيران من جهة وعيون المنافسين الذين يطمعون مثلي تماما حتى في ابتسامة …فاذا حدثت مع احدنا امام مرأى الآخرين ..يتساءل الواحد منّا (علاش معاه هو ؟؟… انا مولود في تاكسي ؟؟ مطهّر في شعبة ؟؟ اش زايد هو عليّ ..؟؟ بايي والا نحرّم) … ونقول كل هذا ولا نفعل شيئا ..يعني “تبهبير”… كنا نحن التلاميذ نعشق جدا الركوب مع السائق “الغروبي”… كان يتمتّع بشهيّة غريبة في استعمال الفرامل بشكل مفاجئ وبقوة حتى يرانا اكواما جسديّة نسقط على بعضنا البعض _وما احلى ليس فقط الركوب معه بل الاهم ما احلى الرجوع اليه والسقوط عليه … اشكون ؟؟؟ نائب للمجهول (والاكيد انه معروف عندكم)…

ذات يوم وفي منتصف السنة ركبنا الحافلة كعادتنا و كنّا في كل محطة نعرف بالتدقيق من هم والاصح من هنّ الصاعدات الى الحافلة ..تلك بنت فلان وتلك ابوها التاجر الفلاني او العمدة وثالثة ابنة قابض البريد …

(اليوم ازور الساقية فاجد نفسي غريبا فيها ..ليس فقط لان العديد هاجرها او هجرها ..بل لان سكانها اصبحوا على كل لون يا كريمة… ساقيتي فقدت عذريّتها .. واصبحت مرتعا غريبا لغرباء غريبين …)

.على بعد محطتين من محطّتي كانت هنالك فتاة على نسبة من الجمال ..رصينة جدا ..لم نرها يوما مبتسمة ..متعالية في نظراتها الى حد السخرية من الآخرين… رشيقة في مشيتها وانيقة في اختيار “طابليتها” وابدا ان تجد في تلك الحقبة فتاة دون ميدعة …ابدا ..(موش كيف توة كل شيء واضح ..واضح ..سيّبوني عاد اكيد فهمتو اش معناها واضح) …كنا على ممسافة قصيرة من وصول الحافلة الى باب الجبلي وجاءت فرامل سي الغروبي لتهزّ الجميع هزّا وبكل سعادتنا بالهز…حاولت ان امسك بواحد من الاعمدة الداخلية في الحافلة حتى اتفادى السقوط .. ومسكت يدها التي كانت على العمود .. يد تلك الرصينة الرشيقة المتعالية ..واقسم لكم اني لم اكن انوي مطلقا ذلك … استدارت بكل غضب وقرف وصفعتني بـ (ما ابلدك)… استدرت الى الوراء وعدت اليها سائلا في دهشة: “انا ما ابلدني ؟؟” فماكان منها الا ان قالت وباصرار ولهجة حادّة: اي انتي ما ابلدك ..

تصبّب جبين كُريم عرقا وهو يّهان امام الشلّة .. بعضهم كان مشفقا نظرا إلى الود الذي بيننا ..البعض الاخر كان شامتا في عبدالكريم (اش يحسايب روحو هالفرخ ..؟؟)… وانا كنت مرادفا لسعيد صالح وهو يقول بألم (مرسي الزناتي اتهزم يا رجّالة) ..لم استفق من غفوتي الا والحافلة تصل الى باب الجبلي لتعلن وجوب مغادرتنا لساحة المعركة التي لم تكن معركة … ولكنّها كانت معركة شديدة الهيحان بداخلي انا الذي عشت كامل مراحل عمري مدلّلا من الجميع ..تجي طفلة ما تسوى شيء وتقللي “ما ابلدك”؟ … لست ادري كيف قضّيت ذلك اليوم ولكن كلّ ما ادريه اني قررت الانتقام لكرامتي التي ديست امام الصديق والعدو ..هكذا خُيّل اليّ في مثل سني انذاك ..”تخربيشة متاع كرامة” وفعلا قررت ان الاحقها كل يوم كظلّها في انتظار فرصة ان “امسح بها القاعة” وامام الجميع …

