تابعنا على

جور نار

ردّا على بعض الجامعيين والمثقفين التونسيين الأشاوس

نشرت

في

ذكّرني موقف بعض المثقفين التونسيين من الإقبال المكثف للقرّاء على كتب ياسمينة خضرا والطوابير الطويلة لتونسيين من كل الأعمار لملاقاته والتحدّث إليه والحصول على توقيع شخصي منه…ذكّرني سخطهم عليه ورميه بكل الألقاب المُشينة والمُقزّمة، بتعبير احتفظت به للمفكّر المصري الشهيد فرج فودة عندما قدِم إلى تونس في نهاية الثمانينات، قال في إحدى محاضراته “كان الشارع المصري مزهوّا بأغنية محمد عبد الوهاب “من غير ليه” التي يقول مطلعُها :

جايين الدنيا ما نعرف ليه ولا رايحين فين ولا عايزين ايه

مشاوير مرسومه لخطاوينا نمشيها في غربة ليالينا…

منصف الخميري Moncef Khemiri
منصف الخميري

لم يرُقْ للمتزمّتين ومروّجي الأناشيد الباكية الناحبة أن يفرح الشعب المصري بأغنية عذبة فيها سؤال فلسفي طرحته الإنسانية منذ الأزل، فكفّروا صاحبها ومؤلّفها (مرسي جميل عزيز) معتبرين أن كلماتها تُشكّك في إرادة الذات الإلهية العليا وأن الشك ليس أول مراتب اليقين كما يدّعون” ثم أنهى ملاحظته بالمزحة التالية : “من الأجدر بهؤلاء أن يسارعوا إلى تأسيس حزب النّكَدْ والكمَدْ”.

قرأتُ في الآونة الأخيرة تعاليق لأم زياد وآمنة الرميلي وسلوى الشرفي وعصام المرزوقي ورافع الطبيب وعدة أسماء أخرى تشترك في اعتبار أن أدب ياسمينة خضرا ليس فيه ما يبرّر كل الوله والافتتان به لدى قطاع واسع من التونسيين المهتمّين بالكِتاب.

على سبيل المثال، تقول الرميلي على صفحتها: “انا ما قريتش لياسمينة خضرا حتى حرف رغم ولعي المرضي بالقراءة… زعمة ناقصتني حاجة ؟ تجيبها نزيهة رجيبة: “أنا قريت شوية ونهنّيك… ما ناقصك شي”. أما سلوى الشرفي فترد عليها مُثنّية: “ربحت وقتك وأعصابك…”، وهذا السيد رافع الطبيب يقول هو الآخر : “قد يُصدم البعض، لكن المنتحل لتسمية “ياسمينة خضراء” لا يمثل قمة أدبية ولا استثناء عبقريا كما قدمه بعض “صحافيي” المشهد الإعلامي الرديء في تونس… هذا المؤلف من صناعة الآلة الإعلامية الفرنسية…” إلى نهاية معزوفة التنكيد والتغريد.

 صُدمت شخصيا بمثل هذه التعليقات الموغلة في السلبيّة لأنها لا فقط تعتدي على قامة أدبية وثقافية عالية بشهادة كل لغات العالم التي تُرجمت نحوها كتبها (أقول هذا في غير ترديد ساذج لما يقوله الناس وإنما بناءً على الانطباعات الشخصية التي حصلت لي بعد قراءة أغلب كُتبه) بل وتعتدي كذلك على عشرات الآلاف من القرّاء التونسيين الذين استعادوا علاقتهم بالكتاب والذين اقتلعهم ياسمينة خضرا اقتلاعا من أمام شاشات هواتفهم الكسولة.

أليس هذا مصدر فخر وفرح واطمئنان على أنه لدينا في تونس جمهور واسع جدا من القرّاء ؟ أليس هذا مصدر اعتزاز أن يكون لدينا أديب من أبناء جِلدتنا وأبناء حدودنا ولغتنا وثقافتنا يُجيد اللغة الفرنسية التي تعلّمها وأتقنها وسط مناخ من العرق والدموع ؟ وهل باستطاعة فرنسا –  التي يلقى في مؤسساتها وسياسييها معاداة واستهدافا أعتى من أي مكان آخر في العالم –  أن تصنع أدباء لديهم كل هذه القدرة على الإبداع والتخيّل وتطويع اللغة والثقة بالنفس والشغف والثقافة الموسوعية…هكذا بمجرد قرار إداري بغيض ؟ !

