تابعنا على

جور نار

ورقات يتيم … الورقة رقم 14

نشرت

في

Coloriage - Emoji d'escrime de personne | Coloriages à imprimer gratuits

….السنة الاولى من التعليم الثانوي كانت سنة العبث الطفولي بكل المقاييس …نجاحي في مناظرة السيزيام بقدر ما اسعد العائلة بقدر ما ملأني زهوا وفخرا بمعانيه السلبية ..ومخلفاته السلبية ايضا ..

عبد الكريم قطاطة
عبد الكريم قطاطة

كنت وانا امشي بين اترابي وانا اعبث معهم اشبه بطائر النسر الذي يرى في بقية الطيور من جنسه لا يعدون ان يكونوا (عصافير حيطي) … كنت احس بأني ملك والبقية رعية، خاصة ان محيطي العائلي لم يكن مؤهلا البتة لتأطير هذا الطفل النرجسي في داخلي ..كانت الامتحانات انذاك بنظام الثلاثيات وكانت اعدادي فيها جميعا سيئة للغاية ..وكان من الطبيعي ان ارسب .. ورسبت في سنتي الاولى من التعليم الثانوي … الغريب اني لم اتأثر بتاتا بهذا المصير ..كانت سنة دراسية جوفاء من التحصيل المعرفي … وحتى العائلة لم تتقبل النتيجة بشكل درامي … ربما لأني مقابل فشلي نجحت في شهادة ختم الدروس الابتدائية وتسمى انذاك “سرتفيكا” والتي لم يتسنّ لي اجراء امتحانها في سنة السيزيام نظرا إلى صغر سنّي ..

والسرتفيكا في ذلك الزمن كانت ذات بعد معنوي وعلمي كبير …هي بمثابة الباكالوريا في عهود متقدمة ..تصوروا فقط ان حاملها ونظرا إلى قلة اطارات التدريس في تلك الحقبة، باستطاعته ان يقوم بتربص تكويني بيداغوجي ليصبح معلما في الابتدائي ..نعم …ربما هو تجسيد للمثل الشعبي (من قلة الصوف تتجز الكلاب) … ولكن واقسم لكم بكل المقدسات انه ومن خلال تجربتي في التدريس الجامعي سنوات طوالا، اؤكد لكم ان يعض حاملي السرتفيكا يكتبون باللغتين العربية والفرنسية بشكل افضل من عديد الطلبة في الخامسة جامعي … نعم والله .. وهنا لابد من الاعتراف والاقرار بان هؤلاء الطلبة هم في الحقيقة ضحايا لانظمة تربوية وتعليمية فاسدة، وضحايا لتجارب تعليمية مخبرية كانوا اشبه بالفئران فيها …

وحتى انهي مع تلك السنة الاولى لابد من القول ان غزارة الاكتشافات فيها اعاقتني تماما على الاعتناء بدروسي ..اذ ليس من السهل على التلميذ انذاك عموما وعليّ انا، خاصة وانا المهتم دوما بالتفاصيل التي اعتبرها هامة في حياة الفرد بل واعتبرتها طيلة حياتي انها هي التي تصنع الفارق بين الواحد والاخر …ليس من السهل ان تمر تلك التفاصيل عندي مرور الكرام، فالانتقال من نظام تربوي ابتدائي ينحصر فيه عدد المربين في اثنين (واحد للعربية وثان للفرنسية)، الى نظام يجد فيه التلميذ نفسه امام فيلق من المربين، كل استاذ في اختصاصه … وانا كنت من ضمن اولئك الذين لم يعتبروا يوما الاستاذ مربيا عابرا آخذ منه العلم والمعرفة واعطيه يوم الاجابة ـ اي يوم الامتحان ـ ما حفظته ..معدتي لم تكن يوما كالاسفنجة تضعها في الماء ثم تعصرها فترد لك ما حملته في احشائها من ماء .. معدتي بقدر ما هي سريعة في هضمها للاكل بقدر ما هي لا تتسرع غالبا في تعاملها مع ما ترى وما تسمع …

كنت وانا في تلك السن اهتم جدا بتفاصيل كل استاذ في تعامله معنا … على حساب التحصيل المعرفي نعم، ولكن هكذا كنت ..وما زلت .. كنت مثلا مزبهلا بكل تفاصيل تفاصيل شخصيات الاساتذة … كنت استمتع مثلا بصياح استاذ الرياضة (السيد حبيب مرزوق، اطال الله عمره) وكم سعدت للقياه قبل عيد الاضحى وهو يوقف السيارة التي كان على متنها ويناديني بصوته الجهوري: “ايجا يا عبدالكريم هذا رقمي ونحبك تكلمني عندي ما نقلك على السي اس اس” ..كيف لا وهو من قدماء لاعبي النادي كمتوسط دفاع في الخمسينات … استاذي هذا كان يعيد دوما عباراته المشهورة وهو يشاهد احد التلامذة يتقاعس في التمارين الرياضية: “ايجا هنا انت يا بوريكو يا مقرونة!” … ولئن فهمت بعد سنوات معنى “بوريكو” اي حمار، فلم افهم لحد الان ما دخل كلمة مقرونة وهو يعبر عن غضبه ..؟؟

نفس هذا الاستاذ كنا في شهر ماي وبعد ان تتحول حصة الرياضة في المعهد الى حصص تعلم السباحة في المسبح البلدي (الذي اصبح الان اطلالا حزينة)، كان يرمي بنا الواحد تلو الاخر في المسبح دون رحمة وكنا نتخبط في ماء هذا المسبح بكل رعب رغم اننا مطوقون بالواقيات من الخفاف ..وهو يعيد دوما: عوم يا بوريكو ..وما اذكره حسب ما رواه لي بعض اترابي ان واحدا من التلاميذ (محمود الفخفاخ رحمه الله) نزل كعادته في المسبح العميق تحت “السقالة” التي تستعمل عادة للارتماءات الهوائية (بلونجونات)… ومن سوء حظه ان وجد قميصه مشدودا باحد اعمدة السقالة الحديدية ولم يستطع الافلات منها … ولحسن حظه ان تفطنت عين سي الحبيب الى غيابه لمدة ثوان فاندفع كالسهم نحو اليمّ وخلّصه من موت محقق …

ذمن تفاصيل السنة الاولى اننا كنا ندرس مادتي النجارة والحدادة …ولانني لم اكن ولحد يوم الناس هذا بارعا في كل الاعمال اليدوية باستثناء “المونتاج” والذي بدأت معه مسيرتي المهنية في مؤسسة الاذاعة والتفزة التونسية وللامر هذا عودة في ورقات قادمة .. اذن لانني كنت ابهم البهائم في الاعمال اليدوية كنت اتلهّى باشياء ثانوية في تلك الحصص ..واذكر اني ذات مرة دعوت زميلا لي في الدراسة للقيام بـ”طرح” مبارزة بالسيف بيننا ..ولم تكن سيوفنا الا تلك المبارد التي نستعملها في حصة النجارة …كنا “شائخين” باللعبة خاصة ونحن نرى شذرات وومضات النيران (“الدڨداڨ”) تنطلق من المبردين ..وكأننا فارسان مغواران يتحاربان من اجل فتوحات وهمية …ولم نكن ندري انذاك اننا قضينا بفعل ضرباتنا المتبادلة على المبردين الذين اصبحا في عداد المبارد الموؤودة ..

