تابعنا على

جلـ ... منار

عبد الوهاب … الذي حوّل الوسوسة إلى إتقان

تحية إلى موسيقار المائة سنة الأخيرة، في ذكرى مولده (13 مارس 1898)

نشرت

في

لا ينبغي للفن أن يكون أو يوصف بأنه قتل للوقت ؛ لكنه – أساسًا وربما تمامًا – لإحياء الوقت ، هكذا يقول الموسيقار محمد عبد الوهاب ، وقد أدركت من هذه الكلمات أن الوقت ميت ما لم نحيه ، وأن الفن هو الذي يحرِّك النبض ، بل هو الذي يجعل الحياة حياة ، ولو لم نفعل ، فيصبح كل شيء خواء وعدمًا .

د. لوتس عبد الكريم*

وإذا قلنا إن عبد الوهاب كان موسوسًا ، حيث يكرِّر تنظيف نفسه ، و يتشاءم ويتفاءل أكثر من المعتاد ، وأنه كان رهابيا أو لديه فوبيا ، إذ يخاف الطائرات ، والأمراض ، والأماكن المتسعة … إلى آخره ، وأنه كان بخيلا يقتِّر مع ما لا يتناسب مع سعة رزقه ، ويحسب ويدقِّق بما لا يفسِّره أنه غير محتاج إلى هذا التقتير ، خصوصًا لمَّا تقدمت به السن ، ومن البديهي أنه لا يمكن إغفال كل هذا الشائع عنه ، رغم غرابة بعضه ، فقد تدخلت بشكل أو بآخر في حياته وعمله ؛ لتضيف إليهما ما بها من إيجابيات ، وهي عادات انتقلت إليه من تلازمه لأحمد شوقي ، فعبد الوهاب يحب الحياة ، ويحب نفسه أكثر من حبه الحياة ، ويعتبر أن أية لحظة مرض مخصومة من حياته ، وأن كلمة مرض تساوي لديه الإعدام .

فالوسوسة تنقلب إلى إتقان ، والمخاوف إلى حرص رائع ، والبطء ينقلب إلى صبر ويقين بالإنجاز ، والبخل إلى احترام الحياة ، فعمر الإنسان لا يُقاس بالطول ولا بالعرض ، وإنما بتجدُّد العطاء ، وأن نرهن نبض العمر باستمرار الفعل . وفي اعتباري فإن موت عبد الوهاب ليس موتًا ، وليس نهاية ، بل هو توقُّف كيان محدود واختفاء جسدي ؛ لنستوعبه في امتداد غير محدود .والإيمان في حياة محمد عبد الوهاب حقيقة وليس نفاقًا ، فلم يكن يسمي فنه شطارة أو عبقرية أو إبداعًا ، بل كان يسميه خواطر أونفحات من عند الله سبحانه وتعالى ، وكان إذا وُفِّق في عدة ألحان يقول : ” ربنا فتح عليَّ أو ربنا نفخ في صورتي ” ، وكان إذا أخطأ يتوسَّل إلى الله أن يقبل توبته ، ويساعده على ألا يعود ارتكاب معصية ثانية ، فالله خالق الجمال ومتذوقه ، والفنان عاشق لكل أشكال الجمال ، ولا بد من أن يكون له عند الله هامش من حرية يدخل في مجال المغفرة.

كان بداخله الإنسان الشرقي المتدين ، ويرجع ذلك إلى البيئة الدينية التي نشأ عليها منذ طفولته ، والتي كان لها الأثر الأكبر في حياته.بل نجد أن المرجع القرآني الكامن في باطنه يبدو جليًّا في أغانيه للقصائد فنرى ” الفقي ” واضحًا في أبيات كثيرة – مثلا – من قصيدة ” يا جارة الوادي “.

