تابعنا على

جلـ ... منار

هل تسعى واشنطن لإزاحة موسكو من الشرق الأوسط؟

نشرت

في

مع استمرار الحرب في أوكرانيا، التي انطلقت في 24 فبراير 2022، بدأت صفحة جديدة من العلاقات بين الدولتين الكبيرتين؛ الولايات المتحدة وروسيا.

علي الدين هلال*

فمن جانبها، تبنت واشنطن مجموعة سياسات هدفت إلى إضعاف القُدرة الاقتصادية لروسيا، وإطالة أمد الحرب، وعدم تمكين موسكو من تحقيق نصر حاسم. أما روسيا، فقد عملت على تجديد علاقات الصداقة والتعاون مع أكبر عدد من الدول في العالم وتنمية المصالح المُشتركة معها من خلال أسعار تفضيلية لمصادر الطاقة، وأظهرت تفهمها لعدم قُدرة كثير من الدول على دعم موقفها علناً بسبب الضغوط الأمريكية عليها، فاكتفت بتبنيها موقف الحياد وعدم إدانة موسكو. 

ولكن الولايات المتحدة وروسيا حرصتا على عدم توسيع الحرب خارج الحدود الأوكرانية، فأعادتا العمل مُبكراً بالخط الساخن بين وزارتي الدفاع الأمريكية والروسية، واتصل رئيسا أركان حرب الجيشين ووزيرا الدفاع في البلدين ببعضهما البعض. وأكد الرئيس جو بايدن أنه لن يُزود أوكرانيا بالأنظمة الصاروخية التي تُمكنها من مُهاجمة أهداف داخل حدود روسيا. وفي مجلس الأمن الدولي، لم تستخدم روسيا حق “الفيتو” لمنع صدور قرار بتجديد مُهمة القوة البحرية المُكلفة بتفتيش السُفن قُبالة الساحل الأوروبي واكتفت بالامتناع عن التصويت. 

سيناريو مُستبعد:

في هذا السياق، ليس مرجحاً أن تسعى الدبلوماسية الأمريكية لإزاحة روسيا من مواقع نفوذها في الشرق الأوسط، ربما لأن موسكو تربطها مع بعض دول المنطقة علاقات تبادُل مصالح استراتيجية واقتصادية وثيقة لا يُمكن لواشنطن أن تحل محلها. وربما لأنه مع افتراض أن الولايات المتحدة تستطيع إزاحة النفوذ الروسي، فإنها لا تسعى لذلك لعدم رغبتها في تحمُل التكلفة المادية والسياسية على قيامها بالدور الذي كانت موسكو تقوم به. وربما أيضاً لأن واشنطن تتخوف من أن انسحاب روسيا من بعض المواقع، قد يُوجِدُ فراغاً سوف تملؤه دول وتنظيمات أكثر شراسة في عداوتها للولايات المتحدة، على غرار إيران وتنظيمي داعش والقاعدة. 

هذا ناهيك عن إدراك واشنطن أن صورتها في منطقة الشرق الأوسط قد تغيرت، وأن أغلب الدول العربية وجدت مصلحتها تجاه الحرب في أوكرانيا في عدم الانحياز أو تبني موقف أحد الطرفين المُتحاربين بشكل مُطلق. وهذا ما ظهر جلياً مثلاً في البيان الصادر عن الاجتماع الطارئ لمجلس جامعة الدول العربية على مستوى المندوبين الدائمين بتاريخ 28 فبراير 2022 الذي انعقد برئاسة الكويت وبناءً على دعوة من مصر لبحث تطورات الأزمة الأوكرانية. وتضمن البيان تأييد جميع الجهود الرامية لحل الأزمة الأوكرانية من خلال الحوار والدبلوماسية، والتأكيد على أهمية احترام مبادئ القانون الدولي وميثاق الأمم المتحدة. 