ولأن استاذنا الرائع في وداعته (سي عمر) مجبر يوما ما على السؤال: “باي ذنب وئدت المبارد” أي حفيت، فانه اضطر كارها ان يرفع امرنا الى الادارة اي الى ستالين المعهد ومديره السيد احمد الزغل اطال الله في عمره ومتعه بالصحة ..وما هي الا لحظات حتى اتانا سي الزين الفراتي رحمه الله وهو اشبه بـ”لوريل” مقطّبا عابسا يدعوني انا وزميلي للمثول امام المدير …وبكامل الزهو واللامبالاة ذهبت …وما ان وصلنا حتى خرج الينا سي احمد من مكتبه الذي لم ادخله يوما ككل التلاميذ فهو مكان مقدس باتم معنى الكلمة وليس علينا فقط بل حتى على جل الاساتذة …. نظر الينا سي احمد بعين لم نفهم سرها وغليونه لا يفارقه ثم (يا رحمان!) “داودي” لم اذق مثله في حياتي وهو الثاني والاخير بعد داودي “مسيو دوميناتي”، في مدرسة واد القراوة التى كم احبها …

لم انتظر اية كلمة منه وعدت الى القسم الخاص بالنجارة وحملت محفظتي وغادرت المعهد الى بيتنا …اندهشت والدتي من عودتي المبكرة وزاد هلعها وهي تسمعني ابكي و اتوعد واقول لن اعود الى المدرسة …بعد ان حكيت لها عن الصفعة الشهيرة ..هي لم تسأل عن الاسباب وانبرت تدعو على سي احمد ذلك الذي سمح لنفسه بضرب طفلها “اللي اش فيه ما يتضرب” … وما ان جاء والدي حتى “حمّشتّو” على سي احمد، بكل ما تعرفونه عن اية زوجة لها تأثيرها السحري الرهيب على زوجها …_ وعيادة الله يرحمها كيف تنوي تطيّحو زايد تطيّحو رغم صلفه الشديد وعنطزته المهولة اليس كيدهن عظيما ؟؟؟…

و”ماكانش من العاكسين” .. ازبد الوالد وتوعّد بالثبور الويل له سي احمد هذا …اشبيه يحسايب الدنيا على ڨرنو .؟؟ غدوة نورّيه الرجال اشتعمل … طبعا مع وابل من السب والشتم على كل لون يا كريمة وسي محمد رحمه الله بارع في هذا القليّم ….حملني في الغد الى المعهد وطالب فورا بمقابلة هذا المدير الذي اهان ولده …والغريب اتني لحد الان لم افهم كيف خضع سي احمد الزغل وما ادراك لموقف والدي المتمثل في (عاقبو كيف ما تحب اما ما تضربوش …ما نسمحلكش باش تمس ولدي) … وانتهت حكاية المبارد التالفة عند ذلك الحد …وحتى عندما فاجأت سي احمد الزغل يوما بزيارته مع مجموعة من اصدقاء الزمن الجميل الى منزله اعترافا له بالجميل، لم اجرؤ صدقا على العودة لذلك الموقف خوفا من احراجه …خاصة ان علاقتي به توطدت جدا بعد عودتي من فرنسا وبالتحديد عبر برامجي الاذاعية وخاصة كتاباتي الصحفية …

فوجئت به يوما يطلبني عبر هاتف الاذاعة ويقول لي: “احمد الزغل معاك”، واين الدنيا التي تسعني انذاك ..قال لي اريد ان التقيك ..قلت له الان الان وليس غدا ..ذهبت اليه وهو انذاك يشغل خطة رئيس بلدية صفاقس ..استقبلني بالاحضان وبعد بروتوكولات التحايا والسؤال عن الصحة والعائلة قال لي سي احمد وما ادراك …عندي طلب صغير منك لو تسمح ..لم ادعه يكمل حديثه وقلت له ..يا سي احمد راك سي احمد ..فكيف لك ان تطلب من ابنك طلبا ما ؟؟؟ انت تأمر وانا انفذ دون قيد ..وبكل سعادة وامتنان ونظرة افتخار منه قال: “انا اتابع جيدا برامجك وقلمك الصحفي .. وانت تكتب في عديد العناوين الصحفية فهل تسمح باعطائي نسخة من كل ما تكتب؟ ..انت قلم متميز و احد ابنائي الذين افتخر بهم ..هل تسمح ؟؟؟ تصوروا سي احمد يقول هذا …اجبت على الفور: ومن انا حتى تقول لي هل تسمح ..لك وعد سي احمد ان تصلك كل المقالات التي اكتبها …وحتى عند سفرك إلى تونس ساضعها لك في صندوقك البريدي ..وفعلا فعلت وبسعادة لا توصف ..

يااااااااااااااااه .كم هي السنوات كفيلة بان تعيد اعتبارنا للاشياء والمسميات والاشخاص ..نعم فهمنا جميعا ان ستالين الحي وهتلره وفرعونه كان يجب ان يكون هكذا او لا يكون لانه علمنا الاحترام واعطاء قيمة لهيبة المربين …وهاكم تشاهدون الان كيف اصبحت هيبة المربّين (في جلهم) منكسة الأعلام تعبيرا عن الحداد لا لموتها فقط (لانو لو كان ماتت ارتحنا) بل لاهانتها والاهانة اشد الما من الموت … رغم اني كلي ايمان بأن المربّي ولحد الان مازال قادرا على فرض الانضباط والهيبة لو آمن بدوره التربوي اولا قبل التعليمي، و بتغيير اسلوبه البيداغوجي الى فن راق في التواصل والذي يجعل التلميذ او الطالب يخضع لنواميسه وبكل استمتاع واقتناع ..صدقوني ومن خلال تجربتي في الجامعة كنت ومازلت قاسيا جدا في تعاملي مع طلبتي (قسوة البناء طبعا لا قسوة التقزيم) … ولكن رغم طبعي الذي يبدو ظاهريا بوليسي الملامح،في الفترة الاولى من التعارف على الاقل، كنت معهم دوما الاخ والاب والصديق والحبيب بكل عمق الاعماق وللحديث تفاصيل ضافية في ورقات قادمة …

من التفاصيل التي لا تنسى في سنتي الاولى ايضا اني لاول مرة في حياتي الدراسية يشتري لي ابي محفظة من مكتبة …نعم قبلها كانت محفظتي تخيطها عيادة من قماش الاكياس كسائر التلاميذ المعوزين انذاك …ثم كانت هدية الوالد بعد ان نلت السيزيام محفظة سوداء متوسطة الحجم، وكان كل همّ امي ثقلها وهي محمّلة بعديد الكتب والكراسات ..وكثيرا ما كانت تجبر اختي الكبرى على ان تحملها معي لمحطة الحافلة ..ولكني كنت اشترط عليها ان لا تصل معي الى المحطة ابدا بل تكتفي بحدود “الزنقة” قبل الوصول الى الطريق العام …وانا اردد في خلدي: ” الله الله على سيدي الطلطول عبدالكريم تهزلو اختو كارتبلتو …اشنوة يقولو عليّا مانيش راجل ..؟؟؟” …

