تابعنا على

جور نار

ورقات يتيم … الورقة رقم 32

نشرت

في

في حياة الواحد منا هنالك لحظات فارقة فيها القدر وفيها نحن والقدر … تلك اللحظة الفارقة لا نقدر فيها على وصف ما يعترينا ..هل عشتم مرة في حياتكم لحظة بداية الاغماء، بعيد الشر عليكم ؟ ..

عبد الكريم قطاطة
عبد الكريم قطاطة

هي لحظة زمنية وما اكثر اغماءاتي ..يتزاوج فيها الوعي باللاوعي ..احسست فيها عديد المرات برهبة الموت وهي تتمازج مع ما تبقى من وعينا بما حولنا ..وحتى الاستفاقة من تلك الاغماءة هي عودة الروح الى الجسد (سلّة سلّة) كذلك هي الاقدار في كلّ ما نعيشه ..ومضة برق تُحيلك الى اشخاص لم تكن ابدا تفكّر في لقائهم يوما ما..لقاؤهم يعني انفتاح السماء على اشياء لم ترها من قبل ..ومضة برق تُحيلك على فراق البعض منهم وانت على يقين من انّ ذلك لن يحدث ابدا ..ومضة برق تعيد اليك توازنك الذي فقدته منذ قرون ..واخرى تثبّت قدميك على ارض ما كنت ابدا تنتظرها بمثل ذلك الثبات …حياة الواحد منّا كصفحات مجلّد لا يمكن اطلاقا للورقة رقم 2 فيه ان تطّلع عليها الا بعد ان تكون قد اتممت قراءة الورقة الاولى ..اي يستحيل على الواحد منّا ان يتطلّع الى غده الى المجهول .بيقين…والاغرب من ذلك ان المجهول اي الورقة الثانية قد تنسف ما قبلها ..وقد تثبت جمالها او قبحها …

وهنالك ايضا في حياتنا لحظات فارقة اخرى ..لحظات مفترق الطرق ..تصوروا انك تجد نفسك يوما في مفترق طرق وكلّها تؤدّي الى روما ..وكلّها شهيّة وتعجز تماما عن اختيار الاجمل فيها لأنها جميلة ..جميلة كفم طفل صغير وهو يضحك دون رياء ..جميلة ككمنجة رضا القلعي وهو يعزف على جرجيس وبناويتا ..جميلة كعاشق او كعاشقة وهو يحكي بصمته الجميل الممتع احلى الكلمات ..جميلة كثغاء الكبش يوم عيد الاضحى وهو يستجدي لا ادري امّا الرأفة به او لالحاقه باترابه ..جميلة كقطة بيضاء اللون وهي تشتم رائحة السمك وتربت على كتفيك بمواء خافت فيه الحنّية لتقول لك: اطعمني بورك فيك وفي غذائك ..جميلة كقطرة الندى تتارجح دون ان تسقط من ورقة غصن شجرة اللوز في صباح ربيعي ناعم ..

هل رأيتم معي كم هي عديدة لوحات الجمال الربّاني ؟؟ والتي قلّ وندر ان تكون لنا اعين تبصرها وتترشف جمالها؟؟… كانت لحظة زمنية فارقة وصديق عمري رضا يطرح ذلك السؤال المزلزل بعد خروجنا من الحوش: ايّا اش قررت ..؟؟؟… دعوني اقل لكم انه في تلك اللحظة وجدتُني في مفترق طريقين ..وفيهما من نقاط الاغراء الكثير… فالنجاح في الجزء الاول من الباكالوريا يعني الحصول على رتبة مدرّب اوّل…. والعودة الى الدراسة يعني الارتقاء بي الى درجة تعليمية متقدمة ..فماذا عساني ان اختار .؟؟ ثغاء الكبش او نظرة العاشق …؟؟ مواء القطة ام كمنجة رضا القلعي ..؟؟لعاب طفل ينساب على فمه عسلا وشهدا او قطرة الماء التي تتارجح على جبين ورقة شجرة اللوز وهي تهمس لا تسقطوني من فوق الغصن الاخضر ..؟؟كلّها شهيّة ..شهيّة جدّا كالجلوس على حافة البحر وانت تعشق اسراب السنونو ترقص على نغمات اندريه ريو معزوفة الدخول الى الجنة ..فاين ستكون جنّتي ..؟؟؟

ما وصفته لكم ليلتها وصديق عمري يطرح ذلك السؤال الزالزال (اش عملت) هو في زمنه كومضة برق …اللحظة الفارقة لم تتجاوز الثواني بمقياس الزمن العادي ولكن ولانها لحظة فارقة عمّرت في فكري وقلبي طويلا ..وجدت صديقي رضا يقول: اش قولك نكمّلو الباك مع بعضنا …؟؟؟ نعرف هو صعيب عليك خاصة وانك استانست بالفلوس ..اما احنا عمرنا ما قسمنا ..واللي في جيبي هو في جيبك… صديقي هذا بدات علاقتي معه منذ بداية التعليم الثانوي… هو يصغرني بسنة وابدا ان كنّا نفترق ..كنا دائما معا في كل شيء ..وكان العديد من اصدقائنا يحسدوننا على علاقتنا المتينة وكنت في عائلتهم واحدا منهم والعكس صحيح ..ولكنّ الاقدار مرّة اخرى قصمت ظهر علاقتنا ذات سنة ..ولبقية القصة حضور كبير في قادم الورقات …

