تابعنا على

جور نار

ورقات يتيم … الورقة رقم 31

نشرت

في

زغرودة جزائرية YouTube Hhhhhhhhhhhhhh - YouTube

اخذت ورقة تعييني او الاصح اعادتي الى مدرسة سبّالة اولاد عسكر، بكثير من الغبطة ..احسست وقتها بقيمة ما قدمته في سنتي الاولى من حياتي كمعلّم وانا في بداية مسيرتي التعليميّة والتربوية ..وانّ نشاطي ومثابرتي وكلّ ما زرعت من مجهود لم يذهب سدى ..واحسست خاصّة بصدق متفقّدي وهو يعبّر عن اعتزازه بي …

عبد الكريم قطاطة
عبد الكريم قطاطة

امتطيت الحافلة التي ستقلّني من القصرين الى السبّالة وكلّي عزم على مواصلة نهجي في التعليم والتربية شكلا ومضمونا …كنت في الحافلة حالما باطفالي.. بابنائي.. وعادت بي شاشة الذكريات الى سنوات عمري كتلميذ … كنت اتساءل … هل ساعود الى تلاميذ السنة الثانية لاكرّر تجربتي مع ابنائي الجدد ..بنفس الشغف والعزيمة والمثابرة ..؟؟هل سادرّس السنة الرابعة ..؟؟؟ لاعود وايّاهم الى الحلاّق الثرثار الذي ضرب بكُمّ يده راس الحريف وهو يلعن السّياسة والسّياسين والنّاس اجمعين؟ ..هل ساحدّثهم عن ستّ الرياح وعن جسر السعادة .عن الارملة المرضع لمعروف الرّصافي و…لقيتها ليتني ما كنت القاها …تمشي وقد اثقل الاملاق ممشاها؟ …

هل سيمنحني مدير المدرسة احدى السنوات الفردية ..وخاصّة الثالثة والخامسة وهي سنوات عادة ما تُعطى للمعلّمين ذوي التجربة نظرا إلى صعوبتها … اما عن السنة الاولى فحدّث ولا حرج …..وهذه لا اظنه انه سيغامر بي فيها لمحدودية تجربتي ..كنت في كلمات ذلك السابح وبنوستالجيا كبيرة في عالمي وانا تلميذ من جهة …والمدرك لأهمية ما سأقدم عليه هذه السنة من مسؤولية جسيمة خاصة بعد ان اقتلعت ورقة عودتي الى السبّالة …وحطّت طائرة عودتي بمطار السبّالة الدّولي ..هكذا خلت نفسي وانا انزل من الحافلة منتصرا على نقلتي الى عين الحمادنة …

في السبالة لم يتغيّر شيء ..الجزار الميزوني كعادته امام حانوته ..اهلا بيك سي عبدالكريم بيكشي وهذه تعني كيف هي احوالك …وابراهيم حارس المدرسة رحمه الله يسرع لاستقبال سي عبدالكريم بابتسامته التي لا تنتهي …وهاهو سي رضوان مدير المدرسة ينضم لمجموع المستقبلين و في عينيه تساؤل ..اش جابك ؟؟ كيفاش عملت ..؟؟ ناولته ورقة التعيين وصدقا سُعد بقدومي وبكل فرح …ادخلني مكتبه المتواضع ومدّني بجدول التعيينات ..وفّجعت …وُزّعت السنوات على بقيّة الزملاء ولم يبق الا قسمان من السنة الاولى ….يا للطامّة ..انا سادرّس السنة الاولى …نرجسيّتي من جهة والواقع الموضوعي لتقسيم السنوات جعلاني لا انبس ببنت شفة، خاصّة ان المدير يضيف ..نعرفك تنجم روحك سي عبدالكريم …وما تخافش انا معاك وقت تستحقّني … فكيف لي ان ابدي اعتراضا على هذا القدر المحتوم ؟؟؟كان ذلك يوم جمعة مساء …ولا اعرف يومها كيف قضّيت ليلتي .. كنت جد قلق من خوض هذه التجربة الصعبة بيداغوجيا … اطفال بهيأة طين خام وعليّ ان اطوّعه لاعلّمه ابجدية المعرفة ..

يوم السبت صباحا ارتديت كعادتي ميدعتي البيضاء وتوجهت الى القسم …واذا بي عاجز تماما عن تخطّي الخطوة الاولى مع اطفالي …تماما …. تصوّروا انّي قضّيت كامل وقتي في حصّتي الصّباح والمساء وانا اتأمل وجوههم ..كنت حاضرا بالغياب معهم ..غائبا تماما ..كان ذلك اليوم واحدا من الايام التي عشت فيها عجزا كاملا عن فعل ايّ شيء …ايّ شيء ..وشعرت وبكل مرارة انّي اضعت لهم يوما من عمرهم ..شعرت اني اجرمت في حقّهم تعليميّا وتربويّا ..شعرت بأني تخلّيت عن رسالتي السامية …القيام بالواجب… نعم هو يوم واحد ولكن بمقاساتي الانسانية هو قرن من الزمن …وحتى عندما انهيت الحصة المسائية لم اكن قادرا على مواجهة الزملاء ولا ايّ كان ..وجهي كانت تعلوه خيبة صفراء وهزيمة رمادية ..وكنت اردّد في داخلي: هل هذا انت يا عبدالكريم ..؟؟ هل هذا انت الذي يقول عنك الكثيرون انّك شاطر ويقول عنك متفقدك لم ارد ظلمك لذلك سارجئ منح ما تستحقه في سنتك الثانية ؟؟؟ وهل سأنال ما استحقه بهذا السلوك؟؟؟

ابتعدت عنهم جميعا ووقفت متجمدا على حافة الطريق اراقب اصحاب السيارات المارّة متجهين الى صفاقس ..كنت اتمنى ان تاخذني واحدة منها الى صفاقس لاقضّي الويك اند هنالك، علّني استلهم من اصدقائي شيئا من القدرة على تخطّي حاجز الفشل او علّ ضمّة عيادة وهي “توجوج” على ولدها واخبار الفيضانات التي عمّت البلاد تتوارد عليها من الراديو والاكيد انّها كانت تردّد دوما: يالندرى وينك يا كبدي ؟؟؟ واش عاملة فيك المطر ..؟؟ مغطّي والا عريان ..؟؟؟ جيعان والا شبعان … ؟؟؟ يا ربي جيب وليدي على خير …وما من سيارة تمر الا واردد رافعا يدي تجاه صاحبها: صحة لدين سماك ..انت تحوّس وانا يعلم ربّي بحالي كيفاش ماشي يتعدّي هذا العام على خير …

ولأن الاقدار لازمتني طيلة حياتي ..هاهي تجيب وتستجيب في لحظة فارقة … كانت السيارة مرسديس سوداء تمر امامي (كي العجاجة) وكان رد فعلي كما ذكرت غابطا ثم وبتواتر مرور تلك السيارات حاسدا لهؤلاء الذين يمرّون امامي بكل سعادة وانا البائس التعيس …فجأة وعلى بعد خطوات منّي توقّفت المرسديس ثم عادت اليّ ..اطلّ سائقها من النافذة الجانبية وقال لي ..وين ماشي ؟؟ اندهشت من سؤاله واجبت … ما عندي وين ماشي ….انا نقرّي في السبّالة …ابتسم وقال ..تصوّرتك تعمل في اوتو ستوب قلت نهزّك معايا ..صمتّ لحظة وقبل ان يغادر قلت له ..خويا وين ماشي بالضبط ..؟؟ ردّ ….لصفاقس … في تلك اللحظة تحوّلت كلمة صفاقس الى عناقيد فرح وقناديل نور … هي من المرّات العديدة التي اسمع فيها اسم مدينتي بذلك الزخم الموسيقي الرهيب متعة .. احسستني ارقص على وقعها واحسستني اتحوّل في رمشة عين الى زوربا اليوناني وهو يرقص رقصته الشهيرة ..

