تابعنا على

جور نار

عندما يرتفع مقام الفقّوس … ويشتكي المواطن من قلّة “الفلوس”

نشرت

في

من عادتي خلال شهر رمضان أن أخرج وحيدا إلى السوق ومن عادتي أن أجيب كل من يعترضني ويسألني أين أنت ذاهب بإجابة طريفة “نهزّ القفّة”… لكن شهر رمضان هذا وفي ظلّ حكم مولانا صاحب الجلالة ملك ملوك افريقية وتاج رأسنا قيس بن المنصف سعيد لم تعد القفّة قفّة بل أصبحت شبحا لما كانت عليه…لم يعد السوق سوقا بل أصبح مهجورا ممن كانوا يصنعون بهجته وفرحته…

محمد الأطرش Mohamed Alatrash
محمد الأطرش

 فقد غابت ابتسامة بائع الخضر…وغابت معها تحية حبات البطاطا التي كانت تعترضني ضاحكة وهي تغنّي أغنية شادية رحمها “خذني معاك…” وترتمي في قفتي سعيدة بما سأفعله بها …كما غابت غمزة الموز الذي كان يلقيها عوضا عن التحية واصفا جاريْه التفاح والإجاص وكأنه في حملة انتخابية لمن ستطأ قدماه أرض قفتي الفارغة، بكل الأوصاف التي تجعلني أنفره وأخيّره عليهما وأطلب من البائع أن يزن لي ما يليق بمقام الموز ثقلا… وتجرأ “الفقوس” كعادته ورفع صوته ليغنّي لي ككل شهر رمضان أغنية لطيفة “يا سيدي مسّي علينا أو حتى لمح بكلمة” ويشعرني كأنه ذلك المسكين الذي اصبح منبوذا من الجميع بعد أن تطاول على كل الخضر والغلال بسعره الجنوني…

ودون إذن من البائع يقفز “فلفل” من صندوق إخوته وأبناء عمومته، ليقف أمامي متطاولا طالبا ودّي وكأنه يريد أن يجلس في قفتي إلى جانب حبّات البطاطا صارخا في وجهي قائلا “وأنا من سيشتريني …لم تتركوني وحيدا، لست أنا من رفع سعري بل البائع…أنا اصلح لكل المأكولات أهكذا تتركوني أتعجبكم أكلاتكم دوني…” ولأول مرّة اشعر بالحزن على “الفلفل” وما وصل إليه من وضعٍ جعله منبوذا من الجميع وأكتفي بقول “برّه ربي يجيبلك مكتوبك” فلأول مرّة يبكيني الفلفل وهو الذي أبكانا جميعا ونحن نأكله… وترفع حبات الفراولة صوتها عاليا بموشّح “على خدّو يا ناس مائة وردة…” أرمقها بعين اللامبالاة وأرسل إليها بغمزة قائلا “يظهرلك..”وأذهب في سبيل حالي فأنا والفراولة في خصام دائم … وأمر على الجزار لأجده مكشرا عن انيابه…فأرمق سعر كيلوغرام لحم الضأن فأصاب بدوار خفيف… ألتفت إلى سعر لحم العجل فأصاب بضيق في التنفس…فأكتفي بالتحية مرددا أغنية نبيهة كراولي “انت اللي جفيت وجبدت روحك مني”…

أواصل طريقي في سوق مقفر حزين وكأنه احدى مدن أوكرانيا الحزينة حتى أصل أمام بائع الدجاج لأسمع احدى دجاجاته وهي تنشد ما جادت به قريحة نزار …

نحن دَجَاجُ القَيْصَر

نأكُلُ قَمْحَ الخَوْف،

ونشربُ من أمطار المِلْحْ

كلَّ نهارٍ ..

…..( حذفت بعض الأبيات خوفا من تأويل سكان القصر)

نحنُ دَجَاجُ القيصرِ ..

يعلفُنا في فصل الصيفِ،

ويذبحُنا في عيد الفصحْ …

فتمتمْت ” كأنها المسكينة تعاني من حراك 25 وأتباع مولانا” كما يعاني بعضنا نحن الشعب المسكين، ولم أكن أعلم بأن بائع الدجاج يسمعني ولم أكن أدري أنه قيسوني الهوى من أتباع “حركة الشعب” التي “ماحت” مع الأرياح فأخذتها إلى شواطئ مولانا…

خلاصة ما أنا فيه …لم أجد مدينتي التي أعرف ولم أجد شوارعها التي كانت تبتسم لي وأنا أمر عليها بقفتي …مدينتي لم تعد مدينتي… ووطني لم يعد وطني…فمدينة يرتفع فيها مقام الفقوس ويتطاول على التفاح والموز …وينقلب فيها الفلفل على غيره من الخضر لا يمكن العيش فيها بأمان…وبلاد يكتب بعض كبارها أن الأسعار في متناول الجميع لا يمكن أن تشعر فيها بالطمأنينة…تسأل بعض الجالسين على كرسي السلطة عن هذا الغلاء فيجيبك “عليكم ان تتأقلموا مع الأوضاع” … وتسأل آخر فيجيبك وهو يصرخ ” اشبيكم ما عملتوش هذا كي النهضة كانت تحكم؟؟”…وتسأل أحد كبار المسؤولين عن الحلّ في ما نحن فيه فيجيبك “كولوا التراب أصبروا عالدولة يهديكم…”

 قلت في خاطري ألا يمكن أن يدخل التراب في خانة الاحتكار والمضاربة… فماذا لو مسكوني وأنا أملأ كيسا من التراب لآكله أخذا بوصية المسؤول حماه الله من العين والحسد على علمه وكفاءته …أقول ماذا سيفعلون بي هل سيتهمونني باحتكار التراب أم بتهريب تراب الوطن…أو الاعتداء على تراب الوطن…ففي هذه البلاد أصبح الحديث مع سائح، خيانة وعمالة واستقواء بالأجنبي…

أكمل القراءة
انقر للتعليق

اترك تعليقا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

جور نار

ملاحظات على هامش معرض تونس الدولي للكتاب

نشرت

في

معرض تونس الدولي للكتاب- Foire Internationale du Livre de Tunis‎

لا يُمكن أن تنتهي تظاهرة ثقافية ومعرفية بحجم معرض تونس الدولي للكتاب والتي أثّثت حديث الناس وصفحات التواصل على امتداد عشرة أيام وكان لها صدى كبير أو صغير في أغلب وسائل الإعلام وقنوات الاتصال المختلفة، دون تسجيل جملة من الملاحظات والانطباعات المتّصلة بفوائدها وانحرافاتها وحدودها والطموح إلى تطويرها وتوسيعها وتعميم فيئها ونفعها.

