تابعنا على

جور نار

وداعا أيها القيصر

نشرت

في

Franz Beckenbauer : suspendu par la Fifa, il annule son séjour au Mondial !  - Africa Top Sports

من أمارات المعالم الجميلة أنها حين تزال ويفجعك نبأ زوالها ، تختلط عندك المفاجأة بعدم التصديق، بإحساس بتفاهة العالم، برغبة في الصحو من كابوس قليل الذوق … يقع لنا ذلك عندما نفقد عزيزا أو نجد خلاء بلقعا مكان بناية أليفة أو شجرة عمرها يزيد عن القرن … قد نغضب ونسبّ سلالة الهمّج الذي ارتكبوا الجرم، ولكن إذا كان القدر هو الجاني فلا تملك إلا أن تقول مع أبي الطيب: وتقتلنا المنون بلا قتال …

عبد القادر المقري Makri Abdelkader
عبد القادر المقري

في البشر هناك العامّة والخاصة، هذا بديهي … ولكن تعريف مشاعرنا لهؤلاء الخاصة يختلف تماما عن تعريفات الأكاديميين ومفوّهي القنوات التلفزية … مشاعرنا الصغيرة قد لا تضع ضمن خاصتها الساسة والدكاترة ورجال الأعمال وصانعي الرأي العام … بل يحوي جرابها فقط أشرطة وجوه وأصوات لأحبّة من العائلة، وصديق أو اثنين من رفقاء مرحلة ما، وحفنة من نجوم فن ورياضة كبرت معهم ذائقتنا وقاماتنا وأيامنا وأحلامنا والتصقت بذكراهم التصاق الزهرة بعطرها، وعصفور الخطاف بلونيه الأسود والأبيض … وأيّ خدش بهذه الأشرطة ينجم عنه وجع دفين مبرح بأعماق القلب، وأي اختفاء لصورة من صورها يعادل انطفاء قنديل في طريقنا الذي نسلكه في ليالي الزمن … 

نحن أيضا كنا شبابا … ومثلما أجيال اليوم لها نجوم قد تجد فيها نفسها، فقد كنا أيضا نجد أنفسنا في نجوم عصرنا البعيد … الذي من أنصار أم كلثوم، والذي مع عبد الوهاب، والذي لا يشجيه سوى فريد على عوده الباكي … أنا كنت أولا من عاشقي العندليب، وبعدها بقليل أصبحت حليميا فيروزيا، وبقيت هناك … أما في الكرة، وما المشكلة في الغرام بالكرة؟، فكنت أصغر من أن أُعجب بالملك بيليه، وأكبر عمرا من أن أهيم بمارادونا … أنا ابن شباب السبعينات، وفي تلك المرحلة طغى اسمان لا ثالث لهما: الهولندي يوهان كرويف، والألماني (الغربي وقتها) فرانز بيكنباور …

ولأسباب خاصة بنا نحن العرب، كنت من كارهي كرويف رغم انبهاري بفنّه الكبير … فقد أشيع في تلك الأيام أنه من أنصار ذلك الكيان الغاصب وأنه في صورة رفعه لكأس العالم سيحملها إلى تل أبيب إلخ … وقد تبين فيما بعد زيف هذه الإشاعات، ولكن سبق السيف العذل … إذن كان هذا الهولندي الطائر فلتة هجومية ومهارية لم أر مثلها إلى اليوم … يضاف إلى ذلك أنه يتحرك ضمن فريق فاجأ العالم بأسلوب لعب فريد (الكرة الشاملة) وقدرة افتراس لا تبقي و لا تذر، فضلا عن أنه من بلد ضئيل جدا و لا ماضي له ولا أمجاد في هذه اللعبة … أجاكس أمستردام السبعينات كان مثل الحاصدة الدارسة لا يوقفه كبير ولا صغير … لا الإنتر ولا اليوفي ولا الريال ولا برشلونة ولا مانشستر ولا أي واحد …