وبسرعة بليون كلم في الثانية قلت له ..لحظة وساكون معك …اسرعت الى الميزوني الجزار وحانوته على حافة الطريق ..نزعت ميدعتي ورميت بها اليه وقلت له: سلّملي على الناس الكل ..نهار الثنين نرجع ان شاء الله .. وصعدت الى الطائرة الرئاسية (المرسديس) قاصدا صفاقس …كانت المرّة الاولى في حياتي التي ركبت فيها مرسديس …وهل همّتني المرسديس في شيء .؟؟ وهل همّني ما روى لي سائقها .؟؟؟ في تلك اللحظة وفي تلك الاجواء التفسية المضطربة كنت مستعدا للركوب ثانية على بغلة لترحل بي الى صفاقس …كان بداخلي احساس عميق بان تحوّلي الى صفاقس لقضاء ويك اند هنالك كفيل بشحني بطاقة لا توصف، حتى تصبح سنتي التدريسية عنوانا للعطاء الذي لا حدود له رغم صعوبة المهمّة (سنة اولى ابتدائي ؟؟؟؟ موش ساهل) …

يومها عشت ما كنت ازعم اني افهم ما اقول او ما اكتب ..كنت في توصيفاتي للسرعة استعمل عبارة “وطويت الارض طيّا”… يومها طويت الارض طيّا وانا احلم بلقاء الاصدقاء والعائلة حيث لا اخبار متبادلة بيننا ..فلا الهاتف بنوعيه العادي و الجوّال خرج من رحم التكنولوجيا بعد ..ولا سي مارك متاع الفيسبوك اتولد ..ما اخيب امّو اللي وخّرت بجيّانو .. وحتى اخبار القنوات الرسمية اذاعيا وتلفزيا لا تصلنا الا بعد ان تشتغل المصفاة لتُخرج فقط ما يريدون الافصاح عنه …انّه الاعلام الموجّه سابقا وحاضرا ..لا تنخدعوا بشعارات حرية التعبير والصدق والموضوعية التي يتبجّح بها العديد الان ..كذبة كبرى ..كل قناة تعمل ضمن منظومة معيّنة …والمصفاة خدّامة ..وكلّ ـ كدت اقول يغنّي على ليلاه ـ والاصح كلّ ينوح على ليلاه …

وصلت الى صفاقس المدينة وامتطيت سيّارة اجرة .. _ اشبيكم راني معلّم والفلوس كاينة وفي اول الشهر والسؤال الذي رافقنا طيلة حياتنا نحن الموظفين (صبّوشي؟) لا يُطرح …وصلت الى نادي الاصدقاء بالساقية، حانوت الحلاق احمد الفقي، حوالي الساعة السابعة مساء ونزلت …العصابة كلّها هناك ..وتعالت الصيحات ..واضخمها صيحة الزمبار صانع الشاي في حانوت الحلاق ..سهريات …هكذا كان يحلو له ان يلقّبني… ويبدو انو كلمة عليها ملك وكلمة عليها شيطان، لان السهر والسهرات لازمتني طيلة حياتي ..فانا واحد من الذين قضوا معظم حياتهم ساهرا اما بفعل القيام بواجباتي المهنية، او برغبة جامحة منّي وعشقا لليل والسهر… لذلك تجدني بعدها وحتى في اختياراتي الغنائية في عملي مدفوعا بوعي ودون وعي الى اختيار اغان تتغنّي بالليل والسهر (انا حبيبي الليل والليل حبيبي انا …عدّينا عمر طويل نواسي في بعضنا) …

التف الاصدقاء حولي في عناق وتقبيل … وكان كل واحد منهم لا ينسى في خاتمة تحيّته ان يقول لي مبروك …وحتى سي المبروك حمّاص الساقية غمرني بقبلاته وهو يعيد كلمة مبروك مرّات … ويضيف _ والله انا كنت حاسس انّك ماشي تنقزها يا كُريّم ….اندهشت من وصول خبر عودتي للسبالة الى مسامعهم …. وكنت اردّ بدهشة وسعادة: الله يبارك فيك …وطفقنا ندردش معا وبالفاظنا السمجة والوقحة كما تعودنا دائما …وجاء السؤال من احدهم …ايّا انسى ما تتحدث وانحبوا المبروك ..هاذي يلزمها فيشطة كبيرة ويلزمها السلتيا والبوعرقوب …اي سكرة …واذعنت لمشيئتهم …فكيف لي ان ارفض طلبات عصابة الخلاّن ؟؟….خاصّة وانا انذاك ولسنوات عديدة من عمري كنت اعشق اجواء والوان سكرة الاصدقاء، وكنت اكثرهم انتشاء وسكرة رغم انّي لم اشاركهم في كل حياتي فعل شرب الخمر ولو قطرة واحدة منه …ولكن كانوا هم من يشربون وانا من يسكر …

اتذكّر جيّدا اني صعدت يوما سيّارة اجرة وسألني صاحبها الى اين فقلت له اذاعة صفاقس … نظر في وجهي ثم قال لي انه يحب جدا اذاعة صفاقس وان له صديقا حميما يعمل فيها… سالته عن اسم هذا الزميل الصديق الحميم له فقال لي: هو عبدالكريم قطاطة ..قلت له هل تعرفه جيدا ؟؟ اجاب: يا راجل اشنوة نعرفو ..؟؟ كل نهار نسكر انا وياه ..قدّاشو بحبوح ..و صاحب جوّ كبير ..وبعد السكرة نوصّلو خيوط لدارو … وتركته يسرد لي عنه اجمل الحكايات …لم اغضب منه بتاتا لان هنالك من المستمعين من يصورك كما يريده هو لا كما انت كائن وتكون ..فقط عندما وصلت الى مقر عملي سلمته دراهمه وقلت له ..راهو عبدالكريم نعرفو عمرو ما شرب في حياتو ..اغتاظ للامر وسخر منّي وقاللي: بالكشي تعرفو خير منّي ..انا نقلّك كل ليلة انا وياه فرد طاولة وانت تقللي ما يشربش ؟؟ ابتسمت له وقلت تعرف اشكون اللي معاك توة …راهو انا عبدالكريم اللي تحكي عليه وهاهي بطاقتي المهنية حتى تتأكد …وما تقلقش حتى انا كنت انّجم نعمل كيفك … الحبّ يعمل يا خويا ..

ومضيت في سبيل حالي …..

مع عصابة الاصدقاء في حانوت الحلاق بقي الهاجس كبيرا والمتمثل في معرفة من اعلمهم بنقلتي الى السبالة …علامات استفهام كانت تراود ني داخلي ..خاصة وان نقلتي لم تتم الا منذ يومين …واسندت كتفي الى صديق عمري (رضا التريكي اطال الله في انفاسه ومتّعه بالصحّة) وهمست له: يخخي كيفاش عرفتو اني حوّلت للسبّالة ..؟؟ اشكون قلّكم …؟؟؟ استدار رضا بكل اندهاش و”لهدني” بدعوة لا تقرا ولا تكتب من النوع القبيح والجميل عندنا، وقال اما سبالة متاعك ..؟؟؟ راك نجحت في الامتحان! … فتساءلت: اما امتحان؟؟ ..وردّ، يا كازي اشبيك سكّارة امتحان النقلة الى السادسة …قالها بصوت عال وبزهو وكأنّه فاز كاعلامي بـ “السكوب” وما افظع سكوبات هذا الزمن الردئ ….ونظر الى الجميع وقال ..قلّك حوّل للسبّالة يعطيه (تييييييييييييييييييييييييييييييت) ليلو وللسبابلة …وقهقه الجميع …وحتى لا ابقى مهزوما امام سخريته بي وسخرية العصابة عادت لي لحظة حضوري الذهني وقلت له: محسوب هي فاضلة عليك يعطيك …تييييييييييييييييييييييييييييييييييييلت … رُدّها عليّ ان استطعت …(شكرا للتلفزة التي لقنتنا كيف نستعمل الكلمات النابية )….

