تابعنا على

جلـ ... منار

معضلة المياه والطاقة: البحث عن حلول (ج 3)

نشرت

في

منذ النصف الثاني من القرن العشرين اكتشف الإنسان مصادر جبارة للحصول على الطاقة غير تلك المستمدة من عملية التمثيل الضوئي النباتي. بداية كان شطر الذرات الثقيلة كاليورانيوم ثم ادماج الذرات الخفيفة كالهيدروجين (والد كافة العناصر الكيميائية) في محاكاة لنشأة المادة المتنوعة في هذا الكون اللامتناهي مصحوبة بإطلاق طاقة هائلة.

أ. د . طالب أبو شرار *

في مرحلة مراجعة المعرفة والتكنولوجيا، اكتشف الإنسان إمكانيات الحصول على الطاقة بوسائل أقل خطورة على سلامة الحياة بمجملها على كوكبنا. أهم تلك الوسائل كان في محاكاة الحياة النباتية في تحويل طاقة الإشعاع الشمسي الى طاقة كهربائية تسمى  Photovoltaic أو طاقة كهروضوئية أو بالأدق طاقة كهروفوتونية. ها نحن ذا نقف على أعتاب مرحلة جديدة لأن تطوير مثل هذا المصدر سيفتح أمامنا أبواب آفاق لا حصر لها من مصادر للطاقة النظيفة الآمنة بل سيمكن من تغيير بيئة الحياة بمجملها في كوكبنا فكيف يكون ذلك؟ هنالك نظام شائع هذه الأيام هو النظام الشمسي الكهروفوتوني Solar) Photovoltaic) الذي يوفر كفاءة لاقتناص الطاقة الشمسية تتراوح بين 20-40% كما أن هناك تقنية أكثر تطورا وأكثر كفاءة من التقنية السابقة وتعرف بنظام الطاقة الشمسية المركزة (Concentrated Solar Power) وفوق هذه وتلك هناك تقنية واعدة تحاكي أسلوب اليخضور النباتي في اقتناص الطاقة الضوئية.

ولكي أوضح أهمية الطاقة الشمسية في مستقبل حياتنا، لنفترض أننا سنعمد الى أسلوب النظام الشمسي الحراري الأقل كفاءة في اقتناص الطاقة (20% فقط من الطاقة الضوئية) فإن تغطية نحو كيلومتر مربع واحد من سطح الأرض في معظم الأقطار العربية سيولد طاقة كهربائية لا تقل عن 50 ميجا واط ساعة أو بتعبير أدق 438 جيغا واط ساعة في السنة. الجميل في هذه التقنية أن العنصر المستخدم في الحصول على الكهرباء من الطاقة الشمسية هو السيليكون أي العنصر الأكثر شيوعا في تركيبات الصخور النارية وبالتالي الآمن بيئيا بشكل مطلق. والآن لنتخيل المنظومة التالية: ساحة كبيرة من مرايا الخلايا الكهروضوئية تغطي صحارينا المشمسة والشاسعة. ستحول تلك السطوح دون ارتفاع حرارة التربة الرملية لأن جزءا لا يستهان به من طاقة الإشعاع الشمسي سيتحول الى طاقة كهربائية أي أننا بزيادة المساحات المغطاة بالمرايا الشمسية سنغير حتما طقس المنطقة وربما مناخها.

سيكون من الممكن أيضا نقل تلك الطاقة الكهربائية الى أماكن بعيدة حيث تستثمر في شتى النشاطات الإنسانية كالاستهلاك المنزلي والعمليات الصناعية والتخزين في بطاريات السيارات والطائرات والسفن وما الى ذلك. المهم هنا أن جزءا من تلك الطاقة الكهربائية المستدامة يمكن استخدامه في تحلية مياه البحر بأسلوب التناضح العكسي المشار اليه. سيكون ممكنا استهلاك تلك المياه بشكل مباشر أو غير مباشر في كافة النشاطات الإنسانية بدءا من مياه الشرب وانتهاء بالتدوير لغايات الري الزراعي خاصة ري المناطق الصحراوية القاحلة. ستصبح التربة أسفل المرايا الشمسية أقل عدوانية تجاه الحياة النباتية، ومن ثم، يمكننا استزراعها بأشكال وأنماط تتواءم مع البيئة المستجدة.

