تابعنا على

جلـ ... منار

رفقا بالطفولة

نشرت

في

كانت أقسى لحظات طفولتي المبكرة يوم تقودني أمي قسرا إلى صالون الحلاق.

كم تمرغت عند قدميها أتوسل إليها أن تعفيني من تلك الرحلة دون جدوى، فالسيدة والدتي جنرال عسكري وأمره بين الكاف النون! كان الحلاق خالها، و يبدو أن فرق التسعيرة بين حلاق الرجال وحلاق النساء كان سبب اصرار أمي على جري إلى محل خالها.

وفاء سلطان

أتفهم اليوم موقفها لكنني لا أستطيع أن أقبله، وخصوصا بعد أن اكتسبت قناعة مطلقة من أن طفل اليوم هو إنسان المستقبل بكل نجاحاته واخفاقاته، وبأننا كآباء مسؤولون دوما عن المستقبل!كنت أكره خال أمي لأنه كان يضع كرسي الحلاقة على قارعة الرصيف، ويرش في النهاية على رأسي عطرا يقلب معدتيكنت أخشى أن يراني طلاب الصف وأنا أمتطي كرسي حلاقة للرجال، وكنت أخشى أن يشم أحد عطري فيتقيأ!

………

طال شعر حفيدتي جازي إلى حد غير مقبول، وكنت على علم من أن المفاوضات السرية والعلنية تجري على قدم وساق يوميا بين والديها وبينها، في محاولة شاقة لإقناعها بقص بضع سنتميترات من شعرها.من يصغي إلى طريقة المفاوضات يظن أن جازي سيدة الموقف بلا منازع، لكن بالنسبة لوالديها كانت الطريقة المثلى لإقناعها بضرورة القيام بعمل لا تحبه، دون أن تُجبر قسرا عليه!الوالدان يعيان أن هناك شعرة واهية بين أن تحتفظ بسلطة الابوة ـ التي هي حكما ضرورية ـ وبين أن تسيء إلى كيان الطفل، وحاولا جاهدين عدم قطع تلك الشعرة!

…….

كتبت لي ابنتي اليوم تقول: Today is a big day، اليوم يوم هام في حياتنا.استغربت العبارة، وقلت: عسى خيرا!!! حتى وصلتني مجموعة صور تشرح معنى العبارة، وكانت بمثابة البيان الختامي للمفاوضات التي بدأت منذ أكثر من شهر !

……

يقول فرويد: لا تستطيع أن تفهم أي واقع مالم تقرأه على ضوء علم النفس!

عندما احاول أن أفهم هذا الصراع الدموي الدائر، لا أراه ـ كما يراه البعض ـ صراعا بين ظالم ومظلوم، بل أراه صراعا بين مظلوم ومظلوم آخر.هذا القتل العشوائي هو في مجمله انتقام لطفولات مسروقة، ولأحلام موؤدة، ولرغبات مقموعة، ولكيانات نفسية محطمة ولآمال خائبة….الظالم كان يوما مظلوما، وظلم المظلوم هو الأظلم !

………

اليوم ـ وخصوصا بعد التطورات الأخيرة على صعيد العلاقات بين دول الخليج، وما صدر عن السعودية من بيانات مذهلة بشأن الإرهاب ـ اليوم لا أحد يعرف مَن ضد من، ومَن مع مَن!

هذا الخبط العشوائي هو تجسيد لحقيقة شعوب لم تتبلور الرؤية عند إنسانها يوما، بل ظلت خليطا لأفكار متصارعة متضاربة لم ترق إلى مستوى عقلاني!في خضم هذا الصراع العشوائي تذكرت عبارة لرئيس أمريكي سابق، أعتقد جيفرسون ولست متأكدة، يقول فيها:

If you want to conquer them confuse them first،

بمعنى: إذا أردت أن تهزمهم خربطهم ـ حيرهم وبلبلهم فكريا ـ أولا!

هل يمكن أن يصل شعب إلى بلبلة فكرية أسوأ مما نحن عليه اليوم؟

…….

