تابعنا على

جور نار

نحن من يصنع جهنّم … نحن من يزرع الجنة

نشرت

في

بماذا تشتهر ” كوالالمبور ؟ “ | المرسال
الصورة ليست من نيويورك … بل من ماليزيا ، المستقلة بعد تونس

رب ضارة نافعة !

من محاسن طقس هذه الأيام ـ إن كانت له محاسن ـ أنه يوزع ناره وشراره بالعدل بين كافة سكان المعمورة وحاليا في نصفها الشمالي كله … من الصين واليابان والهند، إلى الولايات المتحدة وكندا، وبينهما البحر المتوسط بضفّتيه … يعني عريانا مع عريان التقيا في حمّام، كما كانت تقول الوالدة بسخريتها الدائمة …

عبد القادر المقري Makri Abdelkader
عبد القادر المقري

نقرأ إذن نشرات الجوّ والحرارة، ونرى اللظى في العواصم الفاخرة كما في مدننا القصديرية فنقول إذن لماذا؟ … لماذا نهجر الوطن المختنق بحثا عن أجواء أكثر راحة فإذا شمس جهنّم تشعّ هنا وهناك … والعرق المدرار يكسو القامات عندهم وعندنا … والهواء الثقيل ترزح تحته رئات أغنيائهم تماما كخياشيم فقرائنا … تقول لي الحارقون ركبوا البحر نحو الشمال بحثا عن الحريات؟ فأجيبك ولكن هل يعرف أولاد حومتك معنى الحرية حتى يقامروا بحياتهم لأجلها؟ الحرية الوحيدة التي ينشدها أبناء حينا مثلا هي أن يستهلكوا الممنوعات دون خوف، وهذا النوع من الحرية مفقود في معظم بلدان الشمال … القوانين صارمة والأمن يقظ ولا تدخلات فيه … بل ربما نكون نحن هنا أكثر تحررا في هذا القلم، أقصد بعض البلاد العربية والمغاربية خاصة … إذن …

تهاجرون هناك لأنها بلاد نظيفة منظمة وفيها إدارة تحترم الإنسان؟ أولا هي نظيفة قبل أن تسافروا إليها … بعينينا هاتين رأينا الضواحي التي يقطنها مهاجرون من ذوينا، حملوا معهم فوضانا وضجيجنا الليلي وأدخنة الشيشة والأسواق الأسبوعية وعلوش العيد والسيارات المسروقة والأوراق المضروبة … و أثروا لغة الإفرنج بوابل من مقذعاتنا ها قد أعاد إلينا أحد فكاهييهم مشطرة منه في مهرجان قرطاج الأخير …

وعلى ذكر المهرجان هل تتصوّر أن مبعوثينا (حتى القانونيين منهم، حتى المتجنسين، حتى الدبلوماسيين) يجدونها فرصة لتنمية أذواقهم والتعرف على الموسيقى الكلاسيكية أو مسرح الكوميدي فرانسيز؟ تخرّف وحدك … هم يتهافتون فرادى وجماعات على أحط الفنون الخارجة من عندنا ومن أجوارنا … مزود على راي على راب على نوبة على حضرة على محفل بالتأكيد … وها أن سقط متاعنا من عرابنية وكوميكات بذيئين يقومون بـ”جولات فنية” بشبابيك مغلقة من باريس إلى فرانكفورت إلى ميلانو إلى مونريال … مما يجعلك تعاف هذه المدن التي كنت تحلم بزيارتها يوما …

أم تهاجرون هناك نحو عواصم الأنوار والفكر التقدمي وفلسفات الحداثة؟ … لو كان هذا صحيحا فلماذا أصبحت فرنسا ومن معها أكبر مصدّري الإرهابيين والدواعش نحو بؤر التوتر، بل لم تسلم من ذلك حتى أوروبا نفسها وعلى أراضيها ؟ … وغني عن القول بأن سواد مهاجرينا أتعس تخلفا فكريا وتزمّتا عقائديا من الذين رسبوا في ديارنا من مواطنيك … ناس يعيشون قطيعة تصل إلى العداوة مع ثقافة البلاد التي نزحوا إليها وقيمها وقوانينها اللائكية التي يكفّرها أئمّتهم في كل صلاة … ويستغلون فضائل الدولة المدنية وحمايتها لحرية المعتقد، لإقامة مساجد يشهد البوليس الأوروبي بأن بعضها صار أوكارا لنشر التطرف والتحجّر … بل هناك حتى قطيعة مع العلم والتعليم وانظر إلى النتائج المدرسية لأغلب أبناء مهاجرينا بمختلف أجيالهم، يصبك الذهول …

يبقى الجواب الأخير ما عبّر عنه عديدون هناك بـ “اللجوء الاقتصادي” … وهذا مفهوم إذا عرفنا مثلا أن الأجر الأدنى في تونس مثلا هو 490 دت، في حين أنه في إيطاليا 1327 يورو (أي حوالي 4500 دينار)، وفي فرنسا 1750 يورو (حوالي 6 ألاف دينار)، وفي ألمانيا 2080 يورو (حوالي 7 آلاف دينار) … أي على التوالي تسع مرات، 12 مرة، 14 مرة … تقابلها أسعار أقل من أسعارنا، ووفرة بعيدة جدا عن حال سوقنا الشحيحة، خاصة في هذه الأيام … فضلا عن جودة البضائع والحياة بصورة عامة … والفوارق فلكية أحيانا …