منصف الخميري Moncef Khemiri
منصف الخميري

ويُمكن لأي زائر متيقّظ نسبيا أن ينتبه إلى المظاهر التالية :

 التونسي يستثمر في الأواني وعروض الأزياء أكثر من عروض الكتب وإبداعات الكتّاب والأدباء

من المفارقات المُوجعة أن أغلب المهتمين بالكِتاب لا قُدرة شرائية حقيقية لديهم، فأغلبهم أساتذة ومعلّمون وموظّفون “كحيانون” وربّات بيوت تُعمّر قلوبهنّ قناعةُ بأن نجاح أطفالهنّ مُرتهن في جزء كبير منه بسَعة تشرّبهم لما ينظُمُه الشعراء وما يقتبسه الأدباء وما يقوله المؤرّخون وما يُدوّنه العلماء والباحثون. مقابل ذلك، عندما يحدث أن تزور معارض للزربية أو الأثاث أو فساتين العرائس والأفراح أو معارض لتجهيزات المطبخ… تُلاحظ أن عددا لا بأس به من العائلات التونسية يُنفق بلا حساب لأن مستويات التمدّن ورقيّ الذوق ووقار العائلة في مجتمعاتنا تُقاس من خلال حرير الأقشمة وأناقة الستائر ورونق صالونات الجلوس، لا من خلال مؤشرات انفتاح نوافذ المنزل على بساتين  الكلمة الحيّة ومروج النصوص البهيّة.

مجهود العائلة يظل محدودا ما لم يُسنده مجهود الدّولة

رأيتُ شخصيا مجموعات كبيرة من الأطفال واليافعين يتجوّلون بين مختلف أجنحة معرض الكتاب يرافقهم مُربّون يسهرون على انضباطهم وسلامتهم، ويبدو من خلال تتبّع تجوالهم أنهم غير مُصرّين على اقتناءات كثيرة ربّما لقلّة ذات اليد والتحسّب لأثمان غنيمة السندويتش وقطعة الحلويات اللذين لا مفرّ منهما. أضف إلى ذلك أنه بالنسبة إلى العائلات، هي جولة ترفيهية أكثر منها رحلة لاقتناء بعض ما به يُدعّمون رصيدهم المعرفي، فمعلوم المشاركة في اكتراء الحافلة مع عشرة دنانير أو عشرين على أقصى تقدير غير كافية بالمرة لاقتناء ولو كتاب واحد.

خلال السنوات الأخيرة، حصل في بعض البلدان – في سياق تعميم “التربية الفنية والثقافية” والتشجيع عليها- أن أوجدوا آلية داخل كل المؤسسات التربوية أطلقوا عليها le pass culture تساهم في تمويلها أجهزة الدولة بصورة أساسية ويُترك للأولياء إمكانية ضخّ بعض الأموال في صندوقها، من أجل تمكين كل تلميذ بصورة دورية من “صرف شيك ثقافي” حسب ميولاته ومراكز اهتمامه في المسرح أو السينما أو في اقتناء الكتب والمشاركة في التظاهرات الثقافية والفنية المتنوعة… وذلك مقابل أثمان رمزية يتمّ الاتفاق بشأنها في بداية كل سنة دراسية بين المؤسسة التربوية ومختلف مكوّنات النسيج الثقافي في الجهة، بما فيها المكتبات التجارية والمتاحف والمعارض العلمية. قد تكون هذه “الوسيلة” طوباوية شيئا ما لكونها جُرّبت في بلدان غنية، ولكن ما الذي يؤكّد أن مدارسنا ومعاهدنا لا تستطيع رصد “صكوك ثقافية” لفئة ولو قليلة من تلاميذها، ومن يؤكّد أن القطاع الخاص وأصحاب القلوب المؤمنة بجدوى الثقافة وقيمتها المضافة لا يقتطعون نصيبا ضئيلا ممّا يملكون لدعم مثل هذه المشاريع الرائدة ؟

 الكُتّاب والمُبدعون فئة مُضطهَدة

حفلات لتوقيع الكتب المنشورة هنا ولقاءات لتقديم أخرى هناك وومضات دعائية فرديّة لمؤلفات موجودة بالمعرض ومساحات إعلامية يتيمة للتعريف ببعض الإنتاجات… وكلها عناوين بلاغية لتجميل الدعوة الصريحة والكأداء إلى شراء الكتاب…هذا إضافة إلى التنكيل الذي تمارسه بعض دور النشر المتمرّسة على قوانين السوق حين تُمكّن الكاتب من بعض النسخ المجانية وتُخرجه تماما من دائرة التمتع ببعض عائدات كتابه. مقابل ذلك، ووفقا للمنطق الثقافي السائد الذي جعل من عصرنا “سدّاحا مدّاحا” كما يقول الكاتب المصري الراحل أحمد بهاء الدين (نسبة إلى عصر “السّح الدّح إمبوا” لأحمد عدوية)، نجد أن كُتيّبا هزيلا مثل “الحي يروّح” لنور شيبة الذي أقنع جمهورا واسعا بكلمات مبتذلة من قبيل “ربطية وراها ربطية…نور شيبة في المرناقية” … أو ما تقول عنه فاتن الفازع بأنه أدب وإبداع بكلام من نوع “يقولولي ياسر تتشرّط ياخي شروط كبار هاذم ؟ وزيد إي نتشرط على زيني وعيني وثقافتي ومستوايا كان جا عبد على قياسي مرحبا مكانش الوحش ولا الأذى”…أو كتب التنمية البشرية الحاملة لعناوين هي أقرب إلى بلاغة بيع أقراص منع الأرق مثل “قوة عقلك الباطن” أو “ابق قويا” أو “اعرف وجهك الآخر” إلخ… نجد أن مثل هذه المصنفات التي تُكتب بجرّة واحدة وعلى نفَس واحد، تشهد إقبالا واسعا ولا حاجة لها لا بحفلات التوقيع ولا بحملات التشجيع.

في ثقافة الإهداء وآداب البيع والشراء

عندما تلتقي صديقا أمضى سنوات كاملة وهو يكدّ ويجهد ويُقضّي لياليه يُقلّب الكلمات ويعجن المعاني من أجل الظفر بمؤلف يرقى إلى مستوى الجدارة بالنشر، لا تقل له “وأين نسختي ؟” أو “تعرف تهدي كان للإعلاميين باش يعملوا دعاية لكتابك” … بل قل “ها هي نسخة من كتابك اشتريتها للتوّ فدوّن عليها بعض الكلمات إن شئت” لأنه من التقاليد الإيجابية التي لا بدّ من تأسيسها بين الأصدقاء، أن يشتروا كتب بعضهم البعض تحفيزا ومقاومة لمناخ العزوف الشامل الذي لا تقلص كثافة الحضور الجماهيري الموسمي شيئا من حدّته.