يوم عودتي الى صفاقس ذلك السبت الجميل صادف يوم ظهور نتائج الامتحان الاستثنائي للانتقال الى السنة السادسة… سنة الباكالوريا انذاك …وكنت من بين الناجحين ..عندما علمت بالخبر كانت الوان من السعادة تغمرني …السعادة بالانتصار على امتحان كم قهرني وانا اخيب فيه _امتحان الجزء الاول من الباكالوريا …خاصّة وانا اسقط في مادّة العربية وبـ 6 على 20 …سعادة الانتصار لعائلتي ..لعيّادة لاصدقائي الذين وثقوا بي ..سعادة النجاح الذي سيخوّل لي الارتقاء أليا في مهنتي من مدرب صنفا ثانيا الى مدرب صنف اوّل ..وهذا يعني انّ مرتّبي سيسمن نوعا ما وهو ما يهيّئني عمليّا اكثر لبناء مستقبلي مع فتاة احلامي … وسعادتي النرجسيّة التي يحس بها جلّ التلاميذ الذين ينجحون في امتحاناتهم ..انذاك كنّا نحس بأننا شبه ملوك نرفل في حلل الافتخار والزهوّوالخيلاء …

واستأذنت من الجميع ان اغادر للالتحاق بمنزلنا ..وغادرت انا وصديق عمري رضا في اتجاه الحوش ..كنت متلهّفا لاقرأ جداول السعادة وهي تنهمر من عينيّ عيّادة ..كنت احسّ بأنني اليوم سأرفع لها رأسها امام الجميع وكنت متشوقا لرؤية سي محمد الوالد وهو العاجز في مثل هذه المناسبات عن الكلام . …لأنه عادة ما يترك المصدح المشاعري لدموعه تُلقي معزوفته الخاصّة به …طرقت الباب وخرجت حميدة ابنة عمّي واحبّهن الى قلبي لفتح الباب .. حميدة هذه كانت “البهيّم القصير” الذي يستعمله الجميع هادئة مطيعة وطيبة هلبة ..وكانت ابتسامتها لا تفارقها رحمها الله ..لذلك هي صاحبة جميع المهمات التي يتأفف ثم يتملّص منها الجميع …ومن ضمنها فتح باب الحوش …

اه عبدالكريم ايّا مبروك، والله فرحتلك يا ولد عمي … هكذا استقبلتني … وعلى وقع كلماتها هبّ الجميع لاستقبالي والزغاريد تلوّن الاجواء ..وصدقا كانت كاميرا عبدالكريم مركّزة على عيّادة… كنت انتظر تلك اللحظة التي ترى فيها ابنها “هلال على روس الجبال الشمس لا تحرقو والعدو لا يلحقو” تلك كانت دعواتها …وتلك يومها كانت عيناها تحكي وتحاكي ابنها .. وكأن هواجسها التي رويتها لكم وانا في السبالة (ومن ضمنها يا لندرى وليدي جيعان شبعان .؟؟؟ يا ربي جيب وليدي على خير ) قد سمعها الرحمان فاستجاب لها …وكان سي محمد رحمه الله كما صورته لكم ..لكن هذه المرّة كانت دموعا ونشيجا مصاحبا لها ..اي انّه كان في قمّة سعادته …ولم تنتظر عيّادة لا نشرة اخبار ولا حتى موجزها بل سألت: تلقاك مقطوع بالشرّ (اي بالجوع) هوّاشي يا وليدي ؟؟…ايّا توّة نحضرلك عشاك انت ورضا ..

امّي تعرف ما معنى رضا في حياتي انذاك …وكنت اقول لها كان تحبّني بالحق وقت رضا يكون معايا نحبّك تعطيه هو الباي الباهي اي منابي في “الزهومة” (وهذه تعني اللحم او السمك) …. امّي اعدّت ليلتها كسكسي بلحم العلّوش لكل متساكني الحوش، كيف لا وطفلها ينجح في الامتحان ..؟؟ وانغمسنا انا ورضا في ذلك الطبق الشهي …رغم اني لم اكن يوما من عشاقه ولكن ان ياتيك بعد سردينة بالبسكويت … علّقوا انتم …انتهينا من زردة الكسكسي وخرجت مع رضا كي اوصله بعض الامتار في طريقه الى منزلهم ..وماكدنا نقطع بعض الخطوات حتى فاجأني رضا بسؤال لم انتظره بتاتا …. قال: .ايّا قللي اش ماشي تعمل توّة …؟؟؟ لم افهم وقلت له: يعني ؟؟؟ قال هل ستعود الى السبالة ام تعود الى دراستك …؟؟؟ …

وبُهت الذي سمع ….تجمّدت في مكاني … وتجمّدت كلماتي … هل وثقتم اليوم بأن افصح الفصحاء يصاب هو ايضا كالاخرين في لحظة ما ..في واقعة ما …. في زمان ما …. في مكان ما …. بالشلل …؟؟ بعدم القدرة على النطق ..؟؟؟ بالعجز …؟؟؟ فما بالكم وانا في زمن لم ابلغ بعد مرحلة “من اين تأتي بالفصاحة كلّها .. وانا يتوه على فمي التعبير”؟ …

ـ يتبع ـ

أكمل القراءة
انقر للتعليق

اترك تعليقا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

جور نار

ورقات يتيم … الورقة رقم 30

نشرت

في

Gibraltar, Un Pont entre deux Mondes

عبد الكريم قطاطة:

الواحد منّا قد تداهمه اقدار بحلوها ومرّها لا يمكن تفسيرها الا بـ”اقدار”…. في خاتمة سنتي الاولى كمربّ بمدرسة سبّالة اولاد عسكر ..كان كل همّي ان اطّلع لغد مهني افضل ..

عبد الكريم قطاطة
عبد الكريم قطاطة

نعم وحسب شهادة متفقّدي السيّد الديماسي نجحت في الاختبار الاوّل… ونلت اعجابه واعجاب جلّ الزملاء الذين كانوا في بداية علاقتي المهنية بهم غير مدركين لحماسة هذا الشاب الغض الذي اندس بين صفوفهم برؤية مخالفة لرؤيتهم التقليدية للتربية ..بل كان البعض منهم لا يُخفي سخريته من هذا الابن الضال عن شريعتهم البيداغوجية …الاّ انهم وللامانة اصبحوا بعد اشهر قضّيناها معا سكنا ومهنة يكنّون كل الاحترام والاعجاب ..اومع ذلك كنت قلقا من وضعيّتي المهنية (مدرب صنف ثان) وهو اسفل درجات الترتيب الاداري في ميدان التربية… وقلقي الاشد كان متمثّلا في: كيف سابني غدي وانا مرتّبي لا يتجاوز 32 دينارا ..؟؟ وخاصّة امام ما ينتظرني مع بنت الناس وهي التي عقدت معي عقدا على انّها ستكون لي ولا لغيري …

كانت تدور برأسي عشرات الافكار التي هي اقرب للهواجس …وفتحت السماء ابوابها وانبلجت انوار الاقدار ..في صائفة 1969 وقع الغاء امتحان الجزء الاول من الباكالوريا وسّمح للمعاهد بامتحان استثنائي للراسبين في امتحان الجزء الاول من الباكالوريا في شهر سبتمبر 69.. كي يجتازوا المواد الرئيسية لدروس الخامسة حتى يتمكنوا في صورة نجاحهم من مواصلة دروسهم بالسنة السادسة (سنة الباكالوريا انذاك)… كان منعرج الامل …لان نجاحي في ذلك الامتحان كان بالنسبة لي يعني المرور حتما الى مدرب من الصنف الاول وهذا يعني ان مرتبي سيقارب الاربعين دينارا شهريا … وهذا المبلغ يّعتبر هاما في تلك السنوات …

قمت بمراجعة سريعة لتلك المواد وتقدمت في بداية سبتمبر لتجاوز الامتحان …في منتصف شهر سبتمبر جاءني ساعي البريد (جارنا سي علي غربال رحمه الله) ليحمل معه برقية تعييني للسنة الدراسية 69 ـ70 …وقبل ان يمدّني بها رجاني ان اخصّص لابنتيه بعض الساعات لتمكينهما من دروس اضافية في مادة العربية بنحوها وصرفها خاصة ….وقبلت عن طواعية المهمة فافضال معشر الغرابلة عموما عليّ كبير ..اذ اني كنت اختصر مسافة خروجي الى الساقية من جنانهم… وكانوا يقبلون ذلك منّي عن طيب خاطر منذ سنتي الاولى الى نهاية تعليمي بمعهد الحي .. سلمني البرقية فاذا بالادارة الجهوية للتعليم بالقصرين تعلمني بأنه وقع تعييني بالمدرسة الابتدائية بعين الحمادنة …؟؟؟ كنت مندهشا من هذه النقلة …سالت عن عين الحمادنة وموقعها في جغرافية ولاية القصرين فعرفت انها منطقة ريفية جبلية وتبعد زهاء العشرين كلم عن تالة ..

