تابعنا على

شعريار

كلمات حبّ عميق … من حمة الهمامي إلى راضية النصراوي

نشرت

في

للسياسة تضاريسها الوعرة التي لا تسلم من هزّاتها عربة و لا فارس … و من فرسانها من ينتصر، ومن يكبو قبل الوصول، و هناك من لا يسابق أصلا و أولئك هم الشهداء … و قد نختلف ـ بل نختلف جدّا ـ مع بعض علامات تاريخنا السياسي و لكننا نبقى نحترم تجربتهم و اجتهادهم في المعدل العام … حمة الهمامي أحد هؤلاء، طبع الساحة الطلابية ثم السياسية على مدى الخمسين عاما الماضية … وعندما التحقْت بالجامعة أواخر السبعينات كان هو غادرها بعدُ إلى معترك المعارضة و السجون، مما جعل منه أسطورة على أفواه الطلبة في تلك الفترة و قد أُلِّفتْ له حتى الأغاني الثورية … و تدور الأيام والأعوام و تأتي هذه الثورة أو اللاثورة و تسبقها مخاضات و تليها ولادات أغلبها مشوّه، و من سوءات ذلك تحطيم أيقونات عدة أهمّها في تقديري الثنائي حمة الهمامي و راضية النصراوي اللذين يرى كثيرون أنهما تأخرا في الانسحاب من مستنقعنا الذي لا عفة له … غير أن كل هذا، لا يقدر على محو هذه القصة الجميلة، قصة عاشقيْن حقيقييْن، التي ولدت بين الأسلاك الشائكة و أمام كلاب البوليس و برائحة أدخنة اللاكريموجين … قصة إنسانية راقية، أرقى حتى من تصرفات بطليْها أحيانا في الحياة العامة و لُجج الساسة …

لهذا، قرأنا هذا النص الفائض مشاعر و ارتأينا إعادة نشره في جريدتنا “جلّنار” التي كانت ستبقى ناقصة شيئا، إذا فاتتها نصوص كهذا …

ـ عبد القادر المقري ـ

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

نشيد الحُبّ *

نَشِيد: حَمَّه الهَمَّامِي إلَى راضِيَة قَبْلَ أُسْبُوعٍ مِنْ حُلُولِ العِيدِ الأَرْبَعِين لِزَوَاجِنَا المُوَافِق لِيَوْم 29 أُوت/أغُسْطُسْ 2021

َأيُّها الحُبُّ، يَا أَعْظَمَ وَأَنْبَلَ وَأَرْوعَ وَأَصْدَقَ وَأَقْدَسَ وَأَثْمَنَ مَا أَبْدَعَ الإِنْسَانُ مِنْ مَشَاعِرَ… أيُّهَا الحُبُّ، وَأَنْتَ القِيمَةُ المُثْلَى الأَبَدِيّةُ المُنْتَصِرَةُ التِي تُجَمِّعُ وَلَا تُفَرِّقُ، تُغْنِي وَلَا تُفْقِرُ، ترْفَعُ وَلَا تُسْقِطُ… عَرَفْتُكَ وَفَهِمْتُكَ وَسَبَرْتُ أَغْوَارَكَ وَكَشَفْتُ أَسْرَارَكَ حَتَّى أَصْبَحْنَا صَدِيقَيْنِ، حَمِيمَيْنِ، سَوِيَّيْنِ لَيْسَ عِنْدَكَ مَا تُخَبِّئُ وَلَيْسَ عِنْدِي مَا أُخَبِّئُ… وَأَطْرَفُ مَا فِي الأَمْرِ أَنَّنَا اسْتَقْرَرْنَا فِي نَفْسِ القَلْبِ الذِي أَصْبَحَ مَسْكَنَنَا المُشْتَرَكَ نَتَعَايَشُ فِيهِ فِي وِئَامٍ تَامٍّ وَنَنْطَلِقُ مِنْهُ فِي كُلِّ لَحْظَةٍ لِنَعُودَ إِليهِ مُسْرِعَيْنِ… أَيُّهَا الحُبُّ لَوْلَا رَاضِية لَمَا تَعَارَفْنَا وَلَمَا تَصَادَقْنَا وَلَمَا حَمَلَ كَلٌّ مِنِّا هَمَّ الآخَر وَلَجَأَ مَعَهُ إِلَى نَفْسِ المَلْجَأ وَظَلَّ يَدْفَعُهُ إِلَى الأَمَامِ وَيَأْمُرُهُ بِالسَّيْرِ دُونَ الْتِفَاتٍ إِلَى الوَرَاءِ، حَتَّى أَنَّكَ قَبِلْتَ رَاضِيًا، مُسْتَسْلِمًا، غَيْرَ مُحْتَرِزٍ، أَنْ تَكُونَ أَنْتَ هِيَ، لِأنَّهَا هِيَ أَنْتَ… رَاضِية الحُبُّ وَالحُبُّ رَاضِيَة. لَمْ أَعُدْ أَدْرِي أَيُّكُمَا المُبْتَدَأُ وَأَيُّكُمَا الخَبَرُ، أَيُّكُمَا النَّعْتُ وَأَيُّكُمَا المَنْعُوُتُ، أَيُّكُمَا المُضَافُ وَأَيُّكُمَا المُضَافُ إِلَيْهِ، أَيُّكُمَا البِدَايَةُ وَأَيُّكُمَا النِّهَايَةُ… فَأَنْتُمَا الشَّيْءُ نَفْسُهُ تَتَبَادَلَانِ الأَسْمَاءَ وَالمَوَاقِعَ لَا غَيْرَ.