استعدت لذلك ايّما استعداد … صرت اعرف مواقيت خروجها ودخولها للمعهد .. صرت اعرف كل شيء عنها ..عائلتها …جيرانها لكن الغريب انه لم يكن لديها صديقات … كانت دائما وحيدة ..واحترت في ماهيّة وكيفيّة الانتقام منها …ووجدتني بعد شهرين من المتابعة والترصّد … حبيسها …ابن حزم يقول في الحب “اوّله هزل وآخره جد” وانا اقول نعم يا ابن حزم ..والحب ايضا وفي مرحلة من عمرنا هو اشبه بلحظة شروق الشمس ..هل شاهدتم يوما شروق الشمس في لحظاتها الاولى ..هو شبه ضوء مبهر ثم تبرز الشمس فجأة للوجود من اسفل الافق الى سطحه ….وهي لا تنتظرك حتى تتأمل في اشعتها هي تتدفّق بسرعة رهيبة ..عجيبة ..ممتعة ..لكي تغمر الدنيا نورا ..كذلك هو الحب ..الحب لا يستاذنك ..لا يطرق الباب … لا يعلن عن مجيئه كما يعلن الناس المحترمون عن موعد زيارتهم لكم قبل اسبوعين او شهرين او سنتين ..ويحرمونك لذّة الزيارة الفجئية ..اليس افضل ما في حياتنا تلك الزيارة الفجئية ..؟؟؟ ان تستعدّ لامر ما ..فذلك فيه نوع من ميكانيكية المشاعر وترتيبها ..اما ان يفاجئك احدهم بقدومه دون سابق انذار فهذا هو نغم المفاجأة …..هل تذوقتم نغم المفاجأة .. عزف المفاجأة …رقص المشاعر عند المفاجأة …البعض يتعلل بنظام حياته وبعدم استعداده…وبتبريرات فيها كثير من البريستيج الزائف والتمظهر الركيك… وانا افضّل عدم الاستعداد، على تلك الزيارات الرتيبة التي لا حرارة طبيعيّة فيها مهما بلغت درجة حذقنا لتلك الابتسامات البلاستيكية التي لا عبير فيها ..وعيادة تقول في هذا الباب “اذا صفات النيّة لقمة تشبّع ميّة” …

نعم تحوّلت رغبة الانتقام من تلك البنية التي تصغرني بسنتين الى شرارة حب ..اصبحت انتقم من نفسي اكره واكفر باللحظة التي اعتدت فيها يدي على يدها …انتي هو الغفاّص يا سي الشباب ..ماهو ردّ بالك واعرف وين وعلى شكون اتحط ايدك …انتقم حتى من كرامتي المزيّفة خاصّة وانا اكلّف اختي الصغرى بتبليغها مشاعري نحوها ..وهي تجيبها: “قللو يمشي يقرا على روحو خيرلو” …واشي عبدالحليم ..نار يا حبيبي نار … حبّك نار موش عايز اطفيها … وفي يوم من الايام… قسوة حبايبي مغلباني …وبتلوموني ليه … لو شفتم عينيه حلوين قد ايه حتقولو انشغالي وسهد الليالي موش كثير عليه ..وبحلم بيك… و قد ما عمري يطول يا حبيبي حستناك على طول يا حبيبي حستناك على طول …. واشي فريد الاطرش وحكاية غرامي و كتبها زماني عليّ بدمي وبدموع عينيّ….وعدت يا يوم مولدي …. وانا عمر بلا شباب ..وحياة بلا ربيع… اشتري الحب بالعذاب، أشتريه فمن يبيع .. واشي ام كلثوم وحيّرت قلبي معاك وانا بداري واخبي …قل لي اعمل ايه وياك والا اعمل ايه ويّا قلبي ..و للصبر حدود … ما تصبرنيش ماخلاص انا فاض بيّ وملّيت …

كأن تلك الكلمات كُتبت خصّيصا لي انا … وكأن حليم والست والاخرون يعبّرون عما يعيشه كُريّم ..هي كلمات ذلك المراهق الذي يعيش قصّة رهيبة من المشاعر المتدفّقة والصادقة …والتي لا عقل فيها …واندفع قلمي لاول مرة يكتب ما بداخلي بكل عفوية ..انذاك اشتريت كراسا من الحجم الكبير وكتبت فيه اولى مذكراتي وسميتها مذكرات غرام ..كانت خواطري اليومية محلاّة بكل اغاني العشق والوجدان والتي يتطبّع اغلبها بالحزن والهجر والعذاب …ولكن بالصدق ايضا …