في مونديال 74 كان منتخب هولندا عبارة عن “انتداب” جماعي لمعظم عناصر أجاكس، بمن في ذلك المدرب العظيم “رينوس ميكلس” … ودخل الدورة يضرب فيصرع، عصف بكافة دول أمريكا اللاتينية (بمن فيها البرازيل لتي سحقتنا في الوديات وقتها برباعية وخرجنا مسرورين لأن محيي الدين سجل لهم هدفا) ومعها كل من اعترضه سواها … وبسرعة رشح الجميع “البرتقالة الميكانيكية” (المنتخب الهولندي) لترفع التاج الأغلى والأعلى … وبما أننا كما قلت كنا ـ وما زلنا ـ فلسطينيي الهوى، فقد التفتنا إلى بعضنا البعض وقلنا: من يوقف هذه الكارثة؟

وجاءت الإجابة في النهائي على أيدي ـ وأرجل ـ الألمان الغربيين، أي الوحيدين الذين لم يرعبهم الخطر القادم من الشمال … في تلك المباراة، استعرض كرويف كل قوّته من البداية وما هي إلا دقائق حتى تلاعب بكامل ألمانيا وأحرز ضربة جزاء تحوّلت إلى هدف سبق وطريق يبدو سهلا للفوز بالكأس … وهنا انتظمت الماكينة الجرمانية ووقفت سدّا أصمّ حيال الإعصار … تسعون دقيقة من صراع ملحمي أشبه بالحرب، مصداقا لنظرية “ميكلس” ومفهومه القتالي لكرة القدم، و تصويرا لروح ثأرية من هولنديين لم ينسوا ما فعله بهم عساكر أجوارهم من مجازر قبل 30 سنة ذات حرب عالمية … وفي المقابل، كانت ألمانيا المنزوعة السلاح تريد إقناع الجميع بأن لديها حججا أخرى غير الرصاص والدم … وأنها اليوم صارت قلعة سلمية للمعرفة والعمل الدؤوب والإرادة التي لا تلين…

 وكان رمز هذه الكتيبة الصامدة في البداية، وكاسرة الغول الهولندي في المنتهى، رجل طويل القامة أنيق الحركة وسيم الملامح … مركز بيكنباور الرسمي هو الدفاع وقلب الدفاع، غير أنه كان أولا يدفع خطر المنافس بنجاعة وذكاء دون خشونة يتسم بها عادة أصحاب تلك الخطة … وكان ثانيا طاقة انتقال لا تكلّ و لا تملّ، فهو في الدفاع وفي الهجوم وفي التنسيق من الوسط وفي المحاصرة وفي أي متر من الملعب … وكان ثالثا منارة لزملائه وقائدهم و نائب المدرب على الميدان، فهو الذي ينظم الهجمات، وهو الذي يشير بالتراجع، وهو الذي يرفع المعنويات، وهو الذي يغلق المنافذ أمام الخصم … وعند تصفيرة الظفر الأخيرة، كانت وجوه الاثنين وعشرين لاعبا منهكة إلى أقصى الدرجات، ونظرات بعضها تقول لم يذهب تعبنا سدى، والبعض المقابل يقول من حظكم أنكم نجوتم منّا …