في هذا الصدد، ستوفر تقنيات المرايا الشمسية استهلاك المياه الجوفية المستخرجة من المناطق الصحراوية. هذا الإجراء هو تحول أكثر أمانا بيئيا واقتصاديا إذ أن نقل المياه الجوفية من المناطق الصحراوية الى مناطق الاستهلاك الحضري هو أيضا عملية نقل غير واعية لبعض الملوثات البيئية الخطيرة كالملوحة والتلوث الإشعاعي الموثق في العديد من مصادر المياه الجوفية خاصة الملحية منها. ختام ترحال تلك الملوثات هو التربة الزراعية التي ستتأثر وستؤثر سلبا على المحاصيل المروية بتلك المياه. هذه الرؤيا ليست نتاج حلم بل هي استنطاق لمسيرة التطور الإنساني. ذات يوم ستصبح الصحاري المشمسة ذات فائدة حيوية للإنسانية تبز فوائد أجود الأراضي الزراعية.

وبعد، لا بد من الإشارة الى أن مساهماتنا العلمية والتكنولوجية نحن العرب هي في أدنى المستويات الإنسانية. نحن نستورد كافة مخرجات التكنولوجيا حتى من دول كانت الى وقت قريب مصدر عمالة رخيصة في بعض بلادنا العربية ثم انقلبت الموازين لتصبح بلادنا مصدرا للعمالة الرخيصة في بعض من تلك الدول. أتذكر في صباي كيف كانت هناك جالية يونانية كبيرة في الإسكندرية لم تكن من موروث استعماري كالجالية الفرنسية في الجزائر عقب الاستقلال. أتذكر أيضا كيف كان بعض الأسبان يعملون تجارا جوالين يحملون بضاعتهم على ظهور البغال ويجوبون قرى المغرب أو كيف تعاقدت شركة كورية لإنجاز مشروع بناء سلسلة من التجمعات السكنية في وادي الأردن في سبعينات القرن الماضي.

كان عاملوها مجرد متقاعدين عسكريين من الجيش الكوري الجنوبي يصطفون صبيحة كل يوم عمل في طابور منتظم كما لو كانوا على رأس عملهم السابق. هل يفكر أحد منا في استئجار مثل تلك العمالة بعد مرور أقل من خمسين عاما؟  ربما التمس عذرا لأبناء جلدتي الذين تقاعسوا عن اكتشاف طريق الأمم للنهوض الحضاري لكني لا أستطيع التفكير بأعذار تجيز لنا انتظار الفرج من الخارج عندما يدق الخطر الماحق أبوابنا في موضوع مصيري كندرة المياه. الماء شرط حيوي لكافة الأمور المصيرية بدءا من نوعية الحياة الإنسانية وانتهاء بمستلزمات الإنتاج الزراعي والصناعي والسياحي والحضاري.

ما العمل إذن؟ التخطيط العلمي المتأني من أجل تطوير مساهمة عربية إنسانية في المجالات السابقة يستدعي إنشاء مؤسسة عربية متينة والمتانة هنا تتمثل بالابتعاد عن كل الأمراض التي واكبت مشاريع العمل العربي المشترك من اقتسام الوظائف القومية قبليا (أي قطريا) لأي اعتبار واهِ يخرج عن منطق الأهلية العلمية الموثقة بمساهمات بحثية ابداعية منشورة في مجلات علمية عالمية مرموقة. لا بد أيضا من اعتماد خطة مسبقة ومحددة المراحل زمنيا لتحقيق منجزات ملموسة على كافة الصعد المتفق عليها عند اعتماد استراتيجية تلك المؤسسة. هو منطق المساءلة الدورية التي لا بد منها لمكافأة أو لمعاقبة العاملين والتي لا بد من اعتمادهما بادئ ذي بدء إن أردنا الوصول الى غاياتنا. وصفة نجاح العمل المؤسسي ليست وصفة سحرية. هي موجودة لدى كافة المؤسسات الناجحة عالميا من أقصى الشرق الى أقصى الغرب. المطلوب فقط هو الصدق مع أنفسنا والولاء لمصيرنا المشترك فلعلنا نرى بعض الضوء في نهاية هذا النفق الطويل… الطويل…

رحم الله أبا الطيب المتنبي، حكيم هذه الأمة إذ يقول:

   كَدَعواكِ كُلٌّ يَدَّعي صِحَّةَ العَقلِ                 وَمَن ذا الَّذي يَدري بِما فيهِ مِن جَهلِ

(“عن “رأي اليوم)

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* أستاذ الأراضي والمياه ـ الجامعة الأردنية

أكمل القراءة
انقر للتعليق

اترك تعليقا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

جلـ ... منار

خالق الفرح

نشرت

في

Peut être une image de 2 personnes et bébé

اتصلت صديقتي غادة بي كي تطمئن عليّ:

ـ وينك ياست الحبايب؟

وفاء سلطان
وفاء سلطان

ـ مع الحبايب أجمع البيض!

