تابعنا على

دفءُ نار

منصف الخميري: راديونيّات

نشرت

في

لمْ أنْعَمْ مثل أندادي من الأطفال التونسيين خلال السنوات الستّين من القرن الماضي بمباهج الشاشة الصغيرة ومفاتنها نظرا بصفة خاصّة لغياب التدفّق الكهربائيّ المبارك  في أريافنا الحزينة فعشنا طيلة عقود على أثير الإذاعة الوطنية وإذاعة الجمهورية الجزائرية الديمقراطية الشعبية (بحكم علاقة الجوار) وبدرجة أقل القناة الدولية لإذاعة تونس الناطقة بالفرنسية.

منصف الخميري Moncef Khemiri
منصف الخميري

كان الرّاديون (المذياع أو جهاز الراديو مصطلحات لا تؤدي المعنى تماما في هذا السّياق) خلال سنوات السدّ العالي ودول عدم الانحياز والغاني نكروما هو نافذتنا الوحيدة على العالم المكتظّ آنذاك بأحداث عالمية كبرى سياسيا واجتماعيا وثقافيا وموسيقيا…لكنّ جيلي – في جزء كبير منه – لم يكن مسلحا بما يساعده على فهم ما يحدث من حوله وتمتين صلته بالمعارف الكونية لأن غول الأمية كان جاثما بكلكله على صدور الأغلبية الساحقة من العائلات التونسية ولأن المحامل الثقافية الأخرى مثل الكتب والأفلام والمجلات والجرائد والقصص المصورة لم تكن موزعة بعدل بين جميع التونسيين.

هذه العلاقة الحميمية اليومية مع الإذاعة كناطق رسمي ووحيد باسم العالم في بيوتنا أكْسَبتنا “وعيا راديونيّا نموذجيا” له ما يميزه ويصنع فرادته مقارنة بمن ينهل من عيون اتصالية وموائد مائية أخرى.

كنتُ خلال العطل المدرسية وأيّام الأحد أقبل بحماسة شديدة ممارسة مهنة الراعي الموسمي لأبقار العائلة وأغنامها بدافعين أساسيين. أولهما ارتباط تلقائي بطبيعة غنّاء ومِعطاء فيها من عذب المياه وطيب النباتات الصالحة للأكل ما يجعلك لا تخشاها أو تتهيب مما قد يصيبُك بين أحضانها. أما الدافع الثاني فكان استجابة والديّ للمساومة التي أمارسها في كل مرة وهي الرّعي مقابل الإذاعة، أي اشتراط أن يكون مذياع العائلة بحوزتي خلال كامل الحصة الرعوية الصباحية.

وكان الحرص على اصطحاب جهاز الراديو مدفوعا بالرغبة في إطفاء شغف أو عطش ما لمعلومة جديدة أو تعلم جديد أو طريقة جديدة في نُطق بعض الكلمات التي مارست علينا عربدتها طويلا مثل ماساشوستس الامريكية أو  هارليمميرمير الهولندية… كانت رؤوسنا ضمأى لو وضعت فيها العالم لاستوعبتهُ.

ما تحتفظ به ذاكرتي الآن بصفة خاصّة وبعد مرور أكثر من نصف قرن على تلك العهود التي كانت فيها الكلمات والألحان تشق طريقها بمُفردها وببسالة الى قلوب المستمعين ووجدانهم في غياب صورة تؤثر وأضواء تُبهر :

_____لم تكن هنالك حاجة إلى ومضات إشهارية للتحريض على الاستهلاك وتخيّر ماركات بعينها دون أخرى  لأن الجمهور الواسع للمذياع تنحصر مقتنياته الاستهلاكية في ثلاث أو أربع حاجيات أساسية مثل الشاي والسكر والقهوة ومعجون الطماطم. فالمشروبات الغازية كلها “فانتا” والأحذية الرياضية كلها “ماركة غزالة” أو “مجهول” (ويبدو أن عائلة ماجول كانت تملك معملا لصنع الأحذية في تونس آنذاك) والعطورات كلها “ريفدور” وأنواع البسكويت كلها “قوفرات سيدة” قبل مجيء الشوكوتوم.