باختصار: لا تستطيع أن تبلبل شعبا إلا إذا كان انسانه قد قُتل نفسيا في مهده!

فارحموا اطفالكم!

أكمل القراءة
انقر للتعليق

اترك تعليقا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

جلـ ... منار

تضميد جرح غائر

نشرت

في

Peut être une image de 1 personne

قصة أخرى تتحدث عن الجرائم التربوية التي يقترفها الآباء بحق أبنائهم، أعيد نشرها باعتبارها في رحاب عيد الأم!

وفاء سلطان
وفاء سلطان

حدث ذلك منذ حوالي سبعة عشر عاما…

جاءتني رسالة من صديقة في سوريا ترجوني أن أساعد شابة سورية وصلت لتوها إلى أمريكا وتعيش وضعا مأساويا.استقبلت صفاء في مطار لوس أنجلوس قادمة من ولاية أخرى، وعاشت في بيتي قرابة ثلاثة اشهر. كانت في بداية الثلاثين من عمرها، لطيفة ولكنها صامتة، وأنا بطبعي عندما أشعر بان شخصا يملك منطقة محظورة في حياته، أتراجع وأحتفظ بأسئلتي. أقدر خصوصيات الناس ولا أطرح سؤالا واحدا اعرف أنه قد يُحرج صاحبه. لذلك، عاشت صفاء في بيتي كل هذه الفترة دون أن أعرف عنها شيئا، سوى أنها هربت من زوج ظالم وانتهى بها المطاف في أمريكا.

……….

أحد الأيام كنا على مقربة من الأعياد، لاحظت صفاء أنني أتحدث بخشونة مع شخص على الهاتف، ولما سألتني: ما القضية؟ قلت: رجل مختص بتنظيف النوافذ والثريات، كان قد وعدني بأن يأتي اليوم وأخلف! ثم تابعتُ باحباط: لم يعد بامكاني انجاز هذه المهمة قبل الأعياد!!

……….

كان سقف المدخل إلى البيت كاتدرائيا عاليا تتوسطه ثريا كبيرة علاها الغبار، وكانت تحيط بالمدخل بعض النوافذ التي نطلق عليها في أمريكا ٍٍSky widowsلأنها عالية وقريبة من السقف. لما رأت صفاء علامات الاحباط على وجهي، قالت: لقد رأيت سلما عاليا في الكاراج، دعيني أجرب أن أنظفها بنفسي! فرمقتها بنظرة حادة، وقلت: هل أنت مجنونة، طبعا لا… هل تخاطرين بحياتك من أجل تنظيف ثريا؟؟ هذا الرجل مختص ويملك سلالم خاصة ويربط نفسه بعدة احزمة عندما يتسلقها.

……….

ذات يوم تركت صفاء في البيت وخرجت لمدة حوالي ساعتين، ولما عدت فتحت الباب لأراها “متعمشقة” في أعلى السقف، وتحاول أن تهبط باتجاه الأرض. صرخت بأعلى صوتي، ورحت أرتجف: ماذا تفعلين أيتها المجنونة؟؟!

فابتسمت وهي تتدلى نحو الاسفل وقالت: انظري لقد نظفتها على أحسن وجه!

لم اتوقف عن الصراخ لمدة ساعة، وانا أهز راسي مستنكرة بين الحين والآخر، وأقول:كيف تخاطرين بحياتك من أجل مهمة تافهة كهذه؟ ماذا لو وقعت؟ ماذا لو انكسرتِ؟ ماذا لو ارتطم رأسك بالأرض؟

كنت أصرخ بغضب لا مثيل له، بينما هي تبتسم وتبدو مزهوة وكأنها قائد ربح لتوه حربا ضروسا!

……….

تعرفت صفاء على اسرة عربية في بيت أحد صديقاتي، كانت الاسرة تزور صديقتي قادمة من ولاية ميشيغان.اُعجب الزوجان بشخصية صفاء اللطيفة، وسُعدا عندما عرفا أنها كانت معلمة في سوريا. أقناعاها بان تسافر معهما، فهما يملكان حضانة للأطفال ووعداها بأن يدفعا لها راتبا جيدا، وفي حال لم يعجبها الوضع سيشتريان لها بطاقة طائرة كي تعود إلى كاليفورنيا، فغادرت معهما.