، والإيجابيات – عمومًا – في شخصية عبد الوهاب أكثر بكثير من السلبيات ؛ فهو إنسان فيه سماحة ووداعة ونبل لم أره مرة يغضب أو يشتم أو يظلم ، صبور لديه الجلد وطول البال ، وبداخله السياسي والدبلوماسي ، ولو أنه اتجه إلى غير الفن لكان من كبار الساسة .يقول عبد الوهاب : ” لقد أورثتني أم كلثوم الوسوسة طوال عملي في أغنية ” أنت عمري ” ، أول لحن أضعه لها ، وأم كلثوم ليست كأية مطربة أخرى ، وعلى هذا كان عليَّ أن ” أغربل ” الكلمات واللحن ، وهذا ما أخَّر إذاعة الأغنية بعض الوقت .والمعروف أن عبد الوهاب كان قلقًا جدًّا قبل ظهور الأغنية ، ففي الصباح يزور قبر والدته ويقرأ الفاتحة ، وفي المساء يذهب إلى المسرح مبكرًا وآيات القرآن الكريم تتردَّد على لسانه ، وقبل رفع الستار يجرى عدة بروفات إلى أن تبلغ الساعة العاشرة والنصف مساء بينما الجمهور ومذيعا الإذاعة والتليفزيون في قلق شديد ، فصاحت أم كلثوم في وجهه : ” جرى إيه يا محمد أنت مش عاوزنا نرفع الستارة ولا إيه ؟ “.

ولم تكن هذه هي المرة الأولى التي التقى فيها عبد الوهاب بأم كلثوم رغم الغيرة الفنية التي كانت بينهما ، ففي عام 1945 التقيا في عيد ميلاد أحد الأصدقاء ، وكان من بين الحاضرين توفيق الحكيم ، وفكري أباظة ، والدكتور عبد الوهاب مورو باشا ، وكامل الشناوي ، وصديقته كاميليا ، وكانت رائعة الجمال ، وبدأت أم كلثوم تداعب كامل الشناوي ، وتطالبه بإلقاء شعر يصف فيه جمال كاميليا ، فنظم الشناوي أبياتا من وحي اللحظة قال فيها :” لست أقوى على هواك ومالي / آمل فيك فارفقي بخيالي / إن بعض الجمال يذهل عقلي / عن ضلوعي فكيف كل الجمال ” ، وفي التو أمسك عبد الوهاب العود وبدأ تلحين الأبيات الشعرية وأخذت أم كلثوم بصوتها تردد اللحن حتى حفظته ودعاها الحاضرون إلى الإعادة مرات حتى مطلع الفجر .

لقد كان عبد الوهاب لبقًا شديد الحرص مجاملا حد النفاق ، حكيمًا عاقلا ؛ و كان ذلك السلوك من أسباب نجاحه ، فيوم أن هاجمه البعض هجومًا شخصيًّا مهينًا في إحدى الصحف ، فوجئ البعض به يلتقيه في إحدى السهرات فيبادره بالترحيب والعناق ، متظاهرًا بأنه لم يقرأ الهجوم ، ولما طُلب منه تفسيرٌ لهذا التصرُّف الغريب ، رفع نظارته عن عينيه ومسحها بمنديله وأطرق قائلا : ” داروا سفهاءكم “!

وقد وجدت عبد الوهاب في إحدى السهرات لا يشرب الكحوليات ، ويقول للجرسون : ” هات لي زجاجة مياه بيريه ، شرط أن تكون ساخنة ومختومة ، ولا تنس أن تأتيني بالمفتاح “!

لماذا ساخنة ومعها المفتاح ؟ ؛ لأن عبد الوهاب يحافظ على أوتار حنجرته الدافئة من المثلجات ؛ ولأنه يخشى أن يدس له عدو مادة مؤذية في الزجاجة ؛ فتقضي على صوته ؛ ولأن المفتاح هو صمام الأمان ، والضمان أن لا أحد قد مسها قبله.

ويقول عبد الوهاب عن الشاعر أحمد شوقي : ” لقد علمني شوقي حب الحياة ، والتعاطف مع الطبيعة والناس ، والطموح وعزة النفس ، لأن شوقي لم يعرف الحقد أو التطيُّر أو المرارة في علاقته بالآخرين ، كما هي حال أسلافه من الشعراء القدامى الذين جاء بعدهم بما يزيد على ألف سنة مثل : المتنبي ، وابن الرومي ، والمعري ، ولم يعرف شوقي الهجاء ، وكان مترفعا عن انتقاد الناس “.

” وقد اختصر لي شوقي سر المحافظة على الصداقات بكلمة واحدة هي الاحترام ، احترم صديقك مهما اقترب ؛ حتى يحترمك وهو بعيد عنك ، وبحكم مركزه الأدبي والسياسي والاجتماعي كان مقربا من القصور والزعامات ؛ فقدمني للشخصيات العظيمة مثل : سعد زغلول ، وبفضله عرفت الملك فؤاد ملك مصر ، والملك فيصل ملك العراق ، وشاعر الهند طاغور ، وعرفت باشوات مصر مثل أحمد ماهر ومصطفى النحاس ، ومحمود النقراشي ، والدكتور محمود ثابت ، ومن الشعراء حافظ إبراهيم وخليل مطران وبشارة الخوري “.