____لم نكن قادرين على ردّ الأسماء إلى مسمّياتها الأصلية كأن نردد حلوى شاميّة دون التفطن الى أنها منسوبة الى بلاد الشام الماسحة تاريخيا لسوريا ولبنان والأردن وفلسطين التاريخية… ولم نكن ندرك أن قافلة تسير تعني مجموعة من الناس تسير معا بواسطة الإبل بغرض التجارة … وبرنامج “إختبر ذكاءك” لم نكن نفهمه على أنه حصة لامتحان الذكاء وأن تفسير الجلالين يقصد به تأليف جلال الدين المحلّي وجلال الدين السيّوطي.

____كانت نشرات الأخبار الإذاعية تتميز بأن من يُقدّمها لا يُتقن بصفة عامة لا التنقيط ولا أدوات الربط، وقد عُدْتُ الى أرشيف الإذاعة الوطنية التونسية لأعثر على نشرة بُثّت عام 1981 على النّحو التالي :

حلّ بتونس بعد ظهر اليوم وزير الداخلية النمساوي في زيارة رسمية تستغرق بضعة أيام وأشاد نائب رئيس الجمهورية العراقية لدى مغادرته تونس بالعلاقة التونسية العراقية التي وصفها بأنها حسنة ومتطورة واجتمع الرئيس علي ناصر محمد بوفد فلسطيني وبحث معه آخر تطورات الوضع في الساحتين اللبنانية والفلسطينية وشجب الرئيس الإيراني محمد علي رجائي في أول خطاب له شجب الدور الذي تقوم به منظمة المجاهدين اليساريين وطلب الوزير الاول البرتغالي منحَهُ مُهلة بثلاثة أيام قبل اعلانه عن قراره بامكانية استئناف مهامه كوزير أول.” هكذا بدون نقاط أو فواصل وكأنها “لقمة” واحدة.

____البرامج الإذاعية الدعائية للسلطة القائمة آنذاك كانت إما دعائية فجّة مثل “التنمية الريفية” أو مبتذلة تخاطب عفوية التونسي في علاقة بالتراث مثل قافلة تسير  (في سياق عقلية تركريك التاي التي لاحقتنا إلى قصر الضيافة بقمرت حديثا).

إفْرَح النّجع زْهات أيّامه وبطل التُّخمام

والشاي مْركّب قدامه في السهرة خدام (بصوت مختار حشيشة ).

____كان لنا آنذاك تعاطفا تلقائيّا مع إذاعة “صوت فلسطين” فتعلمنا أسماء قرى فلسطينية بعيدة من قبيل جنين وبئر السبع والناصرة وأسماء قيادات تاريخية طبعت مسار المقاومة الفلسطينية مثل أبو عمار وأبو إياد ووديع حداد وليلى خالد وجورج حبش ونايف حواتمة… أو مع صوت مغرب الشعوب (للتحرر والتقدم والوحدة) التي كانت تبثّ من مدينة وهران زمن الرئيس محمد بوخروبة (هواري بومدين) في نهاية السبعينات مع بعض الفقرات بالدارجة المغربية لدغدغة مشاعر مواطني المغرب الأقصى في علاقة بقضية الصحراء ضد “صوت البلاد” المغربي فعرفنا مدنا وقرى صحراوية مثل وادي الذهب والعيون والسمارة وبوجدور…

____بادرت الإذاعة الجزائرية مباشرة بعد الاستقلال وفي إطار إعادة الاعتبار للّغة العربية ومسح آثار هيمنة اللغة الفرنسيّة طيلة عقود إلى بثّ حصص للترجمة مرة في المجال الصحي وأخرى في ميدان الزراعة …فكان المذيع يبذل قُصارى جهده كي ينطق ببطء شديد وبلكنة عربية واضحة :

البنكرياس هو le pancréas  والطاعون la peste  والتطعيم la vaccination والدواء الجنيس les médicaments génériques الخ… وكم كنا نتعلم لغويا من هذه الفواصل التربوية على الأثير.

فتعلمنا أيضا أن الثنائية اللغوية هي استعمال لغتين مختلفتين في مجتمع واحد كالعربية والفرنسية في الجزائر وتونس بينما تتمثّل الازدواجية اللغوية في استعمال افراد المجتمع الواحد لمستويين ينتسبان الى لغة واحدة مثل العامية والفصحى في اللغة العربية.