من الاشياء التي لم انسها كذلك انني لاول مرة عند حلول الشتاء يشتري لي والدي رحمه الله (والاكيد بفعل معسول كلام عيادة) معطفا ….هو يسمى “ترواكار” اي يغطي ثلاثة ارباع الجسد ولشدة تعلقي به كنت لا افارقه كامل اليوم 24 على 24 ..حتى النوم انام به …وهذا حتما كان كافيا للقضاء عليه تماما في سنته الاولى لانه اصبح يشبه كل شيء الا ان يكون معطفا …جرّد وبره واصبح اشبه بالابرص …

هذه التفاصيل وغيرها في حياتي اليومية الدراسية جعلتني كثير الملاحظة دقيقها بدءا بالحافلة التي امتطيها مرورا بالمدينة العتيقة التي اكتشفت كل انهجها وازقتها وثناياها، وصولا الى المعهد بكل زخمه واحداثه واشيائه مما لم يترك لي مجالا للاعتناء بدروسي … كانت معدلاتي في الثلاث ثلاثيات لا تتجاوز السبعة على عشربين ..وكنت جديرا جدا بالرسوب لاني لا استحق النجاح وانا الذي لم اعره اي اهتمام ..التجربة رغم الخيبة لم احس يوما بالندم عليها ..كنت دوما ومازلت اؤمن بمسؤوليتي في كل ما يحصل وما اقوم به في حياتي ..لذلك استحق كل ما ينتج عن ذلك ..سلبا او ايجابا .. شكرا او سبا ..حبا او كرها … استحق ما جنته يداي …

ـ يتبع ـ…

أكمل القراءة
انقر للتعليق

اترك تعليقا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

جور نار

هل ستقع المواجهة بين إيران والكيان الصهيوني؟

نشرت

في

الرابطة الدولية للخبراء والمحللين السياسيين - هل تملك اسرائيل ان توجه  ضربتها الى إيران؟

لم تكن التهديدات من هذا الطرف او ذاك توحي بخطر شن حرب بين إيران و اسرائيل، ذلك ان طهران كانت عمليا تتفادى مواجهة مباشرة مع اسرائيل المدعومة من الولايات المتحدة وتعي بان الكيان اللقيط لا يعدو أن يكون إحدى ثكنات القوة الأعظم.

محمد الزمزاري Mohamed Zemzari
محمد الزمزاري

و لم يتهور الايرانيون المعروف عنهم العمل بصمت و عقلانية و تقبل بعض الخسائر المفترضة و المنتظرة مقابل تنويع مواطىء اقدامهم و تركيز مواقع قد تخدمهم لاحقا دون أي تسرع عاطفي ممثل في رد فعل غير محسوب الهدف او النتائج … لقد دفعت إيران قرابين كثيرة منذ التسعينات ضحايا لاغتيالات الموساد و المخابرات الأمريكية المتعاونة من تفجير مراكز نووية إلى اغتيال علماء او قيادات عسكرية هامة و الظاهر ان الإيرانيين يرسمون أهدافهم الاستراتيجية على المدى الطويل والتي يعتبرونها اهم بكثير من صراعهم مع الكيان الصهيوني… وقد نجحت لحد الان السياسة الإيرانية في تركيز اذرع في عدد من البلدان العربية ذات مكانة استراتيجية هامة مثل سوريا و العراق ولبنان و اليمن، وهي ساعية اليوم لغرس امتداد لها بالأردن، كما عمدت خلال هذه الأسابيع إلى دعم حكومة السودان ومدها بالطائرات المسيرة التي قلبت موازين المعارك ضد قوى الدعم السريع.

لكن الحدث الذي جد اخيرا و الذي تمثل في ضرب الصهاينة للقنصلية الإيرانية بسوريا والقضاء على واحد من اكبر القيادات الحربية و التنسيقية قد يؤجج ما كان كامنا بين الكيان وطهران. فإسرائيل ترغب منذ سنوات في توريط حلفائها الأمريكان في حرب ضد إيران وقد تراءت لنتنياهو فرصة سانحة للدفع نحو هذه الحرب المرغوب فيها اولا و لتمديد بقائه في الحكم و إتمام خططه النازية من تهجير و مجازر و تدمير لغزة و لاحقا للضفة الغربية، وهنا لم يبق لإيران بد من رد فعل قوي لحفظ ماء الوجه و تأديب الكيان الذي تجاوز الخطوط الحمراء و ضرب القنصلية الإيرانية التي تمثل سيادتها و صورة قوتها أمام الجميع وخاصة لدى اذرعها وأنصارها في المنطقة.

ومنذ ساعات أعلنت المخابرات الروسية عن تحديد ضربات او حرب خاطفة ممكنة الوقوع قريبا جدا و دعت مواطنيها لملازمة الحذر بالشرق الأوسط وخاصة بالكيان الصهيوني و منذ اكثر من ساعة دعت الولايات المتحدة مواطنيها في الأرض المحتلة وتل أبيب خاصة الى نفس الحذر. اذن فالوضع قابل جدا لوقوع حدث هام مدمر ليس باسرائيل فقط لكن أيضا بايران اعتمادا على ان الكيان الصهيوني يرغب فعليا في خلق مواجهة مع ظهران ستقودها الولايات المتحدة دون شك.

هل ستصدر الضربة الإيرانية انطلاقا من قاعدة احد اذرعها؟ هل سيكون الهدف محطة ديمونة النووية او ايلات او تل ابيب؟ اظن ان ضرب تل أبيب مستبعد مما يبعث على الظن بان الهدف المحتمل هو: إما إحدى السفارات الاسرائيلية في بلد خليجي او قصف إحدى المدن او المطارات الكبرى بالكيان الصهيوني. فيما يبدو أن الولايات المتحدة لا ترغب حاليا في خلق بؤرة حرب جديدة مكلفة قبل انتخابات نوفمبر القادم و لن تصل اية ضربة مهما كانت صدمتها إلى دفع بايدن إلى رد فعل ضد إيران …

أكمل القراءة

جور نار

ورقات يتيم … الورقة 25

نشرت

في

‫جمال عبدالناصر‬‎

عبد الكريم قطاطة:

الساقية مسقط رأسي في تلك الحقبة ومن خلال حانوت الحلاّق شكّلت في حياتي نواة لشلّة من الاصدقاء متنوّعة سنّيا، مهنيّا، تعليميّا … وفكريّا … وهذه ميزة كبرى في تجربتي مع الحياة ..