كَانَ اخْتِيَارُنا، رَاضِيَة وَأَنَا، انْصِيَاعًا حُرًّا لِأَوَامِرِ القَلْبِ. لَمْ تُؤَثِّرْ فِينَا إِلَّا أَنْتَ أَيُّهَا الحُبُّ. لَا المَالُ وَلَا العَادَاتُ وَالتَّقَالِيدُ وَلَا العَائِلَةُ كَانَتْ ضَاغِطَةً فِي اخْتِيَارِنَا… لاَ شَيْءَ إِلاَّ أَنْتَ أَيُّهَا الحُبُّ. لَكِنَّ ضَغْطَكَ كَانَ رَقِيقًا، لَطِيفًا، فِي مُنْتَهَى العُذُوبَةِ… تَتَذَكَّر أَيُّهَا الحُبُّ أَنَّنِي كُنْتُ وقْتَهَا حَدِيثَ الخُرُوجِ مِنَ السِّجْنِ. قَابَلْتُهَا يَوْمَ 24 جَانفِي/يَنَايِر مِنْ عَامِ 1981 بِمَكْتَبِهَا الكَائِنِ بِشَارِعِ الحَبِيب ثَامِر قُرْبَ حَدِيقَة “الباساج” بِالعَاصِمَةِ. كُنْتَ يَوْمَهَا تَتَرَبَّصُ بِنَا أيُّهَا الحُبُّ لِتُوقِعَ بِنَا فِي شِبَاكِكَ. وَرُبَّمَا كُنْتَ وَقْتَهَا لَا تَثِقُ بِي كَثِيرًا وَأَنَا الخَارِجُ حَدِيثًا مِن عَالَمِ السِّجْنِ بِقَحْطِهِ العَاطِفِي وُخُشُونَتِهِ وَرُعُونَتِهِ وَكَبْتِهِ… سُقْتَنِي إِلَى مَكْتَبِهَا فِي الطَّابِقِ الرَّابِعِ مِنَ العِمَارَةِ التِي تَأْوِي إِحْدَى شَركِاَتِ التَّأْمِينِ المَعْرُوفَة… بَادَلْتُهَا التَّحِيَّةَ وَجَلَسْنَا، هِيَ وَرَاءَ مَكْتَبِهَا وَأَنَا عَلَى كُرْسِي فِي الجِهَةِ المُقَابِلَةِ… تَحَدَّثْنَا عَنْ أَشْيَاء عِدَّةٍ لَكِنَّنَا كُنَّا مُقْتَنِعَيْنَ لَحْظَتَهَا أَنَّ تِلْكَ الأَشْيَاءَ لَمْ تَكُنْ غَايَةَ لِقَائِنَا. كَانَتْ طَرِيقَةً لِلْهُرُوبِ مِنَ المَوْضُوعِ الأَسَاسِ أَوْ رُبَّمَا طَرِيقَةً لِاصْطِيَادِ الفُرْصَةِ المُنَاسِبَةِ لِإثَارَتِهِ… وَفِي لَحْظَةٍ مِنَ اللَّحَظَاتِ نَظَرَ كُلٌّ مِنَّا إِلَى الآخَرِ وَكَأَنَّنَا نُرِيدُ أَنْ نَقُولَ “كَفَانَا ثَرْثَرَةً”. تَعَطَّلَتْ لُغَةُ الكَلَامِ. نَظَرَتْ هِيَ فِي عَيْنَيَّ وَنَطَقَتْ… كَانَتْ لَهَا الجُرْأَةُ عَلَى أَنْ تَكُونَ البَادِئَةَ وَالبَادِئُ فِي الحُبِّ هُوَ الأَجْمَلُ وَالأَعْظَمُ: “أُحِبُّكَ…أَنَا أُحِبُّكَ ….”. كَادَ كِيَانِي يَنْفَجِرُ شَظَايَا مِنْ وقْعِ النُّطْقِ بِاسْمِك أَيُّهَا الحُبُّ… اِنْسَابَتْ كِيمِياءُ الكَلِمَاتِ فِي كُلِّ عِرْقٍ مِنْ عُرُوقِي وَذَابَتْ فِي دِمَائِي المُشْتَدّ تَدَفُّقُهَا فِي ذَلِكَ الوَضْعِ وَانْفَصَلَ كُلُّ حَرْفٍ مِنْ حُرُوفِ تِلْكَ الكَلِمَاتِ عَنِ الآخَرِ لِيُشَكِّلَ عَالَمًا بِمُفْرَدِهِ… نَظَرْتُ إِلَيْهَا، إِلَى عَيْنَيْهَا، وَبِرَهْبَةٍ شَدِيدَةٍ أَجَبْتُهَا: “أُحِبُّكِ…نَعَمْ أَنَا أَيْضًا أُحِبُّكِ”. وَكَم اِنْتَابَنِي الرُّعْبُ فِي تِلْكَ اللَّحْظَةِ خَوْفًا مِنْ أَنْ أَكُونَ أَحْلُمُ أَوْ لَمْ أَسْمَعْ كَلِمَاتِهَا بِدِقَّةٍ… وَلَمْ يَأْتِنِي اُلْيَقِينُ إِلَّا حِينَ قَامَتْ سَيِّدَةُ اُلْحُبِّ مِنْ مَكَانِهَا وَعَانَقَتْنِي وَعَانَقْتُهَا اِحْتِفَاءً بِكَ أَيُّهَا اُلْحُبُّ… عُدْنَا إِلَى مَكَانَيْنَا وَنَحْنُ نُغَطِّي عَجْزَنَا عَنِ اُلْكَلَامِ بِبَعْضِ اُلْهَمْهَمَاتِ وَاُلضَّحَكَاتِ اُلْخَفِيفَةِ… وَبَعْدَ أَنْ خَفَّتْ رَعْشَةُ اُلْكَلَامِ غَادَرْنَا اُلْمَكْتَبَ… شَبَكَتْ يَدَهَا اُلْيُمْنَى بِيَدِي اُلْيُسْرَى وَاُنْطَلَقْنَا فِي جَوْلَةٍ قَصِيرَةٍ بِاُلْمَدِينَةِ…