وكيف لإنسان يدّعي انه مثقف وله كتب ومؤلفات أن يجرؤ على الاعتراف بأنه لم يقرأ كتابا واحدا لياسمينة خضرا ورغم ذلك يسمح لنفسه بالتنمّر عليه والسعي إلى تحقير إنتاجه والتقليل من شأنه ؟ ألا يذكّركم هذا بالجملة الشهيرة التي قيلت في كتاب الطاهر الحداد “امرأتنا في الشريعة والمجتمع” (هذه دفعة على الحساب ريثما أقرأ الكتاب) ؟

سأحاول الإجابة عن كل هذه التساؤلات من خلال بعض العناصر التالية  :

المطالعة حصن حصين ضد التطرف والانغلاق

أن يُغرم الشباب بالقراءة، مهما كانت مشاربها، هو أمر محمود في حدّ ذاته ويجب التشجيع عليه وسنّ البرامج الوطنية للارتقاء به، لأن الجهل والأمية وتسطيح الوعي ونبذ الكتاب وغياب المسافة النقدية عن السائد سياسيا ودينيا ومجتمعيا هي البذور الممتازة والمنتقاة بعناية التي تزرعها الإيديولوجيات المنغلقة والعنيفة في المجتمعات التي تروم السيطرة عليها وتدجينها، وأن الإنسان لا يتحرر حقيقة إلا متى أفلت من قبضة المشعوذين والمتهوّلين والدجّالين والأدعياء بمختلف صنوفهم.

ياسمينة خضرا لم يسرق مجده ولم تصنعه الآلات الإعلامية المشبوهة كما يدّعون

هذا الرّوائي لمن لا يعرف أو لمن لا يريد أن يعرف وُلد من رحم الفقر والمعاناة وتربّى تحت السّياط العسكرية وهو ما يزال طفلا، سُرقت منه طفولته وكان مُقاوما (بمعنى résilient) شرسا لأنه عرف كيف يتغلّب على كل ما كان سيكسِرُهُ، أو في أحسن الأحوال كل ما كان سيُرديه ضابطا عسكريا يستثمر انخراط والده في المقاومة وبلوغه –  هو- أعلى الرّتب العسكرية ليتمعّش ويستكرش وينتعش ماديا. بالإضافة إلى ذلك، الكتابة عمل شاقّ ومُضنٍ وهو “من يتكبّد أرق الليالي ومَوْجات الصُّداع جرّاء التفكير وذُعر الأيام اللاحقة” كما يقول في إحدى تدويناته. فطبيعي جدا، في ظل هذا الشغف الذي يسكنه والذي يجعله يكتب ويفسخ ويُعدّل ويحسّن ويدبّج ويصوّب ويشكّ وتخذله الكلمات… يوميا من الساعة العاشرة صباحا إلى ساعات متأخرة من الليل، أن يجد طريقه إلى التميّز والتألق وترويض ملاك الإبداع الذي حطّ به في أركان الكوكب الأربعة.