صورة “الكايزر” وهو يرفع الكأس تحت انتشاء الشعب الألماني ومعه مئات الملايين في العالم من محبي اللعبة … وأيضا من محبي قيم وأخلاق جسّدتها ألمانيا في تلك الدورة، عكس العنجهية والغرور اللذين لازما كرويف ومنتخبه في سنوات السطوة تلك … الصورة رسخت في الأذهان إلى الأبد … ولكن الأقرب إلى قلبي صورتان ربما أقل شهرة ولكن أكثرها دلالة … الأولى حصلت سنة 2001 بملعب المنزه عندما زار فريق “بايرن مونيخ” تونس في مباراة ودية ومعه بيكنباور مدربا … بين الشوطين وبعد تكريم النجم الكبير، صعد بيكنباور إلى مكانه بالمنصة الشرفية مارا بمنصة الصحفيين … فانقضّ عليه معظم صحفيينا طالبين منه “أوتوغراف” أو صورة معه بأنامل الراحل حبيب هميمة … ولبّى الرجل طلباتهم برحابة صدر … وقد كنت تقريبا الوحيد الذي بقيت في مكاني لا أعرف ماذا أفعل وأنا غير معتاد على تلك المواقف … وما إن أتم بيكنباور مشواره مع الزملاء وواصل طريقه حتى التفت إلينا ـ أحد الأصدقاء وأنا ـ فحيّيناه بابتسامة وانحناءة رأس كما يليق بمقام قيصر ملك مثله … فما كان منه إلا أن ردّ علينا بابتسامة أعرض وانحناءة رأس مماثلة وكأنه فهم حبّنا وتقديرنا لأسطورته، منذ صبانا الأوّل …

أما الصورة الثانية التي بقيت في نظري مقترنة ببيكنباور القائد والمثل الأعلى … فقد تم التقاطها له في ملعب مكسيكو ذات مونديال عاصف آخر ولكن ضد إيطاليا … أصيب أثناء اللعب إصابة بالغة في كتفه وكان من المفروض إخراجه وحمله إلى المستشفى … إلا أنه رفض ذلك واكتفى بـ “إيشارب”  لإسناد كتفه المكسورة … واستمر يلعب ويقاتل بيد معلّقة والعالم كله منذهل لهذا العزم البطولي الذي قل نظيره  … ويقيني أن صورة كهذه تجاوزت إطار الكرة والملعب، لتكون ترجمانا لألمانيا البلد الذي نهض من ركام الهزيمة والجراح … بعد الحرب العالمية الثانية … 

أكمل القراءة
انقر للتعليق

اترك تعليقا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

جور نار

“زيدها شويّة”… أو كيف نُواجه سعير الأرقام في تونس

(من خلال أمثلة حيّة)

نشرت

في

ذكّرني التغيير الذي حصل مؤخّرا على رأس المعهد الوطني للإحصاء (احتمالا على خلفية دكتاتورية الأرقام التي لا تُجامل ولا تُعادي) بجملة من الأحداث والوقائع التي عشتُها شخصيا في أكثر من موقع والمُثبِّتة لعقليةٍ تشكّلت في بلادنا منذ العهود السابقة.

منصف الخميري Moncef Khemiri
منصف الخميري

 مفادُ هذه العقلية  كسْر المحرار إذا باح بنتائج لا تتطابق مع انتظارات المسؤول السياسي، والهروب بصناديق الاقتراع عندما كان يتوقع طلبة التجمع الحاكم عدم الفوز  في انتخابات المجالس العلمية كما كان يحصل في الجامعة التونسية… وعقلية “زيدها شوية” هذه نجد لها أثرا أيضا في نسيج العلاقات الأسرية وفي تعاطي عموم الناس مع الظواهر المختلفة وتفاصيل حياتهم اليومية، لأن الترقيع في ثقافتنا أعلى صوتا دائما من المعالجة الجذرية لمصادر أوجاعنا، وآليات والتسكين والتخفيف والتليين والتقليل والتمسكين منوالٌ قائم بذاته في رُبوعنا.