كل هذا جميل وتفسر أسبابه نتائجه ولكن … الهجرة إلى هناك صعبت منذ أواسط سبعينات القرن الماضي (مع صدمة البترول الأولى) وأغلقت رسميا مع إقرار التأشيرة في أواخر الثمانينات… ثم حصلت الوحدة الأوروبية وفضاء “شنغن” وتكدّس عليهم بؤساء أوروبا الشرقية بعشرات الملايين (مما جعل دولة كبريطانيا تنفذ بجلدها هاربة من الاتحاد الأوروبي) … وجاءت مشكلة اللاجئين السوريين التي أطاحت بأنجيلا ميركل وقد عاقبها الألمان على “كرم” مبالغ فيه … وتصاعدت أحزاب اليمين وأقصى اليمين نحو السلطة ومعها طيف من اليسار المرتدّ نحو تطرف أشنع (مثل “الحقوقي” سابقا روبير مينار) … وحتى إن لم تصعد الأحزاب الرافضة للمهاجرين في بلد ما، فسياساتها وتأثيرها في الرأي العام فرض نفسه على الجميع … وانظروا فقط إلى نسبة الردود الإيجابية على مطالب التأشيرة ومدى هزالتها، ولو كانت للسياحة البحتة أو لمهمة قصيرة.

ماذا بقي يا طويل العمر … تحرق؟ هذه أولا يلزمها مال، مال كثير … ثانيا هي تجعلك تقترب من وسط مافيوزي لا يرحم، سواء قدم لك الخدمة أم لم يقدمها … رابعا وما دمت وضعت ساقيك خارج القوانين (اجتياز الحدود خلسة)، فأنت معرض لعقوبة السجن وخسارة مستقبلك سواء مع الشرطة التونسية أو الأجنبية … خامسا وهذه تركناها للنهاية، من يضمن أنك ستصل سالما بعد رحلة خطرة على قارب غير مناسب لأعالي البحار، حمولته غالبا ما تكون أكثر من طاقته، وإمكانية الغرق (أو التغريق) واردة جدا؟ … والأمثلة ها أنك تقرؤها في النشرات ودموع الأمهات …

أعيد: ماذا بقي يا طويل العمر؟ هذا إذا أردت لعمرك أن يطول … بقي شيء واحد، وهو ما فعلوه في بلاد كثيرة بدءا من تايوان وسنغافورة وماليزيا (وهي أقطار ليست في أصلها أكبر أو أغنى منا) ووصولا إلى دول إفريقية حديثة الاستقلال مثل رواندا وبوتسوانا … أي تنتفض على وضعك المتواكل ولامبالاتك بالشأن العام، وتتمثل سلوك المواطن الأوروبي الذي تنوى الهجرة إليه وإزعاجه … تتبنى مشاكلك بدل أن تلقي بها على الدولة المحلية أو الدول الأجنبية أو الحظ أو القدر أو المؤامرة …

تعيد الروح مع جيرانك لتلك اللجان الت انتعشت أيام جانفي 2011 حين لم تكن هناك دولة ولا إدارة ولا بلدية … تنسى انتظار ترخيص لن يأتي وتمارس الأنشطة التي لا تستحق ترخيصا … تربي أولادك على احترام الآخر والبيئة والمال العام وحب الوطن الحقيقي لا الذي عمره من عمر مباريات المنتخب وأنس جابر … تقتدي بأنس في شجاعتها وعطائها وتعبها وطموحها الدائم إلى أعلى … ونقيصة هذه البطلة الوحيدة أنها أحيانا تسهو عن هذه الخصال وتنسى أنها حفيدة جنرال كاد يغيّر وحه التاريخ، هو حنبعل برقا … وشيخ زيتوني غيّر التاريخ فعلا وأسس لفكر ما يزال معاصرا رغم مرور 600 سنة على رحيل صاحبه …واسمه عبد الرحمن ابن خلدون …

,وإذا كان أستاذنا الماغوط يقول: هاجر … فنقول نحن: دع العالم يهاجر إليك

أكمل القراءة
انقر للتعليق

اترك تعليقا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

جور نار

ورقات يتيم … الورقة 26

نشرت

في

Dessins Gratuits à Colorier - Coloriage Autobus à imprimer

{ما ابلدك} في حياة كل فرد منا محطات ابدا ان تُلغى من الذّاكرة …ليست بالضرورة مجلّدا في بداياتها .. قد تكون كلمة ..آهة … كلمة .. نبزة .. نظرة .. ولكن قد “تشقلب” التاريخ كلّه …وتبعثر حتى الجغرافيا ..

عبد الكريم قطاطة
عبد الكريم قطاطة

دعوني اقدّم لكم وكتوطئة لـ “ما ابلدك” انموذجا من نماذج شقلبة التاريخ والجغرافيا …. مازلت اذكر في اسابيعي الاولى بباريس اثناء دراستي فيلما بورنوغرافيا شاهدته باحدى القاعات المختصّة لتلك النوعية …كنا ـ نحن البلهاء في عالم العلاقات الحميمة بين المرأة والرجل ـ ننتظر بكل لهفة اكتشاف تلك النوعية ..وبقدر ما كانت مثيرة جدا لغرائزنا بقدر ما كانت مهمّة جدا في تطوير مفهومنا لتلك الحميمية … لاّننا تعلمنا ثم تعوّدنا نحن البلهاء بعد تجربتنا خارج منظومة الداعشيين، ان المراة كائن حيّ له رغباته ومن حقّه علينا الا نكون معه داعشيين …اي نذبحه من الوريد الى الوريد عاطفيا ..فكريا.. اجتماعيا .. وجنسيا ..كنا في جلّنا فصيلة حيوانية همّها الوحيد الركوب متى نشاء ..كيفما نشاء.. دون ايّ اعتبار لـ “متى شاءت وكيفما شاءت”… المرأة عندنا جارية لا يحقّ لها ان تكون لها رغباتها .. لا يحقّ لها ان تكون انسانة ..الانسان هو لقب للذّكر دون الانثى … واذا تجرأت يوما احداهن على المطالبة بحقها الشرعي في حياتها كانسانة نُعتت بـ “هاكي ما تصلحش وماهياش بنت اصل”…ق لت تجرأت لان معظمهن “يبلعو السكينة بدمها” ويدخلن كهف الشقاء المأساوي ..كهف الموت البطيء .. كهف حياة لا حياة فيها …