اللغة الفرنسية هي لغة إنسانية لا تلينُ لكل من هبّ ودبّ

قرأت لأحدهم يقول “لست أدري ما اللافت في أدب ياسمينة خضرا …الإعلام يُلمّع صورته … وهو فرنكوفوني ) ! هو لا يدري ما اللافت…؟ هذا الحكم يفترض أن صاحبنا هذا اطلع على نصف كتب ياسمينة خضرا على الأقل فلم يجد ما هو لافت حقا في مؤلفاته والحال أنه لم يقرأ ولو كتابا واحدا لهذا الروائي. ويستشهد هؤلاء بالروائي الجزائري الآخر واسيني الأعرج المختص في اللغة الفرنسية “لكنه تخلى عنها وأصبح أديبا يكتب باللغة العربية” !  فاللغة هنا أضحت هدفا في حدّ ذاتها وكأن الأثر الأدبي والفني يُقيّم من خلال الرموز التي يُكتب بها لا من خلال جودته وعمق المشاعر التي تؤثّثه ومعانقة أنبل المعاني التي يدافع عنها. وإذا سحبنا هذا المنطق الأقرب إلى “اللّغو” على الرسم والموسيقى والنحت والصورة الفوتوغرافية … هل يكون للألوان عنوان انتماء عِرقي غير تناسقها وعمق الأحاسيس المنبثقة منها ؟ وهل يكون للنوتة الموسيقية هوية غير قدرتها على هزّ مشاعر الناس ؟ وهل يمكن للصورة أن تدّعي انتسابا غير ما تعكسه من نَقْل مرهف للواقع أو صدق نظرات …أو ما تُوثّقه من لحظات فارقة في التاريخ ؟

ياسمينة خضرا في كلمة واحدة: عرف كيف يركب جواد اللغة الفرنسية وغزا بواسطتها العالم كأديب جزائري عربي لحما ودما وقلبا وفؤادا ومُهجة ومبادئ. واللغة –  مهما كانت- لا تُذعن إلا لمن يُجلّها ويدلّلها ويُلاعبها ويبني مع مفرداتها علاقة مؤسّسة على حسن المعاشرة وعمق الإصغاء.

الباكالوريا التونسية أسهمت في انتشار ياسمينة خضرا

إن برمجة نصوص لياسمينة خضرا في مناسبتين أو ثلاث ضمن امتحان الباكالوريا التونسية (ويصحّ الأمر كذلك مع الكاتب اللبناني أمين معلوف) جعل عددا كبيرا من التلاميذ والأساتذة يطّلعون على قيمة هذا الأثر الانساني ومستلذّات اللغة التي كُتب فيها. وأثير هذه المسألة لأن لجان اختيار مواضيع الباكالوريا ومراجعتها وتثبيتها تُدرك جيدا تبِعات أي اختيار غير مدروس كأن يكون صاحب النص له ميولات عنصرية أو يكون ما يروّج له يتعارض مع القيم الانسانية عموما. وتكفيني شخصيا هذه الضمانة لأقول ان ياسمينة خضرا فوق الشبهات الزائفة وأرفع من المهاترات والمعارك التي تمتنع بجُبن عن قول حقيقة محرّكاتها.

أقول في النهاية أنني أخشى من أن هؤلاء “المُنكّدين” كما قال فرج فودة لا يزعجهم في الواقع مستوى أدب ياسمينة خضرا، بل يزعجهم نجاحه وعالميّته ووصوله إلى قلوب الملايين عبر كل أنحاء العالم. كما أخشى أن يكون وراء اعتراضهم هذا حقيقة أن الكتب التي ألّفوها لا تتجاوز مبيعاتها بعض العشرات من النسخ… وهو وضع لا يتحمّل فيه كاتبنا أية مسؤولية.

قال خضرا مؤخرا وهو يغادر بلادنا “في تونس، التقيتُ بأساتذة مُخلصين وتلاميذ وطلبة يُعلنون بعدُ ملامح تونس العظيمة التي سيُشرق فجرها غدا” (بتصرف).

أكمل القراءة
انقر للتعليق

اترك تعليقا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

جور نار

“زيدها شويّة”… أو كيف نُواجه سعير الأرقام في تونس

(من خلال أمثلة حيّة)

نشرت

في

ذكّرني التغيير الذي حصل مؤخّرا على رأس المعهد الوطني للإحصاء (احتمالا على خلفية دكتاتورية الأرقام التي لا تُجامل ولا تُعادي) بجملة من الأحداث والوقائع التي عشتُها شخصيا في أكثر من موقع والمُثبِّتة لعقليةٍ تشكّلت في بلادنا منذ العهود السابقة.