بقينا على تواصل لعدة سنوات، وكنت اسمع بين الحين والآخر أن وضعها يتحسن وهي تنتقل من نجاح إلى آخر، وكانت أخبار نجاحاتها تسعدني جدا.لسبب ما، انقطع التواصل بيننا، ولم أعد اسمع سوى بعض الاخبار كان آخرها أنها تملك وظيفة عالية جدا في إحدى الشركات، واشترت بيتا وتنفق على اهلها في سوريا

……….

بعد قرابة سبعة عشر عاما، وحديثا، اضطررت إلى زيارة خاطفة إلى ولاية ميشيغان، مدتها يوم واحد.

عندما انتهيت من اشغالي عدت إلى الفندق، فرايت رسالة على الفيسبوك:(مرحبا وفاء…أنا صفاء…كيف تزورين ميشيغان ولا تسألين عني؟ من الضروري جدا جدا أن أراك؟ أياك ان تتركي ميشيغان قبل أن نتقابل)

استغربت الرسالة جدا، فكتبت أقول: من صفاء؟ وكيف عرفت أنني في ميشيغان؟!!

كتبت: (نسيتِ صفاء؟؟؟ السعدان الذي تعمشق على السلم في بيتك، ثم مسحتِ الأرض به…هههههه فلان أخبرني أنك هنا. أرجوك أتوسل إليك أن نلتقي قبل أن تسافري)

قلت: صفااااااااء، كيفك يا صفاء؟ هل تريدين أن نلتقي كي تردي لي الصاع صاعين؟!!!

ضحكت صفاء واتفقنا أن نلتقي على مائدة الفطور في الفندق قبل أن أتوجه إلى المطار

……….

كان لقاء من أجمل اللقاءات التي صادفتها في حياتي… عانقتني صفاء وبكت حتى ارتوت.لم اكن أعرف أنني تركت في حياتها ذلك الأثر الذي إبكاها إلى هذا الحد، وراحت تروي قصتها:

(عندما دخلت بيتك كنت جسدا بلا روح، بل كنت شبحا لا يبغى من الحياة سوى أن يختفي.ولدتُ لوالديّ بعد أن تقدم بهما العمر…كنت البنت الخامسة، وكان أبي يحلم أن أكون ذكرا، فقتلتُ بمجيئي إلى الدنيا حلمه وحلم أمي. لذلك لم يرحبا بقدومي واعتبرا وجودي عبئا ثقيلا.

بدأت مأساتي منذ أن بدأت أعي الحياة، كلما التقى بي أبي في إحدى زوايا البيت يركلني برجله وكأنني كلب أجرب.لم تكن أمي أو أي من أخواتي الأربعة اقل لؤما.

مرة ـ ياوفاء ـ كنا نتناول طعام الغداء في بيت خالتي في قريتها، وقررنا نحن الأطفال أن نلعب في الخارج، فقالت خالتي: لاتبتعدوا، الدنيا حر، وأخشى عليكم من الأفاعي فهي كثيرة في الأحراش المحيطة بنا! فردّ أبي: ليت أفعى تعض صفاء فنرتاح منها! وغرق الجميع في نوبة ضحك.

مرة أخرى رن جرس البيت فركضت أختي وفتحت الباب، ثم قالت: ماما إنه شحاد ماذا نعطيه؟ فردت الأم: أعطوه صفاء… حاولت أخواتي دفشي باتجاه الباب وأنا أصرخ وأتوسل لهن أن لا يضحين بي.

تمسح صفاء دمعتها وتتابع: في اليوم الذي طلب فيه والد زوجي يدي من أبي لابنه، قال له. ماهي شروطكم؟ فرد أبي بسخرية: أنت من يحق له أن يضع علينا شروطا! لقد أحسّ زوجي وأهله منذ اليوم الأول لزواجي أنني فردة حذاء بالية تخلصت منها عائلتي ولم يعاملوني إلا بناء على إحساسهم هذا!!)