فعلى سبيل المثال عندما يُنتهك حقّ البنت في الميراث، لا يُجمِعُ أغلب الناس على إرجاع الحق إلى أصحابه بل يجنحون إلى المحافظة على الوضع القائم مع إضافة جملة ترقيعية  “زيدها شوية ووخيّان كيف آمس كيف اليوم” … وعندما تعوجّ حيطان البنّائين المُبتدئين تجد دائما من يحاول التنسيب بشكل ماكر “ثمة شوية عوَج صحيح آما توة باللّيقة تتسوى” … وعندما يعجز بعض الأطباء عن تشخيص مرض ما بدقّة، يسقطون في ما يُشبه تقليعات التنمية البشرية  “والله ما عندك شيْ، المشكل الكل في راسك، عندك برشة هلواس. آقف قدام المراية وصيح مانيش مريض توة ترتاح”…

المثال الأول : نسب النجاح في السنة الأولى بكلية العلوم

في بداية الألفية الجديدة، طلب المسؤول الأول عن مكتب الدراسات والتخطيط والبرمجة التابع للديوان بوزارة التعليم العالي، من رئيس مصلحة متابعة النتائج الجامعية (السيد ت.ع وهو من روى لي تفاصيل الحادثة) مدّه بنتائج آخر السنة الجامعية بالنسبة إلى كلية العلوم بتونس، فلمّا لاحظ أن نسبة النجاح العامة (في كل الاختصاصات مجتمعة) تراجعت خلال ذلك العام من 33 إلى 27 % أشعل سيجارة وسحب منها نفسا عميقا كمن يبحث عمّا يُساعده على ابتلاع نسبة التراجع التي سيُسأل عنها أمام وزيره آنذاك…ثم قال له في شبه توسّل “لا شويّة بالكل سامحني سي فلان، من رايي تزيدها شوية”.

المثال الثاني : في نفس الوزارة

في 2007، عندما انطلق تطبيق منظومة إمد على مراحل وكانت شهادة الأستاذية ماتزال قائمة جزئيا ريثما تحلّ محلّها شهادة الإجازة، طلب الوزير من المدير العام للشؤون الطالبية مدّه بإحصائيات حول مدى إقبال التلاميذ الناجحين الجدد في الباكالوريا على الإجازات الجديدة مقارنة بإقبالهم على الأستاذيات. ولمّا كانت النتائج الأوّلية مؤكدة لتوجّه الناجحين في الباكالوريا أغلبيّا نحو اختيار شهادة الأستاذية بدلا من الإجازة الجديدة، وبالتالي مُخيّبة لآمال من كان يتوقّع أن “إصلاح إمد” سيُعطي أُكله مباشرة بعد الشروع في إنفاذه بما يبرّر وجاهة الاختيار وسلامته، تمّ التشكيك في سلامة الأرقام فأعيد الاحتساب من جديد لتستقر نتائجه على نفس ما عبّر عنه المسح الأوّل، فلم تبق لديهم أية ذريعة سوى تسجيل ذلك على حساب ضعف الإعلام وجهل الأغلبية الساحقة من الأولياء بمزايا النظام الجديد… “وعلى أية حال توة نزيدوها شوية نسبة الإقبال على الإجازات في التدخلات الإعلامية دون تقديم أرقام دقيقة حول المسألة” … كانت هذه هي الفتوى التي أوجدوها للخروج من المأزق.

المثال الثالث : مشاركة التلاميذ التونسيين في تقييم “بيزا”  الدولي

كانت تونس من أولى الدول العربية التي تشارك في البرنامج الدولي لتقييم الطلاب “بيزا”، وذلك منذ سنة 2003، وهو تقييم دولي لقيس قدرة الطلاب في سن 15 عامًا (أي نهاية السنة التاسعة أساسي لدينا) على استخدام معارفهم ومهاراتهم في القراءة والرياضيات والعلوم لمواجهة تحديات الحياة الواقعية كل 3 سنوات. سنة 2015 احتلت تونس المرتبة 65 على 70 دولة مشاركة في الاختبارات (رتبة تقاسمتها تونس مع لبنان ضمن هذا التقييم الذي شمل عيّنة من 540 ألف تلميذ من مختلف أنحاء العالم).