كذلك، فإن الدور الأمريكي كان قد أصابه الشحوب بسبب تحول الاهتمام الأمريكي في السنوات الأخيرة إلى آسيا واعتبارها الصين مصدر التهديد الرئيسي لمكانتها الدولية. وقد دعم من ذلك، الإشارات الأمريكية المُتكررة إلى تدهور مكانة الشرق الأوسط في سُلم أولويات السياسة الأمريكية. وجاءت طريقة الانسحاب الأمريكي من أفغانستان في عام 2021 لتُدعم هذه الصورة السلبية. وترسخت صورة أن واشنطن حليف لا يُمكن الاعتماد عليه وصديق “غير موثوق به”. ودعم من هذه الصورة أيضاً، امتناع الولايات المتحدة عن بيع بعض أنماط الأسلحة المُتقدمة لشُركائها في المنطقة. 

تحركات مُضادة:

في هذا الإطار، نستطيع فهم التحركات الأمريكية والروسية في منطقة الشرق الأوسط. فقد تحركت الولايات المتحدة للحصول على أكبر قدر من التأييد الدولي لموقفها ضد روسيا، وإبعاد الدول العربية عن موقف “الحياد” الذي اتخذته، ومُعتمدة في ذلك على علاقات التحالف التقليدية معها. وقام وزير الخارجية الأمريكي، أنتوني بلينكن، في مارس الماضي، بزيارة إلى المغرب والجزائر والضفة الغربية، علاوة على إسرائيل. وقامت وكيلة وزارة الخارجية الأمريكية بزيارة كل من تونس والإمارات، وكان من المفترض أن تضم أيضاً مصر ولكن الزيارة لم تتم. وقام وفد من أعضاء الكونجرس الأمريكي بزيارة إلى السعودية والإمارات، وآخر بزيارة إلى مصر والأردن. وبغض النظر عن الأهداف المُعلنة من تلك الزيارات، فمما لا شك فيه أنها تناولت موضوع الحرب في أوكرانيا، وطلب الولايات المتحدة من هذه الدول دعم موقفها تجاه الحرب. 

ومع ذلك، فقد جاءت النتائج مُختلطة، حيث امتنعت دولة الإمارات عن التصويت لإدانة روسيا في مجلس الأمن الدولي، وقام سمو الشيخ عبدالله بن زايد آل نهيان، وزير الخارجية والتعاون الدولي، بزيارة إلى موسكو، في مارس الماضي، حيث صرح خلالها بأن الإمارات تتعاون مع روسيا بشأن ضمان أمن الطاقة. واستمر هذا التعاون بين الدول المُنتجة للنفط في إطار “أوبك بلس” والتي اتفق أعضاؤها، في اجتماعهم في مايو 2022، على زيادة حصة إنتاج كمية أكبر من النفط أكثر مما كان مُتوقعاً. ولم تُشارك الدول العربية في تطبيق العقوبات الاقتصادية على موسكو، وهو ما كان موضع إشادة من جانب وزير الخارجية الروسي، سيرجي لافروف، في أول يونيو الجاري.

وتُقدم الجزائر حالة واضحة للتنافس الأمريكي – الروسي، فهي من جهة تحتفظ بعلاقات تِقنية وعسكرية قوية مع روسيا، وتُصَدرُ من جهة أخرى الغاز إلى أوروبا من خلال خط نقل الغاز مع إيطاليا، حيث يُمثل الغاز الجزائري نسبة 11% من الاستهلاك الأوروبي. وعلى الرغم من امتناع الجزائر عن التصويت في الجمعية العامة للأمم المتحدة على قرار إدانة التدخُل العسكري الروسي في أوكرانيا، وتصويتها ضد قرار تجميد عضوية موسكو في مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة؛ فقد حرصت الولايات المتحدة والدول الغربية على التواصل معها. وقام وزير الخارجية الإيطالي، لويجي دي مايو، بمُباركة أمريكية، بزيارة إلى الجزائر، في 28 فبراير الماضي، وطلب من حكومتها زيادة تصدير الغاز إلى أوروبا لتعويض النقص في إمدادات الغاز الروسي. وأصدرت إدارة شركة “سوناطراك”، المملوكة للدولة الجزائرية، بياناً أفاد بالاستجابة لهذا المطلب وأن خط الغاز الجزائري- الإيطالي لا يعمل بكل طاقته، وأن هناك مجالاً لزيادة حجم الصادرات. وتبع ذلك زيارة كل من وزير الخارجية الأمريكي ووكيلة الوزارة إلى الجزائر. 