تغرق صفاء في نوبة بكاء، ثم تفتح عينيها وتتابع: (في اللحظة التي لمحت بها ملامحك وأنا أهبط من أعلى السلم، وسمعت كلماتك: “يامجنونة تضحين بحياتك من أجل مهمة تافهة؟؟؟” أحسست أنني ولدت من جديد…

كنت أتوقع أن تفرحي لأنني أنجزت لك مهمة، لكن حياتي كانت عندك أغلى من أية مهمة!!

لأول مرة أحسست أن حياتي قيمة، وأن أحدا ما يعتبرها قيمة…

لا استطيع أن أشرح لك تلك اللحظة، إنها لحظة غارقة في لغزيتها…

أحسست عندها أنني خلعت قناعا كان يحجبني عن حقيقتي، ثم فجأة تقمصتُ ذاتي العليا ـ على حد وصفك يا وفاء ـ فأنا أتابع كتاباتك منذ زمن طويل..

لقد جردتني معاملة أهلي لي من تلك الذات، فعشتُ حياة غير حياتي وظننتُ نفسي شخصا غير حقيقتي…

لكن في تلك اللحظة ولدت ـ على يديك ـ من جديد

ثم تتابع: أنا مدينة لك بكل نجاحاتي، وأريدك أن تعرفي كم أحبك!

……….

لقد كان هذا الحدث تصرفا عفويا مني، ولم أكن أدرك أنه سيترك أثرا عميقا في حياة شخص آخر…

هكذا هي معظم تصرفاتنا!!

لا أحد فينا يعرف كم مرة ساهم في بناء أو تدمير شخص آخر، فتصرف واحد أو كلمة واحدة منا قد تفعل فعل السحر سلبا أو ايجابا,

لذلك، يجب أن نرفع مستوى وعينا إلى حد نستطيع عنده أن نغربل تصرفاتنا وأقوالناٍ، وخصوصا عندما يتعلق الأمربـ (((((( أطفالنا )))))) نعم بأطفالنا!

الأذية نفسيّة كانت أو جسديّة تحجب الإنسان عن ذاته العليا وتجرده من روحه، فيعيش في الحياة شبحا ـ على حد تعبير صفاء ـ ويغادرها قبل أن يعرف حقيقته!

أكمل القراءة

جلـ ... منار

بين إنزال وإبحار… سلال تغذية غزّة ونفاق الإشفاق

نشرت

في

ما الذي يعنيه إسقاط واشنطن المساعدات جوا على سكان غزة؟ - BBC News عربي

25 منظمة دولية معنية بشؤون الإغاثة وحقوق الإنسان وقّعت، مؤخراً، على بيان مشترك تحت العنوان التالي: “غزّة: الإنزال الجوي والطرق البحرية لا يمكن أن تكون بديلاً عن إيصال المساعدات عن طريق البرّ”.

صبحي حديدي
صبحي حديدي

وهذا، بالطبع، منطق بسيط متفق عليه، لأنه خلاصة بديهية لا تقلّ بساطة، ولا تحتاج إلى أخذ وردّ واختلاف وقبول. ما خلا، بالطبع هنا أيضاً، حين تكون خيارات إنزال سلال التغذية من السماء، أو الإبحار بها من شواطئ قبرص، بمثابة أقصى ما يمكن للنفاق أن يبلغه بصدد الالتفاف على الحقيقة الكبرى، المنطقية والبديهية بدورها: أنّ دولة الاحتلال ترفض فتح المعابر البرية (رفح، كرم أبو سالم، بيت حانون، والمنطار/ كارني) أمام دخول المساعدات إلى 2,4 مليون آدمي غزاوي؛ وأنّ الدول نصيرة الاحتلال، الولايات المتحدة وغالبية دول أوروبا واتحادها الهمام، لا تملك (بافتراض أنها ترغب أصلاً في استخدام) أية وسيلة للضغط على حكومة بنيامين نتنياهو للسماح باستخدام الطرق البرية.