عندما عبّر صديقي رضا عن رغبته الجامحة في ان نعيش معا سنة الباكالوريا …لم اترك لفكري او لقلبي او لايّ عامل آخر مهلة للتفكير في اخذ القرار … كانت اجابتي وبسرعة بليون كلم في الثانية: مشات معاك ..انا هكذا تعوّدت ان اخلص لمن احب ..انا تعلمت في الحب ان ابحث عن سعادة الآخر قبل البحث عن سعادتي ..انا في الحب اريد ان ارى في عيني من احب رقرقة الدمع وهو يريد معانقتي.. دموع الارتواء والانتشاء ..وفي تلك اللحظة لا اريد كلمات قد تفقد معاني الكلمات ..عندما قلت له “مشات معاك” كان سعيدا كطفل صغير ..وكنت الاسعد بسعادته ولسعادته … تصافحنا بحرارة وعدت الى الحوش ..واعلمتهم بقراري بالعودة الى طاولة الدراسة ..قراري فاجأهم وبكثير من المشاعر ..فبقدر ما كانت عيّادة تريد ان ترى طفلها ذات يوم طبيب او مهندس… وتلك كانت اعمق امنيات الامهات في ذلك الزمن ولعلّها مستمرّة لحدّ الان… وهو ما يفسر حرص العائلات في صفاقس على حثّ ابنائهم على “التمحريث” في الدراسة ..

اذن عودتي للدراسة ستكون بالنسبة لها تحقيقا لامنية غالية عندها علاوة على انّها ذات سنة عالجها طبيب وهي مقيمة في المستشفى بسبب ولادة عسيرة… وهذا الطبيب يُدعى “عبدالكريم” مما جعلها تُسقط صورته (لا ادري الوظيفية او الجمالية) على طفلها … اليس الله جميلا يحب الجمال فكيف عباده وعيادة لا يعشقون ..؟؟؟ اما الوالد فكان صامتا …ربّما لأن عودة ولده للدراسة تعني مصاريف اخرى وهو الذي تخلّص نسبيا منها في سنة التدريس بالسبّالة …بالنسبة له ..هذي تكوي وهذي تشوي ..هكذا فهمت صمته رغم انه لم يعبّر بتاتا عن رفضه لقراري واكتفى بالقول ( اللي تشوفو صالح اعملو) … طلبت منه ان يذهب الى السبالة للعودة بكل ما تركته هناك من ادباش وبسريري الحديدي الضيّق …وكم هنالك من اسرّة واسعة وهي في الواقع اضيق من اضيق مضيق

وكان ذلك ..وانتقل سي محمد رحمه الله الى السبالة واعلمهم بانقطاعي عن التدريس ..ولم اعد منذ نهاية 1969 الا في اواسط الثمانينات عندما قررت الرجوع الى كل الاماكن التي عشتها في طفولتي وفي شبابي، لاقدّم لها ولساكنيها ولمن عرفت فيهم آيات الشكر والعرفان ..لأني لولاهم لما كنت ما انا عليه اليوم . دعوني احك لكم عن آخر واقعة لي مع الاماكن …يوم امس كانت لي زيارة خاطفة الى مدرسة واد القراوة طريق تونس التي نلت فيها شهادة السيزيام …هي ليست الاولى ولكن امر على الديار ديار ليلى اقبّل ذا الجدار وذا الجدار، وما حل الديار سكنّ قلبي .. وهذه المرة فعلا حب الديار ..احسست وانا ادخل باب المدرسة الخارجي بنظرات موسيو دوميناتي معلّمي في الفرنسية تلاحقني واحسست بيد معلّمي في العربية سيّدي علي الشعري رحمه الله تربت على كتفي ..وتطبطب عليّ وتحضنني ..وآه من نعمة الاحتضان والطبطبة …

ولم استفق الا على صوت مديرها يقول بلهجة المدير (اتفضل حاجتك بحاجة ..؟؟) اجبته بكثير من التنوميس: لا، حاجتي ببرشة حاجات ..ولان رجل التعليم عادة وفي جل مستوياته لا يميل الى الفذلكة بل ان العديد مهم يتصوّر ان الفذلكة “تطّيح قدر”، فقد اجابني بجدّية: اشكون سيادتك ..؟؟ فاجبته بشيء من الاستعباط: خلّي بطاقة الهوية تعرفها في نهاية الفيلم .. حدّق فيّ مليّا ثم احتدّت جدّيته وقال: لا ..من فضلك ما انجمش نحكي معاك قبل ما نعرفك اشكون انت … وقتها ادركت انّو زايد ..رغم انّي اتفهّم وضعه كمدير ..اي كمسؤول عن مؤسسة في زمن اصبح فيه الزائر يُخيف ..من يدري قد اكون صهر ابي بكر البغدادي او حلاّق ابن لادن او طباخ الظواهري ….لا يمكن ان اكون فقط احد حراسهم الشخصيين (جسديا)… و بالمناسبة ابقى دائما مندهشا من البنية الجسدية لهؤلاء ..هل توحّمت امهاتهم على ابقار وحشية ..؟؟ هل تصدّقون اذا قلت لكم اني عندما ارى جثّة الواحد منهم اقف امام المرآة لاعشق عبدالكريم هذا الذي لا يزن فخذا منهم… فقط احس بأني انتمي لدنيا البشر في هذا الزمن لا لقوم عاد ..في عهود غابرة …