وجاء شهر جوان الفضيل …كنا قد اتممنا امتحانات آخر السنة وعلى ابواب عطلة الصيف ..وكانت اختي في بداية عهدها بالتعليم الثانوي (السنة الاولى)…لا تعرف انذاك شيئا عن المشاعر والحب والغرام ..هي فقط تأتمر بأوامر “سيدها” هكذا كانت تدعوني ..وكنت دائم السؤال عن فتاتي هل قابلتها هل تحادثت معها ..وكانت كثيرا ما _(تاكل على راسها) اذا لم تفرحني حتى بخبر من نوع: “اليوم شفتها و لقيتها موش جابدة روحها كيف العادة”… ياااااااااااااااااااااااااااه هل هي بداية الغيث …؟؟؟؟ وتنزل اختي ذات يوم من الحافلة لتذهب الى معهدها على الساعة الرابعة بعد الظهر ويصادف يومها وقت خروجي من معهدي …تمد لي اختي ظرفا مغلقا ..وتقول لي هاذا ليلك ..كنت اتلهى بكورنو كريمة من بائعه في محطة الحافلات بباب الجبلي ..فتحت الظرف فاذا به رسالة من صاحبة (ما ابلدك)… ….طبعا يتبع …باهيشي ؟؟؟

ـ يتبع ـ

أكمل القراءة

جور نار

“زيدها شويّة”… أو كيف نُواجه سعير الأرقام في تونس

(من خلال أمثلة حيّة)

نشرت

في

ذكّرني التغيير الذي حصل مؤخّرا على رأس المعهد الوطني للإحصاء (احتمالا على خلفية دكتاتورية الأرقام التي لا تُجامل ولا تُعادي) بجملة من الأحداث والوقائع التي عشتُها شخصيا في أكثر من موقع والمُثبِّتة لعقليةٍ تشكّلت في بلادنا منذ العهود السابقة.

منصف الخميري Moncef Khemiri
منصف الخميري

 مفادُ هذه العقلية  كسْر المحرار إذا باح بنتائج لا تتطابق مع انتظارات المسؤول السياسي، والهروب بصناديق الاقتراع عندما كان يتوقع طلبة التجمع الحاكم عدم الفوز  في انتخابات المجالس العلمية كما كان يحصل في الجامعة التونسية… وعقلية “زيدها شوية” هذه نجد لها أثرا أيضا في نسيج العلاقات الأسرية وفي تعاطي عموم الناس مع الظواهر المختلفة وتفاصيل حياتهم اليومية، لأن الترقيع في ثقافتنا أعلى صوتا دائما من المعالجة الجذرية لمصادر أوجاعنا، وآليات والتسكين والتخفيف والتليين والتقليل والتمسكين منوالٌ قائم بذاته في رُبوعنا.

فعلى سبيل المثال عندما يُنتهك حقّ البنت في الميراث، لا يُجمِعُ أغلب الناس على إرجاع الحق إلى أصحابه بل يجنحون إلى المحافظة على الوضع القائم مع إضافة جملة ترقيعية  “زيدها شوية ووخيّان كيف آمس كيف اليوم” … وعندما تعوجّ حيطان البنّائين المُبتدئين تجد دائما من يحاول التنسيب بشكل ماكر “ثمة شوية عوَج صحيح آما توة باللّيقة تتسوى” … وعندما يعجز بعض الأطباء عن تشخيص مرض ما بدقّة، يسقطون في ما يُشبه تقليعات التنمية البشرية  “والله ما عندك شيْ، المشكل الكل في راسك، عندك برشة هلواس. آقف قدام المراية وصيح مانيش مريض توة ترتاح”…

المثال الأول : نسب النجاح في السنة الأولى بكلية العلوم

في بداية الألفية الجديدة، طلب المسؤول الأول عن مكتب الدراسات والتخطيط والبرمجة التابع للديوان بوزارة التعليم العالي، من رئيس مصلحة متابعة النتائج الجامعية (السيد ت.ع وهو من روى لي تفاصيل الحادثة) مدّه بنتائج آخر السنة الجامعية بالنسبة إلى كلية العلوم بتونس، فلمّا لاحظ أن نسبة النجاح العامة (في كل الاختصاصات مجتمعة) تراجعت خلال ذلك العام من 33 إلى 27 % أشعل سيجارة وسحب منها نفسا عميقا كمن يبحث عمّا يُساعده على ابتلاع نسبة التراجع التي سيُسأل عنها أمام وزيره آنذاك…ثم قال له في شبه توسّل “لا شويّة بالكل سامحني سي فلان، من رايي تزيدها شوية”.