منصف الخميري Moncef Khemiri
منصف الخميري

 مفادُ هذه العقلية  كسْر المحرار إذا باح بنتائج لا تتطابق مع انتظارات المسؤول السياسي، والهروب بصناديق الاقتراع عندما كان يتوقع طلبة التجمع الحاكم عدم الفوز  في انتخابات المجالس العلمية كما كان يحصل في الجامعة التونسية… وعقلية “زيدها شوية” هذه نجد لها أثرا أيضا في نسيج العلاقات الأسرية وفي تعاطي عموم الناس مع الظواهر المختلفة وتفاصيل حياتهم اليومية، لأن الترقيع في ثقافتنا أعلى صوتا دائما من المعالجة الجذرية لمصادر أوجاعنا، وآليات والتسكين والتخفيف والتليين والتقليل والتمسكين منوالٌ قائم بذاته في رُبوعنا.

فعلى سبيل المثال عندما يُنتهك حقّ البنت في الميراث، لا يُجمِعُ أغلب الناس على إرجاع الحق إلى أصحابه بل يجنحون إلى المحافظة على الوضع القائم مع إضافة جملة ترقيعية  “زيدها شوية ووخيّان كيف آمس كيف اليوم” … وعندما تعوجّ حيطان البنّائين المُبتدئين تجد دائما من يحاول التنسيب بشكل ماكر “ثمة شوية عوَج صحيح آما توة باللّيقة تتسوى” … وعندما يعجز بعض الأطباء عن تشخيص مرض ما بدقّة، يسقطون في ما يُشبه تقليعات التنمية البشرية  “والله ما عندك شيْ، المشكل الكل في راسك، عندك برشة هلواس. آقف قدام المراية وصيح مانيش مريض توة ترتاح”…

المثال الأول : نسب النجاح في السنة الأولى بكلية العلوم

في بداية الألفية الجديدة، طلب المسؤول الأول عن مكتب الدراسات والتخطيط والبرمجة التابع للديوان بوزارة التعليم العالي، من رئيس مصلحة متابعة النتائج الجامعية (السيد ت.ع وهو من روى لي تفاصيل الحادثة) مدّه بنتائج آخر السنة الجامعية بالنسبة إلى كلية العلوم بتونس، فلمّا لاحظ أن نسبة النجاح العامة (في كل الاختصاصات مجتمعة) تراجعت خلال ذلك العام من 33 إلى 27 % أشعل سيجارة وسحب منها نفسا عميقا كمن يبحث عمّا يُساعده على ابتلاع نسبة التراجع التي سيُسأل عنها أمام وزيره آنذاك…ثم قال له في شبه توسّل “لا شويّة بالكل سامحني سي فلان، من رايي تزيدها شوية”.

المثال الثاني : في نفس الوزارة

في 2007، عندما انطلق تطبيق منظومة إمد على مراحل وكانت شهادة الأستاذية ماتزال قائمة جزئيا ريثما تحلّ محلّها شهادة الإجازة، طلب الوزير من المدير العام للشؤون الطالبية مدّه بإحصائيات حول مدى إقبال التلاميذ الناجحين الجدد في الباكالوريا على الإجازات الجديدة مقارنة بإقبالهم على الأستاذيات. ولمّا كانت النتائج الأوّلية مؤكدة لتوجّه الناجحين في الباكالوريا أغلبيّا نحو اختيار شهادة الأستاذية بدلا من الإجازة الجديدة، وبالتالي مُخيّبة لآمال من كان يتوقّع أن “إصلاح إمد” سيُعطي أُكله مباشرة بعد الشروع في إنفاذه بما يبرّر وجاهة الاختيار وسلامته، تمّ التشكيك في سلامة الأرقام فأعيد الاحتساب من جديد لتستقر نتائجه على نفس ما عبّر عنه المسح الأوّل، فلم تبق لديهم أية ذريعة سوى تسجيل ذلك على حساب ضعف الإعلام وجهل الأغلبية الساحقة من الأولياء بمزايا النظام الجديد… “وعلى أية حال توة نزيدوها شوية نسبة الإقبال على الإجازات في التدخلات الإعلامية دون تقديم أرقام دقيقة حول المسألة” … كانت هذه هي الفتوى التي أوجدوها للخروج من المأزق.