في آخر الشهر جمعت “زودي وزوّادي” قاصدا عين الحمادنة ..كانت اخر محطة لي بوسائل النقل التقليدية هي تالة …عندما سالت عن عين الحمادنة قيل لي ..انها هنالك ..اشارة بالاصبع وهنالك عند الريفي تعني بعض الكيلومترات ..سالت عن وسائل النقل للوصول اليها قيل لي نعم متوفرة ..اعدت التساؤل اين اجد سيارة اجرة (تاكسي او لواج)… قيل لي ان كنت ترغب في سيارة اجرة خفيفة انتظر بعض الوقت وستتمكن منها واذا كنت تترقب سيارة اجرة لواج فانت على بعد امتار منها …انتظرت سيارة التاكسي ولم تأت ..توجهت الى محطة اللواجات فاذا هي “بالكرك” عديد السيارات الرابضة والتي تنتظر الحرفاء مثلي ..ما ان وصلت حتى تعالت الاصوات ..القصرين ..صفاقس ..الكاف ..فاجبت بكل سذاجة .: عين الحمادنة… نظر لي احدهم باستغراب وسأل: عين الحمادنة ….؟؟؟ نظرت اليه باستغراب اكبر وكأنني ارتكبت حماقة واعدت القول: ينعم عين الحمادنة …_ اقترب منّي صاحب سيارة الاجرة وقال: يظهرلي انت موش من هنا ..يا ولدي عين الحمادنة راهي في الجبل ….انت عمرك شفت تاكسي والا لواج يمشيو للجبل ؟؟؟؟

وبعد هول الصدمة سألت ..كيفاش انجم نوصلها …؟؟ اجاب على الفور: تكري بغلة ! …كنت اظن انه يمزح مستهزئا … ولكنه اعاد القول: اش اسمك انت يا خويا ..؟؟ قدمت بطاقة هويّتي فاردف: يا سي عبدالكريم راني مانيش نفدلك ..عين الحمادة يوصلولها بالبغال والاحمرة .. واتنجم تكري بغلة .. وسوق البغال قفانا ..؟؟؟ وتصوّروني ‘رطل ونصف لحم) راكبا على بغلة ..؟؟ وانا الذي لم استعمل يوما وسيلة النقل هذه والتي هي بحق وسيلة تقليدية جدا …وفعلا فعلت …كنت طوال الطريق منغمسا في اشياء عديدة ..لماذا عين الحمادنة ..؟؟ هل ساستطيع العيش في قرية جبلية لا حياة فيها ؟؟ وكنت انظر الى السماء …نظرة امل ورجاء وخوف ..وكانت جغرافية السماء محجوبة عنّي بسحاب ليس كالسحاب الذي اعرفه … سحاب اسود اللون وكأنه يحاكي ما بداخلي من الوان قاتمة ..وكان صاحب البغلة يردد دائما “ان شاء الله معوّمة”…

لا اتذكّر بالضبط كم بقينا في السفرة للوصول الى مدرسة عين الحمادنة حيث اعلمت في الاثناء قائد الرحلة ان محطتي هي المدرسة بصفتي مربّيا … وكلّ ما اتذكّره انه كان شديد الافتخار بي وهو يوصل معلّما الى قريته ..ولا يمكن لي ان انسى انه وعند الوصول الى خاتمة الرحلة رفض وبكلّ شدّة ان ياخذ اجرة نقل حمولته ..لا لأن الحمولة كانت من الوزن الخفيف جدا والتي ربّما تفاعلت معه البغلة في سيرها وزهوها ورقصها لأني لم ارهقها…. بل ربّما هي تصوّرت انها لم تحمل شيئا يذكر …. هو رفض اخذ الاجرة لانه يعتبر ذلك مهانة له ..فكيف لرجل من قرية عين الحمادنة ان يأخذ اجرة من “سيدي المعلّم” ؟؟؟ عيب وعار وقلّة رجولية …هذه الامور ليست من شمائلهم …هذه الشمائل التي بدأت تنقرض عندنا نحن سكّان المدن وحتى بعض الاماكن الريفيّة (بدا يلحقها طشّ الحضارة المزعوم) …

عند الوصول الى المدرسة استقبلني مديرها وهو رجل في الخامسة والثلاثين من عمره… سلّم عليّ بكل بشاشة واحترام قائلا ..اهلا بولد بلادي …وهذا يعني انه صفاقسي ..سي الطريقي هذا المدير الشاب سألني عن تجربتي في التدريس ..عن موقف المتفقد منّي دون ان يعلّق وكأنه كان يردّد في داخله “اش جيّبك لهوني” …كنت اعرف حسب ما يرويه الزملاء انذاك ان تعيين معلّمين في المدارس النائية يعني نقلة عقاب… وعندما حللت بمدرسة عين الحمادنة تساءلت ..لماذا اُعاقب ؟؟ الم يقل سي الديماسي انه سيظلمني اذا منح لي ما استحق كعدد في سنتي الاولى …؟؟؟ كانت هذه الاسئلة واخرى تغمر مُخيّخي وترهقه … ولم استفق الا وسي الطريقي اعدّ العشاء …كسكسي بالخرشف… (الخرشف هي نبتة برية توجد في تلك الجهة) …انغمست في الاكل بعد يوم كامل دون غذاء …ورغم اني لم اكن يوما من عشاق الكسكسي فاني اكلت وبشراهة …دخّنت سيجارتي واستلقيت على فراش اعدّه لي سي الطريقي و(غطست)… الرحلة اخذت منّي اي مأخذ تعبا جسديّا وفكريّا ..كان ذلك في حدود الساعة الثامنة ليلا ..

استفقت في الصباح على مشهد لم اره من قبل في حياتي ..مدرسة عين الحمادنة عبارة عن جزيرة تحيط بها المياه …نعم وكما قال صاحب البغلة “معوّمة”… الامطار اثناء سباتي كانت غزيرة طوفانية …واصبحت عين الحمادنة منقطعة عن تونس اعني عن كل ما جاورها …واستمرت الامطار ذلك اليوم واليوم الموالي واصبحت الامور مخيفة للغاية ..انذاك حمدت الله على اننا كنا في موقع جبلي ..كنت ارى الاودية التي تحيط بنا في هيجانها المستمر ..انها فيضانات عام 1969 التي اجتاحت كامل البلاد التونسية …. كنا في المدرسة قابعين في في بيوتنا ليلا نهارا ..ومن حسن حظّنا ان الحانوت الوحيد الموجود في عين الحمادنة كان بجانب المدرسة .فكنّا نتسوّق معه حاجياتنا الغذائية والتي اصبحت منذ اليوم الثاني لهطول الامطار محدّدة بـالسردينة المعلّبة والبسكويت …. نعم السردينة طبقنا الوحيد وناكله بالخبز …وخبزنا انذاك البسكويت …_ لا تندهشوا …الجوع يوكّل الحجر ….

ليلة اليوم الرابع من وجودي بعين الحمادنة جاء احد الزملاء وهو من سكان المنطقة ليعلن عن عزمة للذهاب غدا الى تالة لقضاء بعض الحاجيات وليستفسر عن حاجات الزملاء ..وقفزت فكرة الذهاب معه فجأة الى ذهني ..وقلت له ساكتري بغلة وارافقك الى تالة …نظر اليّ مبتسما واجاب: اما بغلة ….؟؟ ..الدنيا كلّها وديان تجري ..اشكون يغامر ببغلتو .؟؟ _ .. سألته: على شنوة ماشي انت ؟؟؟ فجاء الرد سريعا: على الكرعين ..توة ثمة كان تاكسي نمرو 11 ..وهو يعني الرجلين … همهمت قليلا داخلي ثم قرّرت: ماشي معاك على ساقيّ ….نظر اليّ بدهشة وانزعاج وقال …اشبيك يا سي عبدالكريم، راك موش في “صفاڨس” (بثلاث نقط فوق القاف) متاعكم … تحب تمشي فيها..؟؟؟ راهي وديان ماشي نشقّوها ..؟؟ نظرت اليه وقلت ..توة انا هنا حيّ زعمة .. ؟؟؟.ميّت في حبس كيف البقعة هذي والا في وادي موش كيف كيف .؟؟؟..قرأ عزمي الشديد على المغادرة فاردف ..مرحبا بيك اما راهو الامور موش ساهلة كيف ما تتصوّر ….واتفقنا على موعد …كان الموعد السادسة صباحا ..وانطلقنا …