في مقابل ذلك، تمثل التحرك الروسي في زيارة وفد برلماني من أعضاء مجلس الدوما وعميد الدبلوماسية الروسية لافروف للجزائر، في مايو الماضي؛ وذلك للاحتفال بمناسبة الذكرى الستين لبدء العلاقات الدبلوماسية بين البلدين. ومن ناحيته، أشاد وزير الخارجية الجزائري، رمطان لعمامرة، بموقف روسيا “المرن” وتفهمها أسباب زيادة صادرات الجزائر من الغاز إلى أوروبا برغبتها في زيادة مواردها المالية، وأن علاقاتها الاستراتيجية مع موسكو لم تتغير. وتحدث لافروف عن آفاق تطور العلاقات الاقتصادية والتقنية والعسكرية بين البلدين، ووجه باسم الرئيس بوتين دعوة للرئيس الجزائري لزيارة موسكو. وخلال زيارته، أشاد لافروف بموقف الجزائر المُحايد في الأزمة الأوكرانية. 

ورافق ذلك على مستوى القمة، قيام الرئيس بوتين بعمل اتصالات هاتفية مع عدد من رؤساء الدول العربية ضمت مصر والإمارات والسعودية والجزائر والمغرب وسوريا، فضلاً عن اتصالاته مع قادة إيران وتركيا وإسرائيل. وقام لافروف أيضاً بزيارة إلى سلطنة عُمان، ثُم السعودية، حيث التقى خلالها وزراء خارجية مجلس التعاون الخليجي، وألحقها بزيارة إلى البحرين.

حدود الصراع:

ليس هناك ما يُشير إلى أن ثمة هجمة دبلوماسية أمريكية لخلخلة النفوذ الروسي في المنطقة العربية والشرق الأوسط، ولا ما يُشير إلى أن واشنطن تعتبر أن ذلك في مصلحتها، فهي حريصة على أن تُبقي صِراعها مع موسكو ضمن الحدود الجغرافية لأوكرانيا، وأن تُطيل من أمده لاستنزاف أكبر قدر من القدرات الاقتصادية والعسكرية الروسية؛ وذلك لأن هدفها ليس دعم أوكرانيا وحسب، بل كما قال وزير الدفاع الأمريكي أوستن هو “إضعاف روسيا” حتى لا تُكرر ما قامت به في أوكرانيا مرة أُخرى. 

وبالتأكيد، فإن الولايات المتحدة لا تهدف إلى نقل مشهد المواجهة والتوتر السياسي في أوروبا إلى مناطق جغرافية أخرى، حتى لا تسير الأحداث في طريق لا يُمكن السيطرة عليه أو يُهدد بمواجهة مباشرة بين البلدين، خاصةً أن صانعي السياسة الأمريكية يُدركون جيداً أن التهديد الروسي بالرغم من إلحاحه وعُنفه، فإنه – من وجهة نظرهم – “مرحلي ومؤقت”، وأن الخِصم الحقيقي للولايات المتحدة هو الصين. وهذا ما صرح به وزير الخارجية، بلينكن، في مُحاضرة له بجامعة جورج واشنطن، يوم 26 مايو 2022، بقوله “إن الصين هي الدولة الوحيدة التي لديها نية لإعادة تشكيل النظام الدولي ولديها القوة الاقتصادية والدبلوماسية والعسكرية والتكنولوجية للقيام بذلك”، وأن “الصين أخطر تحدٍ طويل الأمد للنظام الدولي”. 

عن مجلة “المستقبل”

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

*أستاذ العلوم السياسية بجامعة القاهرة

أكمل القراءة
انقر للتعليق

اترك تعليقا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

جلـ ... منار

خالق الفرح

نشرت

في

Peut être une image de 2 personnes et bébé

اتصلت صديقتي غادة بي كي تطمئن عليّ:

ـ وينك ياست الحبايب؟

وفاء سلطان
وفاء سلطان

ـ مع الحبايب أجمع البيض!

يبدو أن أرنب الفصح كان غنيا جدا وكريما جدا هذا العام… نالني منه أربعة عشر بيضة، وجدتُ في داخلها ست دولارات وعشرين قطعة من الشوكولا (أول مرّة بناتي يدفعن لي بدلا من أن أدفع لهن)!

تفوقت علي جازي بأربع بيضات وست دولارات، أما بنجي فلم ينل إلا نصف ماحصلت عليه (لا يهم إذ لا يعرف قيمة الدولار بعد)!