كَانَ يَوْمَهَا اُلطَّقْسُ بَارِدًا، ثَلْجِيًّا، لَكِنَّنَا لَمْ نَشْعُرْ بِهِ… كُنْتَ أَنْتَ يَوْمَهَا أَيُّهَا اُلْحُبُّ تَحْتَفِلُ مَعَنَا وَتَحْمِينَا بِحَرَارَتِكَ. لَمْ نَدْرِ كَيْفَ وَجَدْنَا أَنْفُسَنَا أَمَامَ مَحَطَّةِ اُلْقِطَارِ اُلْمَرْكَزِيَّةِ قُرْبَ سَاحَةِ بَرْشَلُونَة… نَسِيتُ حَتَّى أَيَّ اُلشَّوَارعِ أَوْ اُلْأَنْهُجِ قَادَتْنَا مِنْ شَارِعِ اُلْحَبِيب ثَامِر إِلَى هَذَا اُلْمَكاَنِ…كَانَ اُلثَّلْجُ يَنْزِلُ خَفِيفًا وَيُغَطِّي أَرْضِيَّةَ اُلسَّاحَةِ… سَحَبَتْ رَاضِيَة يَدَهَا مِنْ يَدِي وَاُنْدَفَعَتْ إِلَى اُلْأَمَامِ وَقَامَتْ بِحَرَكَةِ تَزَحْلُقٍ عَلَى ِتلْكَ اُلْأَرْضِيَّةِ كَطِفْلٍ صَغِيرٍ… ثُمَّ اِلْتَفَتَتْ إِلَيَّ وَعَادَتْ لِتَحْتَضِنَنِي وَتَقُولَ لِي “أُحِبُّكَ…”. وَقْتَهَا لَمْ يَكُنْ اُلْعِنَاقُ مُحَرَّمًا فِي شَوَارِعِ اُلْعَاصِمَةِ… كَانَتْ تُونِس اُلْوَطَنُ وَاُلشَّعْبُ أَكْثَرَ اِنْفِتَاحًا… جُيُوشُ اُلظَّلَامِ مَازَالَتْ فِي بِدَايَاتِ تَنْظِيمِهَا وَتَكْوِينِهَا. مَضَيْنَا فِي جَوْلَةٍ صَغِيرَةٍ عَبْرَ شَارِعِ فَرْحَات حَشَاد فَشَارِعِ 18 جَانفِي إِلَى أَنْ وَجَدْنَا أَنْفُسَنَا فِي شَارِعِ اُلْحَبِيبِ بُورْقِيبَة.. مَشَيْنَا فِي هَذَا اُلشَّارِعِ بَعْضَ اُلْوَقْتِ وَنَحْنُ لَا نَعْبَأُ بِالخَلْقِ اُلْمَوْجُودِ فِيهِ…كُنَّا ذَائِبَيْنِ فِي عَالَمِنَا اُلْخَاصِّ…كُنَّا نَمْشِي وَمِنْ وَقْتٍ لِآخَرَ نَسْتَحْضِرُ بَعْضَ أَحْدَاثِ اُلْمَاضِي…كَاذِبٌ أَيُّهَا اُلْحُبُّ مَنْ يَدَّعِي أَنَّكَ تُولَدُ فَجْأَةً… مِنْ فَرَاغٍ… كَلَّا فَأَنْتَ لَكَ إِشَارَاتُكَ… لَكَ نُبُوءَاتُكَ…

ذَكَّرَتْنِي رَاضية بِحَادِثَةٍ حَصَلَتْ بِاُلْمُرَكَّبِ اُلْجَامِعِي عَامَ 1973. كُنَّا يَوْمَهَا أَنْهَيْنَا اِجْتِمَاعًا عَامًّا جِئْتُ صُحْبَةَ مِئَاتِ اُلطَّلَبَةِ مِنْ كُلِّيَّةِ اُلْآدَابِ 9 أَفْرِيل لِحُضُورِهِ وَأَخَذْتُ اُلْكَلِمَةَ فِيهِ لِلتَّعْبِيِر عن المَوْقِفِ مِنَ الصِّرَاعِ المُسْتَمِرِّ مَعَ نِظَامِ بُورْقِيبَة حَوْلَ مَصِيرِ الاِتّْحَادِ العَامِّ لِطَلَبَةِ تُونِس الذي دَخَلَ فَي أَزْمَةٍ حَادَّةٍ نَتِيجَةَ اِنْقِلاَبِ “قُرْبَة” الذِي قَامَ بِهِ طَلَبَةُ الحِزْ بِ الحَاكِمِ… كُنْتُ مُتَّجِهًا إِلَى مَحَطَّةِ اُلْحَافِلَة بِاُلْمُرَكَّبِ… مَرَّتْ رَاضِيَة اُلنَّصْرَاوِي رِفْقَةَ عَدَدٍ مِنْ صَدِيقَاتِهَا وَأَصْدِقَائِهَا مِنْ بَيْنِهِمْ مُخْتَار اٌلطرِيفِي… نَظَرَتْ إِلَيَّ وَابْتَسَمَتْ وَقَالَتْ مَازِحَةً بِصَوْتٍ عَالٍ: “يَا مُخْتَارْ مَا احْلَاهْ اُلطُّفُلْ… مْتَاعْ 9 أَفْرِيلْ” (أَيْ كُلّْيَّة الآدَاب 9 أَفْرِيل)…” شَعرْتُ يَوْمَهَا بِارْتِبَاٍك كَبِيرٍ حَاوَلْتُ اُلتَّغَلُّبَ عَلَيْهِ بِاُبْتِسَامَةٍ فِي إِطَارِ وَجْهٍ مُحْمَرٍّ مِنْ وَطْأَةِ المُفَاجَأَةِ… قَالَتْ لِي رَاضِيَة “وَهَا إِنَّنَا اليَوْمَ نَلْتَقِي مِنْ جَدِيدٍ بَعْدَ كُلَّ هَذِهِ السَّنَوَاتِ لِنُعْلِنَ حُبَّنَا… “الطِّفْل الحُلُو مْتَاعْ 9 أَفْرِيل عَادَ إِلَيَّ… أَنْتَ حَبِيبِي الَيَوْمَ…” وَقَهْقَهَتْ مَرَّةً أُخْرَى. ظَلَّتْ رَاضِيَة لِسَنَوَاتٍ تَحْكِي هَذِهِ الحِكَايَةَ فِي مَجَالِسِهَا مَعَ زَمِيلَاتِهَا وَزُمَلَائِهَا وَصَدِيقَاتِهَا وَأَصْدِقَائِهَا…وَهيَ تُرَدِّدُ مَازِحَةً: “كِلْمَة عْلِيهَا مْلَكْ وْكِلْمَة عْلِيهَا شِيطَانْ…وْهَذِي طْلَعْ عْلِيهَا مْلَكْ…”