المثال الثاني : في نفس الوزارة

في 2007، عندما انطلق تطبيق منظومة إمد على مراحل وكانت شهادة الأستاذية ماتزال قائمة جزئيا ريثما تحلّ محلّها شهادة الإجازة، طلب الوزير من المدير العام للشؤون الطالبية مدّه بإحصائيات حول مدى إقبال التلاميذ الناجحين الجدد في الباكالوريا على الإجازات الجديدة مقارنة بإقبالهم على الأستاذيات. ولمّا كانت النتائج الأوّلية مؤكدة لتوجّه الناجحين في الباكالوريا أغلبيّا نحو اختيار شهادة الأستاذية بدلا من الإجازة الجديدة، وبالتالي مُخيّبة لآمال من كان يتوقّع أن “إصلاح إمد” سيُعطي أُكله مباشرة بعد الشروع في إنفاذه بما يبرّر وجاهة الاختيار وسلامته، تمّ التشكيك في سلامة الأرقام فأعيد الاحتساب من جديد لتستقر نتائجه على نفس ما عبّر عنه المسح الأوّل، فلم تبق لديهم أية ذريعة سوى تسجيل ذلك على حساب ضعف الإعلام وجهل الأغلبية الساحقة من الأولياء بمزايا النظام الجديد… “وعلى أية حال توة نزيدوها شوية نسبة الإقبال على الإجازات في التدخلات الإعلامية دون تقديم أرقام دقيقة حول المسألة” … كانت هذه هي الفتوى التي أوجدوها للخروج من المأزق.

المثال الثالث : مشاركة التلاميذ التونسيين في تقييم “بيزا”  الدولي

كانت تونس من أولى الدول العربية التي تشارك في البرنامج الدولي لتقييم الطلاب “بيزا”، وذلك منذ سنة 2003، وهو تقييم دولي لقيس قدرة الطلاب في سن 15 عامًا (أي نهاية السنة التاسعة أساسي لدينا) على استخدام معارفهم ومهاراتهم في القراءة والرياضيات والعلوم لمواجهة تحديات الحياة الواقعية كل 3 سنوات. سنة 2015 احتلت تونس المرتبة 65 على 70 دولة مشاركة في الاختبارات (رتبة تقاسمتها تونس مع لبنان ضمن هذا التقييم الذي شمل عيّنة من 540 ألف تلميذ من مختلف أنحاء العالم).

وبدلا من مُواجهة الأسباب العميقة التي أدّت إلى تصنيف تلاميذنا التونسيين في ذيل الترتيب العالمي وهو مؤشر تُنكّس له الأعلام الوطنية لأنه يعكس وضع الوهن الموجع الذي باتت عليه منظومتنا التربوية، اختارت دولتنا أن تُقاطع هذه المحطة التقييمية الكونية مُفرغةً المحرار من زئبقه وضخّه ضمن خطابها الرسمي القائل بأن المؤشرات التي ينبني عليها التقييم صُنعت على مقاس التلميذ الأوروبي والسنغافوري والياباني وليس على مقاس التلميذ التونسي الذي يدرس ضمن بيئة خصوصية ووفق برامج ومناهج خصوصية !

المثال الرابع : 0.4 نسبة نموّ ليست من شِيمنا

دوّن المؤرّخ الجامعي نورالدين الدڨي على صفحته الرسمية يوم 23 مارس ما يلي :

“المعلوم أن المعهد الوطني للإحصاء لا يستنبط الأرقام؛ وليس مطلوبا منه تزويقها؛ فمهمته حسب نصوصه الـتأسيسية : “جمع المعلومات الإحصائية الخاصة بالبلاد و معالجتها و تحليلها و نشرها بالتنسيق مع الهياكل العمومية الأخرى”، وما نشره المعهد مؤخرا عن نسبة النمو الاقتصادي بتونس لسنة 2023 التي حددها ب 4 .0 بالمائة، وعن نسب البطالة : 4 .16 بالمائة، هو انعكاس أمين لقدرات الجهاز الإنتاجي الوطني…”

لكن وكما أسلفنا بالنسبة إلى الأمثلة السابقة، بدلا من مُعالجةٍ رصينة ومتأنية للأسباب الحقيقية والعميقة التي أدّت إلى هذه النتائج الموضوعية، تمّ اللجوء إلى إجراء تحوير على رأس هذه المؤسسة الوطنية ذات الطابع التقني والخِبري الصرف التي ظلّت علاقتها بصاحب القرار السياسي على مرّ السنوات منذ تأسيسها سنة 1969 مُتأرجحة بين نشر الأرقام كما هي أو في أسوإ الأحوال التعتيم عليها وعدم الإدلاء بها قصد التداول العام ولكن (وحسب شهادة عديد الكفاءات التي مرّت بنهج الشّام وتعمل اليوم بمؤسسات دولية وإقليمية مرموقة) لم يحدث أن تمّ تزوير الأرقام أو التلاعب بها.