……..

أمطرتني غادة بوعظة دينيّة طويلة جدا، تفوقت فيها على الشيخ الحويني، لقّنتني من خلالها درسا في العبادة وكيفية الاحتفال بالأعياد،

قالت:العيد ليس جمع البيض، العيد يعني ممارسة الصلاة والتعبد وزيارة الكنيسة!

واحتدم النقاش حتى اعترفت لي بأن اليهود (يخرب عمرهم لهم قرص في كل عرس!) قد حولوا كل الأعياد المسيحية لتجارة بالمطلق، وهم الذين اخترعوا سانتا كلوز وأرنب الفصح كي يسرعوا عمليات التسويق، ويصرفوا نظر الناس عن عبادة الله الحق!

فشعرت وكأنني أصغي للقرضاوي يقص علينا حكاية بني قريظة!

يبدو أن حتوتة الشجرة واليهودي الذي سيحتمي وراءها يوم القيامة قد طالت عقول بعض المسيحيين أيضا!

……..

يا سيدتي زرت عشرات بل مئات المعابد (من كلّ الأشكال والألوان)، ورأيت فيها الكثيرين من المنافقين والدجالين وتجار الدين، الذين أبعدوني عن الله سنينا ضوئية…

ياسيدتي أقدس بيت للعبادة بيتي وبيوت أولادي، فهي الأمكنة الوحيدة التي أضمن طهارتها من الفساد والرذيلة…

ياسيدتي من لم يرّ الله في سلة بيض الأرنب الذي يشرفنا في عيد الفصح، وفي قبعة سانتا كلوز الذي يزورونا في عيد الميلاد، لا يستطيع أن يراه في أي مكان آخر…

يا سيدتي لا أريد أحدا يفرض عليّ الهه وطريقة عبادته لذلك الإله…

ياسيدتي من لا يستطيع أن يُدخل الفرح على قلب طفل لا يعرف الله…

يا سيدتي من لا ينحني ويصلي للإله القابع في عيني حفيدي آدم، لم يمارس يوما الصلاة…

..أعتذر إن كان إلهي مغايرا لما يعنيه لكِ الإله….لم أفرض يوما إلهي على أحد، ولا أريد لأحد أن يفرض عليّ الهه، والطريقة التي يعبد بها ذلك الإله.

……..

أغلقت سماعة الهاتف، ولسان حالي يتضرع إلى الله: يارب لا تجعلني من عبادك “المؤمنين” فلقد ضقت ذرعا بهم!

بل اجعلني من عبادك الذين يَفرحون ويُفرحون، فالفرح هو أنت أينما حلّ..

اجعلني من عبادك الذين جاؤوا لنا بسانتا كلوز وبأرنب الفصح، وجعلوا حياتنا أسهل وأبهى بعلومهم ومعرفتهم.

……..

قرأت منذ يومين قولا للرئيس الفرنسي ديغول: كيف سأحكم دولة تنتج 246 نوعا من الجبن؟؟؟

وأنا أقول: لا حاجة لك أن تحكمها فالله وحده يحكمها،

الله وحده يتواجد حيث توجد النعمة والوفرة والعطاء…

أما الندرة والشح فتسود حيث تتحكم العقول العقيمة والمريضة!

……..

كل عيد فصح وأنتم وجميع أرانب الأرض بخير!

Coloriage Lapin de Pâques à côté d'un panier d'œufs - Dessin gratuit

أكمل القراءة

جلـ ... منار

بفلوسي!

نشرت

في

Images de Voleur Argent – Téléchargement gratuit sur Freepik

السيدة سهير موظفة في منتصف العمر وأم لثلاثة شياطين، وهي من الطراز الذي لا يتذوق الدعابة ولا يفهمها. علمتني الحياة أن أظرف وأروع الدعابات طرًا تأتي من هذا الطراز، فهم لا يفتعلون الظرف .. إنهم ظرفاء بالطبيعة. أسخف الدعابات تأتي غالبًا ممن يعتقدون أنهم ظرفاء، وأدعو الله ألا أكون منهم.