رَويتُ لَهَا مِنْ جَانِبِي بِأَنَّنِي لَمَّا كُنْتُ فِي السِّجْنِ فِي سَنَةِ 1977 وَصَلَتْنَا عَبْرَ بَعْضِ الصُّحُفِ أَصْدَاءُ إِحْدَى مُحَاكَمَاتِ مَحْكَمَةِ أَمْنِ الدَّولَةِ سَيِّئَةِ الصِّيتِ… كَانَتْ وَقْتَهَا مُحَاكَمَةُ “حَرَكَة الوحْدَة الشَّعْبِيَّة”… وَكَانَتْ رَاضِيَة المُحَامِيَةُ الشَّابَّةُ فِي بِدَايَاتِهَا… تَوَلَّتِ اُلَنِّيَابَةَ عَنْ عَدَدٍ مِنَ المُنَاضِلِينَ “المُتَّهَمِينَ” فِي القَضِيَّةِ… وَلَمَّا جَاءَ دَوْرُهَا فِي الدِّفَاعِ عَنْ مُوَكِّلِيهَا زَلْزَلَتِ المَحْكَمَةَ بِنَبْرَةِ صَوْتِهَا القَوِيَّةِ وَبِشَجَاعَتِهَا التِي لَمْ يَأْلَفْهَا النَّاسُ وَقْتَهَا إِلَّا لَدَى عَدَدٍ مِنَ المُحَامِينَ الرِّجَالِ مِنْ أَصْحَابِ التَّارِيخِ الكَبِيرِ فِي المُحَاكَمَاتِ السِّيَاسِيَّةِ… هَاجَمَتْ رَاضِيَة بُولِيسَ أَمْنِ الدَّوْلَةِ وَأَدَانَتْ مُمَارَسَتَهُ التَّعْذِيبَ وَ”شَنَّعَتْ” بِنِظَامِ بُورْقِيبَةَ الاِسْتِبْدَادِيِّ، وَهوَ مَا أَثَارَ حَفِيظَةَ مُمَثِّلِ النِّيَابَةِ العُمُومِيَّةِ الذِي مَرَّرَ وَرَقَةً لِرَئِيسِ المَحْكَمَةِ مُحَمَّد صَالِح العَيَّارِي يُطَالِبُهُ فِيهَا بِإِحَالَةِ هَذِهِ المُحَامِيَةِ “المُتَنَطِّعَةِ” مُبَاشَرَةً وِفْقَ قَانُونِ مَحْكَمَةِ أَمْنِ الدَّوْلَةِ. لَكِنَّ هَذَا الأَخِيرَ مَزَّقَ تِلْكَ الوَرَقَةَ عَلَى مَرْأَى مِنَ الحُضُورِ وَتَرَكَ رَاضِيَة تُوَاصِلُ مُرَافَعَتَهَا المُؤْذِنَةَ بِمِيلَادِ أَيْقُونَةِ المَحَاكِمِ التُّونِسِيَّةِ التِي سَتَكُونُ أَوَّلَ اِمْرَأَةٍ تُنْتَخَبُ عُضْوًا فِي جَمْعِيَّةِ المُحَامِينَ الشُّبَّانِ وَأَوَّلَ اِمْرَأَةٍ فِي تَارِيخِ المُحَامَاةِ التُّونِسِيَّةِ تُنْتَخَبُ عُضْوًا فِي الَهَيْئَةِ الوَطَنِيَّةِ لِلْمُحَامِينَ… قَرَأْتُ مُجْرَيَاتِ المُحَاكَمَةِ فِي الصَّحِيفَةِ التِي نَقَلَتْ وَقَائِعَهَا وَأَنَا كُلِّي ِانْبِهَارٌ بِرَاضِيَة. وَلَسْتُ أَدْرِي كَيْفَ جَالَتْ بِخَاطِرِي فِكْرَةٌ: “يَا لَهَا مِنْ سَيِّدَةٍ عَظِيمَةٍ… إنَّهَا المَرْأَةُ التِي يُعَوَّلُ عَلَيْهَا”. وَفَجْأَةً تَذَكَّرْتُ الحَادِثَةَ التِي وَقَعَتْ لِي مَعَهَا فِي المُرَكَّبِ الجَامِعِيِّ… جَالَ كُلُّ ذَلِكَ بِخَاطِرِي وَأَنَا يَائِسٌ مِنْ فِكْرَةِ أَنْ تَرْبِطَنِي بِهَا عَلَاقَةٌ فِي يَوْمٍ مَا… كَانَتْ مُدَّةُ السِّجْنِ المَحْكُوم بِهَا عَلَيَّ طَوِيلَةً… وَرَاضِيَة وَقْتَهَا مُحَامِيَة فِي ِسن الرَّابِعَةِ وَالعِشْرِينَ وَمِنَ الصَّعْبِ أَنْ تَبْقَى فَتَاةٌ فِي عُمرِهَا لِفِتْرَةٍ طَوِيلَةٍ أُخْرَى دُونَ زَوَاجٍ… فَهْيَ سَتَكُونُ مِنْ وِجْهَةِ نَظَرِ أَعْرَافِ المُجْتَمَعِ “بَايْرَة”. وَحَتَّى إِذَا هِيَ خَيَّرَتِ العُزُوبِيَّةَ فَهَلْ سَيَسْمَحُ لَهَا بِذَلِكَ أَهْلُهَا الذِينَ لَمْ تَكُنْ عِنْدِي أَيَّةُ فِكْرَةٍ عَنْهُمْ وَعَنْ قَنَاعَاتِهِمْ وَعَادَاتِهِمْ وَتَقَالِيدِهِمْ؟ حَكيتُ كُلَّ ذَلِكَ لِرَاضِيَة وَنَحْنُ نَتَجَوَّلُ فِي شَارِعِ الحَبِيب بُورْقِيبَة…كَانَتْ تُتَابِعُنِي بِشَغَفٍ كَبِيرٍ كَمَنْ يَبْحَثُ عَنْ اِكْتِشَافِ سِرٍّ “دَفِينٍ”، ثُمَّ قالَتْ لِي: “لَا لَا… وَالِدَايَ مُنْفَتِحَانِ وَلَا يَتَدَخَّلاَنِ فِي شُؤُونِي… وصِدْقًا كُنْتُ عَازِمَةً عَلَى عَدَمِ الزَّوَاجِ إِذَا لَمْ أَلْتَقِ الرَّجُلَ الذِي يُنَاسِبُنِي… الرَّجُلَ الذِي يَحْتَرِمُنِي وَيُوَاجِهُ مَعِي مَشَاكِلَ الحَيَاةِ… لَا أُرِيدُ زَوْجًا لِأُواَجِهَهُ أَوْ يُوَاجِهَنِي صَبَاحًا مَسَاءً، فِي المَنْزِلِ وَخَارِجَهُ، بَلْ أُرِيدُ زَوْجًا يَقْبَلُ أَنْ نُنَاضِلَ وَنُوَاجِهَ مَعَ بَعْضِنَا مَصَاعِبَ الحَيَاةِ…” كَانَ كَلاَمُهَا كُلّهُ رَسَائِلَ إِلَيَّ… وَكُنْتَ أَيُّهَا الحُبُّ تَحُثُّنِي عَلَى الِامْتِثَالِ لَهَا وَلِشُرُوطِهَا وَعَلَى أَلَّا أُخَيِّبَ ظَنَّكَ. كُنْتَ تُطَالِبُنِي بِأَنْ أَثِقَ بِكَ وَبِهَا وَلِسَانُ حَالِكَ يَقُولُ: “اِمْضِ فَإِنَّكَ لَنْ تَنْدَمَ…”. قَالَتْ لِي رَاضِيَة قَبْلَ أَنْ نَفْتَرِقَ يَوْمَهَا: “تَعْرِفْ سَأَلْتُ عَنْكَ رِفَاقَكَ فِي السِّجْنِ إِنْ كُنْتَ تُجِيدُ الطَّبْخَ فَشَكَرُوكَ… وَهَذَا أَمْرٌ أَفْرَحَنِي ِلأَنَّنِي لَا أُرِيدُ أَنْ أَقْضِيَ حَيَاتِي بَيْنَ جُدْرَانِ المَطْبَخِ… أُمِّي بَدَأَتْ تُدْرِكُ بَعْدَ عُقُودٍ مِنَ الزَّوَاجِ قَضَّتْهَا فِي القِيَامِ بِالشُّؤُونِ المَنْزِلِيَّةِ وَتَرْبِيَةِ الأَبْنَاءِ أَنَّهَا أَهْدَرَتْ حَيَاتَهَا… أَنَّهَا لَمْ تَعِشْ لِنَفْسِهَا بَلْ عَاشَتْ لِلْآخَرِينَ…”