أستعيد في النهاية ما قاله أحد المفكّرين “يمكنك أن تراوغ رجال الشرطة لكنه من الصعب جدا مراوغة بداهة الإحصائيات”.

.

أكمل القراءة

جور نار

إنت وما جاب العود… عن مسلسلات رمضان

نشرت

في

أخبار مسلسلات رمضان 2024: مواعيد عرض مسلسل فلوجة 2 بطولة ريم الرياحي في  رمضان 2024 والقنوات الناقلة - المشهد

عبد القادر المقري:

لي شبه يقين أن مسلسلاتنا التونسية (تماما كسينمائنا) محظوظة حظا يكسر الحجر كما يقال … فهي أقرب ما تكون إلى تلاميذ ذات فترة من عمر وزارة التربية، وهي تجربة المقاربة بالكفايات … لا أحد يأخذ صفرا، لا أحد يسقط في امتحان، لا أحد يعيد عامه، ولا أحد يتم طرده لضعف النتائج …

عبد القادر المقري Makri Abdelkader
عبد القادر المقري

بل لا قياس أساسا لأي جهد … الكل ناجح، والكل ممتاز، والكل متفوق، والكل نابغة بني ذبيان … والدليل أننا عند نهاية مهرجان من مهرجاناتنا أو عرض فيلم من أفلامنا، لا تسمع سوى الشكر، ولا تقرأ سوى المدح، و لا ترى سوى الحمد على نعمة السينما والذين أدخلوها إلى تونس … تماما كما يحصل عقب كل رمضان مع أعمالنا الدرامية، إن وُجدت … فدائما عندك جوائز لأحسن عمل، وأفضل مخرج، وأبرع ممثل، و أقوى سيناريو، وأكبر وأجمل وأبهى وأمتع وأروع … يا دين الزكش، كما يقول صديقي سلامة حجازي … يعني كل بلاد العالم (بما فيها هوليوود وبوليوود وقاهرة وود ودمشق وود) تنجح فيها أعمال وتفشل أعمال، إلا عندنا فيبدو أننا الفرقة الناجية …

… أو فرقة ناجي عطا الله !

هذه السنة، أتاح لي زميل مسؤول بإحدى الإذاعات أن أتفرج على قسم كبير من مسلسلين تونسيين مرة واحدة… قلت أتاح لي بعد أن رجاني مشكورا أن أدلي برأيي في هذا وذاك، وأنا اليائس منذ أعوام من مستوى مسلسلاتنا خاصة حين جنح معظمها إلى تقليد عمل أعتبره كارثة فنية بكل المقاييس، وهو مسلسل “مكتوب” … وصار الكل يستنسخ منه استنساخ أهل الغناء والمسرح لعرضي النوبة والحضرة طوال الثلاثين سنة الأخيرة … وكيف لا يفعلون وهم وجدوا الوصفة السهلة التي لا تكلّف تعبا ولا وجع رأس … فمثلما بإمكانك أنجاز “عرض” فني لا نص فيه ولا فكرة مبتكرة بل تكديس جملة من أغاني التراث وإلصاق بعضها ببعض، بإمكان الواحد أن “يبيض” مسلسلا لا قصة فيه ولا حوار ولا سيناريو… فقط عندك ركام من عارضي وعارضات الأزياء، يقولون في ما بينهم كلاما من الحزام فما أدنى منه، ويعيشون في بذخ لا تحلم به أميرة خليجية، ويستبيحون القوانين أصغرها وأكبرها، ولا قيم توقفهم ولا منطق ولا نواميس مجتمع … عكعك وهي حالّة معك، كما يردد شباب هذه الأيام …

إذن أخذا بخاطر صديقي، تفرجت صاغرا في اثنين من أعمالنا المعروضة لرمضان هذا العام، قائلا لعل الأمور تحسنت عمّا تركتها، وربما ظلمت مبدعينا الفتيان وهم يفتحون البلدان ويغزون الفضاء في غفلة مني … وبما أن ذلك فاتني على المباشر، فقد لجأت إلى التساجيل التي تبث على الإنترنت، وأطوي الأرض طيا حتى أرى أكثر ما يمكن ولا أتسرع في الحكم على أحد … رأيت إذن جزءا كبيرا من مسلسل “فلوجة 2” على الحوار التونسي، وجزءا مماثلا من “رقوج 1” (بما أنهم يبرمجون لجزء ثان على ما سمعت) … وأعطيت رأيي في حدود ما شاهدت، وواصلت بعد ذلك باقي الحلقات حتى تكتمل الفكرة وأكون بدوري من المحتفلين ختاما بأفضل عمل وممثلين ومخرجين إلى آخر الليستة … وعلى حق …