قدّمت لمدير المدرسة اوراق اعتمادي فكان العناق والترحيب والف اهلا ومليون سهلا …وتساءل عن سبب زيارتي تلك ..فقلت له هل تسمح بزيارة قسم وحيد من المدرسة ..وكان لي ذلك بكل ترحاب ..وقصدنا معا وانا دليله هذه المرة الى اقرب قسم لباب المدرسة..وقفت امامه بحنين لا يوصف وقلت له: شفت هذيكة البقعة، طاولة التلاميذ الاولى المقابلة لطاولة المعلّم؟ … ودون ان اتركههيجيب قلت له تلك طاولتي التي جلست عليها وانا تلميذ في السنتين الخامسة والسادسة ابتدائي …بل تلك هي حجر الاساس في تكويني ..تلك هي الشجرة التي اثمرتني وتلك هي الينبوع التي ارتويت منه وتلك هي سبب من اسباب سعادتي ..تهلّل وجه المدير فرحا وقدم المعلّمون عندما شاهدوني احكي بلساني وبيديّ على الطريقة الايطالية وانا ارقص مثلهم بكل جوارحي وبغبطة لا توصف …

اقبل الجميع ربّما مؤازرة لمديرهم ..ظنا منهم اني ربّما اكون وليا (كجدّ طبعا لا كأب) جاء ليعبّر عن غضبه في زمن اصبح فيه جل الأولياء يذهبون للمدارس والمعاهد وكل واحد عنتر على حالو … وعندما قدّم المدير هويّتي لهم قفز احدهم وقال .._يا سي عبدالكريم امّي قرات معاك هنا فرد قسم “انت ويّاها”… واضاف هل تعرف بنت الزيّاني ..؟؟ تلك امي ..وقفزت اكثر منه وقلت له ..طببببببببببببببببببببعا ..بجاه ربي سلملي عليها وبوسهالي .باااااااااارشا ….هل اقتنعتم اني لا يمكن ان انتمي لا للظواهري ولا للبغدادي ولا لابن لادن ..لان هؤلاء ابدا ان يتجرؤوا على القول (بوسهالي) رغم انهم في داخلهم لن يفلّتوا لا بوسة ولا ما اعمق منها ..

لا علينا ..نظر اليّ احدهم وقال لى..سي عبدالكريم نريد منك كلمة في السّجل الذهبي للمدرسة ..اننا نفتخر بك جدا وانت احد تلاميذها .. اعتذرت سريعا لسببين احدهما اعلنته وهو اني على موعد هام على الساعة 12 ..وثانيهما اني لا ارى نفسي يوما اكتب في السجل الذهبي لمدرستي الابتدائية او ايّ موقع اخر نهلت منه.العلم … كيف لقطرة من بحر تكتب في السجل الذهبي لبحرها ..؟؟ كيف لغصن نحيف مهما علا شأنه علميا ان يكتب على جذع الشجرة الشامخة زيتونة كانت ام نخلة ام صنوبرة .. ؟؟ كيف لـ”صغنّن” مثلي كان وسيبقى، ان يكتب في سجل ذهبي لهامة كبرى وقامة عظيمة والتي هي من انشأته وربّته وصنعته ؟؟…سجلّها الذهبي عندي هي ارضها التي اجثو فيها على ركبتيّ وابوسها ..سبّورتها التي الثمها ..طباشيرها الذي لو كنت امرأة لوضعته احمر شفاه على شفتيّ ..محبرتها العتيقة التي اكحّل بها عينيّ …هكذا انا ارى تكريم الاماكن ..وهكذا انا مفهومي للعشق وللجمال وللوفاء ..

بدأت سنة الباكالوريا وعدت الى معهدي الغالي على قلبي (الحي)… كانت سنة اخرى مفصلية في حياتي ..مفصلية بكل المقاييس.. مفصلية بكل الاحداث التي اتوقّعها والتي لم اتوقعّها بتاتا ..الم اقل لكم انه يستحيل على الواحد منّا في قراءة مجلد ان يبدا بالورقة الثانية ..مجلّد حياتنا تبقى فيه ورقة الغد في عداد المجهول مهما كانت استعداداتنا ومهما كانت توقعاتنا ..فانا لم اصدّق يوما عرّافا ونحن في اسبوع العرّافين ولم اصدّق يوما نشرة جوّية رغم ايماني العميق بالعلم .. مرة اخرى انها الاقدار بحلوها وبمرّها ..رغم ان الحلو منها ما زال يستعبط ويتدلّل ..والمليح يبطى ..وساواصل دلالي عليكم ان ابطأت في الورقة 32 وربّما في الورقة 33 . وكل عام ونحن نتدلل على بعضنا البعض ..كتهنئة مني لكم بمناسبة حلول 2017 ..رجائي ان يكون عام الطبطبة والحب والخير ..

ـ يتبع ـ.

أكمل القراءة
انقر للتعليق

اترك تعليقا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

جور نار

مبادئ تربويّة جُرّبت فصحّت

نشرت

في

ليست التربية سوى ذلك السلّم الذي نجني بواسطته ثمار شجرة المعرفة وليست هي الثمرة في حدّ ذاتها… (ألبرت إينشتاين)

منصف الخميري Moncef Khemiri
منصف الخميري

أعتقد أن البناء – أيّ بناء- يحتاج إلى يدٍ ماهرة وعقل مُصمّم وقدرة عالية على التخطيط والتصرف والتقييم والتعديل بعدالشروع في تنفيذ مشاريع البناء. لكنه يحتاج أيضا إلى ذوق يُحاكي المناويل القائمة ولا يستنسخها وحضور متبصّر يقرأ حسابا لتُربة الإنبات بماضيها وخصوصية تكوينها وشتى عناصر الإخصاب والإعطاب فيها. وقد يحتاج أيضا إلى حوار واسع بين كل هؤلاء المتدخّلين جميعا قبل مباشرة البناء أو إعادة البناء (في حالات تآكل ما بناه الأجداد وتداعيه للتهاوي) من أجل الاتفاق على الجوانب الوظيفية أي الإجابة بوضوح عن السؤال غير البديهي بالمرّة : لِمَ كل هذا وما هي حقيقة انتظاراتنا من ورائه وأيّ المنافع ستتحقّق بفضله ؟ وإذا سحبنا هذا المنطق العفوي على مشروع إعادة بناء مدرستنا أو لنقل نظامنا التعليمي والتكويني بصورة عامة، يجدر بنا أن نتساءل عما ينتظره مجتمعنا اليوم من مشروع وضع أسس مدرسة برؤى جديدة وبوظائف مُبتكرة  وبآفاق حاضنة أكبر تُتيحها هذه المدرسة أمام خرّيجيها.