أقول هذا بالرغم من أن الإهداء يوفّر لكلا الطرفين متعة متقاسَمة فيها فرحة حقيقية  تراها بيّنة في عينيْ من يُهدي لكون ذلك عنوان ودّ ومحبّة، وفي تقاسيم من يُهدَى له لأنه يعتبر ذلك توقيرا وتبجيلا.

الملاحظة الأخيرة ذاتيّة تماما أخصصها للسلفيات الكتابية

أرى أن معرض الكتاب ليس فرصة للتسوّق فحسب بل هو أيضا مناسبة سعيدة نُمتّع خلالها أنظارنا بمئات العناوين والأغلفة والأسماء ويافطات دُور النشر ونتصفّح مواجيز الكتب، كما نحتفي فيها بأصدقاء أعزّاء قدِموا من بعيد لتأكيد صفاتهم كقدماء ذهن أتوا من أجل جمع بعض المؤلفات للتوقّي بها من نكد الفضاء العام. كما تُشكّل هذه التظاهرة أيضا مناسبة نسعدُ خلالها بمصافحة قامات أدبية وشعرية وعلمية تونسية سامقة تُمْتعنا إنتاجاتهم ونُبرهن من خلالهم على أننا مازلنا نفخر في تونس بأسماء لا يزيد عنها كبار العالم شيئا في شتى المجالات.  فأن تلتقي في يوم واحد بأستاذ الفيزياء الكمية ومطوّر مركز النشر الجامعي الحبيب بوشريحة، ومبروك المناعي صاحب الكتاب الممتع “الموت في الشعر العربي”، وجميلة الماجري مؤلفة “ديوان النساء”، والحبيب صالحة المُروّج الفذّ للكتاب التونسي الناطق بالفرنسية على موجات إذاعة تونس الدولية … تلك متعة حقيقية تُطوى لها المسافات وترجو تجدّدها على مر السنوات.

أكمل القراءة

جور نار

ورقات يتيم … الورقة 29

نشرت

في

Cinéma : 8 910 626 photos libres de droits et images de stock | Shutterstock

يوم دخلت القسم اوّل مرة كمعلّم …انتابني شعور رهيب ..الشعور بجسامة مسؤوليتي ..كنت امام مجموعة من الصبية بوجوه آية في البراءة… وكانوا ينظرون باعجاب مشوب بدهشة الى معلّم شاب جدا من جهة ..وانيق جدا من جهة ثانية ..

عبد الكريم قطاطة
عبد الكريم قطاطة

كان هندامي متناسقا وكان حذائي لمّاعا وكانت ميدعتي ناصعة البياض لا كالتي يرتديها جل المعلمين في مدارسهم، حيث هي اشبه شيء بلوحة زيتية عديمة الذوق تختلط الالوان فيها … فهذه بقعة من بقية طعام ..وهذه آثار اقلام الحبر والطباشير تعلو زوايا اخرى منها… وهذا حذاء اسود اصبح رماديا اغبر … حاصيلو هندام في منتهى الاهمال او لنقل نوعا هي نوع من “الحُڨرة” لتلاميذ المدارس الريفية ..انا لا انكر ان جل التلاميذ في تلك المدرسة لم يكونوا على درجة كافية من النظافة ..ولكن انّى لهم بذلك ومعلمهم لا يعطي المثال والقدوة؟؟؟ اليست هي فرصة لهم ليعشقوا النظافة ويقتبسوا شيئا منها يوما ما ..؟؟ ثم ماذنب اولئك الاطفال في عمر الملائكة اذا كان حتّى ترسيمهم في منارة العلم لم يكن اقتناعا من عديد الاولياء في تلك الحقبة، لولا اجبارية التعليم التي فرضها الزعيم بورقيبة فما بالكم بنظافتهم ..؟؟؟

كانت الساعة تشير الى الثامنة صباحا عندما اصطفّ تلاميذ السنة الثانية امام القسم ..وباشارة منّي دخل الجميع وبهدوء الى قاعة القسم ..اخذ كل تلميذ مكانه دون هرج ودون خصام على الطاولات الاولى …ولم افهم مصدر ذلك الانضباط ..فانا لم اتكلّم بعد وهم لا يعرفون عنّي شيئا … جلست على حافة الطاولة وهي عادتي في التدريس حتى مع طلبتي بالجامعة في فترة لاحقة ..ربّما تأثرا ببعض الاساتذة الذين درست عندهم ..او ربّما لأنه لا الكراسي ولا الجلوس عليها كانت يوما همّي ..تناولت دفتر المناداة وبدأت في التعرّف على صغاري …وما شدّ انتباهي يومها ان اغلبية التلاميذ في قسمي يحملون لقبي “المحمّدي” و”العامري” ..كان قبالتي وجه صبوح دافئ ولطيف… محمد كمال المحمدي وبجانبه طاولة جلست عليها اختان فطوم وزهرة المحمّدي ..هما ليستا توأمين ..كل ما في الامر ان هنالك العديد من التلاميذ التحقوا في سن متقدمة بالمدارس فيحدث أن يدرس الاخوة في نفس السنة بنفس القسم …

فطوم كانت الكبرى وكانت ابتسامتها دوما حاضرة اما زهرة الصغرى فكانت ترتجف خوفا بسبب او دون سبب حتى انها كانت احيانا تكمل اجابتها عن اسئلتي بعين دامعة … دعوني اعترف لكم بأمر هام لازمني طيلة حياتي مع من وقفت امامهم كمعلّم او كاستاذ او كمؤطر … انا من زمرة اولئك الذين يغلب على اسلوبهم القساوة والشدّة ..اي الحرص الدائم …ولكن واقسم لكم بكل المقدذسات ان غايتي القصوى كانت دائما ان اكون مربّيا قبل اي شيء آخر …فانا اقول دائما لطلبتي: لا يهمّني ان تنالوا ديبلوماتكم بملاحظة حسن جدا .. بل الاهم عندي الاستفادة من كل ما تدرسونه لتعيشوا حياتكم بملاحظة ممتاز جدّا …

لهذه الاسباب حاولت ان اغرس في تلاميذي بمدرسة السبّالة عادات جديدة …علّمتهم فيما علّمت ان يقفوا جميعا عند قدوم ايّ ضيف للقسم ليسلّموا عليه وبصفة جماعية وبنغمة واحدة (“صباح الخيريا سيّدي”، صباحا …و “مساء الخير يا سيّدي” مساء) ..اما اذا قدم هذا الضيف مرّة ثانية فتكون التحيّة “مرحبا بك يا سيّدي”… وعندما اقبل المتفقد (سي الديماسي) اوّل مرة وسمع التلاميذ يقفون في لحظة واحدة وبصوت واحد صباح الخير يا سيّدي ..انبهر بهذه اللقطة البسيطة ايّما انبهار وحفظها في ذاكرته وردّ اليّ الجميل باحسن منها .. اليوم وللتعبير عن حرّية الكلمة بعد 14 جانفي يستحي مقدّم الاخبار ان يقول السيّد فلان رئيس الجمهورية او رئيس الجكومة او الوزير الفلاني …ملاّ قلّة حياء .. وملاّ جهل وملّة تخلّف …