وتعلم محمد عبد الوهاب من شوقي الأسفار ، فكانا يقسِّمان الصيف مايو ويونيو في لبنان ، ويوليو وأغسطس في باريس ، ثم شهور الشتاء في مصر .

وتعلم من شوقي عشق لبنان وجبالها وأزاهيرها ، وحينما كان يسافر عبد الوهاب إلى لبنان يبادر بزيارة صديقيه الأخوين رحباني ( عاصي ومنصور ) والدرة الثالثة فيروز ، حيث كان يعتبرهم ثالثوثا فنيا فريدا من نوعه في العالم ، إذ لم يسبق لمطربة كبيرة أحيطت بزوجها وسلفها ، وكانا على هذه الموهبة الفذة من اللحن والشعر والتوزيع الموسيقي ، وكان أول سؤال يطرحه على أصدقائه لدي هبوطه من سلم الباخرة : ” إيه أخبار الرحبانية ؟ ” ، ولكنه كان يتضايق من سيطرة الأخوين رحباني على فيروز وتكبيلها التام بألحانهما وحدهما ، وكان يشبههما بالصدَفة الكبيرة التي تطبق جناحيها على اللؤلؤة النادرة ، وكان هذا الكلام قبل أن تتخطى فيروز حدود الأخوين رحباني مجتازة حدود محمد عبد الوهاب.

وفي إحدى السنوات ، وأثناء زيارته لهم فور وصوله إلى لبنان قال : ” عايز أسمع أغنية – وقف يا أسمر – لفيروز ، وبعد سماعها بلذة فائقة قال لهم : إن الأغاني العربية تفتقد إلى عنصر القصة في الشعر ، إنها عبارة عن كلام منمق مثل صف الحروف ، وإذا كان هناك انطلاقة فنية جديدة في روحانية الأغنية ؛ فستصدر من لبنان على يد الرحبانية بالذات ، أسمعهم يقولون : ” وقف يا اسمر في إلك عندي كلام

قصة عتاب وحب وحكاية غرام

هالبنت يا للي بيتها فوق الطريق

حملتني اليوم لعيونك سلام “

…….

الموسيقار محمد عبد الوهاب تشخيص لمجتمع ، وصورة لعصر ، وتسامح من مجتمع ، ودنيا يعيش فيها هذا المجتمع ، ولو ولد في عصر غير عصره ؛ لاختلفت النتيجة تماما ، ولو أنه كان واحدًا من جيلنا نحن ، لما استطاع أن يقترب من القمة ولا أن يتقدم حتى خطوة ،لقد تسلم جيلنا عبد الوهاب بعد أن صنع نفسه ، ولو أن هذا قد تم بعد موعده ؛ فإننا كنا سندوسه ونحطمه ؛ لأننا الآن نضرب كل مسمار له رأس ، ونحطم كل فنان له أسلوب ، ونشد كل شخص يسبقنا إلى الأمام .

في صباح الثالث عشر من مارس من كل عام أذهب – كعادتي – إلى مثواه حاملة زهور الفن والمحبة ؛ لأضعها في اشتياق فوق مرقده تلثم موضعه وتنشق أنفاسه في الأثير ، يعطرها بحبه ، وتعطره بحنانها ، من كل لون اخترته ، ولكل لحن أهديته وأقرأ الفاتحة .

يا حفرة تحت الثرى أنت المال اليقين والكنز الدفين يحيط به ويحتضنه حجر عظيم :

” ما لأحــجــارك صُـــمّا كلما هــاج بي الشوق أبتْ أن تســمَعا

كلــما جـئــــتك راجــــعتُ الصِــــبا فأبــتْ أيامُـــه أن تــرجــِعا

قـد يهــــون العـُـــمرُ إلا ساعــة و تهـــــون الأرض إلا مَوضِــعا ” .

أكمل القراءة
انقر للتعليق

اترك تعليقا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

جلـ ... منار

خالق الفرح

نشرت

في

Peut être une image de 2 personnes et bébé

اتصلت صديقتي غادة بي كي تطمئن عليّ:

ـ وينك ياست الحبايب؟

وفاء سلطان
وفاء سلطان

ـ مع الحبايب أجمع البيض!