لو اختزلنا الغايات الأكثر سُموّا لمثل هذا المشروع في هدف واحد لقُلنا إن فلسفات إعادة البناء مهما تعدّدت ومداخل الإصلاح مهما تنوّعت لا بدّ من أن تُفضي إلى تحقيق نجاحين أساسيين على الأقل : تجاوز ديمقراطية التمدرس نحو ديمقراطية النجاح والتميز اللذين أصبحا مكافأة تحتكرها أقلية قليلة من التلاميذ والطلبة والمتكوّنين، ومن ناحية ثانية مغادرة التلميذ لمقاعد المدرسة نحو المسالك التكوينية الموازية أو نحو الجامعة أو نحو مسالك الحياة عامّة بملمح يقيهِ شرّ ركوب قوارب الحياة دون مجاديف. وهما نجاحان- جناحان لا يمكن لمدرستنا التحليق في سماء التطور والتقدم من دونهما.

وفي هذا السياق، أنا موقنٌ أن الاطلاع على بعض ما به تتألق المدارس الريادية في العالم قد يهِبُ قيادات الإصلاح المرتقبْ والمبتعد كلما قلنا اقتربْ، بعض المبادئ التربوية التي جُرّبت فنجحت. ومنها :

تنمية ذاكرة الأطفال والشباب مهمة ولكنها لا تكفي لتحقيق النجاح

يقول أندرياس شلايكر منسّق مسابقة بيزا التربوية العالمية: “من بين مناطق العالم كلها، قد يكون أمام المنطقة العربية الطريق الأطول من أجل تحسين نتائج أبنائها الذين يُعبّرون عن مستوى جيد في مجال إعادة ما حفظوه، وليس في مجال المشاركة في عمليات تتطلب من التلاميذ التفكير بشكل فيه إبداع“. ويُترجم هذا الموقف عن واقع مؤلم لأجيال نُطالبها داخل الفصول وخارجها بالحفظ والتخزين و”شربان الدروس شربة ماء” دون إقدارها على تفكيك “محفوظاتها” وتمثّل معانيها وعلاقتها بالواقع المعيش. (أفتح قوسا صغيرا هنا للتأكيد على أنني لم أستوعب حقيقة معنى “ألهاكم التكاثر” إلا لمّا بلغت سن العشرين تقريبا صدفة عندما فهمت أن “شغلهُ الشيء عن كذا” معناه ألهاه وصرفه عنه. كما نكّل بي المعلّم في المرحلة الابتدائية لأنني لم أقدر أبدا على حفظ سورة “الكافرون” … وكم تمنّيتُ ساعتها أن أتأكد أن المعلّم نفسه كان يحفظها عن ظهر قلب كما يُقال.  

القطع مع المنافسة

المتتبّع لما يجري داخل الفصل يُلاحظ بيسر أن مساحات العمل المشترك ضمن مجموعات منحسرة جدا بالرغم ما لهذه الصيغة من مزايا مؤكدة لكونها تسمح للتلاميذ بمحاولة التعبير عن أفكارهم الخاصة وإيصال انطباعاتهم المشوّشة والمترددة والإصغاء إلى ما يقوله أقرانهم، بدلا من التمرين الصعب المتمثل في مواجهة جمهور عريض تحت أنظار معلّم أو أستاذ لا ينتظر سوى الإجابات الصحيحة كما صاغها هو. كأن يحاول الإيحاء بالجواب على النحو الآتي :

المعلم : “وقد خُلق الإنسان لكي يَعْ….”

التلميذ : “لكي يعمل خيرا في الدنيا سيدي”

المعلم : ” غالط يا سي الدبّير، المعنى واضح هنا : لكي يعْبُد ربّه”

التلميذ : “هام كيف كيف سيدي …تقريبا” ! 

المعلم : “ولّيت تتفلسف توّة ؟”

نظام التقييم الحالي يُغذّي التنافس الكريه بين التلاميذ، أي ذلك السّباق الذي لا يصل خلاله المتسابقون إلى نفس النقطة واحدا وراء الآخر (وليس بالضرورة دُفعة واحدة) بل تصل أثناءه كوكبة صغيرة جدا من العدّائين وتُترك البقية على قارعة المضمار… وفي ذلك ضربٌ سافر لمبدإ أساسي موكول إلى المدرسة وهو حق الجميع في الوصول إلى محطات ذات إضافة ومعنى ولو بطُرُق عدْوٍ وأنفاس مختلفة. هذا بالإضافة إلى ما يُخلّفه تساقط الخائرة قواهم والشّاحبة بُناهم أثناء الركض والصراع وتنازع المراتب، من وصْم ومُركّبات (في الاتجاهين : الغرور المُنتج للتعالي والخُفوت المُولّد للاستسلام والانكسار) ومغادرة هذه المحضنة الكاذبة التي نسميها مدرسة، برأس فارغة وروح لا شيء فيها سوى الخيبة والإحباط.