مُنْذُ تِلْكَ اللَّحْظَةِ وَنَحْنُ نَتْلُو النَّشِيدَ فِي مَعْبَدِكَ أَيُّهَا الحُبُّ… بِلَا اِنْقِطَاعٍ وَبِلَا هَوَادَةٍ… أَنْتَ تَهْدَأُ وَنَحْنُ نُثِيرُكَ… يَأْخُذُكَ المَلَلُ وَنَحْنُ نُجَدِّدُكَ… لَقَدْ خُيِّلَ إِلَيْنَا فِي وَقْتٍ مِنَ الأَوْقَاتِ أَنَّنَا نَحْنُ مَنْ يُزَوِّدُكَ بِالطَّاقَةِ لِكَيْ تَسْتَمِرَّ وَلَسْتَ أَنْتَ مَنْ يُزَوِّدُنَا بِهَا… كُنْتَ ظِلِّي إِلَى جَانِبِ رَاضِيَة وَكُنْتَ ظِلَّهَا إِلَى جَانِبِي فِي كُلِّ الأَوْقَاتِ بِمُرِّهَا وَحُلْوِهَا… كُنْتَ تَتَسَلَّلُ إِلَى زَنْزَانَاتِ التَّعْذِيبِ بِوِزَارَةِ الدَّاخِلِيَّةِ لِتَأْمُرَنِي، وَجَسَدِي يَنْزِفُ، “أَنْ اصْمدْ فَعَيْنُ رَاضِيَة تُرَاقِبُكَ” فَأَصْمُدُ وَلَا أَتَكَلَّمُ… وَكُنْتَ تَأْتِينِي إِلَى زَنْزَانَاتِ السِّجْنِ وَأَنَا مُضْرِبٌ عَنِ الطَّعَامِ، مُقَيَّدٌ مِنْ سَاقَيَّ، شِبْهُ عَارٍ فِي عِزِّ بَرْدِ الشِّتَاءِ، يَنْهَشُنِي الجُوعُ وَتَقْتُلُنِي أَوْجاَعُ كُلْيَتِي اليُسْرَى، وَتُؤْذِينِي سِيَاطُ الجَلَّادِ فَتَحْنُو عَلَيَّ وَتَهْمِسُ فِي أُذُنِي: “أَنْفَاسُ رَاضِيَة تَغْمُرُ كَافَّةَ أَرْجَاءِ زَنْزَانَتِكَ… فَامْلَأْ صَدْرَكَ مِنْهَا وَامْضِ إِلَى الأَمَامِ بِلَا خَوْفٍ…”…وَمَضَتْ سَنَوَاتٌ وَسَنَوَاتٌ وَنَحْنُ عَلَى العَهْدِ… أَثْمَرَ الحُبُّ ثَلَاثَ زَهْرَاتٍ، نَادِيَة وَأُسَيْمَة وَسَارَّة، لِكُلِّ وَاحِدَة مِنْهُنَّ قِصَّةٌ جَمِيلَةٌ… لَكِنْ قِصَّةَ “الأَخِيرَة” ظَلَّتْ هِيَ الأَطْرَف. جِئْنَا بِهَا إِلَى هَذِهِ الدُّنْيَا وَأَنَا أَعِيشُ فِي السِّرِّيَّةِ وَرَاضِيَة مُلَاحَقَة لَيْلًا نَهَارًا مِنْ عَسَسِ اِبْنِ عَلِي… اِنْتَصَرْنَا عَلَيْهِمْ جَمِيعًا وَسَرِقْنَا لَحْظَةَ سَعَادَةٍ… ذَاتَ يَوْمِ 12 سِبْتَمْبَر/أيْلُول مِنْ عَامِ 1998… وَلَمْ يَتَفَطَّنْ عَسَسُ ابنِ عَلِي إِلَى حَمْلِ رَاضِيَة إِلَّا ِفي الشَّهْرِ السَّابِعِ وَدَفَعَ المَسْؤُولُ الأَوَّلُ عَنِ العَسَسِ الثَّمَنَ… هَاجَ ابْن عَلِي وَمَاجَ وَأَقَالَهُ… وَاَتَّصَلَ اُلْعَسَسُ بِالطَّبِيبِ لِيُسَاعِدَهُمْ عَلَى تَحْدِيدِ الفتْرَةِ التِي قَدْ نَكُونُ تَقَابَلْنَا فِيهَا لِيُرَاجِعُوا تَقَارِيرَهُمْ اليَوْمِيَّةَ حَوْلَ تَنَقُّلَاتِ رَاضِيَة عَسَاهُمْ يُحَدِّدُونَ المِنْطَقَةَ التِي أختبئ ِفيهَا وَهَلْ هِيَ قَرِيبَةٌ مِنَ العَاصِمَةِ أَمْ بَعِيدَةٌ… وَفَشِلُوا أَيُّهَا الحُبُّ… وَجَاءَتْ سَارَّة إِلَى الحَيَاةِ وَرَاضِيَة فِي ِسنِّ السَّادِسَةِ وَالأَرْبَعِينَ… وَهَا هِيَ سَارّة اليَوْمَ عَرُوسٌ… نَرَاهَا فَتَحْلُو لَدَيْنَا الحَيَاة…