يبدو أن أرنب الفصح كان غنيا جدا وكريما جدا هذا العام… نالني منه أربعة عشر بيضة، وجدتُ في داخلها ست دولارات وعشرين قطعة من الشوكولا (أول مرّة بناتي يدفعن لي بدلا من أن أدفع لهن)!

تفوقت علي جازي بأربع بيضات وست دولارات، أما بنجي فلم ينل إلا نصف ماحصلت عليه (لا يهم إذ لا يعرف قيمة الدولار بعد)!

……..

أمطرتني غادة بوعظة دينيّة طويلة جدا، تفوقت فيها على الشيخ الحويني، لقّنتني من خلالها درسا في العبادة وكيفية الاحتفال بالأعياد،

قالت:العيد ليس جمع البيض، العيد يعني ممارسة الصلاة والتعبد وزيارة الكنيسة!

واحتدم النقاش حتى اعترفت لي بأن اليهود (يخرب عمرهم لهم قرص في كل عرس!) قد حولوا كل الأعياد المسيحية لتجارة بالمطلق، وهم الذين اخترعوا سانتا كلوز وأرنب الفصح كي يسرعوا عمليات التسويق، ويصرفوا نظر الناس عن عبادة الله الحق!

فشعرت وكأنني أصغي للقرضاوي يقص علينا حكاية بني قريظة!

يبدو أن حتوتة الشجرة واليهودي الذي سيحتمي وراءها يوم القيامة قد طالت عقول بعض المسيحيين أيضا!

……..

يا سيدتي زرت عشرات بل مئات المعابد (من كلّ الأشكال والألوان)، ورأيت فيها الكثيرين من المنافقين والدجالين وتجار الدين، الذين أبعدوني عن الله سنينا ضوئية…

ياسيدتي أقدس بيت للعبادة بيتي وبيوت أولادي، فهي الأمكنة الوحيدة التي أضمن طهارتها من الفساد والرذيلة…

ياسيدتي من لم يرّ الله في سلة بيض الأرنب الذي يشرفنا في عيد الفصح، وفي قبعة سانتا كلوز الذي يزورونا في عيد الميلاد، لا يستطيع أن يراه في أي مكان آخر…

يا سيدتي لا أريد أحدا يفرض عليّ الهه وطريقة عبادته لذلك الإله…

ياسيدتي من لا يستطيع أن يُدخل الفرح على قلب طفل لا يعرف الله…

يا سيدتي من لا ينحني ويصلي للإله القابع في عيني حفيدي آدم، لم يمارس يوما الصلاة…

..أعتذر إن كان إلهي مغايرا لما يعنيه لكِ الإله….لم أفرض يوما إلهي على أحد، ولا أريد لأحد أن يفرض عليّ الهه، والطريقة التي يعبد بها ذلك الإله.

……..

أغلقت سماعة الهاتف، ولسان حالي يتضرع إلى الله: يارب لا تجعلني من عبادك “المؤمنين” فلقد ضقت ذرعا بهم!

بل اجعلني من عبادك الذين يَفرحون ويُفرحون، فالفرح هو أنت أينما حلّ..

اجعلني من عبادك الذين جاؤوا لنا بسانتا كلوز وبأرنب الفصح، وجعلوا حياتنا أسهل وأبهى بعلومهم ومعرفتهم.

……..

قرأت منذ يومين قولا للرئيس الفرنسي ديغول: كيف سأحكم دولة تنتج 246 نوعا من الجبن؟؟؟

وأنا أقول: لا حاجة لك أن تحكمها فالله وحده يحكمها،

الله وحده يتواجد حيث توجد النعمة والوفرة والعطاء…

أما الندرة والشح فتسود حيث تتحكم العقول العقيمة والمريضة!

……..

كل عيد فصح وأنتم وجميع أرانب الأرض بخير!

Coloriage Lapin de Pâques à côté d'un panier d'œufs - Dessin gratuit

أكمل القراءة

جلـ ... منار

بفلوسي!

نشرت

في

Images de Voleur Argent – Téléchargement gratuit sur Freepik

السيدة سهير موظفة في منتصف العمر وأم لثلاثة شياطين، وهي من الطراز الذي لا يتذوق الدعابة ولا يفهمها. علمتني الحياة أن أظرف وأروع الدعابات طرًا تأتي من هذا الطراز، فهم لا يفتعلون الظرف .. إنهم ظرفاء بالطبيعة. أسخف الدعابات تأتي غالبًا ممن يعتقدون أنهم ظرفاء، وأدعو الله ألا أكون منهم.