يبدو أن أرنب الفصح كان غنيا جدا وكريما جدا هذا العام… نالني منه أربعة عشر بيضة، وجدتُ في داخلها ست دولارات وعشرين قطعة من الشوكولا (أول مرّة بناتي يدفعن لي بدلا من أن أدفع لهن)!

تفوقت علي جازي بأربع بيضات وست دولارات، أما بنجي فلم ينل إلا نصف ماحصلت عليه (لا يهم إذ لا يعرف قيمة الدولار بعد)!

……..

أمطرتني غادة بوعظة دينيّة طويلة جدا، تفوقت فيها على الشيخ الحويني، لقّنتني من خلالها درسا في العبادة وكيفية الاحتفال بالأعياد،

قالت:العيد ليس جمع البيض، العيد يعني ممارسة الصلاة والتعبد وزيارة الكنيسة!

واحتدم النقاش حتى اعترفت لي بأن اليهود (يخرب عمرهم لهم قرص في كل عرس!) قد حولوا كل الأعياد المسيحية لتجارة بالمطلق، وهم الذين اخترعوا سانتا كلوز وأرنب الفصح كي يسرعوا عمليات التسويق، ويصرفوا نظر الناس عن عبادة الله الحق!

فشعرت وكأنني أصغي للقرضاوي يقص علينا حكاية بني قريظة!

يبدو أن حتوتة الشجرة واليهودي الذي سيحتمي وراءها يوم القيامة قد طالت عقول بعض المسيحيين أيضا!

……..

يا سيدتي زرت عشرات بل مئات المعابد (من كلّ الأشكال والألوان)، ورأيت فيها الكثيرين من المنافقين والدجالين وتجار الدين، الذين أبعدوني عن الله سنينا ضوئية…

ياسيدتي أقدس بيت للعبادة بيتي وبيوت أولادي، فهي الأمكنة الوحيدة التي أضمن طهارتها من الفساد والرذيلة…

ياسيدتي من لم يرّ الله في سلة بيض الأرنب الذي يشرفنا في عيد الفصح، وفي قبعة سانتا كلوز الذي يزورونا في عيد الميلاد، لا يستطيع أن يراه في أي مكان آخر…

يا سيدتي لا أريد أحدا يفرض عليّ الهه وطريقة عبادته لذلك الإله…

ياسيدتي من لا يستطيع أن يُدخل الفرح على قلب طفل لا يعرف الله…

يا سيدتي من لا ينحني ويصلي للإله القابع في عيني حفيدي آدم، لم يمارس يوما الصلاة…

..أعتذر إن كان إلهي مغايرا لما يعنيه لكِ الإله….لم أفرض يوما إلهي على أحد، ولا أريد لأحد أن يفرض عليّ الهه، والطريقة التي يعبد بها ذلك الإله.

……..

أغلقت سماعة الهاتف، ولسان حالي يتضرع إلى الله: يارب لا تجعلني من عبادك “المؤمنين” فلقد ضقت ذرعا بهم!

بل اجعلني من عبادك الذين يَفرحون ويُفرحون، فالفرح هو أنت أينما حلّ..

اجعلني من عبادك الذين جاؤوا لنا بسانتا كلوز وبأرنب الفصح، وجعلوا حياتنا أسهل وأبهى بعلومهم ومعرفتهم.

……..

قرأت منذ يومين قولا للرئيس الفرنسي ديغول: كيف سأحكم دولة تنتج 246 نوعا من الجبن؟؟؟

وأنا أقول: لا حاجة لك أن تحكمها فالله وحده يحكمها،

الله وحده يتواجد حيث توجد النعمة والوفرة والعطاء…

أما الندرة والشح فتسود حيث تتحكم العقول العقيمة والمريضة!

……..

كل عيد فصح وأنتم وجميع أرانب الأرض بخير!

Coloriage Lapin de Pâques à côté d'un panier d'œufs - Dessin gratuit

أكمل القراءة

جلـ ... منار

بفلوسي!