____وأخيرا لا يمكن أن أنهي هذه الورقة الراديونيّة البسيطة بدون استدعاء ما أتاحته إذاعة الجارة الجزائر من انفتاح على فنانين وأعلام وأدباء لم يكن متاحا معرفتهم بالاعتماد فقط على إذاعتنا الوطنية، فعرفنا على سبيل المثال الفنان خليفي أحمد ملك الأغنية الصحراوية الذي غنّى لفحول الشعراء أمثال الشيخ سي بن يوسف، و الشيخ بن قيطون، والشيخ سماتي و الشيخ عيسى بت علال.

ومازلت أحفظ لهذا الفنان المتميز أغنية “تفكّر عربان رحّالة” التي تقول كلماتها :

خليفي أحمد

قلبي تفكر عُربان رحّالة … تاريخ افريقيا الشمـــــالِ

كيفاه كانوا قومان خيــّــــــــــــــالة…..حسراه قداه ازهيت بابطالي

شوفو احوال الدنيا الختّالــــة….قداه مضات أيام وليــالي

كما عرفنا فنّانين بارزين مثل رابح درياسة و هاشمي القروابي ونورة و الشيخ بورقعة و بقار حدة ودحمان الحراشي ولونيس آيت نقلات وأدباء مشهورين ككاتب ياسين وعبد الحميد بن هدوقة ورشيد ميموني والطاهر وطار ورشيد ميموني الخ…

أكمل القراءة
انقر للتعليق

اترك تعليقا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

دفءُ نار

هل هناك أطفال موهوبون ؟ العِلم يجيبكم

ترجمة لحوار صحفي مع عالم الوراثة ألبير جاكار*

نشرت

في

ما يُبهرني شخصيا في رؤية ألبير جاكار لما يسمّى بالموهبة هو جُرأته العلمية وتفرّده برؤى تحليلية تخرج عن المألوف لتترك مجالا واسعا للتّنسيب وموقعا يليق بالأطفال المختلفين وكل أولئك الذين تضعهم التصنيفات العلمية المزعومة (كما يقول هو) على هامش الذّكاء والنّبوغ وتُعطيهم فرصة للتميّز  مهما كان ملمحهم ومستوى نتائجهم المدرسية وترتيبهم في المناظرات والاختبارات.

منصف الخميري Moncef Khemiri
منصف الخميري

كثيرة هي الأدبيات التربوية والعلمية التي تحدّثت عن هذا الصنف من الأطفال، فيطلقون عليهم تسمية الأطفال الموهوبين تارة أو الأطفال ذوي الإمكانيات العالية enfants à haut potentiel  تارة أخرى أو كذلك الأطفال ذوو الذكاء المُبكّرprécoces . لكن عالم نفس النمو وأستاذ علوم التربية الأمريكي هوارد غاردنر شكّك في نهاية سبعينات القرن الماضي في إمكانية وجود الذكاء الواحد والكوني لأنه لا يعدو كونه “اقتدارا خصوصيا يتمثل في فهم الأشياء” وبالتالي لا مناص من تصريف الذكاء في الجمع في إطار ما أسماه بنظرية الذكاءات المتعدّدة … وذلك في 8 مجالات أساسية متنوّعة (الذكاء اللغوي والذكاء المنطقي الرياضي والذكاء الموسيقي والذكاء البصري الفضائي والذكاء البدني الحركي والذكاء العلائقي والذكاء البيئي والذكاء العاطفي).

وهذا نصّ الحوار الذي أجرته مجلة نوفيل أوبسرفاتور مع ألبير جاكار (أوت 2013).

الأطفال الموهوبون، هل تؤمنون بوجودهم، نعم أم لا ؟

لا طبعا، أنا لا اومن بذلك مُطلقا، وسبق لي أن تصادمت في هذا الخصوص مع عالم السلوكيات ريمي شوفان الذي نشر سنة 1975 مؤلفا أطلق عليه “النوابغ”. لا يمكن حسب نظري أن يوجد نوابغ وذلك لسببين : أولا في كلمة نوابغ surdoués هناك “أعلى” بمعنى متفوق وما يتبع ذلك من تصنيف و تراتبية، لكن النابغة هو أعلى من ماذا أو مِن مَن ؟ عندما نفكر بأن هذه التراتبية هي مبنية على مقياس وحيد وهو قيس حاصل الذكاء QI المزعوم، ندرك سريعا أن الأمر متعلق بفكرة مجنونة. قيس الذكاء ؟ ادعاء تحويل هذا الواقع متعدد الأشكال إلى رقم حزين ؟ هذا غباء. ثم لماذا مثلا لا نؤسس حاصلا للجمال QB ؟ عندما أقترح هذا، الناس يبتسمون هازئين. لكن على الناس الذين يردّون الفعل على هذا النحو أن يهزؤوا بنفس الطريقة من حاصل الذكاء.