لا تقدّم لمدرسةٍ مازالت تعتمد الحشْو والإثقال

من بين الأسباب التي صنعت نجاح المنظومة التربوية الفنلنديّة وتفوّقها على كل المنظومات الأمريكية والأوروبية دخول الطفل إلى المدرسة في سنّ السابعة وتمتّعه بمساحات أكبر للراحة واللعب المُفيد وساعات دراسية أقلّ (300 ساعة سنويا أقل في الابتدائي مقارنة بالتلاميذ الأمريكيين مثلا) إضافة إلى عدم وجود برنامج خاص لما يسمّى بالنخبة ولا وجود تقريبا لمدارس خاصة أو امتحانات وطنية مُقيّسة بغاية الانتقاء، مقابل اهتمام أكثر بالتلاميذ الذين يتضح أنهم بحاجة إلى عناية خاصة، أي تعليم نموذجي لفائدة التلاميذ الأقل حظا وليس العكس.

تعليمنا النظامي لا يُسنده تعليم لا نظامي

ما يُلاحظ في بلادنا أن العائلة والمجتمع يُساهمان بشكل مَا في تسميم المناخ المدرسي للمدرسة داخل جدرانها غير العازلة، عوضا عن مُعاضدتهما لمجهودات المعلمين والمربّين في تلقين المبادئ الثقافية والمدنية والمُواطنية المنتظرة لبناء مجتمع على نحو آخر. فهناك تعلّمات أساسية أخرى لا تقلّ أهمية عن “تعلّم مبادئ الحساب والقراءة والكتابة” يتولاّها الآباء والأقرباء وبطاحي تجمّع الأنداد والأجسام الثقافية والمدنية والرياضية المختلفة، مثل الهندام الذي يليق بكل مقام، ونوعية الخطاب اليومي الذي يُستطاب والعلاقة السويّة والمتصالحة مع الجسد، والتعامل مع البيئة، وتنمية الشعور بالانتماء إلى الفضاء التعليمي بوصفه مجالا للبناء الذاتي لا حَلَبة لتجريب شفرات الحلاقة وممارسة شتى أشكال الحماقة.

تتحدّث العلوم في هذا السياق عن مهارات تتجاوز المعرفي الضيق، أي كيف يتوصّل المتعلّمون إلى توظيف تجاربهم السابقة من أجل إنجاز تخطيط أو تحقيق هدف أو تخيّر استراتيجيات أو التفكير بشأن ما تعلموه والطريقة التي تعلموا بها…على امتداد كامل مسارهم ما فوق العرفاني. وهي كفاءات ضمنية في أغلب الأحيان وغير مباشرة مثل تعلّم المشاهدة وتعلّم الانتباه وتعلّم التصرف في المشاعر وتعلّم توظيف الذاكرة وتنميتها وتعلّم التفكير الذاتي وتعلّم أن تفهم وتتعلّم، وتعلّم التعرف على ما نعلمه وما لا نعلمه وتعلم طلب المساعدة عند الضرورة وتعلّم الاستفادة من الفشل والنكسات… تبدو تعلّمات بسيطة ولكنها هي التي تصنع الفرق في النهاية بين من تكون المدرسة بالنسبة إليهم مِقفزا tremplin وبين من تشكل بالنسبة إليهم حاجزا شائكا يصعب تسلّقه أو القفز عليه.

التربية من خلال التجربة

تعجبني شخصيا مقولة بنجامين فرانكلين: ” قل لي وسأنسى، أرِني وسأتذكّر، دعني أشارك، دعني أُجرّب وسأستوعب” لأنها تلخّص مبدأ تربويا بسيطا ولكنه ناجع : ضرورة تجاوز التلقين والإنشاء والتحفيظ، نحو المشاهدة والتجريب وتمكين المتعلّم من “تلطيخ يديه بعجين العلم والمعرفة والحياة”…فالذاكرة -حسب العلوم العصبيّة- لا تحتفظ إلا بما ينحفر في جيوبها الداخلية الدقيقة من معلومات، نُزعت عنها أغلفتها المجرّدة وباتت لها معان روّضها العقل وهضمها.

أكمل القراءة

جور نار

سلاسل العنكبوت (4)

نشرت

في

مسلسل «رقوج».. دراما رمضانية تعكس هموم المجتمع التونسي (خاص)

تحدثنا المحطة الماضية عن فلتات المسلسلات التلفزية في دولة بلا رقيب ولا حسيب… وعن الحرية التي لا يأخذها عندنا سوى المنحرف والشاذّ والمنبتّ والمتعجرف… هذا عن المحتوى، فماذا عن المستوى؟

عبد القادر المقري Makri Abdelkader
عبد القادر المقري

فنيا… مسلسلاتنا الحالية لا ترقى في معظمها (وبكامل التسامح) إلى ما ينجزه طلبة الفنون السمعية البصرية في مشاريع ختم دروسهم … أي ذلك العمل التطبيقي الذي يرفقه الطالب برسالته النظرية… وأذكر أننا في السنة الرابعة ورغم أننا لم نكن مطالبين بشيء من هذا في ذلك الوقت، إلا أن زميلنا يونس الزمني (وقد أصبح في ما بعد صحفيا وشاعرا على غاية الرقيّ) شاء أن يجتهد ويقدم في مادة السينما محاولة صغيرة في التصوير والإخراج … وفعلا وبوسائل بسيطة قام بإنجاز فيلم قصير جدا وعرضه في قاعة الدرس … ورغم أن “الفيلم” كان حافلا بأخطاء شتى يبررها صغر سن وانعدام تجربة صاحب العمل، فقد صفقنا طويلا وصفق أستاذنا المخرج السينمائي فريد بوغدير تشجيعا لهذه المحاولة والمبادرة…