زميلي هذه سي الهادي كان بحق غاية في الحفاظ على امانته… كنت كعصفور نحيف يحتمي بايدي سي الهادي الغليظة المتينة كلّما شققنا واديا …ربما احترامه لزميله قد يكون هو الذي منعه من حملي على كتفيه …كانت رحلة شاقة جدا ..وكنت احيانا اغمض عينيّ حتى لا يعتريني الاغماء امام المياه المنهمرة من كل صوب ..ومثّل ذلك اليوم رقما قياسيا في حياتي.. اذ انّي قضّيت اثنتي عشرة ساعة مشيا على الاقدام ..وصلنا الى “العاصمة” تالة السادسة مساء وسالت زميلي سي الهادي عن اي نزل ابيت فيه ليلتي من شدّة التعب… ضحك زميلي واعادها: يا سي عبدالكريم راك موش في صفاڨس متاعكم _ عرفت لتوّها ان لا نزل على الاطلاق بتالة ..سالته اين سننام اذن؟ قال: في الحمّام ..دخلنا الحمّام لا لنستحم فالمُهلك مثلي تعبا لا يقدر اطلاقا حتى على الاستحمام…المهم يغم راسو ويتمرقد…وكانت ليلة ليلاء عاث فيها وفينا البق والقمل كما اشتهى …

في الصباح تناولنا قهوتنا بشهية كبرى (ايييه احيانا القهوة تصبح لوكس اللوكس) وخرجنا معا ..قال لي سي الهادي الان ساطلعك على سوق تالة وعلى كل ما تريد معرفته فيها …مسكت يده وسلمت عليه بحرارة ورجوته ان يبلّغ تحيّاتي وشكري الى كل زملائي بالمدرسة… واعلمته اني ساغادر دون رجعة ولن اعود الى عين الحمادنة ليس رفضا منّي لاكون في قريتكم الجميلة ولكن المشكلة مبدئية بالنسبة لي لان نقلتي الى مدرستكم اعتبرها تعسّفية …كان سي الهادي في قمة الدهشة ثم علّق بقوله: واش ماشي تعمل وين ماشي؟ … قلت له ساذهب الى القصرين لاقدّم استقالتي من التعليم للادارة الجهوية هناك ..لم يصدّق، رجاني ان لا اتسرّع ..فاقفلت الحوار بـ” يعمل الله”… تعانقنا وقلت له لن انسى جميلك في رحلة الامس، لن انسى …

كانت الساعة تشير الى الثامنة صباحا وبعض الدقائق عندما امتطيت سيارة اللواج الى القصرين ..وصلت إلى مندوبية التعليم واعلمت سكريترة المدير الجهوي برغبتي في لقائه …لم انتظر قليلا حتى استقبلني ..كان وجهه متجهّما وكان عظيم الجثّة جاحظ العينين ..اعلمته بانه وقعت نقلتي الى عين الحمادنة بعد سنة بسبالة اولاد عسكر وان نقلتي هذه لا يمكن وضعها الا في خانة العقوبات وها انا استفسر عن عقوبتي … لم يتركني اكمل اطروحتي، وردّ وبكل صلف: شوف يا ولدي هاكة اش ثمة الكلكم ماذابيكم المدرسة بحذا داركم …ما عنديش حل تحب تقرّي في عين الحمادنة مرحبا، ما تحبّش شد داركم ..لم احاول البتّة محاورته ..انا لم ارتح لشكله منذ اول وهلة فكيف ارتاح لمنطقه ..وخرجت من مكتبه الى السكريتيرة طالبا منها ورقة بيضاء ..جلست على مكتب عون الاستقبال بعد اذنه وشرعت في كتابة استقالتي ..كانت استقالة في بعض الاسطر عبّرت فيها عن غضبي من المظلمة التي سُلطت عليّ وعن عدم رغبتي في المواصلة في الانتماء الى نظام تربوي جائر ..امضيت استقالتي وهممت بالتوجه الى مكتب المدير الجهوي ثانية ..في تلك اللحظة احسست بيد تربت على كتفي واستدرت …انها يد سي الديماسي …

اقدااااااااااااااااااااااااااار …

سلّم عليّ بحرارة وسألني: اش تعمل هوني ..اليوم انطلاق السنة الدراسية المفروض تكون في مدرستك …نظرت اليه بعين متألمة واجبت: نعم المفروض …ولكن يبدو ان بين المفروض والمنشود والموجود هنالك عوالم شاسعة ..اندهش وسأل: ما الامر ؟؟؟ اعلمته يتعييني بعين الحمادنة وبأن ذلك عندي هو نقلة عقاب وبأنه استنادا لمواقف متفقدي والذي هو انت سي الديماسي، انا لا استحق نقلة العقاب هذه… ولذلك ها انا اقدّم استقالتي للمدير الجهوي من مهنتي التي شرفتها ولم تشرفني بل عاقبتني ..اخذ سي الديماسي ورقة الاستقالة منّي… قرأها ثم اشار عليّ بالانتظار ..دقائق معدودة وخرج سي الديماسي وبيده ورقة عودتي لمدرسة سبالة اولاد عسكر واضاف: باش تعرف اني ما ظلمتكش و اني وقفت ضد قرار من ظلمك ..برّة ولدي ربّي يعينك ونحبّك كيف ما نعرفك …وعدت الى سبالة اولاد عسكر ..

هل فهمتم ما معنى كلمة _اقدااااااااااااااااااااااااااااااااار التي اردّدها دوما .. هل هي من تصنعنا ؟؟ ….وللاقدار ادوار اخرى عديدة في ورقات يتمي القادمة … ..

أكمل القراءة

جور نار

ملاحظات على هامش معرض تونس الدولي للكتاب

نشرت

في

معرض تونس الدولي للكتاب- Foire Internationale du Livre de Tunis‎

لا يُمكن أن تنتهي تظاهرة ثقافية ومعرفية بحجم معرض تونس الدولي للكتاب والتي أثّثت حديث الناس وصفحات التواصل على امتداد عشرة أيام وكان لها صدى كبير أو صغير في أغلب وسائل الإعلام وقنوات الاتصال المختلفة، دون تسجيل جملة من الملاحظات والانطباعات المتّصلة بفوائدها وانحرافاتها وحدودها والطموح إلى تطويرها وتوسيعها وتعميم فيئها ونفعها.

منصف الخميري Moncef Khemiri
منصف الخميري

ويُمكن لأي زائر متيقّظ نسبيا أن ينتبه إلى المظاهر التالية :

 التونسي يستثمر في الأواني وعروض الأزياء أكثر من عروض الكتب وإبداعات الكتّاب والأدباء

من المفارقات المُوجعة أن أغلب المهتمين بالكِتاب لا قُدرة شرائية حقيقية لديهم، فأغلبهم أساتذة ومعلّمون وموظّفون “كحيانون” وربّات بيوت تُعمّر قلوبهنّ قناعةُ بأن نجاح أطفالهنّ مُرتهن في جزء كبير منه بسَعة تشرّبهم لما ينظُمُه الشعراء وما يقتبسه الأدباء وما يقوله المؤرّخون وما يُدوّنه العلماء والباحثون. مقابل ذلك، عندما يحدث أن تزور معارض للزربية أو الأثاث أو فساتين العرائس والأفراح أو معارض لتجهيزات المطبخ… تُلاحظ أن عددا لا بأس به من العائلات التونسية يُنفق بلا حساب لأن مستويات التمدّن ورقيّ الذوق ووقار العائلة في مجتمعاتنا تُقاس من خلال حرير الأقشمة وأناقة الستائر ورونق صالونات الجلوس، لا من خلال مؤشرات انفتاح نوافذ المنزل على بساتين  الكلمة الحيّة ومروج النصوص البهيّة.

مجهود العائلة يظل محدودا ما لم يُسنده مجهود الدّولة

رأيتُ شخصيا مجموعات كبيرة من الأطفال واليافعين يتجوّلون بين مختلف أجنحة معرض الكتاب يرافقهم مُربّون يسهرون على انضباطهم وسلامتهم، ويبدو من خلال تتبّع تجوالهم أنهم غير مُصرّين على اقتناءات كثيرة ربّما لقلّة ذات اليد والتحسّب لأثمان غنيمة السندويتش وقطعة الحلويات اللذين لا مفرّ منهما. أضف إلى ذلك أنه بالنسبة إلى العائلات، هي جولة ترفيهية أكثر منها رحلة لاقتناء بعض ما به يُدعّمون رصيدهم المعرفي، فمعلوم المشاركة في اكتراء الحافلة مع عشرة دنانير أو عشرين على أقصى تقدير غير كافية بالمرة لاقتناء ولو كتاب واحد.