والسبب الثاني ؟

آه نعم. في كلمة موهوب أيضا هناك “النبوغ” doué. أي المتمتع بموهبة. من وهبه هذا النبوغ ؟ الطبيعة بالتأكيد. الكنديون ابتدعوا كلمة douance بمعنى القدرة على النبوغ (قليلا أو كثيرا). وبما أن كل ما تمنحنا إياه الطبيعة يكون مسجلا في جيناتنا، فيجب الاعتقاد بأن هناك جينات مسؤولة عن الذكاء (جينات للذكاء). بينما ليس هناك إلا جينات للغباء تدمر العقل. لكن الغباء ليس نقيض الذكاء لأن الغباء مرض. بنفس المنطق هناك قنابل “شريرة” أو كريهة باستطاعتها على سبيل المثال تدمير قصر فرساي ولكن لا وجود لقنابل “طيبة” تكون قادرة على إعادة بنائه بواسطة جينات الذكاء فقط. الجينات ليس لها أي علاقة بترابطية توصيل الخلايا العصبية. 

هناك على كل حال – وهذا شيء بارز  في المدرسة مثلا- تلاميذ لامعون أكثر من غيرهم ؟

نعم لقد قلتها بنفسك : لامعون. لكن هل يعني ذلك أنهم أذكياء ؟ الذكاء هو مَلَكة الفهم. بينما أن تفهم شيئا ما بشكل حقيقي هو دائما مسار طويل. الذكاء الحقيقي هو أن تفهم كونك لم تفهم. و المثال النموذجي هو إنشتاين عندما كان تلميذا بنتائج مدرسية هزيلة لم يكن بالتأكيد طفلا موهوبا ولكن أتصور أنه لا أحد باستطاعته الادعاء أنه لم يكن ذكيا. لكن أن نفهم كوننا، “لم نفهم بعدُ” هو شيء أكثر ذكاء من الاعتقاد بأننا فهمنا. وهي خاصية الطفل الذي يزعم أنه موهوب. هذا الأخير يتميز خصوصا بالثقة في النفس وبالتعوّد على فرض نفسه أو القدرة على الظهور. هي ببساطة مسألة مغامرة اجتماعية.

حدث ذات مرة أن ألقى عليّ شاب عمره 14 سنة في إعدادية “ذات منسوب عال من المشاكل” بالضواحي الباريسية  السؤال التالي سيدي، هل يستطيع المرء أن يصبح عالم جينات إذا كانت لديه سوابق عدلية ؟

سؤال أربكني جدا. هذا الشاب لم تكن لديه سوابق عدلية… لكنه كان يدرك أن ذلك آت لا محالة. لم يكن تلميذا متفوقا أو لامعا لكنه توصل إلى فهم العديد من الأشياء. الذكاء هو دائما تتويج لمغامرة فردية، مضمّخة بمؤثرات خارجية، وهو أمر لا علاقة له بعلم الجينات أو علم الوراثة. 

لكن كيف نحدد الذكاء وما هي طريقة تشكّله ؟

يمكن أن نربط الذكاء بعدد التشابكات العصبية ؟ أو الترابطات بين الخلايا العصبية ؟ بينما هناك حوالي 100 مليار من الخلايا العصبية مترابطة من خلال حوالي 10 ملايين من مليارات التشابكات العصبية. يتضح إذن للحين أن علم الجينات يعجز تماما عن التدخل في كل هذا. 30 مليونا من التشابكات تنشأ في كل ثانية، فكيف تريدون من البرنامج الجيني أن يراقب ظاهرة على هذا النحو من التعقيد؟ وبالضرورة فإن تشكل هذه التشابكات العصبية محكوم بالمعلومات والمؤثرات المتأتية من الخارج. و بالتالي فإني أعتقد مثلا في هذا الخصوص أن المداعبات المتأتية (أو لا) من الأم تلعب دورا هاما في بناء الذكاء وتشكله.