ولئن عذرنا زميلنا وشكرناه… وما زلت إلى اليوم معجبا بمجهوده بيننا ونحن وقتها نعجز حتى عن مسك آلة تصوير جيب عادية، فكيف بكاميرا “سوبر 8” مع ما تبع ذلك من عمليات كما فعل المرحوم يونس… لئن عذرنا الطالب الهاوي، فهل يمكن أن نفعل ذلك مع من يقال عنهم الآن مخرجون محترفون؟ … أخطاء يونس كانت منحصرة في “ارتعاش” الكاميرا بين يدين غير متمرّستين، وفي ضبابية الصورة أحيانا، وفي انعدام الصوت ربما … لكنه لم يصور شخصا يسافر في حافلة ذاهبة من يمين الشاشة إلى يسارها، وبعد ذلك يصور نفس الشخص “راجعا” ولكن حركته كانت أيضا من يمين الشاشة إلى يسارها… دون الحديث عن حلقة مفقودة متمثلة في نزول ذلك الشخص من تلك الحافلة قبل عملية رجوعه … بل ودون أن نتثبت أيضا من هوية الشخص الراجع بما أن المخرج صوّره في لقطة بعيدة جدا لا تسمح لك بالتعرف عليه … وما علينا سوى الاستنتاج وأنت وحظك …

نعم… حصل ذلك في مسلسل “رقوج” عندما يئس البطل وقرر ترك القرية والعودة إلى العاصمة، ثم يبدو أنه أعاد التفكير وصمم على مواصلة البقاء في القرية وبناء المدرسة فنزل من الحافلة لا أدري متى وأين، وقفل راجعا إلى بلدة رقوج … وهذا من أخطاء الربط (Faux raccords) التي تحفل بها أفلامنا ومسلسلاتنا ومنها هذا المسلسل … فضلا عن العجز عن تصوير لقطة حادث مرور أو اقتصار جريمة على وضع “شريطة” في عرض الطريق … والله العظيم … دون ذكر الإطناب في رقصات عبثية يقوم بها كل 5 دقائق ممثلو المسلسل جماعيا أو فرديا في الهواء ودون أي داع …

العبث هو العنوان الأبرز لكافة أعمالنا الدرامية والسينمائية، ربما تأثرا مبالغا فيه بمدرسة “الموجة الجديدة” في الستينات والتي تأخرت بالسينما الفرنسية ووضعتها على هامش السينما العالمية بعد أن كانت رائدتها … وربما استسهالا لهذا الفن خصوصا إذا كان الممول هو دعم الدولة السخي لأسماء بعينها مهما كان استحقاقها ومستوى شغلها… يضاف إلى ذلك جمهور متسامح بل متحمس باسم الوطنية، وحركة نقد عرجاء فاسدة يتصدرها متواطئون أو أشباه أميين … عبث في قصص أعمالنا، عبث في إنجازها، عبث في تلاعبها بالمال والوقت وكافة أصول الفن …

في المسلسل الآخر (فلوجة) إلى الآن لم أفهم ما الحكاية بالضبط، وكيف أفهمها ونحن بالكاد نسمع جملة على عشر مما يقوله أبطالها … الصوت؟ نعم، الصوت الذي أستغرب كيف يجيزه المهندس المسؤول وهل هو مهندس صوت أصلا؟؟ كل الممثلين يتكلمون همسا (في حوايجهم) وبحنجرة مبحوحة مهما كان الموقف ومهما كان الممثل … عجبا … ويزيد على النافسة أن المخرجة تضع باستمرار عمقا “موسيقيا” لكل حوار ودون أي مبرر … وهي موسيقى رتيبة مملة مشوّشة لا تدل على شيء ولا علاقة لها بمفهوم الموسيقى التصويرية …

بالمناسبة، يبدو أن تشويش الصوت وبحة الممثلين وهمسهم الدائم، هي سمة كافة مسلسلات الفهري منذ أن صار مخرجا فمنتجا فمليونيرا … نأتي الآن إلى أداء الممثلين … وهنا وسواء كان الممثل شابا حديث العهد أو قيدوما من أصحاب الخبرة، فمن الصعب أن يقنعك كثيرون منهم لو أزلنا الغطاءين المذكورين أعلاه (تسامح المتفرج ومجاملة أشباه النقاد) … وتندهش كيف في نهاية رمضان تسند “جوائز” لأحسن ممثل وأعظم ممثلة وتتم استضافات وتمجيدات واستعراضات غاية في الغرور… أما وجه الدهشة فهو نشاز الممثلين وفشلهم في التعبير عن معظم ما تقتضيه المواقف التي جسدوها… تحس دائما أن العمل تنقصه “غلوة” على كافة المستويات ومنها التمثيل… فتعابير الوجه واليدين مثلا في واد، وحقيقة الموقف (حزن، فرح، غضب، سخرية إلخ) في هفهوف ثان … نور الشريف قال مرة إن قوة الممثل تظهر خاصة عند رد الفعل، وجماعتنا في هذه النقطة أصفار على الشمال … وكيف لا يكونون كذلك،ولا مخرج أمامهم ولا إدارة ممثلين ولا أي واحد يقول: لا ليس هكذا، يجب أن نعيد المشهد …