خلال السنوات الأخيرة، حصل في بعض البلدان – في سياق تعميم “التربية الفنية والثقافية” والتشجيع عليها- أن أوجدوا آلية داخل كل المؤسسات التربوية أطلقوا عليها le pass culture تساهم في تمويلها أجهزة الدولة بصورة أساسية ويُترك للأولياء إمكانية ضخّ بعض الأموال في صندوقها، من أجل تمكين كل تلميذ بصورة دورية من “صرف شيك ثقافي” حسب ميولاته ومراكز اهتمامه في المسرح أو السينما أو في اقتناء الكتب والمشاركة في التظاهرات الثقافية والفنية المتنوعة… وذلك مقابل أثمان رمزية يتمّ الاتفاق بشأنها في بداية كل سنة دراسية بين المؤسسة التربوية ومختلف مكوّنات النسيج الثقافي في الجهة، بما فيها المكتبات التجارية والمتاحف والمعارض العلمية. قد تكون هذه “الوسيلة” طوباوية شيئا ما لكونها جُرّبت في بلدان غنية، ولكن ما الذي يؤكّد أن مدارسنا ومعاهدنا لا تستطيع رصد “صكوك ثقافية” لفئة ولو قليلة من تلاميذها، ومن يؤكّد أن القطاع الخاص وأصحاب القلوب المؤمنة بجدوى الثقافة وقيمتها المضافة لا يقتطعون نصيبا ضئيلا ممّا يملكون لدعم مثل هذه المشاريع الرائدة ؟

 الكُتّاب والمُبدعون فئة مُضطهَدة

حفلات لتوقيع الكتب المنشورة هنا ولقاءات لتقديم أخرى هناك وومضات دعائية فرديّة لمؤلفات موجودة بالمعرض ومساحات إعلامية يتيمة للتعريف ببعض الإنتاجات… وكلها عناوين بلاغية لتجميل الدعوة الصريحة والكأداء إلى شراء الكتاب…هذا إضافة إلى التنكيل الذي تمارسه بعض دور النشر المتمرّسة على قوانين السوق حين تُمكّن الكاتب من بعض النسخ المجانية وتُخرجه تماما من دائرة التمتع ببعض عائدات كتابه. مقابل ذلك، ووفقا للمنطق الثقافي السائد الذي جعل من عصرنا “سدّاحا مدّاحا” كما يقول الكاتب المصري الراحل أحمد بهاء الدين (نسبة إلى عصر “السّح الدّح إمبوا” لأحمد عدوية)، نجد أن كُتيّبا هزيلا مثل “الحي يروّح” لنور شيبة الذي أقنع جمهورا واسعا بكلمات مبتذلة من قبيل “ربطية وراها ربطية…نور شيبة في المرناقية” … أو ما تقول عنه فاتن الفازع بأنه أدب وإبداع بكلام من نوع “يقولولي ياسر تتشرّط ياخي شروط كبار هاذم ؟ وزيد إي نتشرط على زيني وعيني وثقافتي ومستوايا كان جا عبد على قياسي مرحبا مكانش الوحش ولا الأذى”…أو كتب التنمية البشرية الحاملة لعناوين هي أقرب إلى بلاغة بيع أقراص منع الأرق مثل “قوة عقلك الباطن” أو “ابق قويا” أو “اعرف وجهك الآخر” إلخ… نجد أن مثل هذه المصنفات التي تُكتب بجرّة واحدة وعلى نفَس واحد، تشهد إقبالا واسعا ولا حاجة لها لا بحفلات التوقيع ولا بحملات التشجيع.

في ثقافة الإهداء وآداب البيع والشراء

عندما تلتقي صديقا أمضى سنوات كاملة وهو يكدّ ويجهد ويُقضّي لياليه يُقلّب الكلمات ويعجن المعاني من أجل الظفر بمؤلف يرقى إلى مستوى الجدارة بالنشر، لا تقل له “وأين نسختي ؟” أو “تعرف تهدي كان للإعلاميين باش يعملوا دعاية لكتابك” … بل قل “ها هي نسخة من كتابك اشتريتها للتوّ فدوّن عليها بعض الكلمات إن شئت” لأنه من التقاليد الإيجابية التي لا بدّ من تأسيسها بين الأصدقاء، أن يشتروا كتب بعضهم البعض تحفيزا ومقاومة لمناخ العزوف الشامل الذي لا تقلص كثافة الحضور الجماهيري الموسمي شيئا من حدّته.

أقول هذا بالرغم من أن الإهداء يوفّر لكلا الطرفين متعة متقاسَمة فيها فرحة حقيقية  تراها بيّنة في عينيْ من يُهدي لكون ذلك عنوان ودّ ومحبّة، وفي تقاسيم من يُهدَى له لأنه يعتبر ذلك توقيرا وتبجيلا.

الملاحظة الأخيرة ذاتيّة تماما أخصصها للسلفيات الكتابية

أرى أن معرض الكتاب ليس فرصة للتسوّق فحسب بل هو أيضا مناسبة سعيدة نُمتّع خلالها أنظارنا بمئات العناوين والأغلفة والأسماء ويافطات دُور النشر ونتصفّح مواجيز الكتب، كما نحتفي فيها بأصدقاء أعزّاء قدِموا من بعيد لتأكيد صفاتهم كقدماء ذهن أتوا من أجل جمع بعض المؤلفات للتوقّي بها من نكد الفضاء العام. كما تُشكّل هذه التظاهرة أيضا مناسبة نسعدُ خلالها بمصافحة قامات أدبية وشعرية وعلمية تونسية سامقة تُمْتعنا إنتاجاتهم ونُبرهن من خلالهم على أننا مازلنا نفخر في تونس بأسماء لا يزيد عنها كبار العالم شيئا في شتى المجالات.  فأن تلتقي في يوم واحد بأستاذ الفيزياء الكمية ومطوّر مركز النشر الجامعي الحبيب بوشريحة، ومبروك المناعي صاحب الكتاب الممتع “الموت في الشعر العربي”، وجميلة الماجري مؤلفة “ديوان النساء”، والحبيب صالحة المُروّج الفذّ للكتاب التونسي الناطق بالفرنسية على موجات إذاعة تونس الدولية … تلك متعة حقيقية تُطوى لها المسافات وترجو تجدّدها على مر السنوات.

أكمل القراءة

جور نار

ورقات يتيم … الورقة 29

نشرت

في

Cinéma : 8 910 626 photos libres de droits et images de stock | Shutterstock

يوم دخلت القسم اوّل مرة كمعلّم …انتابني شعور رهيب ..الشعور بجسامة مسؤوليتي ..كنت امام مجموعة من الصبية بوجوه آية في البراءة… وكانوا ينظرون باعجاب مشوب بدهشة الى معلّم شاب جدا من جهة ..وانيق جدا من جهة ثانية ..

عبد الكريم قطاطة
عبد الكريم قطاطة

كان هندامي متناسقا وكان حذائي لمّاعا وكانت ميدعتي ناصعة البياض لا كالتي يرتديها جل المعلمين في مدارسهم، حيث هي اشبه شيء بلوحة زيتية عديمة الذوق تختلط الالوان فيها … فهذه بقعة من بقية طعام ..وهذه آثار اقلام الحبر والطباشير تعلو زوايا اخرى منها… وهذا حذاء اسود اصبح رماديا اغبر … حاصيلو هندام في منتهى الاهمال او لنقل نوعا هي نوع من “الحُڨرة” لتلاميذ المدارس الريفية ..انا لا انكر ان جل التلاميذ في تلك المدرسة لم يكونوا على درجة كافية من النظافة ..ولكن انّى لهم بذلك ومعلمهم لا يعطي المثال والقدوة؟؟؟ اليست هي فرصة لهم ليعشقوا النظافة ويقتبسوا شيئا منها يوما ما ..؟؟ ثم ماذنب اولئك الاطفال في عمر الملائكة اذا كان حتّى ترسيمهم في منارة العلم لم يكن اقتناعا من عديد الاولياء في تلك الحقبة، لولا اجبارية التعليم التي فرضها الزعيم بورقيبة فما بالكم بنظافتهم ..؟؟؟