في السبّالة علمتهم فيما علمتهم ان يجتمعوا يوم احد ليبنوا بايديهم هرما من الحجارة والاسمنت ويلونوا عليه علم تونس من جهة وخريطة تونس من الجهة الاخرى ..اعتزازا ببلدهم وبعلمه …علمتهم فيما علمتهم (وهذا خاص بتلاميذ السنة السادسة) ان يكسّروا صنم المعلّم وهو يلعبون معه طرح كورة… وان يتعاملوا معه كلاعب لا كمعلّم ..كنت بعض ايام الاحد اكوّر معهم ..وكانو في جلّهم “عضارط” جسديا والبعض منهم في سنّي او اكبر …وكنت كلّما حاولت التخلّص من اي مدافع منهم لاختلي بالحارس واسجّل، فتحوا لي “اوتوروت” حتى امرّ بسلام ..فكيف لتلميذ ان يعرقل معلّمه او يمسكه من قميصه؟! ..وكنت اغضب جدا من ذلك ..كنت اريد ان اغرس فيهم حبّ الدفاع عن اللون عن المريول عن الذات ..مهما كان اسم المنافس …

نفس تلاميذ السنة السادسة طلبوا من المدير ان اقوم بتدريسهم ساعات اضافية …ربّما لانهم احبّوا فيّ هذه العلاقة الودّية معهم ..وقبلت ذلك عن طواعية وبكل حب وايمان ..ولم اعتصم امام باب وزارة لا جلّول ولا المسعدي انذاك للمطالبة بحقّي في منحة الساعات الإضافية … فكيف للمربّي ان ياخذ اموالا وهو يدرّس ابناءه .؟؟.. تقولون عني طوبائي ؟؟ افلاطوني ..؟؟؟ غير واقعي ..؟؟ فليكن ..ولكن فخري واعتزازي اني هكذا تعلمت وهكذا سابقى ….ويوم سالني السيّد رضوان هنيّة مدير المدرسة عن كيفيّة الخلاص ابتسمت وقلت له: وهل طالبتك بخلاص …؟؟؟ انها هديّة لابنائي …

مرور الايام والاشهر الاولى في مدرسة سبّالة اولاد عسكر جعل منّي معلّما يحترمه الجميع … وفي مقدّمتهم المتفقد انذاك السيّد الديماسي ..كنت انيقا في اعداد مذكرات الدروس وفي دفتر الدروس اليومية …وللامانة كنت استعرت من احد زملائي في الدراسة الذين تخرّجوا من شعبة الترشيح بعض مذكراتهم ودفاتر دروسهم حتى اسير على منوالهم (شكرا صديقي محمد الحشيشة، وهو المعني بالامر) ..السيد الدّيماسي هذا كان لغزا في تعامله معي ..زارني ثلاث مرات للتفقّد …وكان في الاوليين يحضر الدرس ويغادر دون ان ينبس لا ببنت شفة ولا بعمّتها و ولا باحدى قريباتها … لم اكن خائفا ابدا من ايّ عدد سيعطيني ايّاه ..فانا مبتدئ وفي افضل الحالات كما تعود المبتدئون لا يمكن ان يتجاوز عدد التفقّد لهم عشرة من عشرين ..

ثم سي الديماسي هذا كان يصعب عليّ معرفة ملامح وجهه ..هو صندوق مُغلق … كنت استرق النظر احيانا له وهو يدوّن ملاحظاته ..وكنت عاجزا تماما عن فكّ شفرات ما بداخله ..يصافحني ويكتفي بـ “ربّي يعينك ولدي” …. ماذا تخبّئ لي الايام مع سي الديماسي هذا …؟؟؟ وللامانة واتصوّر ان ذلك يحدث مع اي معلّم، كنت انتقي في اغلب الحالات افضل التلاميذ للاجابة عن اسئلتي يوم التفقّد… وطبعا في مقدّمتهم كمال المحمدي وهو الذي لم يغادر المرتبة الاولى في كل امتحان ..وكم كانت سعادتي وانا التقي به يوما في عالم الفيسبوك ليصبح تلميذي النجيب الهادئ الوديع، صديقا لي رغم انّه وكغيره لم يستطع في اغلب تعاليقه او مراسيله التخلّص من “سيّدي”… وللجميع اقول انتم تسعدونني اكثر و جدا بكلمة صديقي ـ والله ـ جدا …

في التفقّد الثالث غادر الجميع القسم ولم يغادر سي الديماسي ..طلب منّي اغلاق الباب ونظر لي مليّا وقال، “شوف يا ولدي انا السنة مانيش باش نعطيك عدد ..لانو المفروض معلّم مبتدئ كيفك عادة ما يلزمش العدد يفوق 10 وفي افضل الحالات عشرة ونصف ..لكن وبكل امانة انت تستاهل 12 على الاقل ..لذا، عام الجاي نجيك ونعطيك حقّك ..ربّي يعينك وواصل في هذا الطريق” ..وخرج ولم يعد …صدقا كانت مشاعري في غاية السعادة …طز في العدد ..الذي هو في نظر جلّ الزملاء تأخير في مشواري للتدرّج في ثناياه ..الاهم عندي ان يقول عنك متفقّدك كلاما مثل ذلك الكلام …انه وسام تربوي وممّن ؟؟؟ من سي الديماسي … في تلك السنة كان قفّة المنفي (هكذا تقول عني عيادة وانا بعيد عنها) كانت قفّتي تاتيني كل اسبوع …وقفّتي هي تماما كقفّة السجين ..بما لذّ وطاب من مأكولات ايدي عيادة رحمها الله ..خاصّة انني كنت الجهلوت الاكبر في طهي طعامي ..فلا محاولاتي مع الشكشوكة ولا مع المحمّص والمقرونة، وجدت صدى طيّبا مع امعائي ..كنت (نبلبز ونحط) وهنيئا في ما بعد للكلاب السائبة بها …لا طعم ولا رائحة ولا شيء فيها من نكهة الطعام العادية ..فما بالك وانا اقارنها بنكهة ايدي عيّادة التي يشهد لها الجميع بجودة صويبعاتها في الطهي ….