لذلك يتيه ممثلونا في أعمالنا في حين يتألقون مع مخرجين خارج بلادنا… وشتان مثلا بين هند صبري وظافر العابدين في مسلسل تعيس كـ “مكتوب” وبين أداء كل منهما في فيلم “عايز حقي” أو مسلسل “تحت السيطرة”… هناك حيث لا لعب مع المستوى الفني، وحيث تعاد اللقطة عشرين مرة لو لزم الأمر حتى يصل التعبير إلى ذروته المنشودة … بينما عندنا، بإمكانك أن تخطئ في كل جملة، أن تتلعثم، أن تنسى، أن ترتجل بشكل رديء … لا يهم … وكعور واعط للمتفرج التونسي الأعور …

ـ يتبع ـ

أكمل القراءة

جور نار

ورقات يتيم … الورقة رقم 31

نشرت

في

زغرودة جزائرية YouTube Hhhhhhhhhhhhhh - YouTube

اخذت ورقة تعييني او الاصح اعادتي الى مدرسة سبّالة اولاد عسكر، بكثير من الغبطة ..احسست وقتها بقيمة ما قدمته في سنتي الاولى من حياتي كمعلّم وانا في بداية مسيرتي التعليميّة والتربوية ..وانّ نشاطي ومثابرتي وكلّ ما زرعت من مجهود لم يذهب سدى ..واحسست خاصّة بصدق متفقّدي وهو يعبّر عن اعتزازه بي …

عبد الكريم قطاطة
عبد الكريم قطاطة

امتطيت الحافلة التي ستقلّني من القصرين الى السبّالة وكلّي عزم على مواصلة نهجي في التعليم والتربية شكلا ومضمونا …كنت في الحافلة حالما باطفالي.. بابنائي.. وعادت بي شاشة الذكريات الى سنوات عمري كتلميذ … كنت اتساءل … هل ساعود الى تلاميذ السنة الثانية لاكرّر تجربتي مع ابنائي الجدد ..بنفس الشغف والعزيمة والمثابرة ..؟؟هل سادرّس السنة الرابعة ..؟؟؟ لاعود وايّاهم الى الحلاّق الثرثار الذي ضرب بكُمّ يده راس الحريف وهو يلعن السّياسة والسّياسين والنّاس اجمعين؟ ..هل ساحدّثهم عن ستّ الرياح وعن جسر السعادة .عن الارملة المرضع لمعروف الرّصافي و…لقيتها ليتني ما كنت القاها …تمشي وقد اثقل الاملاق ممشاها؟ …

هل سيمنحني مدير المدرسة احدى السنوات الفردية ..وخاصّة الثالثة والخامسة وهي سنوات عادة ما تُعطى للمعلّمين ذوي التجربة نظرا إلى صعوبتها … اما عن السنة الاولى فحدّث ولا حرج …..وهذه لا اظنه انه سيغامر بي فيها لمحدودية تجربتي ..كنت في كلمات ذلك السابح وبنوستالجيا كبيرة في عالمي وانا تلميذ من جهة …والمدرك لأهمية ما سأقدم عليه هذه السنة من مسؤولية جسيمة خاصة بعد ان اقتلعت ورقة عودتي الى السبّالة …وحطّت طائرة عودتي بمطار السبّالة الدّولي ..هكذا خلت نفسي وانا انزل من الحافلة منتصرا على نقلتي الى عين الحمادنة …

في السبالة لم يتغيّر شيء ..الجزار الميزوني كعادته امام حانوته ..اهلا بيك سي عبدالكريم بيكشي وهذه تعني كيف هي احوالك …وابراهيم حارس المدرسة رحمه الله يسرع لاستقبال سي عبدالكريم بابتسامته التي لا تنتهي …وهاهو سي رضوان مدير المدرسة ينضم لمجموع المستقبلين و في عينيه تساؤل ..اش جابك ؟؟ كيفاش عملت ..؟؟ ناولته ورقة التعيين وصدقا سُعد بقدومي وبكل فرح …ادخلني مكتبه المتواضع ومدّني بجدول التعيينات ..وفّجعت …وُزّعت السنوات على بقيّة الزملاء ولم يبق الا قسمان من السنة الاولى ….يا للطامّة ..انا سادرّس السنة الاولى …نرجسيّتي من جهة والواقع الموضوعي لتقسيم السنوات جعلاني لا انبس ببنت شفة، خاصّة ان المدير يضيف ..نعرفك تنجم روحك سي عبدالكريم …وما تخافش انا معاك وقت تستحقّني … فكيف لي ان ابدي اعتراضا على هذا القدر المحتوم ؟؟؟كان ذلك يوم جمعة مساء …ولا اعرف يومها كيف قضّيت ليلتي .. كنت جد قلق من خوض هذه التجربة الصعبة بيداغوجيا … اطفال بهيأة طين خام وعليّ ان اطوّعه لاعلّمه ابجدية المعرفة ..