عبد الكريم قطاطة
عبد الكريم قطاطة

فاختلاط الفرد بهذه الشرائح على اختلافها هو الكفيل اولا برؤية انسانية بعيدة عن التمييز والتّنخْوب (محاولة اشتقاق من نخبة) ..وثانيا نتعلّم فيها ومنها اشياء لن نجدها في تعليمنا مهما تعلّمنا .. استحالة ….في تلك الشلّة كان هنالك التلميذ والمرمّاجي والحذّاء والبطّال والمهني ..وكانت لقاءاتنا يوميّة وفي كل المناسبات ..يوم الاحد مثلا كان للعب البولاط ومباراة او اثنتين في كرة القدم . في رمضان ننهي مشوار الافطار مع عائلاتنا في دقائق معدودة ونهرع الى حانوت الحلاق لسهرات حتى قرب موعد السحور… طبعا دون نسيان قلق عيّادة من خروجي المبكّر ودخولي المتاخر … وهل تصير تاكزة من غير فحمة ؟؟ ..

في فصل الصّيف نبحث كل ليلة عن حفلات الاعراس لـ “نهُدّ” على اصحابها ونقتحمها طوعا او كرها … وبعدها كنّا كثيرا ما نواصل السهرة حتى شروق الشمس على ضفاف شاطئ بحر سيدي منصور … في محطة قهوة حمزة حيث تلك البرّاكة الجميلة وسط البحر … نتوسّد “الضريع” أي حشائش البحر ..الارض بساطنا والسماء لحافنا وموسيقى خرير المياه تعزف ابهى التقاسيم ….امّا في عيدي الفطر والاضحى فتلك اطباق اخرى …. كنا نستعد لسهرة العيد استعدادا مادّيا فليلتها تعني ليلة القبض على السينما … قاعات السينما في مثل تلك المناسبات وفي اغلبها تبرمج 4 افلام لزوارها بمعدّل فيلمين في بداية السهرة وفيلمين في نهايتها . ازمنة .// deux grands films//..وكانت كل قاعة مختصّة بنوعية معينة من الافلام فقاعة الماجستيك كان اختصاصها الافلام الهندية… وقاعات الهلال والكوكب وبغداد والكوليزيه كانت تختص بالافلام المصرية فيما تبقى الافلام الغربية بانواعها الكاوبوي والبوليسية من مشمولات قاعات النور.. والراكس ..والاطلس ..

شلّتنا ونظرا إلى المستوايات التعليمية المتفاوتة كانت تنتمي الى القاعات الشرقية فاما افلام الثنائي فريد شوقي ومحمود الملّيجي او الافلام الغنائية وخاصة عبدالحليم وشادية او الافلام التاريخية من نوع صلاح الدين الايوبي ورابعة العدوية _وهذا الفلم ابكاني في ذلك الزمن لاوّل مرة في علاقتي بالافلام …وبالذات في فقرته الاخيرة عندما يحضر فريد شوقي في موت رابعة ويقول لها باعين دامعة (سامحيني يا رابعة) وتبدا رابعة او روحها كما صوّرها المخرج بغناء واحدة من اروع الاغاني الدينية لحدّ يوم الناس هذا (الرضاء والنور ) … ومن الافلام ايضا التي شدّتنا في تلك الحقبة وبدرجة مذهلة فلم عنتر وعبلة ..واصبحنا نردّد في كل فوز في البولاط او كرة القدم (عنتر حيّ)…

الحديث عن سينما ليلة العيد تسبقه اشياء … ليلة العيد بصفاقس تعني ثلاثة عناصر لتأثيثها .. السينما كما ذكرت ..كسكروت السهرة على بساطته واحيانا ببطاطا _مخنونة _.وخاصّة .. العنصر الاهم ..نهج الباي ..نهج الباي المنجي سليم حاليا هو اشهر نهج في المدينة العتيقة بصفاقس اولا لانه يربط بين المدينة العتيقة والمدينة العصرية اي من باب الجبلي الى باب الديوان، وثانيا لانه نهج يتكدّس فيه كل ما يحتاجه المواطن ليلة العيد من شراءات …احذية عطور وخاصّة ملابس … ومن العادات التي كانت تسود سكان اهالي صفاقس انهم يستعدّون فقط ليلة العيد لشراء ملابس والعاب الاطفال ..ليلة العيد دون غيرها ..ذلك يعني ان الازدحام ليلتها على اشدّه . … وتلك هي بغية جميع الشُلل ..كان بامكان اي واحد من ايّة شلّة تفادي الزحام عبر المرور بانهج اخرى . للوصول الى باب البحر (المدينة العصرية) _…لكن الم اقل لكم ان الزحام هدفنا ..عفوكم لم نكن يوما من شلّة اللصوص التي تغتنم ولحدّ الان مثل هذه الفرص … باش ادّوّر صوابعها … معاذ الله ..بل كنّا لصوصا من نوع آخر ..

كنا نطمع في تلك الزحمة بالالتصاق بعيدا عن العفوية باي جسد انثوي تضعه الاقدار امامنا … وكل واحد واش تهزّ مغرفتو في تلك الليلة …وكثيرا ما كنّا نُرجم بنظرات مرعبة من امرأة تنتبه الى افعالنا “الخايبة” وهي تحس بشيء ما يوقظ جسدها .من الخلف ….فكنّا نلتفت الى من وراءنا ونصيح فيهم (يزّيو من الدزّان) ثم نعود الى تلك المرأة المرعبة بنظراتها النارية لنقول لها في شبه حياء وكثير من الخبث (خاطيني راهم يدزّو فيّا) ..ولأن تلك المرأة قادرة على فك شفرة مقصدنا فانها تواصل زمجرتها وتصيح: “لا حتى انت حليّس مليّس ..يلعن بو هالفيّة” … وسعيد منّا من يجد امامه واحدة اما انها (عزوزة ما يهمّها قرص) او هي ايضا من عشّاق الزحام لانّها فرصتها الوحيدة (مرّتان في السنة) كي تعيش الزحام .ولذّات الزحام .. وينتهي مشوار نهج الباي وتنتهي فرصة الالتصاق القسري بين بعض “كلاب السوق” امثالنا وبين نساء مزمجرات مرعدات وبين اخريات راغبات متمتعات ..في اتنظار عيد آخر ..والتصاق آخر …