كان صديقي (لطيّف المعزون، “لوريمار” ) هو من يتكفّل بمأمورية ايصال القفة لحافلة النقل العمومي الرابطة بين صفاقس والقصرين ..والتي استقبلها انا امام محطة سبالة اولاد عسكر …هذه القفة التي هي بمثابة كنز من كنوز سليمان ..كانت احيانا تحمل كنزا من كنوز بلقيس ملكة سبا ..انها رسالة من ملكة صفاقس ..من “ما ابلدك” لا يتجاوز محتواها بعض الاسطر للتعبير عن شوقها لرؤيتي واعتزازها بي وطمأنتي على انها سنتظرني وانها لي انا وليست لغيري ….طيلة تلك السنة رايتها مرة واحدة … كان ذلك عندما بلّغتها اني ادعوها ثاني عيد الفطر لكي ندخل معا الى السينما ..بلّغتها عن طريق اختي الصغرى وطمأنتها ان ساعية البريد اي اختي ستكون معنا ..حتى لا يذهب ظنّها الى تأويلات لا تليق بي وبعلاقتي معها .. كان ذلك منذ حلول شهر رمضان … طبيعي انّو الواحد يبدا يتكتك من وقتها ..باش يعيّد عيدين … وجاني الرد ..جاني الرد جاني ولقيتها بتسناني …

نعم وافقت حبيبتي على مشروع العمر ..ووجدتني يوم الثاني عيد بجانب المسرح انتظرها مع اختي… وكانت الاغنية انذاك التي تصدح بها مكبرات صوت بائعي الالعاب امام باب الديوان، “.هذه ليلتي” ..وكان المقطع انذاك (يا حبيبي طاب الهوى ما علينا ..لو حملنا الايام في راحتينا … صدفة اهدت الوجود الينا …واتاحت لقاءنا فالتقينا) ….يومها احسست بان جورج جرداق كتب الاغنية لي وبأن عبد الوهاب علم بحكايتي مع “ما ابلدك” فتفنن في العزف على اوتار قلبي واخرج من حشاشته لحنا من اروع ما لحّن لام كلثوم ..اما الست فكانت تؤدي لي انا ..لي وحدي من دون كل العالم …وهذه من الاشياء التي جعلتني يوما ما ادرك وافهم واتفهّم ما معنى ان يعتبر مستمعك انك تحكي له وحده من دون الناس وحده …وحده ..وحده …بل ويرفض رفضا قاطعا ان يقاسمه فيه ايّ احد آخر ..

يومها كانت اول مرة.نسلّم على بعضنا بالـ… بالايادي …اشنوة تحسابو الامور بالبوس وحدة في ها الخد ووحدة في ها الخد …؟؟؟ .. رغم انو توة معظم البوس وحدة في هالهواء والاخرى في الهواء الاخر …اما بوس واما تخريف ؟؟..وقتها تسلّم على وحدة بالبوس ..؟؟؟ تحب تشنع الدنيا ..؟؟… تحب تبيلك الامور على راس الطفلة .؟؟؟ تي باليد ويجعلك تسلم ….يومها كانت قاعة الهلال هي التي احتوتنا …وكانت اختي تتوسّطنا …ينعم ..واحمد ربي زادة الي حبيبتك جات وقبلت تدخل معاك للسينما …كنا في القاعة غريبين ..ولي يقين اننا لم نشاهد وقتها الفيلم ولم نعرف عنه اي شيء ولكن كان كل واحد منّا “كيف ريح الشّيلي يطيّب وما ياكلش”… وكانت اللقطات الغرامية في الفيلم تجعلنا في مواقف لا نحسد عليها فنحن في علاقتنا مع الللقطات الغرامية (اللي نراها بعينينا ونموتو بقلبنا ) اشبه بـبهايم الفندق وحيد تاكل في الشعير ووحيد تتشلهق …وما ان بدا اللحن المميّز ايذانا بنهاية الفيلم حتى رايتني اغادر خلسة مكاني قبل ان تشتعل اضواء القاعة حتى لا يراني احد ويكون شاهدا على جريمتي مع بنت الناس وكذا فعلت عند دخولي للقاعة … تسرسبت تحت مس وزعمة زعمة انا بحذا اختي …انه اللقاء الوحيد الاوحد الاحد الذي جمعني بحبيبتي طيلة تلك السنة …

في تلك السنة ايضا طرأ تحوّل كبير في علاقتي بمحيطي… اصبحت في نظر سكان الحوش جميعا مُهابا …اشبيك راني مُعلّم ..وكذلك في نظر اصدقائي بالساقية ..سي المبروك رحمه الله يستقبل ابنه بكل حماسة وفخر واعتزاز… اصدقائي اصبحت سخيّا معهم في مصاريفنا المعتادة (القهوة والسجائر وزيارة الباب الشرقي)… وحتى اللجنة الثقافيّة انذاك دعتني لتقديم محاضرة وعلى هوايا ..حتى اساهم في انشطتها الثقافية في العطل ..واستجبت بكل نرجسيّة ..وكانت اولى كتاباتي الرسمية ..كانت محاضرتي انذاك بعنوان واحد مع واحد يساوي ثلاثة …؟؟؟؟ العنوان كان غريبا للعديد ..مما جعل القاعة يومها تغص بالحضور ..جل المستويات التعليمية والثقافية كانت حاضرة ..وكالعادة صنف منها كان ومازال مفتخرا بي وواثقا من ان هذه الطلعة لن تكون مجانية ..وصنف ثان كان ومازال ساخرا هازئا بهاللي يقولو عبدالكريم .. واش عامل في روحو …

وللامانة انا اعذر دوما هذا الصنف الثاني لانه اما يكون مريضا معتلا في موقفه لأنه عليه ان يستمع ثم يحكم ..او هو حاسد حاقد اصمّ اعمى ..يستحيل ان يخرج من كهف الحماقة والبغضاء …ربي يشفيهم …الفكرة كانت يومها بسيطة ..ويمكن حوصلتها في ان الارادة والبحث والمثابرة هي الكفيلة بتحقيق ما نصبو اليه… وعندما نفترض جدلا ان واحدا مع واحد يساويان ثلاثة ونحاول البحث عن حلولها سنكتشف في طريق البحث اشياء لم نكن نعرفها …اي المعرفة …..وهذا يعني بل ويقتضي التزود بالارادة حتى ولو كان الحل مستحيلا لنصل الى الممكن والذي كان مجهولا وهو الذي لولا بحثنا . لبقي مجهولا … المحاضرة كانت مدعّمة باقوال مشاهير من العلماء والفلاسفة حتى لا تكون فقط مواقف شخصيّة …وصفّق الجميع للشّاطر عبدالكريم ..كان كل همّي في اخر السنة تلك: كيف احسّن وضعيّتي المهنيّة من مدرب صنفا ثانيا الى مدرّب صنفا اول ..وهذا عمليّا لا يمكن الا بفرضيتين ..اما التدرّج في اعدادي التفقدية وهو ما يستلزم ثلاث سنوات على الاقل… او بالحصول على الجزء الاول من البالكالوريا …وكيف لي ذلك وانا الذي تحوّلت الى موظف له راتبه الشهري وله مكانته الاجتماعية وله نسق مادي جديد وله حبيبة تنتظره في منعطف الطريق …..؟؟؟؟

اختلطت بداخلي كل هذه الاشياء ووجدتني فكريا وعاطفيا واقفا بمفترق طرق يُدعى اهم شارع فيه: شارع الضباب …. يا شارع الضباب مشيتك انا، مرة بالعذاب ومرة بالهناء… في ضيّ القناديل الباهتة …ولانه كما في الحياة غشاوة قناديل باهتة فانها ايضا تهبنا انوار قناديل قد لا ننتظرها ….واشتعلت القناديل عندي ….