سَقَطَتِ الدِّكْتَاتُورِيَّةُ وَدَخَلْنَا مَرْحَلَةً جَدِيدَةً وَبَقِيَ الحُبُّ هُوَ الحُبُّ… ذُقْنَا طَعْمَ الاِنْتِصَارِ عَلَى الوَحْشِ… لَكِنَّ ذَلِكَ لَمْ يَدُمْ… دَاهَمَ المَرَضُ رَاضِيَة… أتْعَابُ المَاضي فَعَلَتْ فِعْلَهَا… قَلَّتْ حَرَكَتُهَا وَقَلَّ كَلَامُهَا إِلَاّ اِبْتِسَامَتُهَا بَقِيَتْ كَمَا كَانَتْ… الحَمْدُ لَكَ وَالشُّكْرُ لَكَ أَيُّهَا الحُبُّ…كُنْتَ الصَّدِيقَ الوَفِيَّ الحَاضِرَ دَائِمًا تَسْنَدُنِي وَتُغَنِّي مَعِي لِلْحَيَاةِ… وَكَأَنَّ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ كَافِيًا أَرَادَ الزَّمَنُ أَنْ يَمْتَحِنَنِي وَيَمْتَحِنَكَ أَكْثَرَ… أُصِيبَتْ رَاضِيَة وَهيَ فِي عُنْفُوَانِ المَرَضِ، قَلِيلَة المَنَاعَةِ، بِصَاحِبَةِ التَّاجِ اللَّعِينَةِ، “كُورُونَا”… وَكَادَتْ تَقْضِي عَلَيْهَا لَوْلَا أَنْتَ أَيُّهَا الحُبُّ… تَسَلَّحْتُ بِكَ، وَأَنْتَ سِلَاحُ الشَّدَائِدِ، لِمُوَاجَهَةِ الغَازِي الرَّهِيبِ… عِشْتُ وَإِيَّاكَ أَيَّامًا وَأَيَّامًا فِي نَفْسِ الغُرْفَةِ مَعَ رَاضِيَة وَفِي نَفْسِ قِسْمِ “الكُوفِيدِ” بِاُلْمُسْتَشْفَى العَسْكَرِيِّ، بِمَرْضَاه وَإِطَارِهِ الطِّبِّيِّ وَشِبْهِ الطِّبِّي، عِشْنَا وَسَطَ جُيُوشِ الفِيرُوسِ اللَّامَرْئِيِّ الِتي تَبْحَثُ عَنْ قَطْعِ أَنْفَاسِ العُشاَّقِ… تَعَلَّمْنَا النَّوْمَ بِالكَمَّامَاتِ… وَالأَكْلَ أَحْيَانًا مِنْ ثُقْبٍ صَغِيرٍ مِنْ تَحْتِ الكَمَّامَاتِ… أَوْ أَمَام شُبَّاكِ بَيْتِ الاِسْتِحْمَامِ الصَّغِيرِ وُقُوفًا… كُنْتَ رَفِيقِي فِي كُلِّ اللَّحَظَاتِ… تُرَافِقُ كُلَّ لُقْمَةٍ أَضَعُهَا فِي فَمِ رَاضِيَة الصَّغِيرِ لِتَنْزلَ فِي جِسْمِهَا بَرْدًا وَسَلَامًا…كَمَا تُرَافِقُ كُلَّ نَظْرَةٍ مِنْ نَظَرَاتِي إِلَيْهَا لِتُحَوِّلَهَا فِي عَيْنَيْهَا وَفِي عُمْقِ أَعْمَاقِهَا إِلَى طُمَأْنِينَةٍ…

وَاَنْتَصَرْنَا أَيُّهَا الحُبُّ… شَعرْتُ وَأَنْتَ تُرَافِقُنَا أَنَّكَ كُنْتَ بِدَوْرِكَ تَتَعَلَّمُ الجَدِيدَ… أَلْقَيْتَ بِسِحْرِكَ فِي القُلُوبِ فَأَخَذَتْهُ مِنْكَ وَزَادَتْكَ عَمَّا أَتَيْتَ بِهِ… وَدَعْنِي أُصَارِحُكَ أَيُّهَا الحُبُّ وَنَحْنُ اليَوْمَ فِي لَحْظَةِ مُكَاشَفَةٍ وَمُصَارَحَةٍ أَنَّنِي وَقَدْ مَرِضَتْ رَاضِيَة وَغَابَتْ أَشْيَاء مِنْ حَيَاتِنَا، لَمْ أُحِسَّ يَوْمًا بِأَنَّ ذَلِكَ الغِيَابَ بَدَّلَ مِنِّي شَيْئًا إِذْ عَوَّضَتْ، “مَا غَابَ”، كِيمِيَاءٌ جَدِيدَةٌ تَغْمُرُ الجِسْمَ مِنَ الرَّأْسِ إِلَى أَخْمصِ القَدَمَيْنِ، كِيمِيَاءٌ أَعْذَب مِنْ كُلِّ مَا عَرَفْتُ وَعَرَفْنَا مَعَ بَعْضِنَا… نظَرَاتٌ كُلُّهَا اِطْمِئْنَانٌ وَعُذُوبَةٌ وَعِرْفَانٌ… نَظَرَاتٌ حُبْلَى ِبالتَّوَارِيخِ وَالأَحْدَاثِ وَالتَّضْحِيَاتِ المُشْتَرَكَةِ وَالاِنْتِصَارَاتِ وَالعَذَابَاتِ… يَدٌ تَفْركُ شَعْرَكَ بِلُطْفٍ جُنُونِيٍّ فِي الصَّبَاحِ البَاكِرِ وَتَمْسَحُ خَدَّكَ وَتَنْزَعُ مِنْهُ قِشْرَةً صَغِيرَةً… اِبْتِسَامَةٌ تَنْفَتِحُ عَلَيْهَا عَيْنَاكَ بَعْدَ لَيْلٍ طَوِيلٍ قَدْ تَكُونُ تَخَلَّلَتْهُ كَوَابِيس…