العلاقة مع الشلة لم تكن لتفصلني عن مكونات الساقية من اناس آخرين وسلوكياتهم خاصّة ..كانت العين الرقيبة فيّ حاضرة وبامتياز ..كنت استغرب جدا من احد بائعي المواد الغذائية بانواعها وهو وسخ الهندام ولحيته لا تعرف الحلاق الا مناسباتيا من صنف زوروني كل سنة مرّة .. مبالغة برشة ؟؟؟ طيب خليوها مرّتين ..وما انجمش نطيّح راني مسبّق راس مالي ..وما تلحّوش عليّا برشة …. لذلك كنّا عندما نذكر اسمه نردد فقط: “هاكة اللي يكيّل في الحليب حافي” … احد روّاد الساقية كان يشتغل بمخبزة اختصاصها رحي القمح والشعير وطهي حلويات رمضان في فرنه ..كان في كلمة “تكارّي” وهذه مشتقّة من تكروري ..كانت سيجارته الارتي لا تفارق مبسمه وكان نحيفا وكان ايضا رمادي الملامح من شدّة علاقته غير الودّية بالنظافة . هو.تماما كرماد فرنه ..مما يحكى عنه انه دخل ذات يوم على حين غفلة الى منزله فوجد احدهم باركا على زوجته … خرج مهرولا لاخيه الاكبر والقدوة والقاضي في العائلة اي في القبيلة وهو يشتكي له ما راى فما كان من اخيه الا ان اجابه: اش ماشي نقلّك النساء يعملو . زعمة حتى هو طايح من السلّوم ؟؟؟. ويضيف ..صبّر روحك وخي يخّي ربّي ما قالش كيدهنّ عظيم … فيجييه هذا رايك ؟؟ طأطأ اخوه راسه وقال استرها واستر روحك اما خير والا تعمل فضيحة في ام صغارك ..وبصوت مهموم اجاب صاحب الكوشة ..رايك والبركة ..اللي تقول انت اكهو ..وما ان خرج هذا المركوب على زوجته حتى نظر اليه اخوه واتبعه بتمتمة: “حتى انت اش من دغفة فقت بيها كان تو” …زعمة ثمة منها حكاية حرام المحارم ؟؟..

نفس صاحب الكوشة هذا شاهدته يوما في رمضان وهو يستقبل حرفاءه بصينيات الدرع والڨاطو والمقروض الاسمر لتاخذ مكانها في الفرن حتى تحلّي البيوت في عيد الفطر ..شاهدته وهو يستقبل فتاة بالكاد في ربيعها السادس عشر ولكنّها جسديّا “هسكة” وهي ترمق عينيه اللتين جحظتا في ما تحت وما فوق الميني جيب الذي ترتديه … وبخبث انثوي صبّحت عليه وقالت: “امّي مسلّمة عليك وقالتلك ارميهولي تو” …ما اخيب نيّنكم … راهي تقصد المقروض… الا ان صاحبنا كانت نيّته تماما كنيّتكم ..لم يشأ ان يرد عليها في صبيحة رمضانية و حشيشة الدخان ضاربتلو الطّاسة متاع مخّو … فادار وجهه مستعيذا من الشيطان (الذي بداخله) لان الشياطين في رمضان توصد الابواب في وجهها وتدخل في عطلتها السنوية … الا ان هسكتنا الجميلة جدا والمثيرة جدا والخبيثة جدا تصرّ على اعادة كليبها الصباحي بعد ان عرفت انه فعل فعلته في “رواشك” صاحب الكوشة …وكاد يسيل لعابه من فمه ومن هنالك .. ورددت الاسطوانة (قالتلك امّي ارميهولي تو) نظر اليها صاحبنا وانفجر بتمتمة: “يا بنتي امش على روحك خير ما الواحد يفطر عليك في سيدي رمضان الفضيل” …وحاولوا فقط معي ان تجدوا تفسيرا للعلاقة بين “نفطر عليك” و “سيدي رمضان الفضيل” …

من شقاواتنا كشلّة في تلك الحقبة وفي الساقية، اننا وبعد كل سهرة كنا نقف امام متجر صغير لنكمل السهرة هنالك ..ونختمها بالتبوّل في فتحة مدخل المفتاح (المجليق) ونذهب اليه في الغد ليشكو لنا همومه من كلاب السوق الذين كثيرا ما يعطرون متجره بعطورهم .. رحمه الله وغفر الله لنا تعطيرنا لحانوته ..واحد اخر كان ثريّا جدا (ما يعرفش طرف مالو وين) ولكنّه وكسائر الاثرياء كان واحدا من بخلاء الجاحظ.. وكنّا في فصل اللوز نستمتع جدا بالذهاب الى جنانه الكبير والبعيد عنه وعنّا 3 كلم لنسرق لوزه الفريك ودليلنا في السرقة ابن اخيه… ثم وفي ساعة متاخرة من الليل نذهب الى فيلّته الفاخرة بالساقية ونتربع على فيراندته لنفترس بشهيّة ما سرقناه ونترك له القشور مشتتة على الفيراندا … وقد يداهمنا احيانا اذان صلاة الفجر فنسرع في مغادرتنا المكان باعتباره من المواظبين على صلاتهم بالمسجد …وما ان يصل المؤذّن الى مقولة (الصلاة خير من النوم) حتى يردّ الواحد منّا (حتى النّوم فصيّل ما عندك ما تقول فيه) … وفي الغد ينتشر خبر سرقة جنان ذلك الثّري وخاصّة حرقته وهو يقول لكبار الساقية (لا ومازاهمش سرقوني جاو للفرندا متاعي وكملوا سهريتهم وخلّلاولي القشور.. الله لا تربّحهم اولاد الحرام …وكان كل ذلك يحفّزنا للروبولات او وكما يقول عبالعال (كماااااااااااااااااان) …

في الساقية ايضا عرفت انماطا اخرى من اناس طيبين للغاية… فعلاوة على سي المبروك حمّاصنا الطّيب رحمه الله هنالك الحاج البقلوطي، حائك السراويل التقليدية والبلوزات الرجالية ..هو.دائم الابتسامة وديع الملامح ولم نستطع يوما تحديد عمره… كان كلما سالناه عن عمره يبتسم ويقول 38 سنة ..ولم ندر لحد الان كم يبلغ من العمر ..كان هنالك صاحب كرّيطة، اي “كرارطي” بالمعنى الحقيقي للكلمة لا المجازي (والتي تعني زير نساء)… كان اسمه “الشنّة” ولقبه بربّة … وهما اسما ولقبا غريبان جدا ..لكن ميزته انه كان دائم الغناء وبصوت عال وطربي، لم اره يوما مهموما …ربما هو من القلائل الذين فهموا انه وعلى حد قول اندريه مالرو (الحياة لا تساوي شيئا ولكن لا شيء يساوي الحياة) …او وعلى حد تعبير شابّينا ابي القاسم (خذ الحياة كما جاءتك مبتسما … في كفّها الغار او في كفّها العدم) …

شخصيّة اخرى اشتهرت في الساقية ببّفائيتها ..هو “دلاّل” خاصّة في قطاع الغنم …تقدّم به العمر واصبح بالكاد ينافس السلحفاة في سرعتها …كان كلّما قام بالدلال على نعجة مثلا بدءا بـ”يا باب الله” وتدريجيا يرتفع الثمن من مشتر الى آخر … يحدث ان تمر بجانبه امرأة بسفساريها وتضع يدها على ظهر النعجة فتجده يابسا لا لحرمانها من كبشها بل لسنّها المتقدّم وربّما للاثنين معا فتشير الى صاحبنا الدلاّل بقولها: “تي هذي حطبة” …ويلتقطها من فمها وتصبح دلالته من نوع (راهي حطبة)… وقد ياتي اخر وينعتها بـ “هذي وافية ماشية تموت” … فيردد: “راهي وافية ماشية تموت” _…لماذا يفعل ذلك دون غضب لا من صاحب النعجة الذي امّنه على بيعها، ولا من شرذمة العابثين امثالنا ونحن نتصيّد الفرصة لابداء تعاليق تعدد عيوب بضاعته حتى يرددها بحذافيرها ..؟؟؟