المثال الثالث : مشاركة التلاميذ التونسيين في تقييم “بيزا”  الدولي

كانت تونس من أولى الدول العربية التي تشارك في البرنامج الدولي لتقييم الطلاب “بيزا”، وذلك منذ سنة 2003، وهو تقييم دولي لقيس قدرة الطلاب في سن 15 عامًا (أي نهاية السنة التاسعة أساسي لدينا) على استخدام معارفهم ومهاراتهم في القراءة والرياضيات والعلوم لمواجهة تحديات الحياة الواقعية كل 3 سنوات. سنة 2015 احتلت تونس المرتبة 65 على 70 دولة مشاركة في الاختبارات (رتبة تقاسمتها تونس مع لبنان ضمن هذا التقييم الذي شمل عيّنة من 540 ألف تلميذ من مختلف أنحاء العالم).

وبدلا من مُواجهة الأسباب العميقة التي أدّت إلى تصنيف تلاميذنا التونسيين في ذيل الترتيب العالمي وهو مؤشر تُنكّس له الأعلام الوطنية لأنه يعكس وضع الوهن الموجع الذي باتت عليه منظومتنا التربوية، اختارت دولتنا أن تُقاطع هذه المحطة التقييمية الكونية مُفرغةً المحرار من زئبقه وضخّه ضمن خطابها الرسمي القائل بأن المؤشرات التي ينبني عليها التقييم صُنعت على مقاس التلميذ الأوروبي والسنغافوري والياباني وليس على مقاس التلميذ التونسي الذي يدرس ضمن بيئة خصوصية ووفق برامج ومناهج خصوصية !

المثال الرابع : 0.4 نسبة نموّ ليست من شِيمنا

دوّن المؤرّخ الجامعي نورالدين الدڨي على صفحته الرسمية يوم 23 مارس ما يلي :

“المعلوم أن المعهد الوطني للإحصاء لا يستنبط الأرقام؛ وليس مطلوبا منه تزويقها؛ فمهمته حسب نصوصه الـتأسيسية : “جمع المعلومات الإحصائية الخاصة بالبلاد و معالجتها و تحليلها و نشرها بالتنسيق مع الهياكل العمومية الأخرى”، وما نشره المعهد مؤخرا عن نسبة النمو الاقتصادي بتونس لسنة 2023 التي حددها ب 4 .0 بالمائة، وعن نسب البطالة : 4 .16 بالمائة، هو انعكاس أمين لقدرات الجهاز الإنتاجي الوطني…”

لكن وكما أسلفنا بالنسبة إلى الأمثلة السابقة، بدلا من مُعالجةٍ رصينة ومتأنية للأسباب الحقيقية والعميقة التي أدّت إلى هذه النتائج الموضوعية، تمّ اللجوء إلى إجراء تحوير على رأس هذه المؤسسة الوطنية ذات الطابع التقني والخِبري الصرف التي ظلّت علاقتها بصاحب القرار السياسي على مرّ السنوات منذ تأسيسها سنة 1969 مُتأرجحة بين نشر الأرقام كما هي أو في أسوإ الأحوال التعتيم عليها وعدم الإدلاء بها قصد التداول العام ولكن (وحسب شهادة عديد الكفاءات التي مرّت بنهج الشّام وتعمل اليوم بمؤسسات دولية وإقليمية مرموقة) لم يحدث أن تمّ تزوير الأرقام أو التلاعب بها.

أستعيد في النهاية ما قاله أحد المفكّرين “يمكنك أن تراوغ رجال الشرطة لكنه من الصعب جدا مراوغة بداهة الإحصائيات”.

.