وبدلا من مُواجهة الأسباب العميقة التي أدّت إلى تصنيف تلاميذنا التونسيين في ذيل الترتيب العالمي وهو مؤشر تُنكّس له الأعلام الوطنية لأنه يعكس وضع الوهن الموجع الذي باتت عليه منظومتنا التربوية، اختارت دولتنا أن تُقاطع هذه المحطة التقييمية الكونية مُفرغةً المحرار من زئبقه وضخّه ضمن خطابها الرسمي القائل بأن المؤشرات التي ينبني عليها التقييم صُنعت على مقاس التلميذ الأوروبي والسنغافوري والياباني وليس على مقاس التلميذ التونسي الذي يدرس ضمن بيئة خصوصية ووفق برامج ومناهج خصوصية !

المثال الرابع : 0.4 نسبة نموّ ليست من شِيمنا

دوّن المؤرّخ الجامعي نورالدين الدڨي على صفحته الرسمية يوم 23 مارس ما يلي :

“المعلوم أن المعهد الوطني للإحصاء لا يستنبط الأرقام؛ وليس مطلوبا منه تزويقها؛ فمهمته حسب نصوصه الـتأسيسية : “جمع المعلومات الإحصائية الخاصة بالبلاد و معالجتها و تحليلها و نشرها بالتنسيق مع الهياكل العمومية الأخرى”، وما نشره المعهد مؤخرا عن نسبة النمو الاقتصادي بتونس لسنة 2023 التي حددها ب 4 .0 بالمائة، وعن نسب البطالة : 4 .16 بالمائة، هو انعكاس أمين لقدرات الجهاز الإنتاجي الوطني…”

لكن وكما أسلفنا بالنسبة إلى الأمثلة السابقة، بدلا من مُعالجةٍ رصينة ومتأنية للأسباب الحقيقية والعميقة التي أدّت إلى هذه النتائج الموضوعية، تمّ اللجوء إلى إجراء تحوير على رأس هذه المؤسسة الوطنية ذات الطابع التقني والخِبري الصرف التي ظلّت علاقتها بصاحب القرار السياسي على مرّ السنوات منذ تأسيسها سنة 1969 مُتأرجحة بين نشر الأرقام كما هي أو في أسوإ الأحوال التعتيم عليها وعدم الإدلاء بها قصد التداول العام ولكن (وحسب شهادة عديد الكفاءات التي مرّت بنهج الشّام وتعمل اليوم بمؤسسات دولية وإقليمية مرموقة) لم يحدث أن تمّ تزوير الأرقام أو التلاعب بها.

أستعيد في النهاية ما قاله أحد المفكّرين “يمكنك أن تراوغ رجال الشرطة لكنه من الصعب جدا مراوغة بداهة الإحصائيات”.

.

أكمل القراءة

جور نار

إنت وما جاب العود… عن مسلسلات رمضان

نشرت

في

أخبار مسلسلات رمضان 2024: مواعيد عرض مسلسل فلوجة 2 بطولة ريم الرياحي في  رمضان 2024 والقنوات الناقلة - المشهد

عبد القادر المقري:

لي شبه يقين أن مسلسلاتنا التونسية (تماما كسينمائنا) محظوظة حظا يكسر الحجر كما يقال … فهي أقرب ما تكون إلى تلاميذ ذات فترة من عمر وزارة التربية، وهي تجربة المقاربة بالكفايات … لا أحد يأخذ صفرا، لا أحد يسقط في امتحان، لا أحد يعيد عامه، ولا أحد يتم طرده لضعف النتائج …