ذات يوم دخلت القاعة بعد ان انطفأت الانوار وحان وقت الفيلم ..في تلك الفترة لم اكن لاجرؤ على ولوج القاعة حتى اتفادى وجوه الحاضرين ..وهذه بلاهة اخرى لان الحضور لا يمكن ان يكونوا الا من نفس فصيلتي فكيف اخجل منهم ؟؟؟ وعندما فهمت ذلك اصبحت “رقعة” و على حد قول عيّادة رحمها الله “لا تحشم لا تجعر”وتختمها بـ ” يقشّر بهتك”… وها انا ابحث لحدّ الان عن معنى يقشّر بهتك …دخلت القاعة وكان عنوان الفيلم “إيمانويل 2″… لا يهمني انذاك لماذا 2 وماهو إيمانويل 1 .. كل ما همّني يومها الصور البالغة الاثارة للنجمة “سيلفيا كريستيل” المعلّقة على اللوحة الاشهارية لقاعة السينما بالحيّ اللاتيني بباريس … الفيلم يمكن حوصلته في جمل قليلة ..بائعة هوى “تفتّق” جمالا وانوثة، اصبحت ثريّة جدّا باعتبار علاقاتها المتعددة مع الاثرياء طالبي اللذّة …ولأن الثراء في المجتمعات منذ قارون الى حد اثرياء ما قبل وبعد 14 جانفي يصبحون “محترمين جدا” حتى ولو كانوا بائعي لذّة او بائعي كلمات ..فانّ إيمانويل لم تشذّ عن القاعدة … بل اصبحت سيدة مجتمع وفاعلة جدّا في الاعمال الخيرية … وهي خاسرة حاجة ..؟؟؟ تدلل على بدنها، راس مالها ..

الا انها كانت تعيسة جدا في علاقاتها الجنسية مع حرفائها …لم تعرف يوما رغم حرفيّتها المبهرة في مهنتها ..لم تعرف يوما الشيق (قمة المتعة الجنسية لدى المرأة) … الجميع يعتبرها بركان جنس… فقط هي من تّوقن بانها قالب ثلج ….ولا شيء غير قالب ثلج …وان ما تقوم به مع حرفائها قمّة في التمثيل لا غير …إيمانويل هذه كرهت حياتها ..فلا المال ولا الجاه ولا الاسم المجتمعي ما يصنع السعادة ..استفاقت على حقيقة هامة في وجود الواحد منّا … لا سعادة دون توازن بين الروح والجسد … وكم منّا من هم تعساء رغم كل مظاهر البهرج والفرح والسعادة الموهومة ..انه ماكياج ولا شيء غيره … قررت إيمانويل مغادرة البلاد نهائيا بحثا عن توازنها ..وكان الحدث مهمّا بالنسبة لوسائل الاعلام … احدى سيّدات المجتمع ستغادر ..وتحوّلت فيالق الصحفيين لتغطية الحدث ..وصلت السيدة إيمانويل الى المطار وتوجّهت الى مدرج طائرتها الخاصة لتصعد السلّم واضواء فلاشات المصوّرين تلاحقها …وصلت الى اخر السلّم واستدارت وكما يفعل السياسيون لتشير بيدها الى اشباه الصحفيين الذي جاؤوا لتغطية رحيل بائعة هوى … زعمة زعمة سيدة مجتمع… رفعت يدها باشارة الوداع ثم توقفت لحظة و “اُغمن عليّ اُغمن عليّ”… ايمانويل هبطت “ما في عينها بلّة” …

احاط بها حرسها الخاص …والذين لحد الان لم افهم ما معنى ان يقبل الانسان ان يكون كلب حراسة على انسان آخر …و افاقت ايمانويل … وابعدت ايدي الحراس عنها ثم نظرت الى معشر المصورين… نزعت معطفها الحريري… رمت به في الهواء .نزعت حذاءها العالي ..والحقته بالمعطف … واسرعت في نزولها باتجاه احد المصورين التلفزيين ..وصلت اليه وارتمت في احضانه تقبّله بنهم وروح وعشق لم تعشه يوما …وحكت لكل الصحفيين “غريبتها” … قالت: ايمانويل سيّدة المجتمع هذه كما تعتقدون …كانت اتعس امرأة في المجتمع ..اليوم وانا على بعد بعض الثواني من مغادرة بلدي ومغادرة تاريخي وجغرافيتي التقت عيني بعين زميلكم هذا فحدث امر سحري …لقد عشت لاول مرة في حياتي شبقي دون ان يلمسني هذا الرجل … لذلك هو رجل عمري …سابيع كل ما املكه واتبرع به الى الجمعيات الخيرية وساقبل ـ ان قبل هو ـ بالعيش معه في اي كوخ ..وينتهي الفيلم بطرح “اتشقليب” لم تعشه يوما ايمانويل مع اي رجل عرفته… انا ما نقللكم وانتم ما يخفاكم …