هل تقصدون أن الأطفال الموهوبين هم الذين تمتعوا بملاطفات من أوليائهم بشكل أكبر أو أفضل من نظرائهم ؟

ذلك مجرد وجه من وجوه المسألة. بشكل أعمق، أعتبر أن الأطفال الذين يتم وسمهم بالموهبة هم أطفال أسرع من الآخرين في علاقة ببعض المواضيع. و لكن السرعة هي مجرد مكون من مكونات ما نسميه بالذكاء. ليس ثمة أي داع للاعتقاد أنها المكون الأكبر. ما الفائدة من فهم شيء ما وتمثّله في سن الـ13 قبل سن الـ 15 أو الـ 18 ؟ المهم هو أن ننتهي إلى الفهم، وبصفة عامة عندما تقول “سريعا” قد يعني ذلك “سطحيا”، الموهوبون هم أناس سطحيون.

للأسف، هنا كما في مناطق أخرى من العالم، نحن نستسلم لهذه الموضة العبثية : تثمين السرعة، المسيطرة على المجتمع الحالي. لنتوقف عن الخلط بين السرعة والتتويج أو المنتهى لأننا نعرف منذ زمن بعيد أنه لا فائدة من الجري… أنا الذي أدرّس علم الجينات لطلبة السنة الأولى طب، أكتشف على سبيل المثال أن الفتيات (في المعدّل) أفضل من الذكور. هل يعني ذلك أن الذكور أقل ذكاء ؟ أعتقد أن هنالك تفسير منطقي أكثر : في هذه السنّ بينما تكون الإناث بصدد التفكير بدراستهن يكون الذكور بصدد التفكير بالفتيات.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

*ولد ألبير جاكار في ديسمبر 1925 وتوفي يوم 11 سبتمبر 2013 بباريس.

من مؤلّفاته : الله؟ تربية بدون سلطة ـ صحراء ـ سعيد مثل طفل يرسم ـ أتهم الاقتصاد المنتصر ـ إليك أنت ايها الذي لم تولد بعد ـ محاولات في صفاء الذهن ـ  أنا من أين أتيت ؟  أنا والآخرون ـ  طوباويتي ـ  بعض الفلسفة لغير الفلاسفة ـ  في تمجيد الاختلاف…

أكمل القراءة

دفءُ نار

خمسُ جرائم تُقترف اليوم في حق تونس

نشرت

في

“حطام” تمثال الشابي في عين دراهم … أو آثار القدم الهمجية

سياسيّا :

“عادة ما يَختزل رجل السياسة حياته ونظرته للحياة في بعض الجمل التبسيطية التي يتكئ عليها ليفهمه العامة ويتعاطفوا معه، بحيث لا يجلب الجمهور بواسطة البراهين بل يُغريه بواسطة المقولات الجاهزة”  (الروائي البلجيكي فرانك أندريات)

منصف الخميري Moncef Khemiri
منصف الخميري

أعتقد أننا بحاجة أكثر من ماسّة اليوم إلى الحسم والبتّ نهائيا وبسرعة في كل المُتخلّدات بذمّة العشرية الضالة والآسنة وكل ما اعتراها من شبهات تواطؤ مع أعتى المخابرات وما ضلعت فيه من رصد لأفضل الأسطح لممارسة القنص المهيّج واستيلاء على أراض ومبان واقعة في مناطق الغموض العقاري والتحضير العسكري الجدي لبناء مجتمع جديد يكون فيه الحديث عن “قُصّوا الشوارب واعفوا اللحي” أكثر استراتيجية من “علّموا أطفالكم الثقة بالنفس وقبول الآخرين باختلافاتهم”…وتعقّب كل من ساهم في إلحاق نسيجنا الاقتصادي بالعواصم التي أغدقت عليه ريعا بلا حساب… والمرور بعد ذلك فورا إلى “تطبيع” الحياة السياسية والانطلاق في العمل دون هوادة على كل الجبهات وكأننا خرجنا لتوّنا من حرب مُدمّرة.