أحمد خالد توفيق

قرأت ملحقًا لإحدى الصحف الشهيرة مؤخرًا، فوجدته مليئًا بصور أشخاص ظرفاء يضحكون في استمتاع، مع نكات من نوع (اركبي قبل الحصان ما يشوفك).. (حماتي عملت مفاجأة وجت تقعد معانا شهر).. منتهى السماجة.

هذا ليس موضوعنا على كل حال. موضوعنا هو السيدة سهير.

سألتني السيدة سهير عن طبيب أنف وأذن وحنجرة جيد لأن أذنها مسدودة منذ فترة، فاقترحت عليها دكتور سيد الشماشرجي .. هذا رجل بارع يجيد عمله وصديق قديم. توكّلتْ السيدة على الله وذهبتْ له في العيادة ودفعت مبلغًا باهظًا من المال للكشف. تقول إنها دخلت لترى قزمًا مسنًا ينظر لها في كراهية من خلال المرآة التي تثبت على الجبهة إياها، فلما فتحت فمها لتقول:

ـ”إنها أذ………………………..”

أخرسها بشخطة، ودس منظارًا في أذنها فكاد يثقبها، ثم قال في عصبية وقرف:

ـ”شمع .. لابد من غسل الأذن”

وقبل أن تفهم كان يضع طبقًا معدنيًا تحت أذنها ويدس فوهة مسدس الماء في أذنها، فتصرخ ألمًا، ثم تشعر بطوفان من الماء الدافئ يدخل أذنها ويبدو أنه يبلل مخها ذاته ويخرج من الأذن الأخرى.

ثم قال لها بذات القرف:ـ”هناك قطرات للأذن .. استعمليها !”

خرجت من الغرفة شاعرة بالإهانة، كأنما تربص بها عشرة أبطال مصارعة فأوسعوها لكمًا وركلاً. وقبل أن تفهم ما يحدث انقض عليها الممرض الجالس في الخارج ليقول في قرف:

ـ”خمسون جنيهًا !”

ـ”ماذا ؟”

ـ”أتعاب غسل الأذن خمسون جنيهًا …

“إذن ففيم كان الكشف الباهظ؟

دفعت ما طلبه هذا القرصان وهي ترتجف غيظًا، كما أن أذنها كانت تؤلمها جدًا. ومشت في الشارع شاعرة بشعور السكير الذي يطردونه من الحانة بعد منتصف الليل لأنهم يريدون الإغلاق. قدماها غير ثابتتين ولا تفهم ما يحدث، دعك من أن زوال انسداد أذنيها جعلها تشعر بدوار وبرد غريبين.

لما عادت للبيت اتصلت بي لتنفجر في غل، شاتمة ذلك اللص النصاب الذي تقاضى كل هذا المبلغ في ثلاث دقائق. والأسوأ هو مبلغ الخمسين جنيهًا .

. كان يجب أن تكفي أتعاب الكشف لكل شيء.

بعد أشهر كانت تطالع الصحيفة فوجدت صورة عروسين .. المحاسب سمير سيد الشماشرجي تزوج المحاسبة هيام منصور .. الزفاف كان حلمًا من أحلام ألف ليلة وليلة وأقيم في فندق فاخر بالقاهرة. قالت لي في غيظ:

ـ”بفلوسي!! لقد زوج ابنه بمالي ذلك اللص!”

حكيت لها ذات مرة عن السيارة الفاخرة التي ابتاعها المهندس محمود سيد الشماشرجي ابن الطبيب الشهير، فصاحت في غل:

ـ”بفلوسي!!… يستطيع أبوه عمل أشياء كثيرة بالخمسين جنيهًا التي تقاضاها لغسل أذني!”

ذات مرة نشرت إحدى المجلات حوارًا مع دكتورة اسمها غادة تتحدث عن جولتها في اليابان ودول جنوب شرق آسيا. قالت في الحوار إنها زوجة واحد من أهم أطباء الأنف والأذن والحنجرة في مصر، وهو الدكتور سيد الشماشرجي.هنا صاحت السيدة سهير:

ـ”بفلوسي…!.. زوجته الشمطاء تجوب العالم كله بالخمسين جنيهًا”

رأيت أن الأمر تحول إلى هاجس أو وسواس قهري بالنسبة لها، فلولا ما في ذلك من مبالغة لطلبت من د. سيد الشماشرجي أن يرد لها مالها كي يتجنب هذه اللعنة السرمدية. لا شك أنه سيصاب بمرض عضال وينفق أضعاف الخمسين جنيهًا لعلاجه، لأن السيدة سهير – كما نقول في العامية – مش مسامحة!