في السنة الرابعة آداب حدثتكم عن حدثين كانا هامّين في حياتي ..نكسة جوان …والتي اتينا عليها في الورقة السابقة .. وهاكم الحدث الثاني …كنت كعادتي كل يوم امتطي الحافلة التي تقلّني من ساقيتي الى باب الجبلي كتلميذ من جملة اترابي ..كنا نعرف بعضنا البعض ان لم يكن بالاسم فباللقب ..وكنا حريصين خاصّة على تتبّع آثار زميلاتنا التلميذات اعزّهن الله ومتّعنا حتى بابتسامة عابرة منهن … اما النّافع ربّي … حتى الابتسامة في زمننا مهرها غال جدا ..وان حدثت فهي لابد ان تكون في مأمن من كل العيون …عيون ابناء العم والجيران من جهة وعيون المنافسين الذين يطمعون مثلي تماما حتى في ابتسامة …فاذا حدثت مع احدنا امام مرأى الآخرين ..يتساءل الواحد منّا (علاش معاه هو ؟؟… انا مولود في تاكسي ؟؟ مطهّر في شعبة ؟؟ اش زايد هو عليّ ..؟؟ بايي والا نحرّم) … ونقول كل هذا ولا نفعل شيئا ..يعني “تبهبير”… كنا نحن التلاميذ نعشق جدا الركوب مع السائق “الغروبي”… كان يتمتّع بشهيّة غريبة في استعمال الفرامل بشكل مفاجئ وبقوة حتى يرانا اكواما جسديّة نسقط على بعضنا البعض _وما احلى ليس فقط الركوب معه بل الاهم ما احلى الرجوع اليه والسقوط عليه … اشكون ؟؟؟ نائب للمجهول (والاكيد انه معروف عندكم)…

ذات يوم وفي منتصف السنة ركبنا الحافلة كعادتنا و كنّا في كل محطة نعرف بالتدقيق من هم والاصح من هنّ الصاعدات الى الحافلة ..تلك بنت فلان وتلك ابوها التاجر الفلاني او العمدة وثالثة ابنة قابض البريد …

(اليوم ازور الساقية فاجد نفسي غريبا فيها ..ليس فقط لان العديد هاجرها او هجرها ..بل لان سكانها اصبحوا على كل لون يا كريمة… ساقيتي فقدت عذريّتها .. واصبحت مرتعا غريبا لغرباء غريبين …)

.على بعد محطتين من محطّتي كانت هنالك فتاة على نسبة من الجمال ..رصينة جدا ..لم نرها يوما مبتسمة ..متعالية في نظراتها الى حد السخرية من الآخرين… رشيقة في مشيتها وانيقة في اختيار “طابليتها” وابدا ان تجد في تلك الحقبة فتاة دون ميدعة …ابدا ..(موش كيف توة كل شيء واضح ..واضح ..سيّبوني عاد اكيد فهمتو اش معناها واضح) …كنا على ممسافة قصيرة من وصول الحافلة الى باب الجبلي وجاءت فرامل سي الغروبي لتهزّ الجميع هزّا وبكل سعادتنا بالهز…حاولت ان امسك بواحد من الاعمدة الداخلية في الحافلة حتى اتفادى السقوط .. ومسكت يدها التي كانت على العمود .. يد تلك الرصينة الرشيقة المتعالية ..واقسم لكم اني لم اكن انوي مطلقا ذلك … استدارت بكل غضب وقرف وصفعتني بـ (ما ابلدك)… استدرت الى الوراء وعدت اليها سائلا في دهشة: “انا ما ابلدني ؟؟” فماكان منها الا ان قالت وباصرار ولهجة حادّة: اي انتي ما ابلدك ..

تصبّب جبين كُريم عرقا وهو يّهان امام الشلّة .. بعضهم كان مشفقا نظرا إلى الود الذي بيننا ..البعض الاخر كان شامتا في عبدالكريم (اش يحسايب روحو هالفرخ ..؟؟)… وانا كنت مرادفا لسعيد صالح وهو يقول بألم (مرسي الزناتي اتهزم يا رجّالة) ..لم استفق من غفوتي الا والحافلة تصل الى باب الجبلي لتعلن وجوب مغادرتنا لساحة المعركة التي لم تكن معركة … ولكنّها كانت معركة شديدة الهيحان بداخلي انا الذي عشت كامل مراحل عمري مدلّلا من الجميع ..تجي طفلة ما تسوى شيء وتقللي “ما ابلدك”؟ … لست ادري كيف قضّيت ذلك اليوم ولكن كلّ ما ادريه اني قررت الانتقام لكرامتي التي ديست امام الصديق والعدو ..هكذا خُيّل اليّ في مثل سني انذاك ..”تخربيشة متاع كرامة” وفعلا قررت ان الاحقها كل يوم كظلّها في انتظار فرصة ان “امسح بها القاعة” وامام الجميع …