آهٍ أَيُّهَا الحُبُّ عَرَفْتُ مَعَكَ أَسْرَارًا وَأَسْرَارًا… كَمْ أَنَّكَ سِحْرٌ لَا يَفْنَى… مَرِضَتْ رَدِيفَتُكَ… وَتَعَطَّلَ اِلْتِحَامُ الجَسَدِ بِالجَسَدِ وَلَمْ يَبْقَ سِوَى اِلْتِحَامُ الرُّوحِ بِالرُّوحِ… فَكَانَ الِإمْتَاعُ أَقْوَى وَأَلَذَّ… بِكَ أَيُّهَا الحُبُّ وَاجَهْنَا المَصَاعِبَ وَالمَشَاقَّ، اَلْعَذَابَ وَالسُّجُونَ، اَلْجُوعَ وَالمَرَضَ، الفِرَاقَ وَالوحْدَةَ… وَبِنَا وَاجَهْتَ أَيُّهَا الحُبُّ السَّأَمَ وَالمَلَلَ وَاَلرَّتَابَةَ وَالجَدْبَ وَالشُّحَّ… بِكَ أَيُّهَا الحُبُّ عِشْنَا وَمَازِلْنَا نَعِيشُ وَنَحْلُمُ بِكَ القِيمَةَ التِي تَنْتَصِرُ فِي اَلنِّهَايَةِ عَلَى الشُّرُورِ التِي يَزْرَعُهَا وُحُوشُ الإِنْسَانِيَّةِ… مَا أَحْلَاكَ وَأَعْظَمَكَ أَيُّهَا الحُبُّ… شُرُورُهُمْ تَحْتَاجُ كَيْ يَنْشُرُوهَا وَيُحَافِظُوا عَلَيْهَا إِلَى مَالٍ وَمَاكِينَاتٍ وَجُيُوشٍ وَأَسْلِحَةٍ فَتَّاكَةٍ وَأَدْيَانٍ وَعَقَائِدَ، وَأَنْتَ لَا تَحْتَاجُ إِلَّا إِلَى قَلْبٍ صَافٍ وَعَقْلٍ ثَوْرِيٍّ مُبْدِعٍ يَجْعَلُ مِنْكَ عَقِيدَةً وَيَمْضِي يُكَافِحُ مِنْ أَجْلِ الحَيَاةِ وَالجَمَالِ… أَفَلَسْتَ عُمْقَ كُلِّ نِضَالٍ حَقِيقِيٍّ وَهَدَفَهُ الأَسْمَى؟ الكُلُّ إِلَى زَوَالٍ أَيُّهَا الحُبُّ… اَلْحِقْدُ وَاُلْكَرَاهِيةُ وَالغيرَةُ العَمْيَاءُ وَالقَهْرُ وَالقَتْلُ… سَيَزُولُ الكُلُّ مَعَ أْصْحَابِهِ، مَعَ مَنْ لَهُمْ فِيهِ مَصْلَحَةٌ… وَتَبْقَى أَنْتَ… وَاَعْلَمْ أَنَّنَا إِذَا مُتْنَا سَنَبْقَى فِيكَ وَتَبْقَى فِينَا… سَنَحْمِلُكَ إِلَى قَبْرَيْنَا وَحِينَ تَتَحَلَّلُ أَجْسَادُنَا وَتَتَفَتَّتُ عِظَامُنَا سَنَتَحَوَّلُ إِلَى سَمَادٍ نَنشُرُكَ فِي الأَرْضِ لِتَنْبُتَ مَعَ كُلِّ زَهْرَةٍ وَسُنْبُلَةٍ وَتَتَحَلَّلَ فِي كُلِّ نَبْعِ مَاءٍ لِإِرْوَاءِ العُشَّاقِ…

أَمَّا أَنْتَ أَيُّهَا الحُبُّ فَلَا أَطْلُبُ مِنْكَ إِلَّا أَنْ تَكُونَ وَفِيًّا، عَادِلًا… أَعْلِنْ لِلْعَالَمِ أَنَّ رَاضِيَة حَافَظَتْ عَلَى صَفَائِكَ وَنَقَائِكَ… أَفْسَدَكَ النَّاسُ بِالكَرَاهِيَّةِ وَالغَيرَةِ وَالحِقْدِ وَالحَسَدِ وَالسَبِّ وَالشَّتْمِ وَالكَذِبِ وَالنِّفَاقِ وَالمُؤَامَرَاتِ وُصُولًا إِلَى القَتْلِ… وَلَكِنَّ رَاضِيَة حَافَظَتْ عَلَيْكَ كَمَا أَنْتَ، لَمْ تُكَدِّرْ صَفْوَكَ بِأَيَّةِ شَائِبَةٍ، لَا بَلْ زَادَتْكَ جَمَالًا وَرَوْنَقًا وَعِزَّةً… أَلَا تُدْرِك أَيُّهَا الحُبُّ مَعْنَى أَنْ يُحِبَّ كُلُّ بَنَاتِ الوَطَنِ وَأَبْنَائِهِ رَاضِيَة بِعَفْوِيَّةٍ وَصِدْقٍ وَنَقَاوَةٍ… حَتَّى القُلُوبُ السَّوْدَاءُ المُظْلِمَةُ حِينَ تُذْكَرُ رَاضِيَة تَنْكَسِرُ وَيَشُقُّهَا خَيْطٌ مِنْ نُورٍ وَتُعْلِنُ الاِحْتِرَامَ وَالتَّقْدِيرَ… أَلَيْسَ هَذَا مِنْ مَحَاسِنِهَا التِي زَادَتْكَ وَتَزِيدُكَ تَأَلُّقًا وَجَمَالًا؟