وفي عداد الجهات الموقعة على البيان هنالك منظمة العفو الدولية، أوكسفام، أطباء بلا حدود، أطباء العالم، الرابطة الدولية لحقوق الإنسان، ومنظمات أخرى أمريكية وفرنسية وإيطالية ونرويجية ودانمركية وسويدية؛ بعضها يختصّ بإغاثة المعوقين، أو بالتعاون بين الجنوب والجنوب، والإغاثة الإسلامية، وتحالف حماية الأطفال، وأنساق الرعاية المختلفة.

وهذا التنوّع يفسّر النبرة الصريحة التي يعتمدها نصّ البيان لإدانة نفاق الدول المنخرطة في عمليات الإنزال الجوي أو الشحن البحري للمساعدات أو حتى تشييد الرصيف العائم، من جهة؛ واستمرار تزويد دولة الاحتلال بالأسلحة الفتاكة كافة، وبمليارات المساعدات المالية، والمساندة السياسية والدبلوماسية والإعلامية، والولايات المتحدة في الصدارة بهذا الصدد، من جهة ثانية.

يقول البيان: “لا يمكن لهذه الدول أن تتوارى خلف عمليات الإنزال الجوي أو الممرات البحرية لخلق وهم بأنها تستجيب على النحو المطلوب لاحتياجات غزّة (…) ويجب منح الأولوية لمطلب وقف إطلاق النار ونقل المساعدات الإنسانية عن طريق البرّ”؛ إلى داخل القطاع الفلسطيني المحاصَر أصلاً، والخاضع لشتى أشكال القصف منذ خمسة أشهر.

صحيح أنّ روحية البيان ليست جديدة، وقد سبق أن تكررت مراراً في بيانات مماثلة صدرت عن منظمات وهيئات نظيرة، بصيغة انفرادية أو جماعية؛ وصحيح، كذلك، أن عدد الموقعين على البيان الأخير لافت من حيث نوعية التخصص الإنساني أو الإغاثي، وتنوّع الجنسيات ومواقع العمل. ولكن لا يقلّ صحة، في المقابل، أنّ هذا التحرّك هو الأبرز حتى الساعة ضمن السياقات الراهنة من سيرورة حرب الإبادة الإسرائيلية ضدّ القطاع؛ سواء لجهة التحولات النسبية في مواقف التأييد العشوائي المبكرة لدولة الاحتلال، التي اتخذتها الديمقراطيات الغربية في أعقاب “طوفان الأقصى”؛ أو في الاستعصاء الميداني العسكري، الذي يواصل جيش الاحتلال مغالبته في مختلف مناطق القطاع.

للبيان، إلى هذا، أهمية خاصة في تنبيه الرأي العام، على صعيد عالمي أوّلاً ثمّ أصعدة أخرى محلية أو إقليمية تنشط فيها الجهات الموقّعة، إلى مقادير النفاق في طرائق التحايل على الأوضاع الإنسانية المأساوية المزرية داخل القطاع، وما يقترن بها أو ضمنها من جرائم حرب صريحة شنيعة. وفي الأساس يجوز الافتراض بأنّ لجوء الدول نصيرة الاحتلال إلى خيارات إلقاء سلال الغذاء من الجو أو الرسوّ بها على شواطئ تحت رقابة الاحتلال، ليس في نهاية المطاف سوى قرار الاضطرار الذي يسعى إلى دغدغة احتجاجات شعبية باتت اليوم تتجاوز الشوارع إلى أروقة الحكومات ومنصات البرلمانات.

وبهذا المعنى فإنّ توقيت البيان يعرّي الكثير من عناصر النفاق التي يتمّ تمويهها خلف صفة الإشفاق، تماماً كما فعلت مشاهد إلقاء طرود المساعدات على رؤوس أهل غزّة، المتلهفين إلى علبة حليب تغذّي رضيعاً أو لقمة تسدّ جوع طفل.