كانت الساعة تشير الى الثامنة صباحا عندما اصطفّ تلاميذ السنة الثانية امام القسم ..وباشارة منّي دخل الجميع وبهدوء الى قاعة القسم ..اخذ كل تلميذ مكانه دون هرج ودون خصام على الطاولات الاولى …ولم افهم مصدر ذلك الانضباط ..فانا لم اتكلّم بعد وهم لا يعرفون عنّي شيئا … جلست على حافة الطاولة وهي عادتي في التدريس حتى مع طلبتي بالجامعة في فترة لاحقة ..ربّما تأثرا ببعض الاساتذة الذين درست عندهم ..او ربّما لأنه لا الكراسي ولا الجلوس عليها كانت يوما همّي ..تناولت دفتر المناداة وبدأت في التعرّف على صغاري …وما شدّ انتباهي يومها ان اغلبية التلاميذ في قسمي يحملون لقبي “المحمّدي” و”العامري” ..كان قبالتي وجه صبوح دافئ ولطيف… محمد كمال المحمدي وبجانبه طاولة جلست عليها اختان فطوم وزهرة المحمّدي ..هما ليستا توأمين ..كل ما في الامر ان هنالك العديد من التلاميذ التحقوا في سن متقدمة بالمدارس فيحدث أن يدرس الاخوة في نفس السنة بنفس القسم …

فطوم كانت الكبرى وكانت ابتسامتها دوما حاضرة اما زهرة الصغرى فكانت ترتجف خوفا بسبب او دون سبب حتى انها كانت احيانا تكمل اجابتها عن اسئلتي بعين دامعة … دعوني اعترف لكم بأمر هام لازمني طيلة حياتي مع من وقفت امامهم كمعلّم او كاستاذ او كمؤطر … انا من زمرة اولئك الذين يغلب على اسلوبهم القساوة والشدّة ..اي الحرص الدائم …ولكن واقسم لكم بكل المقدذسات ان غايتي القصوى كانت دائما ان اكون مربّيا قبل اي شيء آخر …فانا اقول دائما لطلبتي: لا يهمّني ان تنالوا ديبلوماتكم بملاحظة حسن جدا .. بل الاهم عندي الاستفادة من كل ما تدرسونه لتعيشوا حياتكم بملاحظة ممتاز جدّا …

لهذه الاسباب حاولت ان اغرس في تلاميذي بمدرسة السبّالة عادات جديدة …علّمتهم فيما علّمت ان يقفوا جميعا عند قدوم ايّ ضيف للقسم ليسلّموا عليه وبصفة جماعية وبنغمة واحدة (“صباح الخيريا سيّدي”، صباحا …و “مساء الخير يا سيّدي” مساء) ..اما اذا قدم هذا الضيف مرّة ثانية فتكون التحيّة “مرحبا بك يا سيّدي”… وعندما اقبل المتفقد (سي الديماسي) اوّل مرة وسمع التلاميذ يقفون في لحظة واحدة وبصوت واحد صباح الخير يا سيّدي ..انبهر بهذه اللقطة البسيطة ايّما انبهار وحفظها في ذاكرته وردّ اليّ الجميل باحسن منها .. اليوم وللتعبير عن حرّية الكلمة بعد 14 جانفي يستحي مقدّم الاخبار ان يقول السيّد فلان رئيس الجمهورية او رئيس الجكومة او الوزير الفلاني …ملاّ قلّة حياء .. وملاّ جهل وملّة تخلّف …

في السبّالة علمتهم فيما علمتهم ان يجتمعوا يوم احد ليبنوا بايديهم هرما من الحجارة والاسمنت ويلونوا عليه علم تونس من جهة وخريطة تونس من الجهة الاخرى ..اعتزازا ببلدهم وبعلمه …علمتهم فيما علمتهم (وهذا خاص بتلاميذ السنة السادسة) ان يكسّروا صنم المعلّم وهو يلعبون معه طرح كورة… وان يتعاملوا معه كلاعب لا كمعلّم ..كنت بعض ايام الاحد اكوّر معهم ..وكانو في جلّهم “عضارط” جسديا والبعض منهم في سنّي او اكبر …وكنت كلّما حاولت التخلّص من اي مدافع منهم لاختلي بالحارس واسجّل، فتحوا لي “اوتوروت” حتى امرّ بسلام ..فكيف لتلميذ ان يعرقل معلّمه او يمسكه من قميصه؟! ..وكنت اغضب جدا من ذلك ..كنت اريد ان اغرس فيهم حبّ الدفاع عن اللون عن المريول عن الذات ..مهما كان اسم المنافس …

نفس تلاميذ السنة السادسة طلبوا من المدير ان اقوم بتدريسهم ساعات اضافية …ربّما لانهم احبّوا فيّ هذه العلاقة الودّية معهم ..وقبلت ذلك عن طواعية وبكل حب وايمان ..ولم اعتصم امام باب وزارة لا جلّول ولا المسعدي انذاك للمطالبة بحقّي في منحة الساعات الإضافية … فكيف للمربّي ان ياخذ اموالا وهو يدرّس ابناءه .؟؟.. تقولون عني طوبائي ؟؟ افلاطوني ..؟؟؟ غير واقعي ..؟؟ فليكن ..ولكن فخري واعتزازي اني هكذا تعلمت وهكذا سابقى ….ويوم سالني السيّد رضوان هنيّة مدير المدرسة عن كيفيّة الخلاص ابتسمت وقلت له: وهل طالبتك بخلاص …؟؟؟ انها هديّة لابنائي …

مرور الايام والاشهر الاولى في مدرسة سبّالة اولاد عسكر جعل منّي معلّما يحترمه الجميع … وفي مقدّمتهم المتفقد انذاك السيّد الديماسي ..كنت انيقا في اعداد مذكرات الدروس وفي دفتر الدروس اليومية …وللامانة كنت استعرت من احد زملائي في الدراسة الذين تخرّجوا من شعبة الترشيح بعض مذكراتهم ودفاتر دروسهم حتى اسير على منوالهم (شكرا صديقي محمد الحشيشة، وهو المعني بالامر) ..السيد الدّيماسي هذا كان لغزا في تعامله معي ..زارني ثلاث مرات للتفقّد …وكان في الاوليين يحضر الدرس ويغادر دون ان ينبس لا ببنت شفة ولا بعمّتها و ولا باحدى قريباتها … لم اكن خائفا ابدا من ايّ عدد سيعطيني ايّاه ..فانا مبتدئ وفي افضل الحالات كما تعود المبتدئون لا يمكن ان يتجاوز عدد التفقّد لهم عشرة من عشرين ..

ثم سي الديماسي هذا كان يصعب عليّ معرفة ملامح وجهه ..هو صندوق مُغلق … كنت استرق النظر احيانا له وهو يدوّن ملاحظاته ..وكنت عاجزا تماما عن فكّ شفرات ما بداخله ..يصافحني ويكتفي بـ “ربّي يعينك ولدي” …. ماذا تخبّئ لي الايام مع سي الديماسي هذا …؟؟؟ وللامانة واتصوّر ان ذلك يحدث مع اي معلّم، كنت انتقي في اغلب الحالات افضل التلاميذ للاجابة عن اسئلتي يوم التفقّد… وطبعا في مقدّمتهم كمال المحمدي وهو الذي لم يغادر المرتبة الاولى في كل امتحان ..وكم كانت سعادتي وانا التقي به يوما في عالم الفيسبوك ليصبح تلميذي النجيب الهادئ الوديع، صديقا لي رغم انّه وكغيره لم يستطع في اغلب تعاليقه او مراسيله التخلّص من “سيّدي”… وللجميع اقول انتم تسعدونني اكثر و جدا بكلمة صديقي ـ والله ـ جدا …

في التفقّد الثالث غادر الجميع القسم ولم يغادر سي الديماسي ..طلب منّي اغلاق الباب ونظر لي مليّا وقال، “شوف يا ولدي انا السنة مانيش باش نعطيك عدد ..لانو المفروض معلّم مبتدئ كيفك عادة ما يلزمش العدد يفوق 10 وفي افضل الحالات عشرة ونصف ..لكن وبكل امانة انت تستاهل 12 على الاقل ..لذا، عام الجاي نجيك ونعطيك حقّك ..ربّي يعينك وواصل في هذا الطريق” ..وخرج ولم يعد …صدقا كانت مشاعري في غاية السعادة …طز في العدد ..الذي هو في نظر جلّ الزملاء تأخير في مشواري للتدرّج في ثناياه ..الاهم عندي ان يقول عنك متفقّدك كلاما مثل ذلك الكلام …انه وسام تربوي وممّن ؟؟؟ من سي الديماسي … في تلك السنة كان قفّة المنفي (هكذا تقول عني عيادة وانا بعيد عنها) كانت قفّتي تاتيني كل اسبوع …وقفّتي هي تماما كقفّة السجين ..بما لذّ وطاب من مأكولات ايدي عيادة رحمها الله ..خاصّة انني كنت الجهلوت الاكبر في طهي طعامي ..فلا محاولاتي مع الشكشوكة ولا مع المحمّص والمقرونة، وجدت صدى طيّبا مع امعائي ..كنت (نبلبز ونحط) وهنيئا في ما بعد للكلاب السائبة بها …لا طعم ولا رائحة ولا شيء فيها من نكهة الطعام العادية ..فما بالك وانا اقارنها بنكهة ايدي عيّادة التي يشهد لها الجميع بجودة صويبعاتها في الطهي ….