قُمْ أَيُّهَا الحُبُّ…

قُمْ قَبِّلْ سَيِّدَتَكَ وَاَتْلُ أَنَاشِيدَ العُشَّاق، عُشَّاقِ اُلْأَسَاطِيرِ، بَيْنَ يَدَيْهَا… قُمْ لِتَطُوفَ اَلْأَرْضَ وَأَنْتَ تَلْهَجُ بِاسْمِهَا لِأَنَّهَا عَلَّمَتْكَ اَلْوَفَاءَ وَاَلصَّبْرَ وَالمُثَابَرةَ … أَيُّهَا اَلْحُبُّ أَنْتَ لَا مَعْنَى لَكَ دُونَ رَاضِيَة…

أَنْتَ بِلَا صَوْتٍ دُونَ رَاضِيَة…

أَيُّهاَ الحَبُّ… رَاضِيَة هِيَ التِي وَهَبَتْكَ الكَيْنُونَةَ وَالمَعْنَى…

قُمْ وَاسْجُدْ لسَيِّدَتِكَ اَلْأَبَدِيَّةِ واجْعَلْها مِنَ اَلْخَالِدَاتِ وَاَلْخَالِدِينَ..

فِي هَذِهِ اَلذّكْرَى الأَرْبَعِين…قُمْ أَنْشِدْ مَعِي:

لَيْسَ عِنْدي ما أقولْ

مَا عَدَا أَنِّي أُحِبُّكْ

وَأُحِبُّكْ

حُبُّنَا طُوفَانُ عِشْقٍ

لَا يَزُولْ

لَيْسَ عِنْدي مَا أَقُولْ…

حُبُّنَا السَّابِحُ فِي الكَوْنِ

شُعَاعٌ سَرْمَدِيٌّ،

تغْرُبُ الشَّمْسُ وَتَمْضِي

يَأْفَلُ النَّجْمُ ويَهْوي

وَهْوَ بَاقٍ لَا يَزُولْ

لَيْسَ عِنْدِي مَا أَقُولْ…

تونس في 22 أوت 2021

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

*نشر بجريدة “الشارع المغاربي” بتاريخ 22 أوت 2021

أكمل القراءة
انقر للتعليق

اترك تعليقا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شعريار

يا مَحرمة

نشرت

في

هشام الخلفاوي

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

يا مَحْرْمَه الغطّت سوالف دادة

يا معصفرة ع الرّاس كيف العادة

هشام الخلفاوي (@hichemkhalfaoui) / X

يا مغطّية لوليد فوڨ مـهاده

ومظلّلة ع الشّمس وقت رڨـاده

يا رابطاته ع الظهر شـدّادة

عز الڨوايل سانية وحـصّادة

يا جالبة الحطبات م اللّـحدادة

يا داسّة الكسرات للـنشّادة

يا كانزة الصّرفات يا جـوّادة

وعند المغارب للصلا سـجًادة

يا مرفرفة ع الحوش يا نـهّادة

في كل وردة فيك ريـحة دادة

أكمل القراءة

شعريار

سبيل الجماهير

نشرت

في

محمد مهدي الجواهري

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

لو أنَّ مقاليدَ الجَماهير في يدي

سَلَكتُ بأوطاني سبيلَ التمرُّدِ

إذن عَلِمَتْ أنْ لا حياةَ لأمّةٍ

تُحاولُ أن تَحيا بغير التجدُّد

لوِ الأمرُ في كَفِّي لجهَّزتُ قوّةً

تُعوِّدُ هذا الشعبَ ما لم يُعوَّد

لو الأمرُ في كفِّي لأعلنتُ ثورةً

على كلِّ هدّام بألفَي مشيِّد

على كُلِّ رجعيٍّ بألفَي منُاهضٍ

يُرى اليوم مستاءً فيبكي على الغد

ولكننَّي أسعى بِرجلٍ مَؤوفةٍ

ويا ربَّما أسطو ولكنْ بلا يَد

وحوليَ برّامونَ مَيْناً وكِذْبَةً

متى تَختَبرهُم لا تَرى غيرَ قُعدد

لعمرُكَ ما التجديدُ في أن يرى الفَتى

يَروحُ كما يَهوَى خليعاً ويغتَدي

ولكنَّه بالفكر حُرّاً تزَينهُ

تَجاريبُ مثل الكوكَبِ المُتَوقِّد

مشَتْ إذ نضَتْ ثَوبَ الجُمود مواطنٌ

رأت طَرْحَهُ حَتماً فلم تَتردَّد

وقَرَّتْ على ضَيْم بلادي تسومُها

من الخَسف ما شاءَتْ يدُ المتعبِّد

فيا لك من شعبٍ بَطيئاً لخيرِهِ

مَشَى وحثيثاً للعَمَى والتبلُّد

متى يُدْعَ للإصلاح يحرِنْ جِماحُه

وإن قيد في حبل الدَجالةِ يَنْقد

زُرِ الساحةَ الغَبراء من كل منزلٍ

تجد ما يثير الهَمَّ من كلِّ مَرقد

تجد وَكرَ أوهامٍ وملقَى خُرافةٍ

وشَتّى شُجونٍ تَنتهي حيثُ تَبتدي…

أكمل القراءة

شعريار

عودوا أيّها الأعزّاء

نشرت

في

أنسي الحاج

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

المَيتُ ، بعد قليل، أيرجع؟

أليس كلّ ما على الأرض يتغيّر؟

الميت، بعد قليل، أيرجع؟

لعلّه انتهى سبب الضحك

وما زلنا نضحك.

لعلّه انتهى

سبب البكاء

ولا نزال نبكي.

هل يرجع الذاهب؟

كلّ ما على الأرض يتغيّر،

فلتتغيّر الأرض!

ليعدْ ليعدْ أولئك الشجعان

الذين اجتاحوا الصمت الأسْوَد.

عودوا أيُّها الأعزّاء

لقد حضر المستقبل!

لكنّه الأمل

أنْ يكون ساحر موجوداً

وراء القوانين.

فهل يرجع الميت بعد قليل؟

أكمل القراءة

صن نار