أكمل القراءة

جور نار

إنت وما جاب العود… عن مسلسلات رمضان

نشرت

في

أخبار مسلسلات رمضان 2024: مواعيد عرض مسلسل فلوجة 2 بطولة ريم الرياحي في  رمضان 2024 والقنوات الناقلة - المشهد

عبد القادر المقري:

لي شبه يقين أن مسلسلاتنا التونسية (تماما كسينمائنا) محظوظة حظا يكسر الحجر كما يقال … فهي أقرب ما تكون إلى تلاميذ ذات فترة من عمر وزارة التربية، وهي تجربة المقاربة بالكفايات … لا أحد يأخذ صفرا، لا أحد يسقط في امتحان، لا أحد يعيد عامه، ولا أحد يتم طرده لضعف النتائج …

عبد القادر المقري Makri Abdelkader
عبد القادر المقري

بل لا قياس أساسا لأي جهد … الكل ناجح، والكل ممتاز، والكل متفوق، والكل نابغة بني ذبيان … والدليل أننا عند نهاية مهرجان من مهرجاناتنا أو عرض فيلم من أفلامنا، لا تسمع سوى الشكر، ولا تقرأ سوى المدح، و لا ترى سوى الحمد على نعمة السينما والذين أدخلوها إلى تونس … تماما كما يحصل عقب كل رمضان مع أعمالنا الدرامية، إن وُجدت … فدائما عندك جوائز لأحسن عمل، وأفضل مخرج، وأبرع ممثل، و أقوى سيناريو، وأكبر وأجمل وأبهى وأمتع وأروع … يا دين الزكش، كما يقول صديقي سلامة حجازي … يعني كل بلاد العالم (بما فيها هوليوود وبوليوود وقاهرة وود ودمشق وود) تنجح فيها أعمال وتفشل أعمال، إلا عندنا فيبدو أننا الفرقة الناجية …

… أو فرقة ناجي عطا الله !

هذه السنة، أتاح لي زميل مسؤول بإحدى الإذاعات أن أتفرج على قسم كبير من مسلسلين تونسيين مرة واحدة… قلت أتاح لي بعد أن رجاني مشكورا أن أدلي برأيي في هذا وذاك، وأنا اليائس منذ أعوام من مستوى مسلسلاتنا خاصة حين جنح معظمها إلى تقليد عمل أعتبره كارثة فنية بكل المقاييس، وهو مسلسل “مكتوب” … وصار الكل يستنسخ منه استنساخ أهل الغناء والمسرح لعرضي النوبة والحضرة طوال الثلاثين سنة الأخيرة … وكيف لا يفعلون وهم وجدوا الوصفة السهلة التي لا تكلّف تعبا ولا وجع رأس … فمثلما بإمكانك أنجاز “عرض” فني لا نص فيه ولا فكرة مبتكرة بل تكديس جملة من أغاني التراث وإلصاق بعضها ببعض، بإمكان الواحد أن “يبيض” مسلسلا لا قصة فيه ولا حوار ولا سيناريو… فقط عندك ركام من عارضي وعارضات الأزياء، يقولون في ما بينهم كلاما من الحزام فما أدنى منه، ويعيشون في بذخ لا تحلم به أميرة خليجية، ويستبيحون القوانين أصغرها وأكبرها، ولا قيم توقفهم ولا منطق ولا نواميس مجتمع … عكعك وهي حالّة معك، كما يردد شباب هذه الأيام …

إذن أخذا بخاطر صديقي، تفرجت صاغرا في اثنين من أعمالنا المعروضة لرمضان هذا العام، قائلا لعل الأمور تحسنت عمّا تركتها، وربما ظلمت مبدعينا الفتيان وهم يفتحون البلدان ويغزون الفضاء في غفلة مني … وبما أن ذلك فاتني على المباشر، فقد لجأت إلى التساجيل التي تبث على الإنترنت، وأطوي الأرض طيا حتى أرى أكثر ما يمكن ولا أتسرع في الحكم على أحد … رأيت إذن جزءا كبيرا من مسلسل “فلوجة 2” على الحوار التونسي، وجزءا مماثلا من “رقوج 1” (بما أنهم يبرمجون لجزء ثان على ما سمعت) … وأعطيت رأيي في حدود ما شاهدت، وواصلت بعد ذلك باقي الحلقات حتى تكتمل الفكرة وأكون بدوري من المحتفلين ختاما بأفضل عمل وممثلين ومخرجين إلى آخر الليستة … وعلى حق …