هذه النماذج من متساكني ساقيتي رسّخت في شخصيّتي وفي فكري وفي اعمالي بعد سنوات متقدمة اشياء هامّة جدا… لعلّ ابرزها ان كل فرد ومهما كان سلوكه مهما كانت طبقته الاجتماعية مهما كان مستواه التعليمي هو مهم جدّا وعلينا ان لا نلغيه في كل ما نعمل …

في اواخر السنة الرابعة آدابا حدثان هامان اثّرا جدا على كُريّم ..نعم جدّا … اوّلهما نكسة جوان 67 …انا خرّيج معهد الحي الذي اغلب اساتذته قوميون ..نصحو يوما على الخبر الفاجعة ..هزيمة العرب وبالتحديد عبد الناصر في حرب جوان مع اسرائيل …كانت صدمة لا توصف… كانت مشاعرنا ممتزجة بألم انتصار اسرئيل على العرب ولكن خاصّة بخسارة عبدالنّاصر الريّس الذي كان بالنسبة لنا الزعيم الاسطوري ..خاصّة والاعلام الحربي المصري انذاك يبشّر برمي اسرئيل في البحر …. عبدالناصر ذلك القومي العروبي الى اخمص قدميه لم يتفطن إلى أن رئيس أركانه كان اثناء الهجوم الاسرائيلي في ملاهيه مع برلنتي مزطولا ..؟؟ ولم يتفطن إلى خيانة روسيا له وهي تجهزه بعتاد حربي فاسد .؟؟؟.. ياااااااااااااه كم هو مؤلم وكم كانت الصدمة قوية …

لم نستطع وقتها تحديد موقفنا ..هل ننتفض غضبا على من احببنا ام نشفق عليه ؟؟؟.. وهل باستطاعتنا ان نغضب و نلعن من نحب مهما فعل ..مهما فعل …مهما فعل ؟؟؟ … او هل نثمّن ما قاله بورقيبة في خطاب اريحا …ام نبقى دوما اعداء لبورقيبة حتى ولو كان على حق ؟؟ وبدأت المظاهرات في تونس ..الدستوريون ينددون بالريّس الطاووسي وغير الواقعي سياسيا مفتخرين بالآراء الحصيفة لبورقيبة ..والقوميون منددين باسرائيل وامريكا … دون المس من زعامة عبدالناصر ..اذكر يومها اني كنت من ضمن التلاميذ الذين خرجوا من معهد الحي (ضمن القوميين)واتجهنا الى الليسيه (معهد الهادي شاكر) لنخرج تلاميذه معنا الذين لا حس سياسي لهم انذاك مقارنة بنا نحن ابطال الحي الزيتوني … ولنتوجّه الى المدينة العصرية نجوب شوارعها ونهتف بسقوط اسرائيل وامريكا … وكان جلّ الرجال الكبار ينظرون الينا في صياحنا وهو يسخرون قائلين متهكمين: اش ثمّة ؟؟ اشبيهم هالفروخ يعيّطوا …؟؟؟ … اي انهم كانوا خارج سياق ما يقع في العالم ..وهذه طبيعة اغلب متساكني تونس عموما في تلك الازمنة …اهتمامهم بالسياسة “نيانتي” …مفقود تماما … واحيانا المفقود افضل من الموجود واعني به ذلك الموجود ، المزعج ..الغبي …الانفلاتي .. والمدمّر …

وعندما يخبرهم البعض عن اسباب تظاهرنا ..يواصلون: “وهذوما اش يفهمو فيها تي خ…….هم مازال في ص….. هم” … (صدقا كتبتها كاملة دون نقصان الاحرف ولكن وكقارئ وجدتها “ناتنة ذوقيّا” فاصلحت وحذفت بعض الاحرف ..المهم وصلت الفكرة) … لذلك انا واحد من الذين يتفهمون جيدا خروج تلاميذ المعاهد للتظاهر …في كل الازمنة … انه تدرّب لتكوين الذات ..لنحتها .. للقادم ..شريطة ان تخلو تلك المظاهرات من اي شكل من اشكال العنف، وذلك بتأطير من قادتها … وربّما ما خفّف علينا صدمة نكسة العرب خروج ملايين المصريّين للشارع عندما اعترف عبد الناصر بمسؤوليته الكاملة وبتخلّيه عن الحكم ..يومها خرجت مصر لتقول له انت الريّس وستبقى الريّس … وعاد الريّس ليهيّئ كما ينبغي لحرب العبور …والتي اخذ وسامها السادات …وبقطع النظر عن كل التحوّلات الجذرية التي حدثت لي في ما بعد ايديولوجيّا فاني اعتبر كلاّ من عبد الناصر وبورقيبة وبكل سلبياتهما واخطائهما من افضل الزعماء العرب ماضيا وحاضرا …

الحدث الثاني في اواخر سنتي الرابعة آدابا كان ….هو في الحقيقة لم يكن كان فقط بل هو كمّ هائل من الافعال الناقصة كان صار.. ليس … بات … وكما تعلمون من ميزات هذه الافعال انها ترفع المبتدأ وتنصب الخبر ..فما بالكم اذا كانت تجرّ المبتدا ويصبح الخبر في خبر اصبح … يتبع ؟؟ يتبع ونصف وثلاثة ارباع وخرّوبة …

ـ يتبع ـ

أكمل القراءة

جور نار

ورقات يتيم … الورقة 24

نشرت

في

رسم خط متواصل إبريق الشاي مطبخ الأجهزة, رسم الجناح, رسم الشاي, رسم المطبخ  PNG والمتجهات للتحميل مجانا | Continuous line drawing, Line drawing, Line  art drawings

المثل الشعبي عندنا يقول (اذا ولدك ناقص كلام دخّلو لحانوت حجّام) … نعم .. ساقية الداير انذاك كان بها مقهى واحد فقط ….وموقعه الجغرافي لم يكن وسط الساقية بل في احد اطرافها وهو ما جعل انتقالنا له يكاد يكون مفقودا . وحتى صاحبه لم يكن كيّسا ولا بشوشا ..ثم من اين لنا بثمن القهوة ..منين يا حسرة ..؟؟