نشرت

في

Images de Voleur Argent – Téléchargement gratuit sur Freepik

السيدة سهير موظفة في منتصف العمر وأم لثلاثة شياطين، وهي من الطراز الذي لا يتذوق الدعابة ولا يفهمها. علمتني الحياة أن أظرف وأروع الدعابات طرًا تأتي من هذا الطراز، فهم لا يفتعلون الظرف .. إنهم ظرفاء بالطبيعة. أسخف الدعابات تأتي غالبًا ممن يعتقدون أنهم ظرفاء، وأدعو الله ألا أكون منهم.

أحمد خالد توفيق

قرأت ملحقًا لإحدى الصحف الشهيرة مؤخرًا، فوجدته مليئًا بصور أشخاص ظرفاء يضحكون في استمتاع، مع نكات من نوع (اركبي قبل الحصان ما يشوفك).. (حماتي عملت مفاجأة وجت تقعد معانا شهر).. منتهى السماجة.

هذا ليس موضوعنا على كل حال. موضوعنا هو السيدة سهير.

سألتني السيدة سهير عن طبيب أنف وأذن وحنجرة جيد لأن أذنها مسدودة منذ فترة، فاقترحت عليها دكتور سيد الشماشرجي .. هذا رجل بارع يجيد عمله وصديق قديم. توكّلتْ السيدة على الله وذهبتْ له في العيادة ودفعت مبلغًا باهظًا من المال للكشف. تقول إنها دخلت لترى قزمًا مسنًا ينظر لها في كراهية من خلال المرآة التي تثبت على الجبهة إياها، فلما فتحت فمها لتقول:

ـ”إنها أذ………………………..”

أخرسها بشخطة، ودس منظارًا في أذنها فكاد يثقبها، ثم قال في عصبية وقرف:

ـ”شمع .. لابد من غسل الأذن”

وقبل أن تفهم كان يضع طبقًا معدنيًا تحت أذنها ويدس فوهة مسدس الماء في أذنها، فتصرخ ألمًا، ثم تشعر بطوفان من الماء الدافئ يدخل أذنها ويبدو أنه يبلل مخها ذاته ويخرج من الأذن الأخرى.

ثم قال لها بذات القرف:ـ”هناك قطرات للأذن .. استعمليها !”

خرجت من الغرفة شاعرة بالإهانة، كأنما تربص بها عشرة أبطال مصارعة فأوسعوها لكمًا وركلاً. وقبل أن تفهم ما يحدث انقض عليها الممرض الجالس في الخارج ليقول في قرف:

ـ”خمسون جنيهًا !”

ـ”ماذا ؟”

ـ”أتعاب غسل الأذن خمسون جنيهًا …

“إذن ففيم كان الكشف الباهظ؟

دفعت ما طلبه هذا القرصان وهي ترتجف غيظًا، كما أن أذنها كانت تؤلمها جدًا. ومشت في الشارع شاعرة بشعور السكير الذي يطردونه من الحانة بعد منتصف الليل لأنهم يريدون الإغلاق. قدماها غير ثابتتين ولا تفهم ما يحدث، دعك من أن زوال انسداد أذنيها جعلها تشعر بدوار وبرد غريبين.

لما عادت للبيت اتصلت بي لتنفجر في غل، شاتمة ذلك اللص النصاب الذي تقاضى كل هذا المبلغ في ثلاث دقائق. والأسوأ هو مبلغ الخمسين جنيهًا .

. كان يجب أن تكفي أتعاب الكشف لكل شيء.

بعد أشهر كانت تطالع الصحيفة فوجدت صورة عروسين .. المحاسب سمير سيد الشماشرجي تزوج المحاسبة هيام منصور .. الزفاف كان حلمًا من أحلام ألف ليلة وليلة وأقيم في فندق فاخر بالقاهرة. قالت لي في غيظ:

ـ”بفلوسي!! لقد زوج ابنه بمالي ذلك اللص!”

حكيت لها ذات مرة عن السيارة الفاخرة التي ابتاعها المهندس محمود سيد الشماشرجي ابن الطبيب الشهير، فصاحت في غل:

ـ”بفلوسي!!… يستطيع أبوه عمل أشياء كثيرة بالخمسين جنيهًا التي تقاضاها لغسل أذني!”