استعدت لذلك ايّما استعداد … صرت اعرف مواقيت خروجها ودخولها للمعهد .. صرت اعرف كل شيء عنها ..عائلتها …جيرانها لكن الغريب انه لم يكن لديها صديقات … كانت دائما وحيدة ..واحترت في ماهيّة وكيفيّة الانتقام منها …ووجدتني بعد شهرين من المتابعة والترصّد … حبيسها …ابن حزم يقول في الحب “اوّله هزل وآخره جد” وانا اقول نعم يا ابن حزم ..والحب ايضا وفي مرحلة من عمرنا هو اشبه بلحظة شروق الشمس ..هل شاهدتم يوما شروق الشمس في لحظاتها الاولى ..هو شبه ضوء مبهر ثم تبرز الشمس فجأة للوجود من اسفل الافق الى سطحه ….وهي لا تنتظرك حتى تتأمل في اشعتها هي تتدفّق بسرعة رهيبة ..عجيبة ..ممتعة ..لكي تغمر الدنيا نورا ..كذلك هو الحب ..الحب لا يستاذنك ..لا يطرق الباب … لا يعلن عن مجيئه كما يعلن الناس المحترمون عن موعد زيارتهم لكم قبل اسبوعين او شهرين او سنتين ..ويحرمونك لذّة الزيارة الفجئية ..اليس افضل ما في حياتنا تلك الزيارة الفجئية ..؟؟؟ ان تستعدّ لامر ما ..فذلك فيه نوع من ميكانيكية المشاعر وترتيبها ..اما ان يفاجئك احدهم بقدومه دون سابق انذار فهذا هو نغم المفاجأة …..هل تذوقتم نغم المفاجأة .. عزف المفاجأة …رقص المشاعر عند المفاجأة …البعض يتعلل بنظام حياته وبعدم استعداده…وبتبريرات فيها كثير من البريستيج الزائف والتمظهر الركيك… وانا افضّل عدم الاستعداد، على تلك الزيارات الرتيبة التي لا حرارة طبيعيّة فيها مهما بلغت درجة حذقنا لتلك الابتسامات البلاستيكية التي لا عبير فيها ..وعيادة تقول في هذا الباب “اذا صفات النيّة لقمة تشبّع ميّة” …

نعم تحوّلت رغبة الانتقام من تلك البنية التي تصغرني بسنتين الى شرارة حب ..اصبحت انتقم من نفسي اكره واكفر باللحظة التي اعتدت فيها يدي على يدها …انتي هو الغفاّص يا سي الشباب ..ماهو ردّ بالك واعرف وين وعلى شكون اتحط ايدك …انتقم حتى من كرامتي المزيّفة خاصّة وانا اكلّف اختي الصغرى بتبليغها مشاعري نحوها ..وهي تجيبها: “قللو يمشي يقرا على روحو خيرلو” …واشي عبدالحليم ..نار يا حبيبي نار … حبّك نار موش عايز اطفيها … وفي يوم من الايام… قسوة حبايبي مغلباني …وبتلوموني ليه … لو شفتم عينيه حلوين قد ايه حتقولو انشغالي وسهد الليالي موش كثير عليه ..وبحلم بيك… و قد ما عمري يطول يا حبيبي حستناك على طول يا حبيبي حستناك على طول …. واشي فريد الاطرش وحكاية غرامي و كتبها زماني عليّ بدمي وبدموع عينيّ….وعدت يا يوم مولدي …. وانا عمر بلا شباب ..وحياة بلا ربيع… اشتري الحب بالعذاب، أشتريه فمن يبيع .. واشي ام كلثوم وحيّرت قلبي معاك وانا بداري واخبي …قل لي اعمل ايه وياك والا اعمل ايه ويّا قلبي ..و للصبر حدود … ما تصبرنيش ماخلاص انا فاض بيّ وملّيت …

كأن تلك الكلمات كُتبت خصّيصا لي انا … وكأن حليم والست والاخرون يعبّرون عما يعيشه كُريّم ..هي كلمات ذلك المراهق الذي يعيش قصّة رهيبة من المشاعر المتدفّقة والصادقة …والتي لا عقل فيها …واندفع قلمي لاول مرة يكتب ما بداخلي بكل عفوية ..انذاك اشتريت كراسا من الحجم الكبير وكتبت فيه اولى مذكراتي وسميتها مذكرات غرام ..كانت خواطري اليومية محلاّة بكل اغاني العشق والوجدان والتي يتطبّع اغلبها بالحزن والهجر والعذاب …ولكن بالصدق ايضا …

وجاء شهر جوان الفضيل …كنا قد اتممنا امتحانات آخر السنة وعلى ابواب عطلة الصيف ..وكانت اختي في بداية عهدها بالتعليم الثانوي (السنة الاولى)…لا تعرف انذاك شيئا عن المشاعر والحب والغرام ..هي فقط تأتمر بأوامر “سيدها” هكذا كانت تدعوني ..وكنت دائم السؤال عن فتاتي هل قابلتها هل تحادثت معها ..وكانت كثيرا ما _(تاكل على راسها) اذا لم تفرحني حتى بخبر من نوع: “اليوم شفتها و لقيتها موش جابدة روحها كيف العادة”… ياااااااااااااااااااااااااااه هل هي بداية الغيث …؟؟؟؟ وتنزل اختي ذات يوم من الحافلة لتذهب الى معهدها على الساعة الرابعة بعد الظهر ويصادف يومها وقت خروجي من معهدي …تمد لي اختي ظرفا مغلقا ..وتقول لي هاذا ليلك ..كنت اتلهى بكورنو كريمة من بائعه في محطة الحافلات بباب الجبلي ..فتحت الظرف فاذا به رسالة من صاحبة (ما ابلدك)… ….طبعا يتبع …باهيشي ؟؟؟

ـ يتبع ـ

أكمل القراءة

جور نار

“زيدها شويّة”… أو كيف نُواجه سعير الأرقام في تونس

(من خلال أمثلة حيّة)

نشرت

في

ذكّرني التغيير الذي حصل مؤخّرا على رأس المعهد الوطني للإحصاء (احتمالا على خلفية دكتاتورية الأرقام التي لا تُجامل ولا تُعادي) بجملة من الأحداث والوقائع التي عشتُها شخصيا في أكثر من موقع والمُثبِّتة لعقليةٍ تشكّلت في بلادنا منذ العهود السابقة.