عبد الكريم قطاطة
عبد الكريم قطاطة

لذلك كان حانوت الحلاق هو مقهانا ففيه يقوم “الزمبار” بطهي الشاي الاحمر الذي يترك بصماته الصفراء الداكنة في الكاس وطبعا في بطون شاربيه …لم اكن من حرفاء الشاي يوما ..الى ان حدث ان تذوقته يوما بعد افطار رمضان مصحوبا باوكسجين سيجارتي ..ويا والله عملة .. شدّ ما سيّب عمّك التاي .. اصبح يلازمني كل رمضان دون غيره من الايام ..ولانني لم اكن يوما اكولا ولن اكون فإن زوجتي تعرف عني اني ارغب يوميا طيلة شهر رمضان في ثلاثة اشياء فقط ..شربة بالحوت وبريكة بالحوت وكاس شاي يُطبخ على نار هادئة منذ الثانية بعد الظهر، حتى يصبح “تاي مرمّاجية” اي عمّال البناء … وينتهي الشاي الاحمر مع اخر يوم من رمضان ولن يعود الا في رمضان المقبل ….لذلك هي لا تجد منّي اي اشكال في كل ايام رمضان باعتبار اني لست من الذين يشتهون كثير الاشياء على المائدة واترك لها ولابنائي حرية اختيار موائد رمضان …

في حانوت احمد الفقي حلاقنا تُوكل مهمة الشاي الى الزمبار …الزمبار هو تونسي من اصل ليبي منقطع عن الدراسة ولاعب متميّز في كرة القدم (لعب في الاصناف الشابة للسي اس اس وانقطع عن اللعب)… وعن وجوده بصفاقس ورغم مستواه التعليمي المتواضع بعد قيام ثورة الفاتح عندما هاجر مع عائلته الى طرابلس فانه اصبح اطارا عاليا هناك …وانقطعت اخباره تماما عنّا حتّى فاجأني سنة 2004 بزيارة ليلية الى منزلي دون سابق اعلام …نظرت اليه مليّا وعرفت انه محمد الطرابلسي شُهر “الزمبار” … كان لقاء الدّموع والسعادة والذكريات… لم يبق طويلا معي في تلك الزيارة الخاطفة ووعدني بأختها ومازلت انتظر …وكلّ ما ارجوه في هذه الظروف العصيبة في ليبيا الشقيقة هو وكلّ اصدقائي ومستمعيّ هنالك ان يكونوا بخير يااااااااااااااا رب …

تلك الزيارة ذكرتني يزميل معي في الدراسة بمعهد الحي…عمران الطرابلسي… درسنا معا السنوات الثلاث الاولى من التعليم الثانوي ثم ومع ثورة الفاتح ايضا هاجر الى الجماهيرية العظمى …وكسائر المهاجرين الذين ترعرعوا في تونس ونهلوا من تعليمها قليله، اصبح عمران مدير بنك هنالك ..وذات يوم في نهاية التسعينات وانا باحد طرق صفاقس لمحت رجلا يمتطي سيارة ويقف وحده احتراما للضوء الاحمر ..انه هو عمران ذلك الزميل الطيب قليل الكلام كثير الابتسام الهادئ الوديع ..اسرعت الى حيث تقف سيّارته وتعمدت ان اقف امامها وانا ادير ظهري له حتى لا يعرف عن هذا الذي وقف امام سيارته شيئا..اشتعل الضوء الاخضر واصبح سي عمران ينبّه بمنبّه سيارته هذا العمود البشري الذي انتصب امام السيّارة كي يفسح له المجال للمضيّ في سبيل حاله …وكنت كلّما صدح صوت منبّه السيّارة اشير له باصبعي بـ”لا” …

تصوّروا فقط لو حدث مثل هذا الامر بعد نكبة 14 جانفي …كنت اكون مداسا ..في افضل الحالات …وايش كلام من تحت الحزام ..وايش وايش وايش …عمران يومها نزل من سيّارته بكل هدوء ورزانة وحكمة وسألني بكل احترام وادب: “خويا لاباس ؟؟” … لم انظر اليه حتى اتفادى ان يتعرّف عليّ واجبت: “مانيش لاباس” ..وكما عرفته ايّام الدراسة اقترب منّي وبصوت متعقّل قال: “اشبيه خويا حاجتك بحاجة ؟؟؟” وعلى عكسه تماما تصنّعت الغضب وصحت: “جيت نطّلب عليك …؟؟؟ من فضلك احترم روحك” …وانتفض بهدوئه دائما معتذرا: “لا وراس خويا ما قصدتش ..اما حبّيت نعرف علاش ما خلّيتنيش نتعدّى اكهو …ما تاخذش في خاطرك منّي” ..هو صدقا ليس كأولئك الاشقاء الليبين الذين يتفادون الدّخول في اشتباكات مع بعض اشقّائهم التونسيين الذين يرون في الليبين دغفا واحمرة ولا شيء في ادمغتهم ويسهل استبلاههم حتى يبتزوا اموالهم ..لذلك يتفادونهم بكثير من (ابعد عن الشر وغنّيلو)… وفي الجهة المقابلة نفس هؤلاء الاشقاء ينتظرون عودتهم الى بلدهم حتى ينتقموا كردّ فعل من اخوتهم التونسيّن ويعتبروهم عبيدا عندهم …ما ابشع هذه الصّور بين البعض من بلدينا الشقيقين وكم هي محزنة ومخجلة ..

اعود الى عمران .. كان هادئا لانه هو كذلك … منذ طفولتنا كذلك … لم يكن خوفا منه تجاهي او احترازا ..كان عمران بحق ..نظرت اليه وقلت ..يا سيدي انا واخذ في خاطري منّك وبرشة زادة موش شويّة وعيب عليك اللي تعمل فيه ومعايا انا بالذات … اندهش عمران وعرفت انّي غائب تماما على شاشة ذاكرته ..قال لي: “خويا العزيز والله ماني فاهم شيء ..ياخويا قللي اش عملتلك …؟؟؟” نظرت اليه وانطلقت بحماسة حميمة اسرد خطابي: “شوف يا سي عمران موش معناها انك ولّيت مدير بنك تحقر الناس” …ولم اتركه يعلّق واضفت .: “موش عيب عليك يا ولد الحيّ الزيتوني تنسى الماء والملح وتنسى صحابك وتولّي تفخفخ علينا بكرهبتك …ناخذ في خاطري منّك والا ما ناخوش ..؟؟” نظر اليّ عمران باعين واسعة وكلّها بريق فرح وسعادة وصاح: “عبدالكريم ؟؟ ما تبدلتش ….كيف ما خلّيتك … مرحبا مرحبا مرحبا …يااااااااااااااااااااااااااااااه بركان من الطبطبة ..بركان من الدّموع ..بركان من سعادة لا توصف وشريط طويل وبالالوان لذكرياتنا ..ما اروعك يا عمران وما اروع القدر الذي يمنحنا احيانا قليلة في عمرنا ذلك الكمّ الرهيب من التحليق …دون حاجة الى اجنحة ..دون حاجة الى عبّاس بن فرناس ليعلّمنا فنون الطيران …انه تحليق يسخر من كل تحليق …