ذات مرة نشرت إحدى المجلات حوارًا مع دكتورة اسمها غادة تتحدث عن جولتها في اليابان ودول جنوب شرق آسيا. قالت في الحوار إنها زوجة واحد من أهم أطباء الأنف والأذن والحنجرة في مصر، وهو الدكتور سيد الشماشرجي.هنا صاحت السيدة سهير:

ـ”بفلوسي…!.. زوجته الشمطاء تجوب العالم كله بالخمسين جنيهًا”

رأيت أن الأمر تحول إلى هاجس أو وسواس قهري بالنسبة لها، فلولا ما في ذلك من مبالغة لطلبت من د. سيد الشماشرجي أن يرد لها مالها كي يتجنب هذه اللعنة السرمدية. لا شك أنه سيصاب بمرض عضال وينفق أضعاف الخمسين جنيهًا لعلاجه، لأن السيدة سهير – كما نقول في العامية – مش مسامحة!

العكس يحدث أحيانًا. الحكاية هي أنني منذ أعوام اشتركت في واحدة من مطبوعات اليونسكو الشهرية، والاشتراك ثلاثون جنيهًا في العام تقريبًا. ثم وجدت أن الأعداد تتكدس وأنا لا أطالعها… جاءت لحظة الحقيقة وقررت أنني لست بحاجة لهذه المطبوعة وكتبت خطابًا أعتذر فيه عن عدم الاشتراك لعام آخر.. أرسلوا لي يسألون عن السبب فلم أرد.

بعد أشهر قرأت في الصحف الخبر التالي (وهذا الكلام حقيقي على فكرة):

ـ”اليونسكو مهددة بالإفلاس لأن الولايات المتحدة خفضت مساهمتها في تمويل المنظمة”

طبعًا لم أحتج لأسئلة أكثر .. لقد تدهورت حالتهم المادية فعلاً عندما تركتهم، وعندما كففت عن دفع ثلاثين جنيهًا كل عام.

يبدو أن هذه المنظمة كانت تعتمد كلية على فلوسي.

قصة أخرى طريفة عندما كنت مدعوًا لمهرجان أدبي في قطر خليجي شقيق. كان طعام الفندق ممتازًا، وأنت تعرف عقدة البوفيه المفتوح. ربما هي فرصتك الأخيرة كي تجرب حساء التوم اليوم أو الباتاي أو القبوط أو الدجاج بالطريقة الإيرانية، أو حساء المنسيتروني وشرائح سمك الكنعد بالليمون.. ملعقة من كل شيء وسوف تكتشف أن الطبق مليء جدًا وأن ثيابك تضيق.

بعد ثلاثة أيام فتحت جهاز التلفزيون في الفندق، فوجدت أن حكومة البلد الثري مجتمعة لمناقشة الانهيار الاقتصادي الذي حدث مؤخرًا!.

شعرت بخجل شديد لأنني تجاوزت حدود الضيافة، وحاولت جاهدًا ألا أجرب سوى صنف واحد في الوجبة. إن شراهتي كفيلة بتدمير دولة فعلاً.

نعود للسيدة سهير التي أضناها التفكير في مالها…الحقيقة أنها ليست واهمة تمامًا. لا شك أن مالها ساهم بقدر ضئيل جدًا – كذرة في جسد – في نفقات رحلة آسيا.

هذا المفهوم ينطبق على الدول نفسها: عندما يعتدي عليك أمين الشرطة ويصفعك أو يطلق عليك الرصاص، أو يلفق لك قضية مخدرات بأحرازها مستعملأً قطعة البانجو في جيبه، فهو في الحقيقة يتقاضى راتبه من جيبك. حتى الرصاصة التي استقرت في رأسك أنت دفعت ثمنها.

المتظاهرون دفعوا بالكامل ثمن الغاز الذي يستنشقونه.

محصل الكهرباء الذي يخرب بيتك يتقاضى الراتب منك أنت.

هذا ينطبق على كل موظف في الدولة من أصغر رأس لأكبر رأس. كل المستشارين الذين يحصدون المليارات كل عام. من أين يحصلون على هذه المبالغ الفلكية؟ من جيبك طيعًا.

في الخارج يؤمنون أن رئيس الدولة نفسه موظف يتقاضى راتبه من جيوبهم، وعليهم أن يعرفوا ما فعل به، بينما في الدول العربية يسود المفهوم الأبوي القبلي الذي خرب بيوتنا:

أنت تعيش بما يجود به الحاكم عليك…

شيخ القبيلة الذي يقذف لك بصرّة من الذهب، بينما أنت في الواقع شاركت بقطعة نقدية في هذه الصرة.