منصف الخميري Moncef Khemiri
منصف الخميري

 مفادُ هذه العقلية  كسْر المحرار إذا باح بنتائج لا تتطابق مع انتظارات المسؤول السياسي، والهروب بصناديق الاقتراع عندما كان يتوقع طلبة التجمع الحاكم عدم الفوز  في انتخابات المجالس العلمية كما كان يحصل في الجامعة التونسية… وعقلية “زيدها شوية” هذه نجد لها أثرا أيضا في نسيج العلاقات الأسرية وفي تعاطي عموم الناس مع الظواهر المختلفة وتفاصيل حياتهم اليومية، لأن الترقيع في ثقافتنا أعلى صوتا دائما من المعالجة الجذرية لمصادر أوجاعنا، وآليات والتسكين والتخفيف والتليين والتقليل والتمسكين منوالٌ قائم بذاته في رُبوعنا.

فعلى سبيل المثال عندما يُنتهك حقّ البنت في الميراث، لا يُجمِعُ أغلب الناس على إرجاع الحق إلى أصحابه بل يجنحون إلى المحافظة على الوضع القائم مع إضافة جملة ترقيعية  “زيدها شوية ووخيّان كيف آمس كيف اليوم” … وعندما تعوجّ حيطان البنّائين المُبتدئين تجد دائما من يحاول التنسيب بشكل ماكر “ثمة شوية عوَج صحيح آما توة باللّيقة تتسوى” … وعندما يعجز بعض الأطباء عن تشخيص مرض ما بدقّة، يسقطون في ما يُشبه تقليعات التنمية البشرية  “والله ما عندك شيْ، المشكل الكل في راسك، عندك برشة هلواس. آقف قدام المراية وصيح مانيش مريض توة ترتاح”…

المثال الأول : نسب النجاح في السنة الأولى بكلية العلوم

في بداية الألفية الجديدة، طلب المسؤول الأول عن مكتب الدراسات والتخطيط والبرمجة التابع للديوان بوزارة التعليم العالي، من رئيس مصلحة متابعة النتائج الجامعية (السيد ت.ع وهو من روى لي تفاصيل الحادثة) مدّه بنتائج آخر السنة الجامعية بالنسبة إلى كلية العلوم بتونس، فلمّا لاحظ أن نسبة النجاح العامة (في كل الاختصاصات مجتمعة) تراجعت خلال ذلك العام من 33 إلى 27 % أشعل سيجارة وسحب منها نفسا عميقا كمن يبحث عمّا يُساعده على ابتلاع نسبة التراجع التي سيُسأل عنها أمام وزيره آنذاك…ثم قال له في شبه توسّل “لا شويّة بالكل سامحني سي فلان، من رايي تزيدها شوية”.

المثال الثاني : في نفس الوزارة

في 2007، عندما انطلق تطبيق منظومة إمد على مراحل وكانت شهادة الأستاذية ماتزال قائمة جزئيا ريثما تحلّ محلّها شهادة الإجازة، طلب الوزير من المدير العام للشؤون الطالبية مدّه بإحصائيات حول مدى إقبال التلاميذ الناجحين الجدد في الباكالوريا على الإجازات الجديدة مقارنة بإقبالهم على الأستاذيات. ولمّا كانت النتائج الأوّلية مؤكدة لتوجّه الناجحين في الباكالوريا أغلبيّا نحو اختيار شهادة الأستاذية بدلا من الإجازة الجديدة، وبالتالي مُخيّبة لآمال من كان يتوقّع أن “إصلاح إمد” سيُعطي أُكله مباشرة بعد الشروع في إنفاذه بما يبرّر وجاهة الاختيار وسلامته، تمّ التشكيك في سلامة الأرقام فأعيد الاحتساب من جديد لتستقر نتائجه على نفس ما عبّر عنه المسح الأوّل، فلم تبق لديهم أية ذريعة سوى تسجيل ذلك على حساب ضعف الإعلام وجهل الأغلبية الساحقة من الأولياء بمزايا النظام الجديد… “وعلى أية حال توة نزيدوها شوية نسبة الإقبال على الإجازات في التدخلات الإعلامية دون تقديم أرقام دقيقة حول المسألة” … كانت هذه هي الفتوى التي أوجدوها للخروج من المأزق.

المثال الثالث : مشاركة التلاميذ التونسيين في تقييم “بيزا”  الدولي

كانت تونس من أولى الدول العربية التي تشارك في البرنامج الدولي لتقييم الطلاب “بيزا”، وذلك منذ سنة 2003، وهو تقييم دولي لقيس قدرة الطلاب في سن 15 عامًا (أي نهاية السنة التاسعة أساسي لدينا) على استخدام معارفهم ومهاراتهم في القراءة والرياضيات والعلوم لمواجهة تحديات الحياة الواقعية كل 3 سنوات. سنة 2015 احتلت تونس المرتبة 65 على 70 دولة مشاركة في الاختبارات (رتبة تقاسمتها تونس مع لبنان ضمن هذا التقييم الذي شمل عيّنة من 540 ألف تلميذ من مختلف أنحاء العالم).