عبد القادر المقري Makri Abdelkader
عبد القادر المقري

بل لا قياس أساسا لأي جهد … الكل ناجح، والكل ممتاز، والكل متفوق، والكل نابغة بني ذبيان … والدليل أننا عند نهاية مهرجان من مهرجاناتنا أو عرض فيلم من أفلامنا، لا تسمع سوى الشكر، ولا تقرأ سوى المدح، و لا ترى سوى الحمد على نعمة السينما والذين أدخلوها إلى تونس … تماما كما يحصل عقب كل رمضان مع أعمالنا الدرامية، إن وُجدت … فدائما عندك جوائز لأحسن عمل، وأفضل مخرج، وأبرع ممثل، و أقوى سيناريو، وأكبر وأجمل وأبهى وأمتع وأروع … يا دين الزكش، كما يقول صديقي سلامة حجازي … يعني كل بلاد العالم (بما فيها هوليوود وبوليوود وقاهرة وود ودمشق وود) تنجح فيها أعمال وتفشل أعمال، إلا عندنا فيبدو أننا الفرقة الناجية …

… أو فرقة ناجي عطا الله !

هذه السنة، أتاح لي زميل مسؤول بإحدى الإذاعات أن أتفرج على قسم كبير من مسلسلين تونسيين مرة واحدة… قلت أتاح لي بعد أن رجاني مشكورا أن أدلي برأيي في هذا وذاك، وأنا اليائس منذ أعوام من مستوى مسلسلاتنا خاصة حين جنح معظمها إلى تقليد عمل أعتبره كارثة فنية بكل المقاييس، وهو مسلسل “مكتوب” … وصار الكل يستنسخ منه استنساخ أهل الغناء والمسرح لعرضي النوبة والحضرة طوال الثلاثين سنة الأخيرة … وكيف لا يفعلون وهم وجدوا الوصفة السهلة التي لا تكلّف تعبا ولا وجع رأس … فمثلما بإمكانك أنجاز “عرض” فني لا نص فيه ولا فكرة مبتكرة بل تكديس جملة من أغاني التراث وإلصاق بعضها ببعض، بإمكان الواحد أن “يبيض” مسلسلا لا قصة فيه ولا حوار ولا سيناريو… فقط عندك ركام من عارضي وعارضات الأزياء، يقولون في ما بينهم كلاما من الحزام فما أدنى منه، ويعيشون في بذخ لا تحلم به أميرة خليجية، ويستبيحون القوانين أصغرها وأكبرها، ولا قيم توقفهم ولا منطق ولا نواميس مجتمع … عكعك وهي حالّة معك، كما يردد شباب هذه الأيام …

إذن أخذا بخاطر صديقي، تفرجت صاغرا في اثنين من أعمالنا المعروضة لرمضان هذا العام، قائلا لعل الأمور تحسنت عمّا تركتها، وربما ظلمت مبدعينا الفتيان وهم يفتحون البلدان ويغزون الفضاء في غفلة مني … وبما أن ذلك فاتني على المباشر، فقد لجأت إلى التساجيل التي تبث على الإنترنت، وأطوي الأرض طيا حتى أرى أكثر ما يمكن ولا أتسرع في الحكم على أحد … رأيت إذن جزءا كبيرا من مسلسل “فلوجة 2” على الحوار التونسي، وجزءا مماثلا من “رقوج 1” (بما أنهم يبرمجون لجزء ثان على ما سمعت) … وأعطيت رأيي في حدود ما شاهدت، وواصلت بعد ذلك باقي الحلقات حتى تكتمل الفكرة وأكون بدوري من المحتفلين ختاما بأفضل عمل وممثلين ومخرجين إلى آخر الليستة … وعلى حق …