ثقافيا :

لدينا في تونس مواقع أثرية وحضارية نادرة جدا على المستوى العالمي تُضاهي أبو سنبل مصر وبيترا الأردن وماتشو بيتشو البيرو … فقرطاج التي تؤثّث كتب التاريخ في أغلب بلدان العالم باستطاعتها أن تكون وجهة الانسانية بأسرها، وينسحب هذا على مسرح الجم وقصور تطاوين وعين الذهب بجبل السرج ومتحف باردو (ثاني أشهر متحف افريقيّا بعد المتحف المصري) … ولكن أضواءها مُطفأة والترويج لها منكدة.

من ناحية أخرى، عندما تشاهد وضع المنازل التي سكنها أو المواقع التي مرّ بها كبار شعرائنا وأدبائنا ومُبدعينا والحالة الرثّة التي باتت عليها تلك البيوت والأماكن المُهملة، ينهال عليك شعور بأنك تعيش في بلد يقتات من أكل أجداده والتنكيل بهم واصطياد بؤر الضوء في تاريخه ليخنقها ويخمدها.

تربويا :

بدلا من التفكير بالأسوإ في منظومتنا التربوية (تفاقم ظاهرة الانقطاع واستشراء ترويج “الأقراص” غير المزيّفة في الوسط المدرسي وتدني المكتسبات المعرفية وتراجع أداء المدرّسين…)، دعونا للحظة نُفكّر بالأنصع والأمتع حيث أن المدرسة التونسية التي أنجبت مهندسين أكفاء يجوبون العالم وأطباء مقتدرين تعترف بمهارتهم مستشفيات الكون والعديد من الأكاديميين المتألّقين في جامعات ومخابر البحث عبر عواصم المعمورة… نفس هذه المدرسة تظل قادرة على الاستمرار في تأدية وظيفتها تلك لو تتوفر نفس الإرادات الفولاذية التي أرست دعائمها عبر التاريخ. هذه جريمة في حدّ ذاتها أن ندع سقف مدرستنا يتهدّم أمام أعيننا خاصة على رؤوس الفقراء ومتوسّطي الحال لأن هنالك آلاف العائلات التي بمقدورها إيواء منظوريها تحت أسقف أخرى.

اجتماعيا :

طفل يبلغ سن السادسة عشر ولا يعرف الفرمبواز والجينواز وشابّة مزهوّة بقدّها لا تفرق بين الدودون والبومبرز والباركا واللاغينغ وشاب لم يفكر يوما باستخراج جواز سفر لأنه لا يحلم بعبور المتوسط إلا حارقا أو محترقا وتونسيون ينامون بنفس الملابس التي اشتغلوا بها نهارا وعاملات فلاحيات تنام الديكة أكثر منهنّ وتلميذ في مدرسة نائية يستخدم كل ذكائه ليفلت من حصة الفحص الطبي الجماعي لكي لا يكشف عن بطنه التي علق بها بعض الحشن لغياب الماء في منزل والديه وتلميذة يُفرض عليها أن تُفتّق لغتها الغضّة حتى تقول “عْملنا soupe  في العشاء” وليس حساءً حافيا غير متبوع بأي شيء، و”أبي يجلب السلع من الخارج حتى لا تقول مُهرّب”… كلها عناوين لدولة بغلة ارتقت سياساتها المتتابعة بحفنة من الناس وتركت أغلبيتنا العظمى نسفّ التراب والسراب. (سفّ الدقيق أي تناوله يابسا غير معجون).

ديبلوماسيا :