كان صديقي (لطيّف المعزون، “لوريمار” ) هو من يتكفّل بمأمورية ايصال القفة لحافلة النقل العمومي الرابطة بين صفاقس والقصرين ..والتي استقبلها انا امام محطة سبالة اولاد عسكر …هذه القفة التي هي بمثابة كنز من كنوز سليمان ..كانت احيانا تحمل كنزا من كنوز بلقيس ملكة سبا ..انها رسالة من ملكة صفاقس ..من “ما ابلدك” لا يتجاوز محتواها بعض الاسطر للتعبير عن شوقها لرؤيتي واعتزازها بي وطمأنتي على انها سنتظرني وانها لي انا وليست لغيري ….طيلة تلك السنة رايتها مرة واحدة … كان ذلك عندما بلّغتها اني ادعوها ثاني عيد الفطر لكي ندخل معا الى السينما ..بلّغتها عن طريق اختي الصغرى وطمأنتها ان ساعية البريد اي اختي ستكون معنا ..حتى لا يذهب ظنّها الى تأويلات لا تليق بي وبعلاقتي معها .. كان ذلك منذ حلول شهر رمضان … طبيعي انّو الواحد يبدا يتكتك من وقتها ..باش يعيّد عيدين … وجاني الرد ..جاني الرد جاني ولقيتها بتسناني …

نعم وافقت حبيبتي على مشروع العمر ..ووجدتني يوم الثاني عيد بجانب المسرح انتظرها مع اختي… وكانت الاغنية انذاك التي تصدح بها مكبرات صوت بائعي الالعاب امام باب الديوان، “.هذه ليلتي” ..وكان المقطع انذاك (يا حبيبي طاب الهوى ما علينا ..لو حملنا الايام في راحتينا … صدفة اهدت الوجود الينا …واتاحت لقاءنا فالتقينا) ….يومها احسست بان جورج جرداق كتب الاغنية لي وبأن عبد الوهاب علم بحكايتي مع “ما ابلدك” فتفنن في العزف على اوتار قلبي واخرج من حشاشته لحنا من اروع ما لحّن لام كلثوم ..اما الست فكانت تؤدي لي انا ..لي وحدي من دون كل العالم …وهذه من الاشياء التي جعلتني يوما ما ادرك وافهم واتفهّم ما معنى ان يعتبر مستمعك انك تحكي له وحده من دون الناس وحده …وحده ..وحده …بل ويرفض رفضا قاطعا ان يقاسمه فيه ايّ احد آخر ..

يومها كانت اول مرة.نسلّم على بعضنا بالـ… بالايادي …اشنوة تحسابو الامور بالبوس وحدة في ها الخد ووحدة في ها الخد …؟؟؟ .. رغم انو توة معظم البوس وحدة في هالهواء والاخرى في الهواء الاخر …اما بوس واما تخريف ؟؟..وقتها تسلّم على وحدة بالبوس ..؟؟؟ تحب تشنع الدنيا ..؟؟… تحب تبيلك الامور على راس الطفلة .؟؟؟ تي باليد ويجعلك تسلم ….يومها كانت قاعة الهلال هي التي احتوتنا …وكانت اختي تتوسّطنا …ينعم ..واحمد ربي زادة الي حبيبتك جات وقبلت تدخل معاك للسينما …كنا في القاعة غريبين ..ولي يقين اننا لم نشاهد وقتها الفيلم ولم نعرف عنه اي شيء ولكن كان كل واحد منّا “كيف ريح الشّيلي يطيّب وما ياكلش”… وكانت اللقطات الغرامية في الفيلم تجعلنا في مواقف لا نحسد عليها فنحن في علاقتنا مع الللقطات الغرامية (اللي نراها بعينينا ونموتو بقلبنا ) اشبه بـبهايم الفندق وحيد تاكل في الشعير ووحيد تتشلهق …وما ان بدا اللحن المميّز ايذانا بنهاية الفيلم حتى رايتني اغادر خلسة مكاني قبل ان تشتعل اضواء القاعة حتى لا يراني احد ويكون شاهدا على جريمتي مع بنت الناس وكذا فعلت عند دخولي للقاعة … تسرسبت تحت مس وزعمة زعمة انا بحذا اختي …انه اللقاء الوحيد الاوحد الاحد الذي جمعني بحبيبتي طيلة تلك السنة …

في تلك السنة ايضا طرأ تحوّل كبير في علاقتي بمحيطي… اصبحت في نظر سكان الحوش جميعا مُهابا …اشبيك راني مُعلّم ..وكذلك في نظر اصدقائي بالساقية ..سي المبروك رحمه الله يستقبل ابنه بكل حماسة وفخر واعتزاز… اصدقائي اصبحت سخيّا معهم في مصاريفنا المعتادة (القهوة والسجائر وزيارة الباب الشرقي)… وحتى اللجنة الثقافيّة انذاك دعتني لتقديم محاضرة وعلى هوايا ..حتى اساهم في انشطتها الثقافية في العطل ..واستجبت بكل نرجسيّة ..وكانت اولى كتاباتي الرسمية ..كانت محاضرتي انذاك بعنوان واحد مع واحد يساوي ثلاثة …؟؟؟؟ العنوان كان غريبا للعديد ..مما جعل القاعة يومها تغص بالحضور ..جل المستويات التعليمية والثقافية كانت حاضرة ..وكالعادة صنف منها كان ومازال مفتخرا بي وواثقا من ان هذه الطلعة لن تكون مجانية ..وصنف ثان كان ومازال ساخرا هازئا بهاللي يقولو عبدالكريم .. واش عامل في روحو …

وللامانة انا اعذر دوما هذا الصنف الثاني لانه اما يكون مريضا معتلا في موقفه لأنه عليه ان يستمع ثم يحكم ..او هو حاسد حاقد اصمّ اعمى ..يستحيل ان يخرج من كهف الحماقة والبغضاء …ربي يشفيهم …الفكرة كانت يومها بسيطة ..ويمكن حوصلتها في ان الارادة والبحث والمثابرة هي الكفيلة بتحقيق ما نصبو اليه… وعندما نفترض جدلا ان واحدا مع واحد يساويان ثلاثة ونحاول البحث عن حلولها سنكتشف في طريق البحث اشياء لم نكن نعرفها …اي المعرفة …..وهذا يعني بل ويقتضي التزود بالارادة حتى ولو كان الحل مستحيلا لنصل الى الممكن والذي كان مجهولا وهو الذي لولا بحثنا . لبقي مجهولا … المحاضرة كانت مدعّمة باقوال مشاهير من العلماء والفلاسفة حتى لا تكون فقط مواقف شخصيّة …وصفّق الجميع للشّاطر عبدالكريم ..كان كل همّي في اخر السنة تلك: كيف احسّن وضعيّتي المهنيّة من مدرب صنفا ثانيا الى مدرّب صنفا اول ..وهذا عمليّا لا يمكن الا بفرضيتين ..اما التدرّج في اعدادي التفقدية وهو ما يستلزم ثلاث سنوات على الاقل… او بالحصول على الجزء الاول من البالكالوريا …وكيف لي ذلك وانا الذي تحوّلت الى موظف له راتبه الشهري وله مكانته الاجتماعية وله نسق مادي جديد وله حبيبة تنتظره في منعطف الطريق …..؟؟؟؟

اختلطت بداخلي كل هذه الاشياء ووجدتني فكريا وعاطفيا واقفا بمفترق طرق يُدعى اهم شارع فيه: شارع الضباب …. يا شارع الضباب مشيتك انا، مرة بالعذاب ومرة بالهناء… في ضيّ القناديل الباهتة …ولانه كما في الحياة غشاوة قناديل باهتة فانها ايضا تهبنا انوار قناديل قد لا ننتظرها ….واشتعلت القناديل عندي ….

ـ يتبع ـ

أكمل القراءة

صن نار