نبدأ بفلّوجة … هو أولا استمرار لقصة السنة الماضية التي أثارت أكثر من ضجة لدى رجال التعليم ونسائه … والسبب أن احداث المسلسل تدور في وحوالي معهد ثانوي فيه كل شيء إلا الدراسة … مخدرات في قارعة الطريق، علاقات جنسية بوها كلب بين الجميع والجميع، ولادات خارج إطار الزواج وغير ذلك … والعجيب أن احتجاج المربين قابلته عاصفة تبريرية كانت دائما السند الرئيسي لسامي الفهري ومسلسلاته … من نوع: أليس هذا واقعنا؟ ألا تحدث يوميا مثل هذه الفضائح؟ هل ما زال عندنا تعليم؟ ألم يهبط مستوى مؤسساتنا التربوية منذ زمن؟ هل نغطي عين الشمس بالغربال؟ أما كفاكم نفاقا؟؟ … ويصل التبرير إلى ذروته بالتهجم على الأساتذة أنفسهم … “ماهي جرايركم” … “ما هو من جرة” انغماسكم في الدروس الخصوصية وإهمالكم لعملكم الأصلي … “ماهي نقاباتكم” وإضراباتكم ومطالبكم وزياداتكم المتلاحقة، وبسببها أفلست المعاهد وصارت بؤرا فاسدة، فيما هرب الجميع إلى التعليم الخاص… وغير ذلك وغير ذلك …

ولم يقل أحد من هؤلاء لسامي الفهري: وأنت، ما غايتك من الترويج لهذه المظاهر؟

وبقطع النظر عن صحة كل هذا في المطلق، والإحصائيات التي ما زالت لصالح التعليم العمومي في الباكالوريا وغيرها مهما حصل … فإن هذا التعميم يظلم كثيرا من أهل التعليم الأوفياء وجهدهم في إنجاح تلاميذهم وتمكينهم من مستوى جيد دون مقابل عدا مرتب شهري بعرق الجبين … كما يحط هذا التقييم الشمولي من قدر أبنائنا وبناتنا المربين والمربيات الأشراف وأغلبهم يتمسك بفضائلنا وأخلاقنا … فهل كل أساتذتنا متحرشون بتلميذاتهم كما في المسلسل، وهل كل أستاذاتنا ومديرات معاهدنا شغلهن الشاغل إقامة علاقات جنسية مع هذا التلميذ أو ذاك الرجل العابر؟ …

وحتى إن حصلت بعض حالات فماذا تمثل نسبتها؟ 1 بالمائة؟ اثنان؟ ثلاثة بالمائة ولا أعتقد ذلك وسط مئات آلاف من منظوري وزارة التربية … ومن يقول أكثر عليه بإجبار الوزارة على التحقيق العاجل ويكون معها فيه، ثم أين منظمات الأولياء والتربية والأسرة؟ لو كانت معاهدنا على شاكلة معهد سامي الفهري، فمن الأحرى غلق مؤسساتنا التعليمية وإحالة ميزانية الوزارة نحو قطاعات أكثر احتياجا كالشؤون الاجتماعية أو الثقافة أوالفلاحة والصيد البحري … بل ربما نضع كل ما نملك بين يدي الأمن والقضاء حتى يقضيا القضاء المبرم على الداء الذي استفحل ويهدد بنسفنا من الجذور …

فلوجة في جرئه الثاني لم يشذ عنه في الجزء الأول … لا بل هو يستمر في شذوذه الآخر … عن كل ما هو مجتمع وأعراف وقيم ولنقُلْ أيضا، مسؤولية … فالعمل الدرامي ليس مجرد نقل للواقع (هذا إذا كان واقعا) بل فيه طرح ورسالة وتأثير مباشر خاصة مع طغيان الصورة ووسائل الاتصال الحديثة … الفهري ومرؤوسته سوسن الجمني، يتملّحان طولا وعرضا بما يمكن أن ينتج في مجتمعنا من تغيير سلوكات جراء ما يعرضانه في كل مسلسل …

ـ يتبع ـ

أكمل القراءة

جور نار

هل ستقع المواجهة بين إيران والكيان الصهيوني؟

نشرت

في

الرابطة الدولية للخبراء والمحللين السياسيين - هل تملك اسرائيل ان توجه  ضربتها الى إيران؟

لم تكن التهديدات من هذا الطرف او ذاك توحي بخطر شن حرب بين إيران و اسرائيل، ذلك ان طهران كانت عمليا تتفادى مواجهة مباشرة مع اسرائيل المدعومة من الولايات المتحدة وتعي بان الكيان اللقيط لا يعدو أن يكون إحدى ثكنات القوة الأعظم.