أحمد خالد توفيق

قرأت ملحقًا لإحدى الصحف الشهيرة مؤخرًا، فوجدته مليئًا بصور أشخاص ظرفاء يضحكون في استمتاع، مع نكات من نوع (اركبي قبل الحصان ما يشوفك).. (حماتي عملت مفاجأة وجت تقعد معانا شهر).. منتهى السماجة.

هذا ليس موضوعنا على كل حال. موضوعنا هو السيدة سهير.

سألتني السيدة سهير عن طبيب أنف وأذن وحنجرة جيد لأن أذنها مسدودة منذ فترة، فاقترحت عليها دكتور سيد الشماشرجي .. هذا رجل بارع يجيد عمله وصديق قديم. توكّلتْ السيدة على الله وذهبتْ له في العيادة ودفعت مبلغًا باهظًا من المال للكشف. تقول إنها دخلت لترى قزمًا مسنًا ينظر لها في كراهية من خلال المرآة التي تثبت على الجبهة إياها، فلما فتحت فمها لتقول:

ـ”إنها أذ………………………..”

أخرسها بشخطة، ودس منظارًا في أذنها فكاد يثقبها، ثم قال في عصبية وقرف:

ـ”شمع .. لابد من غسل الأذن”

وقبل أن تفهم كان يضع طبقًا معدنيًا تحت أذنها ويدس فوهة مسدس الماء في أذنها، فتصرخ ألمًا، ثم تشعر بطوفان من الماء الدافئ يدخل أذنها ويبدو أنه يبلل مخها ذاته ويخرج من الأذن الأخرى.

ثم قال لها بذات القرف:ـ”هناك قطرات للأذن .. استعمليها !”

خرجت من الغرفة شاعرة بالإهانة، كأنما تربص بها عشرة أبطال مصارعة فأوسعوها لكمًا وركلاً. وقبل أن تفهم ما يحدث انقض عليها الممرض الجالس في الخارج ليقول في قرف:

ـ”خمسون جنيهًا !”

ـ”ماذا ؟”

ـ”أتعاب غسل الأذن خمسون جنيهًا …

“إذن ففيم كان الكشف الباهظ؟

دفعت ما طلبه هذا القرصان وهي ترتجف غيظًا، كما أن أذنها كانت تؤلمها جدًا. ومشت في الشارع شاعرة بشعور السكير الذي يطردونه من الحانة بعد منتصف الليل لأنهم يريدون الإغلاق. قدماها غير ثابتتين ولا تفهم ما يحدث، دعك من أن زوال انسداد أذنيها جعلها تشعر بدوار وبرد غريبين.

لما عادت للبيت اتصلت بي لتنفجر في غل، شاتمة ذلك اللص النصاب الذي تقاضى كل هذا المبلغ في ثلاث دقائق. والأسوأ هو مبلغ الخمسين جنيهًا .

. كان يجب أن تكفي أتعاب الكشف لكل شيء.

بعد أشهر كانت تطالع الصحيفة فوجدت صورة عروسين .. المحاسب سمير سيد الشماشرجي تزوج المحاسبة هيام منصور .. الزفاف كان حلمًا من أحلام ألف ليلة وليلة وأقيم في فندق فاخر بالقاهرة. قالت لي في غيظ:

ـ”بفلوسي!! لقد زوج ابنه بمالي ذلك اللص!”

حكيت لها ذات مرة عن السيارة الفاخرة التي ابتاعها المهندس محمود سيد الشماشرجي ابن الطبيب الشهير، فصاحت في غل:

ـ”بفلوسي!!… يستطيع أبوه عمل أشياء كثيرة بالخمسين جنيهًا التي تقاضاها لغسل أذني!”