أكمل القراءة

جلـ ... منار

صاحب الزورق

نشرت

في

Peut être une image de 1 personne

مارك رجل أمريكي قح، ربما أمريكي عن الجد العاشر له… طويل كشجرة نخيل باسقة، يتدلى من قمتها شعره السابل الطويل والأشيب المشوب بالحمرة، كعنقود بلح في طريقه للنضج! تضاعفت أربعينياته في سمات وجهه، حتى يخيل للناظر أنه ابن ثمانين، لكنها لم تستطع أن تخفي الأفق اللامتناهي في محيط عينيه الزرقاوين،لدرجة أستطيع وأنا أبحر فيهما، أن أسمع شدو نزار قباني: لو أحد يمنحني زورق…!

وفاء سلطان
وفاء سلطان

مارك أمريكي مدجج بكل علوم وتكنولوجيا بلده، لكنه للأسف اختار نمطا حياتيا لا تستطيع أمريكا بكل برامجها الاجتماعية المعدة لإعادة التأهيل، أن تلعب أي دور في تغييره، مالم يكن هذا التغيير قراره. الأمر الذي يعكس سلبيات الحرية الشخصية المطلقة، ويبرهن على أن الحياة قرار!…

تعرفنا عليه من خلال نظام كاميرات المراقبة الذي يحيط بمكتب زوجي والذي نستطيع من خلاله أن نراقب الأمور أثناء الليل.

يأتي في الليل، ويقف على الشرفة قريبا من باب المكتب لمدة طويلة، يشحن خلالها تلفونه من المأخذ الكهربائي الخارجي.

ذات صباح دخل المكتب يطلب اذنا باستخدام الحمام، شكله ورائجته يؤكدان أنه يعيش مشردا في الشوارع. دار بينه وبين زوجي حديث طويل..طويل، تعرفنا من خلاله على أدق تفاصيل حياته.

بين الجملة والأخرى يكرر: أمي دمرتني! وكان زوجي يرد: بل أنت من دمرت نفسك!

……..

أثبتت لنا الأيام أنه عبقري، ودماغه أدق من أدق كومبيوتر عندما يتعلق الأمر بأي عمل يدوي، من تصليح أي جزء في السيارة إلى تغيير صنبور الحمام. تبنيناه، وصار فردا من عائلتنا. يعيش في غرفة خاصة في المكتب، ويقوم بأداء أي عمل نطلبه منه، وبطريقة أفضل من أية شركة مختصة!

مرّات كثيرة عبّر عن إعجابه بمحشي الكوسا، وتساءل: كيف تدخلين الرز واللحمة فيه؟ فأرد: إنه الإبداع العربي يا مارك!بينما لسان حالي يقول: كيف لو سمعت بالإعجاز العلمي لشرب بول البعير؟؟

ملأت له الاستمارة الخاصة بتأمين صحي من الدولة، وهو الآن يتعالج عند طبيب أسنان، بعد ان خسر معظم اسنانه بسبب تعاطي المخدرات. وصار يتردد على برنامج لتنظيفه منها، وإعادة تأهيله عقليا وعاطفيا.

لا نأمن جانبه كثيرا، وهو دوما تحت المراقبة. شهادة السواقة مسحوبة منه، ونقود به إلى أي موعد. تحسن وضعه كثيرا، لكنه بين الحين والآخر يدخل في نوبات كآبة حادة، يلعن خلالها أمه، وفي الثانية الواحدة مليون لعنة…

……..

اليوم، انفجر احد انابيب الماء الذي يروي حقلنا، وكادت المياه تغرق الحي… اتصلت بعدة شركات مختصة، وحصلت على أقرب موعد بعد يومين، الأمر الذي سيجبرنا على قفل عداد الماء عن البيت كله، وهذا شبه مستحيل!