نبدأ بفلّوجة … هو أولا استمرار لقصة السنة الماضية التي أثارت أكثر من ضجة لدى رجال التعليم ونسائه … والسبب أن احداث المسلسل تدور في وحوالي معهد ثانوي فيه كل شيء إلا الدراسة … مخدرات في قارعة الطريق، علاقات جنسية بوها كلب بين الجميع والجميع، ولادات خارج إطار الزواج وغير ذلك … والعجيب أن احتجاج المربين قابلته عاصفة تبريرية كانت دائما السند الرئيسي لسامي الفهري ومسلسلاته … من نوع: أليس هذا واقعنا؟ ألا تحدث يوميا مثل هذه الفضائح؟ هل ما زال عندنا تعليم؟ ألم يهبط مستوى مؤسساتنا التربوية منذ زمن؟ هل نغطي عين الشمس بالغربال؟ أما كفاكم نفاقا؟؟ … ويصل التبرير إلى ذروته بالتهجم على الأساتذة أنفسهم … “ماهي جرايركم” … “ما هو من جرة” انغماسكم في الدروس الخصوصية وإهمالكم لعملكم الأصلي … “ماهي نقاباتكم” وإضراباتكم ومطالبكم وزياداتكم المتلاحقة، وبسببها أفلست المعاهد وصارت بؤرا فاسدة، فيما هرب الجميع إلى التعليم الخاص… وغير ذلك وغير ذلك …

ولم يقل أحد من هؤلاء لسامي الفهري: وأنت، ما غايتك من الترويج لهذه المظاهر؟

وبقطع النظر عن صحة كل هذا في المطلق، والإحصائيات التي ما زالت لصالح التعليم العمومي في الباكالوريا وغيرها مهما حصل … فإن هذا التعميم يظلم كثيرا من أهل التعليم الأوفياء وجهدهم في إنجاح تلاميذهم وتمكينهم من مستوى جيد دون مقابل عدا مرتب شهري بعرق الجبين … كما يحط هذا التقييم الشمولي من قدر أبنائنا وبناتنا المربين والمربيات الأشراف وأغلبهم يتمسك بفضائلنا وأخلاقنا … فهل كل أساتذتنا متحرشون بتلميذاتهم كما في المسلسل، وهل كل أستاذاتنا ومديرات معاهدنا شغلهن الشاغل إقامة علاقات جنسية مع هذا التلميذ أو ذاك الرجل العابر؟ …

وحتى إن حصلت بعض حالات فماذا تمثل نسبتها؟ 1 بالمائة؟ اثنان؟ ثلاثة بالمائة ولا أعتقد ذلك وسط مئات آلاف من منظوري وزارة التربية … ومن يقول أكثر عليه بإجبار الوزارة على التحقيق العاجل ويكون معها فيه، ثم أين منظمات الأولياء والتربية والأسرة؟ لو كانت معاهدنا على شاكلة معهد سامي الفهري، فمن الأحرى غلق مؤسساتنا التعليمية وإحالة ميزانية الوزارة نحو قطاعات أكثر احتياجا كالشؤون الاجتماعية أو الثقافة أوالفلاحة والصيد البحري … بل ربما نضع كل ما نملك بين يدي الأمن والقضاء حتى يقضيا القضاء المبرم على الداء الذي استفحل ويهدد بنسفنا من الجذور …

فلوجة في جرئه الثاني لم يشذ عنه في الجزء الأول … لا بل هو يستمر في شذوذه الآخر … عن كل ما هو مجتمع وأعراف وقيم ولنقُلْ أيضا، مسؤولية … فالعمل الدرامي ليس مجرد نقل للواقع (هذا إذا كان واقعا) بل فيه طرح ورسالة وتأثير مباشر خاصة مع طغيان الصورة ووسائل الاتصال الحديثة … الفهري ومرؤوسته سوسن الجمني، يتملّحان طولا وعرضا بما يمكن أن ينتج في مجتمعنا من تغيير سلوكات جراء ما يعرضانه في كل مسلسل …

ـ يتبع ـ

أكمل القراءة

جور نار

هل ستقع المواجهة بين إيران والكيان الصهيوني؟

نشرت

في

الرابطة الدولية للخبراء والمحللين السياسيين - هل تملك اسرائيل ان توجه  ضربتها الى إيران؟

لم تكن التهديدات من هذا الطرف او ذاك توحي بخطر شن حرب بين إيران و اسرائيل، ذلك ان طهران كانت عمليا تتفادى مواجهة مباشرة مع اسرائيل المدعومة من الولايات المتحدة وتعي بان الكيان اللقيط لا يعدو أن يكون إحدى ثكنات القوة الأعظم.