محمد الزمزاري Mohamed Zemzari
محمد الزمزاري

و لم يتهور الايرانيون المعروف عنهم العمل بصمت و عقلانية و تقبل بعض الخسائر المفترضة و المنتظرة مقابل تنويع مواطىء اقدامهم و تركيز مواقع قد تخدمهم لاحقا دون أي تسرع عاطفي ممثل في رد فعل غير محسوب الهدف او النتائج … لقد دفعت إيران قرابين كثيرة منذ التسعينات ضحايا لاغتيالات الموساد و المخابرات الأمريكية المتعاونة من تفجير مراكز نووية إلى اغتيال علماء او قيادات عسكرية هامة و الظاهر ان الإيرانيين يرسمون أهدافهم الاستراتيجية على المدى الطويل والتي يعتبرونها اهم بكثير من صراعهم مع الكيان الصهيوني… وقد نجحت لحد الان السياسة الإيرانية في تركيز اذرع في عدد من البلدان العربية ذات مكانة استراتيجية هامة مثل سوريا و العراق ولبنان و اليمن، وهي ساعية اليوم لغرس امتداد لها بالأردن، كما عمدت خلال هذه الأسابيع إلى دعم حكومة السودان ومدها بالطائرات المسيرة التي قلبت موازين المعارك ضد قوى الدعم السريع.

لكن الحدث الذي جد اخيرا و الذي تمثل في ضرب الصهاينة للقنصلية الإيرانية بسوريا والقضاء على واحد من اكبر القيادات الحربية و التنسيقية قد يؤجج ما كان كامنا بين الكيان وطهران. فإسرائيل ترغب منذ سنوات في توريط حلفائها الأمريكان في حرب ضد إيران وقد تراءت لنتنياهو فرصة سانحة للدفع نحو هذه الحرب المرغوب فيها اولا و لتمديد بقائه في الحكم و إتمام خططه النازية من تهجير و مجازر و تدمير لغزة و لاحقا للضفة الغربية، وهنا لم يبق لإيران بد من رد فعل قوي لحفظ ماء الوجه و تأديب الكيان الذي تجاوز الخطوط الحمراء و ضرب القنصلية الإيرانية التي تمثل سيادتها و صورة قوتها أمام الجميع وخاصة لدى اذرعها وأنصارها في المنطقة.

ومنذ ساعات أعلنت المخابرات الروسية عن تحديد ضربات او حرب خاطفة ممكنة الوقوع قريبا جدا و دعت مواطنيها لملازمة الحذر بالشرق الأوسط وخاصة بالكيان الصهيوني و منذ اكثر من ساعة دعت الولايات المتحدة مواطنيها في الأرض المحتلة وتل أبيب خاصة الى نفس الحذر. اذن فالوضع قابل جدا لوقوع حدث هام مدمر ليس باسرائيل فقط لكن أيضا بايران اعتمادا على ان الكيان الصهيوني يرغب فعليا في خلق مواجهة مع ظهران ستقودها الولايات المتحدة دون شك.

هل ستصدر الضربة الإيرانية انطلاقا من قاعدة احد اذرعها؟ هل سيكون الهدف محطة ديمونة النووية او ايلات او تل ابيب؟ اظن ان ضرب تل أبيب مستبعد مما يبعث على الظن بان الهدف المحتمل هو: إما إحدى السفارات الاسرائيلية في بلد خليجي او قصف إحدى المدن او المطارات الكبرى بالكيان الصهيوني. فيما يبدو أن الولايات المتحدة لا ترغب حاليا في خلق بؤرة حرب جديدة مكلفة قبل انتخابات نوفمبر القادم و لن تصل اية ضربة مهما كانت صدمتها إلى دفع بايدن إلى رد فعل ضد إيران …

أكمل القراءة

صن نار