وبدلا من مُواجهة الأسباب العميقة التي أدّت إلى تصنيف تلاميذنا التونسيين في ذيل الترتيب العالمي وهو مؤشر تُنكّس له الأعلام الوطنية لأنه يعكس وضع الوهن الموجع الذي باتت عليه منظومتنا التربوية، اختارت دولتنا أن تُقاطع هذه المحطة التقييمية الكونية مُفرغةً المحرار من زئبقه وضخّه ضمن خطابها الرسمي القائل بأن المؤشرات التي ينبني عليها التقييم صُنعت على مقاس التلميذ الأوروبي والسنغافوري والياباني وليس على مقاس التلميذ التونسي الذي يدرس ضمن بيئة خصوصية ووفق برامج ومناهج خصوصية !

المثال الرابع : 0.4 نسبة نموّ ليست من شِيمنا

دوّن المؤرّخ الجامعي نورالدين الدڨي على صفحته الرسمية يوم 23 مارس ما يلي :

“المعلوم أن المعهد الوطني للإحصاء لا يستنبط الأرقام؛ وليس مطلوبا منه تزويقها؛ فمهمته حسب نصوصه الـتأسيسية : “جمع المعلومات الإحصائية الخاصة بالبلاد و معالجتها و تحليلها و نشرها بالتنسيق مع الهياكل العمومية الأخرى”، وما نشره المعهد مؤخرا عن نسبة النمو الاقتصادي بتونس لسنة 2023 التي حددها ب 4 .0 بالمائة، وعن نسب البطالة : 4 .16 بالمائة، هو انعكاس أمين لقدرات الجهاز الإنتاجي الوطني…”

لكن وكما أسلفنا بالنسبة إلى الأمثلة السابقة، بدلا من مُعالجةٍ رصينة ومتأنية للأسباب الحقيقية والعميقة التي أدّت إلى هذه النتائج الموضوعية، تمّ اللجوء إلى إجراء تحوير على رأس هذه المؤسسة الوطنية ذات الطابع التقني والخِبري الصرف التي ظلّت علاقتها بصاحب القرار السياسي على مرّ السنوات منذ تأسيسها سنة 1969 مُتأرجحة بين نشر الأرقام كما هي أو في أسوإ الأحوال التعتيم عليها وعدم الإدلاء بها قصد التداول العام ولكن (وحسب شهادة عديد الكفاءات التي مرّت بنهج الشّام وتعمل اليوم بمؤسسات دولية وإقليمية مرموقة) لم يحدث أن تمّ تزوير الأرقام أو التلاعب بها.

أستعيد في النهاية ما قاله أحد المفكّرين “يمكنك أن تراوغ رجال الشرطة لكنه من الصعب جدا مراوغة بداهة الإحصائيات”.

.

أكمل القراءة

جور نار

إنت وما جاب العود… عن مسلسلات رمضان

نشرت

في

أخبار مسلسلات رمضان 2024: مواعيد عرض مسلسل فلوجة 2 بطولة ريم الرياحي في  رمضان 2024 والقنوات الناقلة - المشهد

عبد القادر المقري:

لي شبه يقين أن مسلسلاتنا التونسية (تماما كسينمائنا) محظوظة حظا يكسر الحجر كما يقال … فهي أقرب ما تكون إلى تلاميذ ذات فترة من عمر وزارة التربية، وهي تجربة المقاربة بالكفايات … لا أحد يأخذ صفرا، لا أحد يسقط في امتحان، لا أحد يعيد عامه، ولا أحد يتم طرده لضعف النتائج …

عبد القادر المقري Makri Abdelkader
عبد القادر المقري

بل لا قياس أساسا لأي جهد … الكل ناجح، والكل ممتاز، والكل متفوق، والكل نابغة بني ذبيان … والدليل أننا عند نهاية مهرجان من مهرجاناتنا أو عرض فيلم من أفلامنا، لا تسمع سوى الشكر، ولا تقرأ سوى المدح، و لا ترى سوى الحمد على نعمة السينما والذين أدخلوها إلى تونس … تماما كما يحصل عقب كل رمضان مع أعمالنا الدرامية، إن وُجدت … فدائما عندك جوائز لأحسن عمل، وأفضل مخرج، وأبرع ممثل، و أقوى سيناريو، وأكبر وأجمل وأبهى وأمتع وأروع … يا دين الزكش، كما يقول صديقي سلامة حجازي … يعني كل بلاد العالم (بما فيها هوليوود وبوليوود وقاهرة وود ودمشق وود) تنجح فيها أعمال وتفشل أعمال، إلا عندنا فيبدو أننا الفرقة الناجية …

… أو فرقة ناجي عطا الله !

هذه السنة، أتاح لي زميل مسؤول بإحدى الإذاعات أن أتفرج على قسم كبير من مسلسلين تونسيين مرة واحدة… قلت أتاح لي بعد أن رجاني مشكورا أن أدلي برأيي في هذا وذاك، وأنا اليائس منذ أعوام من مستوى مسلسلاتنا خاصة حين جنح معظمها إلى تقليد عمل أعتبره كارثة فنية بكل المقاييس، وهو مسلسل “مكتوب” … وصار الكل يستنسخ منه استنساخ أهل الغناء والمسرح لعرضي النوبة والحضرة طوال الثلاثين سنة الأخيرة … وكيف لا يفعلون وهم وجدوا الوصفة السهلة التي لا تكلّف تعبا ولا وجع رأس … فمثلما بإمكانك أنجاز “عرض” فني لا نص فيه ولا فكرة مبتكرة بل تكديس جملة من أغاني التراث وإلصاق بعضها ببعض، بإمكان الواحد أن “يبيض” مسلسلا لا قصة فيه ولا حوار ولا سيناريو… فقط عندك ركام من عارضي وعارضات الأزياء، يقولون في ما بينهم كلاما من الحزام فما أدنى منه، ويعيشون في بذخ لا تحلم به أميرة خليجية، ويستبيحون القوانين أصغرها وأكبرها، ولا قيم توقفهم ولا منطق ولا نواميس مجتمع … عكعك وهي حالّة معك، كما يردد شباب هذه الأيام …