من المؤكد أن الموقف المؤيّد لوضع العشرية الكبيسة بين مُعقّفين أقرب بكثير إلى الوجاهة من الموقف المنادي بالرجوع إلى حلبة الصياح والنباح والتراشق بالرماح، وبالتالي فإن مهمة إقناع العالم بأن لا أحد أبكاه غلق البرلمان من التونسيين سوى بعض الذين ساءهم “عدم استكمال إجراءات الحصول على رخصة صيد أو ما يعادلها”…لم تعد بالمهمة الصّعبة. يكفي إذن أن تُكلّف نخبة صادقة من الفنانين والرياضيين الدوليين وقدماء الديبلوماسيين وكبار الجامعيين المعروفين عالميا بنقل ما أصبح عليه مزاج التونسيين غداة 25 جويلية وحالة الارتفاع المهول في عدد المترددين على عيادات الطب النفسي في القطاعين الخاص والعام جرّاء مشاهدة فطريّات الديمقراطية وعطن المسار الديمقراطي طوال النهار على امتداد سنوات طويلة…حتى يقتنع العالم بأسره بأننا لا نبحث عن أكثر من استرداد بلدنا الذي خفتت ألوانه واختلّت أوزانه واستقصروا حيطانه خلال العشرية الماضية. (تذكروا في هذا الخصوص ما فعله بورقيبة الإبن وصديقه فرانك سيناترا لفائدة تونس أيام اعتداء حمام الشط أو ما فعله السفير الوسيم الشريف قلال مع عائلة كيندي لفائدة جبهة التحرير الوطني الجزائرية إبان الاستقلال).

أكمل القراءة

دفءُ نار

نحو مُدوّنة سلوك غير كرمانيّة* … لمُتساكني الفايسبوك

نشرت

في

أقدّر شخصيا أن القرف لعب دورا أكثر من السياسة والاشمئزاز أكثر من غياب المشاريع الجادّة والتقزّز أكثر من المناورة السياسية في جعل الأغلبية الساحقة من التونسيين تحقد على البرلمان والبرلمانيين والتشريع والمُشرّعين والمُحصّنين المُضمَّنين. قرف تجاه السبّ والشتيمة والعنف والقذف والبذاءة والرداءة والإساءة إلى صورتنا جميعا أمام أنفسنا.

أصبحت شخصيا “برلمانوفوب” و “ديموقراطوفوب” بمعنى أنني أصبحت أعاني من رُهاب دائم لمجرد تذكّر حصص التعذيب التي أُخضعنا لها إخضاعا رغم أنوفنا والتي تمّ بموجبها انتهاك ما تبقّى لدينا من جَلَد ووسع بال.

منصف الخميري Moncef Khemiri
منصف الخميري

وباعتبار أن الفضاء الفايسبُوكي هو أيضا مشهد عام يتعامل فيه الجميع مع الجميع ويُحذّر عديد الأخصائيين في علم النفس والطب النفساني أن هذا الفضاء مرشّح لأن يتحوّل مثله مثل التلفزيون والبرلمان المُتلفز إلى مصدر إزعاج وتوتّر واضطراب إذا أنت أصبحت أسيرا لهذه الأداة الاتصالية الفتّاكة من ناحية وإذا أنت أصبح لا يعترض سبيلك وأنت تتجوّل في تجاويفه إلا المنشورات النكديّة والتعليقات العنيفة والكتابات المبتذلة من ناحية أخرى.

وطالما نحن نتقاسم هذا الفضاء الذي أضحى حميميّا بمعنى ما، كان لزاما علينا أن نتقيد بجملة من الضوابط والاخلاقيات التي تضمن حدّا مقبولا من التعايش والفرح الأدنى المشترك.

هذه إذن محاولة في رسم بعض قواعد السلوك التي تساعد على التقليص من أسباب التوتر والنّكد المتأتّيان من بعض اللّطش هنا والفُحش هناك :