السيدة سهير لم تبالغ في تصوراتها. هي فقط بالغت في أهمية الخمسين جنيهًا التي دفعتها

أكمل القراءة

جلـ ... منار

بِع وَردًا ولا تلعن الحياة

نشرت

في

Peut être une image de amarante

لم يمنعني المطر من أن أمارس طقوسي هذا الصباح.على العكس تماما، فالمطر هو أكثر الظواهر الطبيعية التي تسهل عليّ التواصل مع الكون وقراءة رسائله!

وفاء سلطان
وفاء سلطان

دخلت مقهاي المفضل لاحتسي فنجان قهوتي،ورحت أتأمل بعمق كل شيء حولي لأستشف الرسالة الكونية لهذا اليوم، إذ لم يمر يوم ونسي الكون فيه أن يخصني ببريده، ومن ذلك البريد أستمد كل صباح حكمة تزيدني شوقا للصباح الذي يليه… على يساري جلست سيدة، وقبالتي لمحت سيدة أخرى… وبين السيدتين كانت الرسالة واضحة وجليّة، وتحمل حكمة ولا أجمل… كلا السيدتين دخلت المقهى لنفس الغاية، دخلتاه تنشدان بعض الدفء، وهربا من زخات المطرالتي لم ترحم رأسا من لسعاتها!

السيدة على يساري، ومن ثيابها تعرف أنها مشردة وتعيش في الشوارع… والسيدة على يميني تحمل سطلا من الورود وتنظر عبر الزجاج أملا في لحظة صحو لتركض إلى الخارج وتستمر في بيع ورودها للمارة!..

تحسستُ طاقتها التي تفيض حبا للحياة، فاقتربت منها علني أمتصُّ بعضا منها!

اشتريت وردة ودار بيننا حديث شيق، علمت من خلاله أنها متقاعدة في منتصف الستينات من عمرها، وأنها تمارس تلك الهواية التي تدرّ عليها ربحا جيدا، كي تبرهن لنفسها أنها مازالت منتجة، علما بأن راتبها التقاعدي يكفيها من الناحية المادية!

اسمها روز، وتصرّ أن لها من اسمها نصيبا، فهي تعشق الورود وتشعر بسعادة عامرة عندما تبيع أحدا وردة!

تقول: ليس ما أجنيه من بيع الورود ما يسعدني أكثر، وإنما البسمة التي أرسمها على شفاه الناس!

وتتابع: لم يشتر أحد وردة إلا وبطريقة لا شعورية قام على الفور بشمّها، تسحرني تعابير الوجوه عندما تشمّ ورودي، واشعر أنني ساهمت في رسم تلك التعابير…

ثم شكرتني على شرائي لإحدى ورودها، وتمنت لي يوما جميلا!

……..

بينما في الوقت نفسه، يقترب مدير المقهى من السيدة الأخرى، ويتمتم في اذنها، فتخرج وتجر وراءها رائحة قاتلة!

لا أتصور أنه طلب منها أن تغادر، إذ لا يستطيع بالقانون أن يفعل ذلك، بل طلب منها أن تحرك عربتها المليئة بأغراضها لأنها تعترض المدخل إلى المقهى!

……..

نعم، تلك هي الحياة مجرد قرارات، وأنت مسؤول عن قراراتك!

سيدة قادتها قرارتها لتكون مشردة تفترش الشوارع وتلتحف السماء، وأخرى قادها قرارها لأن تمارس هواية محببة لنفسها، كبرهان على أنها مازالت تعشق الحياة، ومازالت بكامل وعيها لتعيشها بعمق!

……..

أما أنا فعدت لأمارس شغفي، وأنهي كتابا كنت قد بدأته الليلة السابقة…الكتاب بعنوان:

?What would you do if you knew you could not fail

(ماذا ستكون قد فعلت لو علمت أنك لن تفشل؟)

في الفصل السابع من الكتاب، جاءت تلك العبارة:”لو أن حلمك قد وقع فانكسر وتحوّل إلى ألف شظية، إياك أن تخاف من أن تلتقط على الأقل واحدة منها لتبدأ من جديد”

……..

لا يوجد أحد فينا إلاّ وتشظى حلمه يوما،

وحدهم الذين قرروا أن يتمسكوا ـ ولو بشظية واحدة ـ ليبدؤوا من جديد،

وحدهم قد بدؤوا ووصلوا إلى حيث يريدون!

السيدة المشردة وبائعة الورود من الأمثلة الحيّة.

……..

بع وردا ولا تلعن الحياة، فالحياة تلعن من يلعنها!

أكمل القراءة

صن نار