اتصلت بزوجي، فجلبه على الفور، يحدونا أمل ضعيف في أنه سيكون قادرًا على إصلاح الخلل. المشكلة الأكبر هي ايجاد الأنبوب المكسور، فمساحة الارض سبعة ايكارات، وشبكة السقاية تمتد تحت الأرض وهي معقدة جدا، وتحتاج إلى جهاز خاص لمعرفة موضع التسرب المائي قبل الحفر.

خلال أقل من نصف ساعة عرف مكان الأنبوب المكسور، واستبدله بآخر في أقل من ساعتين.

……..

أتمنى لو أستطيع أن أبوح لكم بكل تفاصيل حديثي معه، ولكن قد يتطلب الأمر كتابا!

باختصار شديد جدا جدا، كان حديثه ـ وبمعظمه ـ أسئلة تدور حول: كيف استطعتم أن تحققوا لأنفسكم هذا النمط الحياتي، وأنتم مهاجرون؟

بين الحين والآخر كان يبدي إعجابه بالبيت… بالمزرعة… بالمنطقة… ويثني على إنجازاتنا، لم يفته أن يشكر الله لانه اهتدى إلينا، وكان يشكرني وزوجي كلما تطرق إلى التغيير الإيجابي في حياته.

ظل قلبه مليئا بالحقد على أمه، ووعدني وعدا قاطعا أن يسامحها، ويلتفت إلى تحسين وضعه. كان ذلك بعد أن خسر معركته الكلامية معي، والتي حاول خلالها أن يطعن في والدته، ويحملها كل المسؤولية، وكنت له بالمرصاد:

– مارك، أنت رجل بالغ، ومن العار عليك أن تحمل والدتك مسؤولية فشلك! كلنا، بشكل أو بآخر، عانينا من أخطاء – إن لم تكن جرائم- تربوية بحقنا،ولكن هذا لا يمكن أن يكون مبررا لفشلنا، وخصوصا أنك تعيش في بلد يحترم إنسانيتك، ويفتح لك كل باب على مصراعيه!

……..

رويت لمارك قصة، كانت قد أكلت من خلايا دماغي حتى اليوم الذي التقيت بزوجي وأقنعني فيه أنني أجمل وأذكى نساء الأرض.

نعم، كل إنسان يحتاج إلى آخر كي يحقنه بجرعة ثقة!

مليون مرة روت أمي القصة أمامي، منذ نعومة أظفاري وحتى تبلورت معالمي…

القصة تقول إن أمي ولمدة اسبوعين بعد ولادتي، لم تقتنع بأي اسم كي تمنحني اياه.

ذات صباح مر عمي أمام شرفتنا، فرأى أمي تحتضنني، سألها: هل وجدت لها اسما؟- لا، هل لديك واحد؟- نعم بالتأكيد، سميها “خـ…ة”!

كان عمي مستاء لأنني كنت البنت السادسة لأبي، وفي الثقافة السائدة البنت مصيبة، فكيف بستة مصائب!!!

……..

كلما روت أمي القصة كطرفة تدغدغ بها مشاعر الحضور، اضمحلت خلية في دماغي ومات شريان في قلبي، حتى كان ذلك اليوم الخالد في حياتي، عندما أبحر هذا العاشق الولهان في عيني، وصاح: لو أحد يمنحني زورق…!!!!

عندها انتعشت خلاياي وأورقت كل شراييني، ومازالت تعيش ربيعها، وأنا في عقدي السادس!

……..

لا شك أنك في رحلة الحياة، تحتاج إلى شخص يبحث عن زورق، كي يبحر في عالمك ويكتشف كنوزك.لكن الحياة، وفي معظمها، هي ثمرة قراراتك الشخصية!

ربما أرادني عمي أن أخرج إلى الحياة فضلات، انتقاما لأخيه المفجوع بستة مصائب!

لكنه كان قراري أن أخرج إلى الحياة وفاء سلطان، لأثبت له أنني العلاج لكل مصائبهم!

*********

السلام لروح أمي، فلقد تعلمت من أخطائها أن أمارس أمومتي بطريقة أفضل… كما وأتمنى لكل أم على سطح الأرض أحلى الأمنيات، مع خالص محبتي

أكمل القراءة

صن نار