محمد الزمزاري Mohamed Zemzari
محمد الزمزاري

و لم يتهور الايرانيون المعروف عنهم العمل بصمت و عقلانية و تقبل بعض الخسائر المفترضة و المنتظرة مقابل تنويع مواطىء اقدامهم و تركيز مواقع قد تخدمهم لاحقا دون أي تسرع عاطفي ممثل في رد فعل غير محسوب الهدف او النتائج … لقد دفعت إيران قرابين كثيرة منذ التسعينات ضحايا لاغتيالات الموساد و المخابرات الأمريكية المتعاونة من تفجير مراكز نووية إلى اغتيال علماء او قيادات عسكرية هامة و الظاهر ان الإيرانيين يرسمون أهدافهم الاستراتيجية على المدى الطويل والتي يعتبرونها اهم بكثير من صراعهم مع الكيان الصهيوني… وقد نجحت لحد الان السياسة الإيرانية في تركيز اذرع في عدد من البلدان العربية ذات مكانة استراتيجية هامة مثل سوريا و العراق ولبنان و اليمن، وهي ساعية اليوم لغرس امتداد لها بالأردن، كما عمدت خلال هذه الأسابيع إلى دعم حكومة السودان ومدها بالطائرات المسيرة التي قلبت موازين المعارك ضد قوى الدعم السريع.

لكن الحدث الذي جد اخيرا و الذي تمثل في ضرب الصهاينة للقنصلية الإيرانية بسوريا والقضاء على واحد من اكبر القيادات الحربية و التنسيقية قد يؤجج ما كان كامنا بين الكيان وطهران. فإسرائيل ترغب منذ سنوات في توريط حلفائها الأمريكان في حرب ضد إيران وقد تراءت لنتنياهو فرصة سانحة للدفع نحو هذه الحرب المرغوب فيها اولا و لتمديد بقائه في الحكم و إتمام خططه النازية من تهجير و مجازر و تدمير لغزة و لاحقا للضفة الغربية، وهنا لم يبق لإيران بد من رد فعل قوي لحفظ ماء الوجه و تأديب الكيان الذي تجاوز الخطوط الحمراء و ضرب القنصلية الإيرانية التي تمثل سيادتها و صورة قوتها أمام الجميع وخاصة لدى اذرعها وأنصارها في المنطقة.

ومنذ ساعات أعلنت المخابرات الروسية عن تحديد ضربات او حرب خاطفة ممكنة الوقوع قريبا جدا و دعت مواطنيها لملازمة الحذر بالشرق الأوسط وخاصة بالكيان الصهيوني و منذ اكثر من ساعة دعت الولايات المتحدة مواطنيها في الأرض المحتلة وتل أبيب خاصة الى نفس الحذر. اذن فالوضع قابل جدا لوقوع حدث هام مدمر ليس باسرائيل فقط لكن أيضا بايران اعتمادا على ان الكيان الصهيوني يرغب فعليا في خلق مواجهة مع ظهران ستقودها الولايات المتحدة دون شك.

هل ستصدر الضربة الإيرانية انطلاقا من قاعدة احد اذرعها؟ هل سيكون الهدف محطة ديمونة النووية او ايلات او تل ابيب؟ اظن ان ضرب تل أبيب مستبعد مما يبعث على الظن بان الهدف المحتمل هو: إما إحدى السفارات الاسرائيلية في بلد خليجي او قصف إحدى المدن او المطارات الكبرى بالكيان الصهيوني. فيما يبدو أن الولايات المتحدة لا ترغب حاليا في خلق بؤرة حرب جديدة مكلفة قبل انتخابات نوفمبر القادم و لن تصل اية ضربة مهما كانت صدمتها إلى دفع بايدن إلى رد فعل ضد إيران …

أكمل القراءة

صن نار