ـ يتبع ـ

أكمل القراءة

جور نار

ورقات يتيم … الورقة 28

نشرت

في

Les outils de l'enseignant

في حياة الواحد منّا هزّات تعصف باحلامه او لنقل تعصف بالعديد منها ..هزيمتي في تجاوز عقبة الجزء الاول من الباكالوريا اربكتني لاسباب عدّة ..اولها نرجسي ..لاّني كنت دوما في نظر محيطي من عائلة واصدقاء وزملاء في الدراسة واساتذة ..عبدالكريم الشاطر ..فاجدني خذلتهم جميعا ..

عبد الكريم قطاطة
عبد الكريم قطاطة

ثاني الاسباب ان وضع العائلي المادي لم يكن يسمح بمزيد المصاريف … وثالثهما تلك الفتاة التي ارتبطت بها عاطفيا ..كيف لي ان اوفّر لنا معا الارضيّة لبناء عشّ مشترك ..لهذه الاسباب مجتمعة قرّرت ان لا رجعة للدراسة والبحث عن شغل …. مستواي الدراسي في تلك الحقبة من الزمن (سنة 1968) كان يسمح لي بولوج دنيا الشغل فالاطارات التدريسية انذاك كانت تحتاج الى معلّمين واساتذة وفي اختصاصات متعددة .. لذلك كنا نجد في جل معاهدنا نقصا فادحا في الاطارات التونسية، حيث تلتجئ تونس الى متعاونين من فرنسا وبلجيكا وحتى من الولايات المتحدة الامريكية لتدريس لغتي الفرنسية والانكليزية … وتلجأ كذلك الى اساتذة من فلسطين لتدريس بعض المواد العلمية كالرياضيات والعلوم الطبيعية والفيزياء والكيمياء …

اما في التعليم الابتدائي فكانت الحاجة ملحة جدا للمعلمين خاصّة في الاماكن الريفية النائية حيث يغلب على نظام التدريس فيها طابع الفرق … اي 3 مستويات مثلا من الاولى الى الثالثة في قسم واحد ومع معلّم واحد يوزّع مدّة الحصّة الواحدة للمستويات الثلاثة ..ولهذا السبب كانت وزارة التربية انذاك تعمد لانتداب ما يسمى مدربين … فمدارس الترشيح انذاك ورغم الدفعات التي تتخرج منها لم تكن تفي بحاجة البلد الى المعلّمين… وكان المدربون صنفين: مدرب درجة اولى وهو الذي اتم دراسته في السنة السادسة ثانويا اي السابعة حاليا دون نيل الباكالوريا ..او مدرب درجة ثانية وهو الذي اتم دراسته حتى الخامسة ثانويا دون نيل الجزء الاول من الباكالوريا وهي حالتي…وعزمت على التقدم بطلب في الامر …وقُوبل طلبي بالايجاب ..لكن مع وجوب القيام بتربّص بيداغوجي في ميدان التدريس وعلى امتداد شهرين مع متفقد تعليم ابتدائي مكلّف للغرض ..

وبدأنا التربّص … كان ذلك بـ”الليسيه” (معهد الهادي شاكر حاليا) وكان سي محمد الصغيّر هو رجل المرحلة… كان متفقدا يتّقد نشاطا وحيوية … كان ذا كاريزما “ترعب” وبقدر ما كان يجيد ويبدع في ايصال المعلومات الخاصّة بتكويننا بيداغوجيا ..بقدر ما يبدع ايضا في الاستماع الينا وبكل تركيز …ربّما لانه كان مطالبا ايضا باختيار افضلنا في نهاية التربّص لترسيمنا بقائمة المتربصين الناجحين ..ولكن والاكيد انه فعلا يحسن الاستماع خاصّة عندما يجيب احيانا بابتسامة قد تكون ساخرة وقد تكون مرادفة للاعجاب والاقتناع …وانتهى التربّص وقبل ان يودّعنا راجيا للجميع حظا سعيدا في انتظار التعيينات ..جذبني السيد محمد الصّغيّر على انفراد وهمس لي: “واصل في اجتهادك ..ستنجح حتما كمربّ .. انا فخور بك ..ولا تبح بالامر لايّ من زملائك” …

كانت تلك الكلمات كفيلة بترميم ما زلزله فشلي في الجزء الاول من الباكالوريا … عاد عبدالكريم الشّاطر الذي غيّبته الهزيمة ..وحضرت في تلك اللحظة جموع مكوّنات محيطي ..حضرت صورة عيّادة وهي تزغرد لولدها الذي اصبح معلّما ..والمعلّم انذاك بمقام الدكتور حاليا ..حضرت صورة اصدقائي وهم يستقبلون “سيّدي المعلّم” بحانوت الحلاّق بكل فخر واعتزاز ..عادت صورة رجل اختي رحمه الله الذي تكفّل بجلّ مصاريفي و”جاء وجهو للضوء”… عادت صورة سي مبروك الحمّاص رحمه الله الذي تكفّل بمصاريف سجائري وحان الوقت من جهته ليفتخر بابنه… ومن جهتي حان الوقت لردّ جميله ..عادت صورة الشّامتين الذين فرحوا لفشلي …والشامتون لم ينقطعوا يوما في حياتي شفاهم الله وغفر لهم _.. وحضرت صورة تلك الفتاة التي لابد ان تفخر بي وانا ادخل عالم الوظيفة …خاصة ان زوج اختها هو ايضا معلّم بالتعليم الابتدائي … كانت همسات سي محمد الصغيّر بمثابة عطر رّش على فاقد الوعي فاعاده الى وعيه وبكثير من الزهو والنرجسية ..