ذات مرة نشرت إحدى المجلات حوارًا مع دكتورة اسمها غادة تتحدث عن جولتها في اليابان ودول جنوب شرق آسيا. قالت في الحوار إنها زوجة واحد من أهم أطباء الأنف والأذن والحنجرة في مصر، وهو الدكتور سيد الشماشرجي.هنا صاحت السيدة سهير:

ـ”بفلوسي…!.. زوجته الشمطاء تجوب العالم كله بالخمسين جنيهًا”

رأيت أن الأمر تحول إلى هاجس أو وسواس قهري بالنسبة لها، فلولا ما في ذلك من مبالغة لطلبت من د. سيد الشماشرجي أن يرد لها مالها كي يتجنب هذه اللعنة السرمدية. لا شك أنه سيصاب بمرض عضال وينفق أضعاف الخمسين جنيهًا لعلاجه، لأن السيدة سهير – كما نقول في العامية – مش مسامحة!

العكس يحدث أحيانًا. الحكاية هي أنني منذ أعوام اشتركت في واحدة من مطبوعات اليونسكو الشهرية، والاشتراك ثلاثون جنيهًا في العام تقريبًا. ثم وجدت أن الأعداد تتكدس وأنا لا أطالعها… جاءت لحظة الحقيقة وقررت أنني لست بحاجة لهذه المطبوعة وكتبت خطابًا أعتذر فيه عن عدم الاشتراك لعام آخر.. أرسلوا لي يسألون عن السبب فلم أرد.

بعد أشهر قرأت في الصحف الخبر التالي (وهذا الكلام حقيقي على فكرة):

ـ”اليونسكو مهددة بالإفلاس لأن الولايات المتحدة خفضت مساهمتها في تمويل المنظمة”

طبعًا لم أحتج لأسئلة أكثر .. لقد تدهورت حالتهم المادية فعلاً عندما تركتهم، وعندما كففت عن دفع ثلاثين جنيهًا كل عام.

يبدو أن هذه المنظمة كانت تعتمد كلية على فلوسي.

قصة أخرى طريفة عندما كنت مدعوًا لمهرجان أدبي في قطر خليجي شقيق. كان طعام الفندق ممتازًا، وأنت تعرف عقدة البوفيه المفتوح. ربما هي فرصتك الأخيرة كي تجرب حساء التوم اليوم أو الباتاي أو القبوط أو الدجاج بالطريقة الإيرانية، أو حساء المنسيتروني وشرائح سمك الكنعد بالليمون.. ملعقة من كل شيء وسوف تكتشف أن الطبق مليء جدًا وأن ثيابك تضيق.

بعد ثلاثة أيام فتحت جهاز التلفزيون في الفندق، فوجدت أن حكومة البلد الثري مجتمعة لمناقشة الانهيار الاقتصادي الذي حدث مؤخرًا!.

شعرت بخجل شديد لأنني تجاوزت حدود الضيافة، وحاولت جاهدًا ألا أجرب سوى صنف واحد في الوجبة. إن شراهتي كفيلة بتدمير دولة فعلاً.

نعود للسيدة سهير التي أضناها التفكير في مالها…الحقيقة أنها ليست واهمة تمامًا. لا شك أن مالها ساهم بقدر ضئيل جدًا – كذرة في جسد – في نفقات رحلة آسيا.

هذا المفهوم ينطبق على الدول نفسها: عندما يعتدي عليك أمين الشرطة ويصفعك أو يطلق عليك الرصاص، أو يلفق لك قضية مخدرات بأحرازها مستعملأً قطعة البانجو في جيبه، فهو في الحقيقة يتقاضى راتبه من جيبك. حتى الرصاصة التي استقرت في رأسك أنت دفعت ثمنها.

المتظاهرون دفعوا بالكامل ثمن الغاز الذي يستنشقونه.

محصل الكهرباء الذي يخرب بيتك يتقاضى الراتب منك أنت.

هذا ينطبق على كل موظف في الدولة من أصغر رأس لأكبر رأس. كل المستشارين الذين يحصدون المليارات كل عام. من أين يحصلون على هذه المبالغ الفلكية؟ من جيبك طيعًا.

في الخارج يؤمنون أن رئيس الدولة نفسه موظف يتقاضى راتبه من جيوبهم، وعليهم أن يعرفوا ما فعل به، بينما في الدول العربية يسود المفهوم الأبوي القبلي الذي خرب بيوتنا:

أنت تعيش بما يجود به الحاكم عليك…

شيخ القبيلة الذي يقذف لك بصرّة من الذهب، بينما أنت في الواقع شاركت بقطعة نقدية في هذه الصرة.