إذن أخذا بخاطر صديقي، تفرجت صاغرا في اثنين من أعمالنا المعروضة لرمضان هذا العام، قائلا لعل الأمور تحسنت عمّا تركتها، وربما ظلمت مبدعينا الفتيان وهم يفتحون البلدان ويغزون الفضاء في غفلة مني … وبما أن ذلك فاتني على المباشر، فقد لجأت إلى التساجيل التي تبث على الإنترنت، وأطوي الأرض طيا حتى أرى أكثر ما يمكن ولا أتسرع في الحكم على أحد … رأيت إذن جزءا كبيرا من مسلسل “فلوجة 2” على الحوار التونسي، وجزءا مماثلا من “رقوج 1” (بما أنهم يبرمجون لجزء ثان على ما سمعت) … وأعطيت رأيي في حدود ما شاهدت، وواصلت بعد ذلك باقي الحلقات حتى تكتمل الفكرة وأكون بدوري من المحتفلين ختاما بأفضل عمل وممثلين ومخرجين إلى آخر الليستة … وعلى حق …

نبدأ بفلّوجة … هو أولا استمرار لقصة السنة الماضية التي أثارت أكثر من ضجة لدى رجال التعليم ونسائه … والسبب أن احداث المسلسل تدور في وحوالي معهد ثانوي فيه كل شيء إلا الدراسة … مخدرات في قارعة الطريق، علاقات جنسية بوها كلب بين الجميع والجميع، ولادات خارج إطار الزواج وغير ذلك … والعجيب أن احتجاج المربين قابلته عاصفة تبريرية كانت دائما السند الرئيسي لسامي الفهري ومسلسلاته … من نوع: أليس هذا واقعنا؟ ألا تحدث يوميا مثل هذه الفضائح؟ هل ما زال عندنا تعليم؟ ألم يهبط مستوى مؤسساتنا التربوية منذ زمن؟ هل نغطي عين الشمس بالغربال؟ أما كفاكم نفاقا؟؟ … ويصل التبرير إلى ذروته بالتهجم على الأساتذة أنفسهم … “ماهي جرايركم” … “ما هو من جرة” انغماسكم في الدروس الخصوصية وإهمالكم لعملكم الأصلي … “ماهي نقاباتكم” وإضراباتكم ومطالبكم وزياداتكم المتلاحقة، وبسببها أفلست المعاهد وصارت بؤرا فاسدة، فيما هرب الجميع إلى التعليم الخاص… وغير ذلك وغير ذلك …

ولم يقل أحد من هؤلاء لسامي الفهري: وأنت، ما غايتك من الترويج لهذه المظاهر؟

وبقطع النظر عن صحة كل هذا في المطلق، والإحصائيات التي ما زالت لصالح التعليم العمومي في الباكالوريا وغيرها مهما حصل … فإن هذا التعميم يظلم كثيرا من أهل التعليم الأوفياء وجهدهم في إنجاح تلاميذهم وتمكينهم من مستوى جيد دون مقابل عدا مرتب شهري بعرق الجبين … كما يحط هذا التقييم الشمولي من قدر أبنائنا وبناتنا المربين والمربيات الأشراف وأغلبهم يتمسك بفضائلنا وأخلاقنا … فهل كل أساتذتنا متحرشون بتلميذاتهم كما في المسلسل، وهل كل أستاذاتنا ومديرات معاهدنا شغلهن الشاغل إقامة علاقات جنسية مع هذا التلميذ أو ذاك الرجل العابر؟ …

وحتى إن حصلت بعض حالات فماذا تمثل نسبتها؟ 1 بالمائة؟ اثنان؟ ثلاثة بالمائة ولا أعتقد ذلك وسط مئات آلاف من منظوري وزارة التربية … ومن يقول أكثر عليه بإجبار الوزارة على التحقيق العاجل ويكون معها فيه، ثم أين منظمات الأولياء والتربية والأسرة؟ لو كانت معاهدنا على شاكلة معهد سامي الفهري، فمن الأحرى غلق مؤسساتنا التعليمية وإحالة ميزانية الوزارة نحو قطاعات أكثر احتياجا كالشؤون الاجتماعية أو الثقافة أوالفلاحة والصيد البحري … بل ربما نضع كل ما نملك بين يدي الأمن والقضاء حتى يقضيا القضاء المبرم على الداء الذي استفحل ويهدد بنسفنا من الجذور …

فلوجة في جرئه الثاني لم يشذ عنه في الجزء الأول … لا بل هو يستمر في شذوذه الآخر … عن كل ما هو مجتمع وأعراف وقيم ولنقُلْ أيضا، مسؤولية … فالعمل الدرامي ليس مجرد نقل للواقع (هذا إذا كان واقعا) بل فيه طرح ورسالة وتأثير مباشر خاصة مع طغيان الصورة ووسائل الاتصال الحديثة … الفهري ومرؤوسته سوسن الجمني، يتملّحان طولا وعرضا بما يمكن أن ينتج في مجتمعنا من تغيير سلوكات جراء ما يعرضانه في كل مسلسل …

ـ يتبع ـ

أكمل القراءة

صن نار