يومها لم اعد الى حوشنا كسائر ايّام الجمر ..يومها حلّقت الى امّي كعندليب اسمر لازفّ لها خبر نجاحي في التربّص …”هيّ دي هيّ فرحة الدنيا دق يا قلبي غني يا عينيّا” … وكعادتها عبّرت لطفلها عن فرحها وباحتراز حيث همهمت: “ما نصدّق اللّي ما نعنّق”… اما سي محمد فكعادته ادمعت عيناه وهبّ مسرعا لشراء رطل لحم حتى يكون زردة لابنه الذي اصبح “معلّم قدّ الدنيا” .. السنة الدراسية في تلك الحقبة كانت تنطلق في الفاتح من اكتوبر ..وحتى نهاية جوان ..وبدأت عقارب ايّام شهر سبتمبر تمرّ ببطئ شديد ..وكأن قدر سبتمبر ان يشترك في اول حرف في سرعته مع السلحفاة ..وجاء يوم 15 سبتمبر ليحمل لي ساعي البريد (جارنا سي علي غربال الو يا قابس شكشوكة ..هل تتذكّرونه ؟؟ رحمه الله) …حمل لي برقية من وزارة التربية …ياااااااااااااااااااه عبدالكريم شاطر بالحق ..؟؟ لقد وقع تعييني مدرّبا صنفا ثانيا بالمدرسة الابتدائية بسبّالة اولاد عسكر … وهي على الطريق الرابطة بين صفاقس والقصرين طريق منزل شاكر وقبل الوصول الى سبيطلة ببعض الكيلومترات …

وانبرت عيّادة في اعداد عدّتها من محمّص وكسكسي وملثوث كمؤونة لي ..وانبرى سي محمد في شراء بعض الملازم …سرير حديدي وطاولة صغيرة وبعض الاغطية …(اشبيك راهو ولدو معلّم ..؟؟)… وانبريت انا في التبضّع بما يلزمني من سجائر وادوات مدرسية لازمة لمهنة المعلم من مذكرات ودفتر الاعداد اليومي واقلام حبر مختلفة الالوان ..كل تلك المصاريف كانت بالكريدي … وحتى المال اللازم لتنقلي في المدّة الاولى كان ايضا بالكريدي ..ولا يهمّك، ما هي الا اشهر و(تهبط الدزّة)…جراية ثلاثة اشهر وهي التي لا تصل في مجموعها حتى المائة دينار ..نعم جراية المدرّب صنف 2 انذاك كانت بالضبط 31 دينارا ..واستاذ التعليم الثانوي كان راتبه 60 دينارا …. طبعا وحتى ننسّب الاشياء كان كيلو اللحم بـ 700 مليم ..

جاء يوم 30 سبتمبر وانتقلت لاول مرة في حياتي من تلميذ الى موظّف ..وصلت الى السبّالة على الساعة الثالثة ظهرا ووجدت في استقبالي السيد حاجب المدرسة (ابراهيم رحمه الله) وعلى بعد امتار منه المدير السيد رضوان هنيّة …كان الاستقبال مزيجا من الترحاب العفوي الجميل من ذلك الحاجب الريفي ..و من الدهشة …هذا الولد هو المعلّم .؟؟؟ بهذا الجسم النحيف..؟؟؟ ..بهذا العمر الغضّ ..؟؟ ولعلّ نفس الاحساس كان ينتاب حضرة السيّد المدير ابن القلعة الكبرى المدينة الساحلية وصاحب الجسم الممتلئ… والذي لم يجد فيّ الا الكوخ الصغير او لنقل احد اعمدته السمراء ..الا انه وبصدق كان متّزنا جدّا ..هادئا ..رصينا ..وصلت ودلّني الحاجب على مسكني او بالاحرى غرفتي حيث كانت الوزارة انذاك تمنح المعلّمين في المدارس النائية سكنا مجانيا ..

حمل معي ادباشي دون ان اكون معه ..الريفيون في جلّهم يقدّرون تقديرا لا حدود له الضيف عامة ورجل التعليم خاصّة ..لذلك لم يتركني احمل معه ايّ شيء… كان في كل مرة يقسم باغلظ الايمان انه هو فقط من سيتكفّل بايصال الادباش (هو يصير سي عبدالكريم ؟؟ راك معلّم … هكذا كان يقول وبكل عفويّة وصدق)…وحتى عندما هممت باعطائه شيئا من المال (500 مليم) لشكره على تعبه، انتفض غاضبا وابتعد مسرعا واضاف: “اهاه يا سي عبدالكريم ..ما يشرقش علينا ..واش درت انا حتى تعطيني 500 فرنك..عيب” ..وهرب … دخلت بيتي لاستريح قليلا ..وتمددت على سريري ..هل تفاجؤون اذا قلت لكم انها اوّل مرة في حياتي اتمدّد على سرير ..؟؟ نعم سريري قبل ذلك كان بساطا تصنعه امي من قماش يلف بعض الملابس المترهلة ..وفي افضل الحالات صيفا “جلد علوش” وكفى …

اغمضت يومها عينيّ واحسستني انام على عرش كسرى انو شروان ….خرجت بعدها الى المدرسة لاكتشف اقسامها ثم الى مكتب المدير لالتقي الزملاء المعلّمين ..كنا سبعة..اثنان من صفاقس… ثالث من قرقنة… رابع من مساكن… خامس من القلعة… سادس من السواسي وسابع من فريانة …خليط من مدن متعددة ..كنت اصغر واحد فيهم عمرا وجسما ..بل يكاد الواحد منهم سنّيا يكون ابا لي ..ونظرت اليهم فقرأت في اعينهم نظرة تساؤل واستغراب يمكن حوصلتها في (زعمة هالولد ماشي ينجم روحو ..؟؟) وبعبارة اخرى …(اش ماشي يعمل ها الفرخ اللي مازال كيف حلّ عينيه في الدنيا ؟)..او بعبارة ثالثة …(مسكين التعليم قداش كب ربّي سعدو) …ربّما لو حدث الامر في هذه الحقبة لخرج هؤلاء الزملاء في اعتصام امام وزارة التربية للتنديد بجلّول على تطّيح القدر متاعهم كمربين وهو يرسل معهم هاالفرخ، يقاسمهم المهنة الشريفة والتي ما اصبحت في يومنا شريفة بعد ان انتهكتها كل الاطراف ..وبعد ان اصبحت واصبح التلميذ فيها كبش فداء لكل التجاذبات… لك الله يا تعليم لا تربية فيه ….