العكس يحدث أحيانًا. الحكاية هي أنني منذ أعوام اشتركت في واحدة من مطبوعات اليونسكو الشهرية، والاشتراك ثلاثون جنيهًا في العام تقريبًا. ثم وجدت أن الأعداد تتكدس وأنا لا أطالعها… جاءت لحظة الحقيقة وقررت أنني لست بحاجة لهذه المطبوعة وكتبت خطابًا أعتذر فيه عن عدم الاشتراك لعام آخر.. أرسلوا لي يسألون عن السبب فلم أرد.

بعد أشهر قرأت في الصحف الخبر التالي (وهذا الكلام حقيقي على فكرة):

ـ”اليونسكو مهددة بالإفلاس لأن الولايات المتحدة خفضت مساهمتها في تمويل المنظمة”

طبعًا لم أحتج لأسئلة أكثر .. لقد تدهورت حالتهم المادية فعلاً عندما تركتهم، وعندما كففت عن دفع ثلاثين جنيهًا كل عام.

يبدو أن هذه المنظمة كانت تعتمد كلية على فلوسي.

قصة أخرى طريفة عندما كنت مدعوًا لمهرجان أدبي في قطر خليجي شقيق. كان طعام الفندق ممتازًا، وأنت تعرف عقدة البوفيه المفتوح. ربما هي فرصتك الأخيرة كي تجرب حساء التوم اليوم أو الباتاي أو القبوط أو الدجاج بالطريقة الإيرانية، أو حساء المنسيتروني وشرائح سمك الكنعد بالليمون.. ملعقة من كل شيء وسوف تكتشف أن الطبق مليء جدًا وأن ثيابك تضيق.

بعد ثلاثة أيام فتحت جهاز التلفزيون في الفندق، فوجدت أن حكومة البلد الثري مجتمعة لمناقشة الانهيار الاقتصادي الذي حدث مؤخرًا!.

شعرت بخجل شديد لأنني تجاوزت حدود الضيافة، وحاولت جاهدًا ألا أجرب سوى صنف واحد في الوجبة. إن شراهتي كفيلة بتدمير دولة فعلاً.

نعود للسيدة سهير التي أضناها التفكير في مالها…الحقيقة أنها ليست واهمة تمامًا. لا شك أن مالها ساهم بقدر ضئيل جدًا – كذرة في جسد – في نفقات رحلة آسيا.

هذا المفهوم ينطبق على الدول نفسها: عندما يعتدي عليك أمين الشرطة ويصفعك أو يطلق عليك الرصاص، أو يلفق لك قضية مخدرات بأحرازها مستعملأً قطعة البانجو في جيبه، فهو في الحقيقة يتقاضى راتبه من جيبك. حتى الرصاصة التي استقرت في رأسك أنت دفعت ثمنها.

المتظاهرون دفعوا بالكامل ثمن الغاز الذي يستنشقونه.

محصل الكهرباء الذي يخرب بيتك يتقاضى الراتب منك أنت.

هذا ينطبق على كل موظف في الدولة من أصغر رأس لأكبر رأس. كل المستشارين الذين يحصدون المليارات كل عام. من أين يحصلون على هذه المبالغ الفلكية؟ من جيبك طيعًا.

في الخارج يؤمنون أن رئيس الدولة نفسه موظف يتقاضى راتبه من جيوبهم، وعليهم أن يعرفوا ما فعل به، بينما في الدول العربية يسود المفهوم الأبوي القبلي الذي خرب بيوتنا:

أنت تعيش بما يجود به الحاكم عليك…

شيخ القبيلة الذي يقذف لك بصرّة من الذهب، بينما أنت في الواقع شاركت بقطعة نقدية في هذه الصرة.

السيدة سهير لم تبالغ في تصوراتها. هي فقط بالغت في أهمية الخمسين جنيهًا التي دفعتها

أكمل القراءة

جلـ ... منار

بِع وَردًا ولا تلعن الحياة

نشرت

في

Peut être une image de amarante

لم يمنعني المطر من أن أمارس طقوسي هذا الصباح.على العكس تماما، فالمطر هو أكثر الظواهر الطبيعية التي تسهل عليّ التواصل مع الكون وقراءة رسائله!