السيدة سهير لم تبالغ في تصوراتها. هي فقط بالغت في أهمية الخمسين جنيهًا التي دفعتها

أكمل القراءة

جلـ ... منار

بِع وَردًا ولا تلعن الحياة

نشرت

في

Peut être une image de amarante

لم يمنعني المطر من أن أمارس طقوسي هذا الصباح.على العكس تماما، فالمطر هو أكثر الظواهر الطبيعية التي تسهل عليّ التواصل مع الكون وقراءة رسائله!

وفاء سلطان
وفاء سلطان

دخلت مقهاي المفضل لاحتسي فنجان قهوتي،ورحت أتأمل بعمق كل شيء حولي لأستشف الرسالة الكونية لهذا اليوم، إذ لم يمر يوم ونسي الكون فيه أن يخصني ببريده، ومن ذلك البريد أستمد كل صباح حكمة تزيدني شوقا للصباح الذي يليه… على يساري جلست سيدة، وقبالتي لمحت سيدة أخرى… وبين السيدتين كانت الرسالة واضحة وجليّة، وتحمل حكمة ولا أجمل… كلا السيدتين دخلت المقهى لنفس الغاية، دخلتاه تنشدان بعض الدفء، وهربا من زخات المطرالتي لم ترحم رأسا من لسعاتها!

السيدة على يساري، ومن ثيابها تعرف أنها مشردة وتعيش في الشوارع… والسيدة على يميني تحمل سطلا من الورود وتنظر عبر الزجاج أملا في لحظة صحو لتركض إلى الخارج وتستمر في بيع ورودها للمارة!..

تحسستُ طاقتها التي تفيض حبا للحياة، فاقتربت منها علني أمتصُّ بعضا منها!

اشتريت وردة ودار بيننا حديث شيق، علمت من خلاله أنها متقاعدة في منتصف الستينات من عمرها، وأنها تمارس تلك الهواية التي تدرّ عليها ربحا جيدا، كي تبرهن لنفسها أنها مازالت منتجة، علما بأن راتبها التقاعدي يكفيها من الناحية المادية!

اسمها روز، وتصرّ أن لها من اسمها نصيبا، فهي تعشق الورود وتشعر بسعادة عامرة عندما تبيع أحدا وردة!

تقول: ليس ما أجنيه من بيع الورود ما يسعدني أكثر، وإنما البسمة التي أرسمها على شفاه الناس!

وتتابع: لم يشتر أحد وردة إلا وبطريقة لا شعورية قام على الفور بشمّها، تسحرني تعابير الوجوه عندما تشمّ ورودي، واشعر أنني ساهمت في رسم تلك التعابير…

ثم شكرتني على شرائي لإحدى ورودها، وتمنت لي يوما جميلا!

……..

بينما في الوقت نفسه، يقترب مدير المقهى من السيدة الأخرى، ويتمتم في اذنها، فتخرج وتجر وراءها رائحة قاتلة!

لا أتصور أنه طلب منها أن تغادر، إذ لا يستطيع بالقانون أن يفعل ذلك، بل طلب منها أن تحرك عربتها المليئة بأغراضها لأنها تعترض المدخل إلى المقهى!

……..

نعم، تلك هي الحياة مجرد قرارات، وأنت مسؤول عن قراراتك!

سيدة قادتها قرارتها لتكون مشردة تفترش الشوارع وتلتحف السماء، وأخرى قادها قرارها لأن تمارس هواية محببة لنفسها، كبرهان على أنها مازالت تعشق الحياة، ومازالت بكامل وعيها لتعيشها بعمق!

……..

أما أنا فعدت لأمارس شغفي، وأنهي كتابا كنت قد بدأته الليلة السابقة…الكتاب بعنوان:

?What would you do if you knew you could not fail

(ماذا ستكون قد فعلت لو علمت أنك لن تفشل؟)

في الفصل السابع من الكتاب، جاءت تلك العبارة:”لو أن حلمك قد وقع فانكسر وتحوّل إلى ألف شظية، إياك أن تخاف من أن تلتقط على الأقل واحدة منها لتبدأ من جديد”

……..

لا يوجد أحد فينا إلاّ وتشظى حلمه يوما،

وحدهم الذين قرروا أن يتمسكوا ـ ولو بشظية واحدة ـ ليبدؤوا من جديد،

وحدهم قد بدؤوا ووصلوا إلى حيث يريدون!

السيدة المشردة وبائعة الورود من الأمثلة الحيّة.

……..

بع وردا ولا تلعن الحياة، فالحياة تلعن من يلعنها!

أكمل القراءة

صن نار