الزمبار في حانوت الحلاق ونظرا إلى بعد المقهى عنه، كانت مهمته اليومية بعد تمارينه في السي اس اس كما ذكرت طهي الشاي ..كان من عائلة معوزة جدا وكان الجميع يضمنون له سجائره اليومية وكان يلقّب كل واحد منّا بما اشتُهر به… فانا كان يلقّبني بـ “عبدالكريم سهريّات” ..لانّي كنت كثير السهر قليل النّوم منذ فترة مراهقتي حتى زمن متقدّم جدا من عمري لا انام اكثر من 5 ساعات يوميا ..وكنت كثيرا ما تواجهني كبيرات الحوش امي وخالتي وامراة عمي في قيلولة الصّيف بـ “اللطف لا تناموا ولا تخليو شكون ينام … رتحوا عظام ربّي اش العزاء” …

في حانوت الحلاق احمد الذي بلقّبه الزمبار “بو احمص” كان الحرفاء الشبان عادة من مختلف الاعمار وكنّا نحن الشباب الفتيّ نختلط بهم لنتعلّم منهم كثيرا وخاصّة قلّة الحياء و”الغشّة” لنتفوّق فيما بعد عليهم .._ وخللي ولدك بحذا البهيم اللي ما يعلّموا النهيق يعلّموا الشهيق … ونحن ابدعنا في تعلّم النهيق والشهيق واضفنا الصهيل ..نعم كان في داخلنا صهيل حرارة المراهقة فكريّا وجسديّا ..وكنّا ننتظر بكثير من التنسنيس و الشوق والحاجة للمعرفة لاحد اولائك الشبان المتمرّسين في اشياء كم نرغب في الاستماع الى تفاصيلها ..هذا الشاب الذي يعمل قابضا بشركة النقل كان من ذوي المنتفعين بـ”ابونمون” اشتراك شهري بنهج الجم (المقر الرسمي لجامعة البغاء السرّي بصفاقس) ..فهو سفير دائم فوق العادة لتلك الديار …وكانت حكاياته لا تنتهي مع اخر اخبار المنتدبات الجديدات و”السيفي” الكامل لمؤهلاتهن جسدا ومعاملة للحرفاء ..وكنّا مبهورين بتفاصيل رواياته وفي داخلنا توق لا يوصف لنكون يوما من الحرفاء ..وكانت صور الافلام التي نشاهدها انذاك حاضرة في مخيالنا ..وبداخلنا الف سؤال وسؤال حول كيف سيكون لقاؤنا التاريخي الاول مع احداهن …

كنا نرى فيهن نادية لطفي وشادية ونجوى فؤاد وسامية جمال وبرلنتي عبدالحميد ونرى فينا (وما اقرب طز لشرّق) رشدي اباظة وعبدالحليم واحمد مظهر …كانت عمليّة تماه بين ما نراه في الافلام وما نحلم به …وكان الواحد منّا يكتم رغبته ومخططه لليوم الموعود …واكتشفنا في ما بعد ان العمليّة لا تعدو ان تكون دقائق معدودة في عمليّة ميكانيكية بحتة بعيدا عن المشاعر والاحاسيس والحب والغرام ..كان الثمن انذاك دينارا من اجل بضع دقائق ..اصبحنا بعدها نتندّر بما يحدث …ونقول عن بائعات اجسادهن وهي تنهرك وانت تمارس بقولها: “بعّد راسك شويّة خلّيني نشوف التلفزة “…. وتعود اليك صورة بطلات السينما وهن يخاطبن حبيبهن بكثير من الوجد والدّلع ..ممدوح على حدّ تعبير لبلبة ..ممدوح بكثير من الغنج ..يحرق قلبك يا حبيبي يا ممدوح …ولن تجد من ذلك اي شيء فبقدر ما تغريك الواحدة منهن بـ “ربع هدوم” وهي تنظر اليك بابتسامة اغراء حتى تطيح بك في شباكها، بقدر ما تتحوّل الى شبه بكماء صمّاء وهي (كدت اقول تقاسمك الفراش) ولكن وهي لا تقاسمك اي شيء …

بعد مرور سنوات عديدة اكتشفت ان تلك التجربة والتي عاشها جلّ شباب جيلنا في تلك الحقبة كانت وامام تكويننا اجتماعيا وفكريا ودينيا (اعني غياب الواعز الديني تماما) …كانت حتمية من جهة وفي نفس الوقت كانت سبب مأساة العديد منّا ..لانّ الرجل الذي تعوّد على ممارسة جنسية من ذلك النوع ولم يطوّر نفسه سيصبح بل واصبح من قوم بافلوف ..تعوّد على ممارسة ميكانيكية فاصبحت هي السائدة في حياته الزوجية فيما بعد، ونسي حاجة قرينته الى المتعة وهي حاجة انسانية ومنطقية وشرعية ..وكم من مآسي انجرّت عن ذلك …نحن في جلّنا لم نفهم ولم نحاول ان نفهم ان حقوق الطرف الاخر في العلاقة وتقصير اي طرف تجاه الاخر يعني حتما فشل العلاقة ..نحن لم نقرأ بتمعن سيرة الرسول الاكرم مع زوجاته ..نحن لم نفهم ما قاله كتاب الحق (ومن آياته ان خلق لكم من انفسكم ازواجا لتسكنوا اليها وجعل بينكم مودّة ورحمة ان في ذلك لآيات لقوم يتفكّرون ، سورة الروم آية 21) …

فكيف لعلاقة تنجح وفي اغلبها تتبخّر منها السكينة والرحمة والمودة … جلّنا يركب دابّته كثور ..؟؟؟ اين حقّ كل طرف ؟؟ اين واجب كلّ طرف ؟؟ هل فهمتم ما معنى ان يتعلّق الواحد منّا باغنيات العشق والحب والغرام .؟؟ بافلام العشق والغرام …؟؟؟ بمسلسلات العشق والغرام ؟؟؟ الستم معي في اننا جميعا نسقط عليها اما حرماننا او متعتنا …؟؟؟؟ ثمّ ماهي نسبة المحرومين مقارنة بالسعداء ؟؟؟ لست عالم اجتماع وليست لي وكالة سيغما لسبر الاراء ولكن صدقا ومن خلال ما عرفته وقرأته من بريد مستمعيّ ومن خلال علاقاتي بالعديد من الاصدقاء (من الجنسين) اؤكد لكم ان نسبة التعساء مهولة جدا ..نعم جدا … علما بان هذه التعاسة ليست محصورة فقط على هذا العامل ..ولكن هذا العامل يلعب اهم الادوار ..قد يتكوّر البعض منّا على مأساته ويغمس رأسه في تراب الايام ..قد ينتفض البعض وكل واحد باسلوب انتفاضته …وقد يستمر اخرون في حياة يومية رتيبة لا طعم لها لا لون فيها ولا شهية .. لان زادهم المعرفي مفقود مفقود مفقود ….”الناس حكايات” عبارة ترددها احداهن بكثير من الالم، والواقعية ….

اما انا فاقول ..نحن امة اقرأ وحرام ان لا نقرأ كل ما من شأنه ان يفتح بصيرتنا على كل ما يهم تفاصيل واسباب نكباتنا … عدا ذلك سنواصل رحلة التّوهان …

ـ يتبع ـ

أكمل القراءة

صن نار