نبدأ بفلّوجة … هو أولا استمرار لقصة السنة الماضية التي أثارت أكثر من ضجة لدى رجال التعليم ونسائه … والسبب أن احداث المسلسل تدور في وحوالي معهد ثانوي فيه كل شيء إلا الدراسة … مخدرات في قارعة الطريق، علاقات جنسية بوها كلب بين الجميع والجميع، ولادات خارج إطار الزواج وغير ذلك … والعجيب أن احتجاج المربين قابلته عاصفة تبريرية كانت دائما السند الرئيسي لسامي الفهري ومسلسلاته … من نوع: أليس هذا واقعنا؟ ألا تحدث يوميا مثل هذه الفضائح؟ هل ما زال عندنا تعليم؟ ألم يهبط مستوى مؤسساتنا التربوية منذ زمن؟ هل نغطي عين الشمس بالغربال؟ أما كفاكم نفاقا؟؟ … ويصل التبرير إلى ذروته بالتهجم على الأساتذة أنفسهم … “ماهي جرايركم” … “ما هو من جرة” انغماسكم في الدروس الخصوصية وإهمالكم لعملكم الأصلي … “ماهي نقاباتكم” وإضراباتكم ومطالبكم وزياداتكم المتلاحقة، وبسببها أفلست المعاهد وصارت بؤرا فاسدة، فيما هرب الجميع إلى التعليم الخاص… وغير ذلك وغير ذلك …

ولم يقل أحد من هؤلاء لسامي الفهري: وأنت، ما غايتك من الترويج لهذه المظاهر؟

وبقطع النظر عن صحة كل هذا في المطلق، والإحصائيات التي ما زالت لصالح التعليم العمومي في الباكالوريا وغيرها مهما حصل … فإن هذا التعميم يظلم كثيرا من أهل التعليم الأوفياء وجهدهم في إنجاح تلاميذهم وتمكينهم من مستوى جيد دون مقابل عدا مرتب شهري بعرق الجبين … كما يحط هذا التقييم الشمولي من قدر أبنائنا وبناتنا المربين والمربيات الأشراف وأغلبهم يتمسك بفضائلنا وأخلاقنا … فهل كل أساتذتنا متحرشون بتلميذاتهم كما في المسلسل، وهل كل أستاذاتنا ومديرات معاهدنا شغلهن الشاغل إقامة علاقات جنسية مع هذا التلميذ أو ذاك الرجل العابر؟ …

وحتى إن حصلت بعض حالات فماذا تمثل نسبتها؟ 1 بالمائة؟ اثنان؟ ثلاثة بالمائة ولا أعتقد ذلك وسط مئات آلاف من منظوري وزارة التربية … ومن يقول أكثر عليه بإجبار الوزارة على التحقيق العاجل ويكون معها فيه، ثم أين منظمات الأولياء والتربية والأسرة؟ لو كانت معاهدنا على شاكلة معهد سامي الفهري، فمن الأحرى غلق مؤسساتنا التعليمية وإحالة ميزانية الوزارة نحو قطاعات أكثر احتياجا كالشؤون الاجتماعية أو الثقافة أوالفلاحة والصيد البحري … بل ربما نضع كل ما نملك بين يدي الأمن والقضاء حتى يقضيا القضاء المبرم على الداء الذي استفحل ويهدد بنسفنا من الجذور …

فلوجة في جرئه الثاني لم يشذ عنه في الجزء الأول … لا بل هو يستمر في شذوذه الآخر … عن كل ما هو مجتمع وأعراف وقيم ولنقُلْ أيضا، مسؤولية … فالعمل الدرامي ليس مجرد نقل للواقع (هذا إذا كان واقعا) بل فيه طرح ورسالة وتأثير مباشر خاصة مع طغيان الصورة ووسائل الاتصال الحديثة … الفهري ومرؤوسته سوسن الجمني، يتملّحان طولا وعرضا بما يمكن أن ينتج في مجتمعنا من تغيير سلوكات جراء ما يعرضانه في كل مسلسل …

ـ يتبع ـ

أكمل القراءة

صن نار