  • تذكّر أن الذين صادقتهم أو رافقتهم أو جمعتك بهم خيمة الوطن والماء والملح في يوم ما ثم تفرّقت سُبُلكم، لا يليق بك أن تنعتهم بالتفّه والبُلّه والسفّه… فهذا النوع من الشتائم لا يزيدك إشعاعا ولا جاها أو قدرة على إقناع الناس من حولك.
  • واعلم أن للأموات حُرمة لا يليق وضع صور لهم في الفضاء العام وأن للمرضى والمحتضِرين حُرمة كذلك لا يجوز إشهار لحظات ضعفهم ووهنهم في الحوش الكوْني.  
  • ولا يجب أن يفوتك أن لحظات الأسى والحزن العميقيْن والصّادقين هي لحظات حميميّة بامتياز لا تُعاش بشكل مسرحي أو سينمائي أمام الناس، بل بخشوع وسكون وتَوْقير.
  • وتيقّن أن مُتعك الصغيرة وتفاصيل حياتك الخاصة لا تعنيك سوى أنت… فالعالم بحروبه وزوابعه لا يهتمّ إطلاقا بشهرك السّادس (ربي يوصّل بالسّالم) أو السُّنينات الأولى لأطفالك (ربّي يفضلهم) أو مع من تناولتِ فطور الغداء البارحة في أحد مطاعم البحيرة (لإقناع صديقاتك بأن خبر طلاقك منه مجرد إشاعة وموتوا بغيظكم).  
  • وتحقّق أنك غير مطالب بطلب الإذن في تقاسم منشور ما (عديدنا يسأل صاحب المنشور “هل بإمكاني تقاسمه؟”) لأن مجرد وضعه في الطريق الفايسبوكي العام هو إتاحة للمشاركة والتعليق… شرط التنصيص على مصدره أو صاحبه.
  • وتأكّد أن مارك نفسه (صاحب الباتيندة) لا يجلس إليك أو يتناول عشاءه مع عائلته وأصدقائه دون أن يتخلى عن هاتفه ومتابعة ما ينشر وما يصله من رسائل… وأنه من العيب أن تردّ على كل المكالمات التي ترد عليك وصديقك في حضرتك يتلوّى ليُعبّر عن فكرة تنهشه أو موقف يؤلمهُ (إلا إذا تعلق الأمر بمكالمة استعجالية فتعتذر وتُجيب).
  • ومن البديهي أنك غير مجبر أن “تُتاغي” أصدقاء لا تربطهم أي علاقة بما تنشره أو تريد الترويج لهُ.
  • ويتوجّب عليك أن تُبطل تنبيهات التطبيقات والألعاب وإشعاراتها على هاتفك الذكي. فقد يُبهجنا أنك تسعى إلى الترفيه عن نفسك فنطمئنّ عليك ولكن في نفس الوقت قد تعطينا بذلك الحق في تأويل إقبالك وشرهك بفارمفيل أو كاندي كراش طوال اليوم على أنه ضجر شخصي خانق يستدعي العناية الطبية المستعجلة.
  • ويبدو أن الثقافة كما يقول بعضهم مثل مربّى (معجون) الغلال، بقدر ما تكون الكمية محدودة بقدر ما نبالغ في نشرها على قطعة الخبز (فأنت لست بيل غايتس أو ستيف جوبس أو جاك مَا لتُمطرنا يوميا بحِكم ومقولات ونصائح لا تُسندها تجارب حياتية أو مهنية خارقة).
  • ولا تحسب أنك في حاجة دائمة للحصول على اعتراف اجتماعي حتى وان كان افتراضيا من خلال البحث المحموم عن مؤشرات الإعجاب والإطراب. فقيمتك، أنت الوحيد المؤهّل لتقديرها مهما اختلفت التقييمات المجاورة.
  • وانتبه إلى أن عرض صورتك الشخصية بملامح يعلوها تعب الحياة و مشاق ركوب قطارات الضواحي وسيارات النقل الجماعي (خاصة عندما يكون “السّلفي” من مسافة قريبة إلى الوجه) لا يغيّر شيئا من حالتنا النفسية المُكفهرّة أصلا. ثم إن دي كابريو نفسه أو الصاعقة مارغو روبي ذاتها لا أعتقد أنهما يُسلفيان يوميا لإبهار العالم من حولهما.
  • وأيقنْ أن تمكين ابنك أو حفيدك من هاتفك المُطلّ على سراديب العالم وكهوفه المُظلمة وما يسمّيه الخبراء بالواب السحيق أو الواب الأسود وغير المرئي في محاولة لإسكاته أو كسب محبّته…هو مؤشر لامسؤولية وعجز عن شدّ انتباهه من خلال أشياء تُشبه مهارات جدّاتنا في الحَكْي والقصّ وسلب العقول.
  • وتواضع قليلا حتى لا تُنهي مواقفك بــ “إن الأمر يكون هكذا أو لا يكون، قف انتهى” وهي لحظة إشباع تعكس في أغلب الأحيان نوعا من الاستعلاء والاستقواء بالأنا المتورّم الذي لا يرى الحقيقة خارج دائرة ما يعتقده هو وما يتصوّره.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* نسبة إلى كرمان المتوكّلة علينا بأمر من “بالو آلتو”  في كاليفورنيا.

أكمل القراءة

صن نار