تكلّم المدير مرحّبا بالجميع ومقدّما الجميع .. ووزّع السنوات على الجميع …وعرفت انّه اختصّني بالسنة الثانية ابتدائية وهي المتكونة من قسمين ..حمدت الله على ذلك لان التعليم في مرحلته الابتدائية حسب ما توفّر لي في التربّص الصيفي من معلومات، يكون اكثر سهولة في السنوات الزوجية (الثانية والرابعة والسادسة) مقارنة بصويحباتها الفردية (الاولى والثالثة والخامسة)… تمنّى للجميع التوفيق في سنتنا الدراسية واستدار للبعض منّا وقال كيف العادة نسهرو في دار سي عبدالحميد ..(سي عبدالحميد هذا هو اكبرنا سنّا على ابواب التقاعد وهو مختص في تدريس السنوات الاولى) وفهمت من اشارة المدير للالتقاء ببيته انهم على موعد يومي بمقهى المدرسة والمدرّسين وبعيدا عن الاعين للشكبّة والروندة ..بل واكتشفت ايضا العابا لم اكن اعرفها كالبليڨو والتريسيتي علاوة طبعا على النوفي …

لم اشاركهم ليلتها السهرة .ولم اشاركهم يوما العابهم …كنت منشغلا بترتيب بيتي ..وهي المرة الاولى التي ارتب فيها بيتا ..قبلها كنت وكسائر الاطفال الذكور نترك ذلك لاخواتنا الفتيات ..ذلك اختصاصهن و”يومها مشوم” التي لا تقوم بذلك حالما تفتح عينيها من النوم ..ليلتها لم انم الا قليلا ..غدا ساكون معلّما فعلا ..جالت بفكري عديد الذكريات ..عدت الى سنواتي الاولى في التعليم الابتدائي تذكّرت: ” ما بك .؟؟ هرب طاهر بكرتي” …و “لسعت حليمة عقرب فجعلت تبكي وتقول اُّو ..اّو ..أّو” .. تذكّرت: “هذا مفتاح بابك …و “هذا ابي مبروك” … وعدت الى واقعي بهذه المدرسة الريفية ..اين سأجد الكرة لامارس هوايتي ..؟؟ هل فعلا هرب بها طاهر ..؟؟ و حليمة التي لسعتها العقرب ..وواقعي في السبّالة يقول ان العقارب لا معنى لها ولا خوف منها امام الثعابين وخاصة الذئاب … المتسكعة ليلا نهارا .. و مفتاح الباب ….؟؟… غدا سافتح بمفتاح فكري وقلبي ووجداني صفحة جديدة في حياتي ..اما الاب مبروك فذلك شأن بعيد المنال لأني ومهما كنت محظوظا لن اجد مبروكا اخر مثل سي مبروك الحمّاص في بسمته الجميلة وطيبته ووداعته .

.تدثّرت بغطائي (من راسي لساسي) وقلت كما كانت تردد “سكارليت” في فيلم ذهب مع الريح وعندما تتمشكل عندها الحياة: “غدا ستكون الامور افضل” …هي حكمة جدّ ثمينة ليتنا نتعلّمها جميعا عندما تتمشكل الحياة ..لذلك كنت دوما انصح نفسي والاخرين “ما تمشكلوهاش” …وبمعنى اخر علينا ان لا نعطي الفرصة لايّ اشكال ان يضحك علينا وهو يرانا مهمومين ..بل الانسب ان نضحك عليه ..ادرك جيدا ان الفارق شاسع بين النظري والعملي ولكن يكفي الواحد منّا شرف المحاولة، حتى تشرق الشمس من جديد ….ونمت …لا ادري كم …. لا ادري متى ..لا ادري كيف .. لان موسيقى الذئاب لم تنقطع طيلة الليلة …والغريب انه لم ينتبني شعور بالخوف منها ..علاوة على صرير الرياح الذي رافقها …المدرسة كانت محاطة بهضاب ولا شيء غير الهضاب …بعض المنازل المتناثرة على سفوحها …اما نحن المعلّمين فكنّا محظوظين لان بيوتنا لا تبعد عن المدرسة الا بعض الامتار ..وكنّا محظوظين ايضا لان المكان كان به حانوت عطرية …وبه جزار ..وكفى بالله حسيبا ..وكنا محظوظين لان المدرسة تقع على الطريق اي انها ليست في الارياف العميقة ..التي تستوجب بغالا او احمرة كي نصل اليها ..عرفت في ما بعد اني ولأني نجحت في التربص متحصّلا على المرتبة الاولى، وقعت تسميتي بتلك المدرسة (اي كان عندي بونيس) لان زملائي المتربصين الآخرين وقعت تسميتهم ..في ادغال الريف … ومدرسة السبالة حاليا اصبحت معهدا ثانويا بعد ان تحولت المنطقة من عمادة الى معتمدية تتبع سيدي بوزيد وبعد ان كانت تتبع القصرين …

واستفقت صباح اول يوم من اكتوبر 1968 …لبست ميدعتي البيضاء وحملت محفظة المعلم السوداء الكبيرة …وقصدت القاعة المخصّصة لتلاميذ السنة الثانية ..كانت الساحة تغصّ بالاولياء، الذكور طبعا ..فالمرأة الريفية لا يحق لها ان تكون هنالك …فهي اما ان تقوم بشؤون البيت اوهي ترعى المواشي وما تبقّى شؤون رجالية صرفة ..وكنت المح في اعين جلّهم السؤال ….شكونو ها الشنتي ..؟؟؟ ولعل سؤالهم منطقي جدا ..بقيّة المعلمين هم معروفون لديهم وانا (ها الشنتي) معلّم جديد في المدرسة .للمرّة الاولى ..وصفّر الحاجب …واصطفّ التلاميذ امام قاعاتهم …وانا متوجّه الى القاعة كنت مشتت الذهن ..كيف ساتعامل معهم ….؟؟؟.هل اكون مثل سي عبدالقادر اليانڨي وسي علي الشعري رحمهما الله في كاريزمتهما .؟؟ .هل ساكون مثل سي شراد في ليونته وعطفه عليّ ؟؟ .. مثل مسيو دوميناتي في دهائه ؟؟؟؟.. اغمضت عينيّ وقلت كما اوصتني عيّادة: “يا رضاية الله يا رضاية الوالدين”….

لم اكن وقتها ذلك المؤمن جدا بمثل ذلك الدعاء .ولا حتى بواجباتي الدينية ..كنت “صايع” ولكن اكتشفت بعد مراحل من الزمن ان رضاء والديّ على الاقل وارجو رضاء الرحمان…لاني لا ازكّي رضاء الله عليّ فهو وحده من يعلم ما في الصدور وهو وحده احكم الحاكمين _…اكتشفت ان دعاء والديّ كم اسعفني في ظروف حالكة من عمري …وكم وقف حاجزا لصدّ وابعاد الشر عنّي ..ولانني احبّكم جدا استسمحكم في دعوتي لكم للبرّ بوالديكم وهم احياء ….لا تضيّعوا عنكم فرصا قد لا تعود ..بوسوا ارجلهم صباحا مساء ويوم الاحد ..لانهم سجّادة الحياة .الناعمة ….الفواحة … والتي لا مثيل لها …

أكمل القراءة

صن نار