وفاء سلطان
وفاء سلطان

دخلت مقهاي المفضل لاحتسي فنجان قهوتي،ورحت أتأمل بعمق كل شيء حولي لأستشف الرسالة الكونية لهذا اليوم، إذ لم يمر يوم ونسي الكون فيه أن يخصني ببريده، ومن ذلك البريد أستمد كل صباح حكمة تزيدني شوقا للصباح الذي يليه… على يساري جلست سيدة، وقبالتي لمحت سيدة أخرى… وبين السيدتين كانت الرسالة واضحة وجليّة، وتحمل حكمة ولا أجمل… كلا السيدتين دخلت المقهى لنفس الغاية، دخلتاه تنشدان بعض الدفء، وهربا من زخات المطرالتي لم ترحم رأسا من لسعاتها!

السيدة على يساري، ومن ثيابها تعرف أنها مشردة وتعيش في الشوارع… والسيدة على يميني تحمل سطلا من الورود وتنظر عبر الزجاج أملا في لحظة صحو لتركض إلى الخارج وتستمر في بيع ورودها للمارة!..

تحسستُ طاقتها التي تفيض حبا للحياة، فاقتربت منها علني أمتصُّ بعضا منها!

اشتريت وردة ودار بيننا حديث شيق، علمت من خلاله أنها متقاعدة في منتصف الستينات من عمرها، وأنها تمارس تلك الهواية التي تدرّ عليها ربحا جيدا، كي تبرهن لنفسها أنها مازالت منتجة، علما بأن راتبها التقاعدي يكفيها من الناحية المادية!

اسمها روز، وتصرّ أن لها من اسمها نصيبا، فهي تعشق الورود وتشعر بسعادة عامرة عندما تبيع أحدا وردة!

تقول: ليس ما أجنيه من بيع الورود ما يسعدني أكثر، وإنما البسمة التي أرسمها على شفاه الناس!

وتتابع: لم يشتر أحد وردة إلا وبطريقة لا شعورية قام على الفور بشمّها، تسحرني تعابير الوجوه عندما تشمّ ورودي، واشعر أنني ساهمت في رسم تلك التعابير…

ثم شكرتني على شرائي لإحدى ورودها، وتمنت لي يوما جميلا!

……..

بينما في الوقت نفسه، يقترب مدير المقهى من السيدة الأخرى، ويتمتم في اذنها، فتخرج وتجر وراءها رائحة قاتلة!

لا أتصور أنه طلب منها أن تغادر، إذ لا يستطيع بالقانون أن يفعل ذلك، بل طلب منها أن تحرك عربتها المليئة بأغراضها لأنها تعترض المدخل إلى المقهى!

……..

نعم، تلك هي الحياة مجرد قرارات، وأنت مسؤول عن قراراتك!

سيدة قادتها قرارتها لتكون مشردة تفترش الشوارع وتلتحف السماء، وأخرى قادها قرارها لأن تمارس هواية محببة لنفسها، كبرهان على أنها مازالت تعشق الحياة، ومازالت بكامل وعيها لتعيشها بعمق!

……..

أما أنا فعدت لأمارس شغفي، وأنهي كتابا كنت قد بدأته الليلة السابقة…الكتاب بعنوان:

?What would you do if you knew you could not fail

(ماذا ستكون قد فعلت لو علمت أنك لن تفشل؟)

في الفصل السابع من الكتاب، جاءت تلك العبارة:”لو أن حلمك قد وقع فانكسر وتحوّل إلى ألف شظية، إياك أن تخاف من أن تلتقط على الأقل واحدة منها لتبدأ من جديد”

……..

لا يوجد أحد فينا إلاّ وتشظى حلمه يوما،

وحدهم الذين قرروا أن يتمسكوا ـ ولو بشظية واحدة ـ ليبدؤوا من جديد،

وحدهم قد بدؤوا ووصلوا إلى حيث يريدون!

السيدة المشردة وبائعة الورود من الأمثلة الحيّة.

……..

بع وردا ولا تلعن الحياة، فالحياة تلعن من يلعنها!

أكمل القراءة

صن نار