يوم السبت صباحا ارتديت كعادتي ميدعتي البيضاء وتوجهت الى القسم …واذا بي عاجز تماما عن تخطّي الخطوة الاولى مع اطفالي …تماما …. تصوّروا انّي قضّيت كامل وقتي في حصّتي الصّباح والمساء وانا اتأمل وجوههم ..كنت حاضرا بالغياب معهم ..غائبا تماما ..كان ذلك اليوم واحدا من الايام التي عشت فيها عجزا كاملا عن فعل ايّ شيء …ايّ شيء ..وشعرت وبكل مرارة انّي اضعت لهم يوما من عمرهم ..شعرت اني اجرمت في حقّهم تعليميّا وتربويّا ..شعرت بأني تخلّيت عن رسالتي السامية …القيام بالواجب… نعم هو يوم واحد ولكن بمقاساتي الانسانية هو قرن من الزمن …وحتى عندما انهيت الحصة المسائية لم اكن قادرا على مواجهة الزملاء ولا ايّ كان ..وجهي كانت تعلوه خيبة صفراء وهزيمة رمادية ..وكنت اردّد في داخلي: هل هذا انت يا عبدالكريم ..؟؟ هل هذا انت الذي يقول عنك الكثيرون انّك شاطر ويقول عنك متفقدك لم ارد ظلمك لذلك سارجئ منح ما تستحقه في سنتك الثانية ؟؟؟ وهل سأنال ما استحقه بهذا السلوك؟؟؟

ابتعدت عنهم جميعا ووقفت متجمدا على حافة الطريق اراقب اصحاب السيارات المارّة متجهين الى صفاقس ..كنت اتمنى ان تاخذني واحدة منها الى صفاقس لاقضّي الويك اند هنالك، علّني استلهم من اصدقائي شيئا من القدرة على تخطّي حاجز الفشل او علّ ضمّة عيادة وهي “توجوج” على ولدها واخبار الفيضانات التي عمّت البلاد تتوارد عليها من الراديو والاكيد انّها كانت تردّد دوما: يالندرى وينك يا كبدي ؟؟؟ واش عاملة فيك المطر ..؟؟ مغطّي والا عريان ..؟؟؟ جيعان والا شبعان … ؟؟؟ يا ربي جيب وليدي على خير …وما من سيارة تمر الا واردد رافعا يدي تجاه صاحبها: صحة لدين سماك ..انت تحوّس وانا يعلم ربّي بحالي كيفاش ماشي يتعدّي هذا العام على خير …

ولأن الاقدار لازمتني طيلة حياتي ..هاهي تجيب وتستجيب في لحظة فارقة … كانت السيارة مرسديس سوداء تمر امامي (كي العجاجة) وكان رد فعلي كما ذكرت غابطا ثم وبتواتر مرور تلك السيارات حاسدا لهؤلاء الذين يمرّون امامي بكل سعادة وانا البائس التعيس …فجأة وعلى بعد خطوات منّي توقّفت المرسديس ثم عادت اليّ ..اطلّ سائقها من النافذة الجانبية وقال لي ..وين ماشي ؟؟ اندهشت من سؤاله واجبت … ما عندي وين ماشي ….انا نقرّي في السبّالة …ابتسم وقال ..تصوّرتك تعمل في اوتو ستوب قلت نهزّك معايا ..صمتّ لحظة وقبل ان يغادر قلت له ..خويا وين ماشي بالضبط ..؟؟ ردّ ….لصفاقس … في تلك اللحظة تحوّلت كلمة صفاقس الى عناقيد فرح وقناديل نور … هي من المرّات العديدة التي اسمع فيها اسم مدينتي بذلك الزخم الموسيقي الرهيب متعة .. احسستني ارقص على وقعها واحسستني اتحوّل في رمشة عين الى زوربا اليوناني وهو يرقص رقصته الشهيرة ..

وبسرعة بليون كلم في الثانية قلت له ..لحظة وساكون معك …اسرعت الى الميزوني الجزار وحانوته على حافة الطريق ..نزعت ميدعتي ورميت بها اليه وقلت له: سلّملي على الناس الكل ..نهار الثنين نرجع ان شاء الله .. وصعدت الى الطائرة الرئاسية (المرسديس) قاصدا صفاقس …كانت المرّة الاولى في حياتي التي ركبت فيها مرسديس …وهل همّتني المرسديس في شيء .؟؟ وهل همّني ما روى لي سائقها .؟؟؟ في تلك اللحظة وفي تلك الاجواء التفسية المضطربة كنت مستعدا للركوب ثانية على بغلة لترحل بي الى صفاقس …كان بداخلي احساس عميق بان تحوّلي الى صفاقس لقضاء ويك اند هنالك كفيل بشحني بطاقة لا توصف، حتى تصبح سنتي التدريسية عنوانا للعطاء الذي لا حدود له رغم صعوبة المهمّة (سنة اولى ابتدائي ؟؟؟؟ موش ساهل) …

يومها عشت ما كنت ازعم اني افهم ما اقول او ما اكتب ..كنت في توصيفاتي للسرعة استعمل عبارة “وطويت الارض طيّا”… يومها طويت الارض طيّا وانا احلم بلقاء الاصدقاء والعائلة حيث لا اخبار متبادلة بيننا ..فلا الهاتف بنوعيه العادي و الجوّال خرج من رحم التكنولوجيا بعد ..ولا سي مارك متاع الفيسبوك اتولد ..ما اخيب امّو اللي وخّرت بجيّانو .. وحتى اخبار القنوات الرسمية اذاعيا وتلفزيا لا تصلنا الا بعد ان تشتغل المصفاة لتُخرج فقط ما يريدون الافصاح عنه …انّه الاعلام الموجّه سابقا وحاضرا ..لا تنخدعوا بشعارات حرية التعبير والصدق والموضوعية التي يتبجّح بها العديد الان ..كذبة كبرى ..كل قناة تعمل ضمن منظومة معيّنة …والمصفاة خدّامة ..وكلّ ـ كدت اقول يغنّي على ليلاه ـ والاصح كلّ ينوح على ليلاه …

وصلت الى صفاقس المدينة وامتطيت سيّارة اجرة .. _ اشبيكم راني معلّم والفلوس كاينة وفي اول الشهر والسؤال الذي رافقنا طيلة حياتنا نحن الموظفين (صبّوشي؟) لا يُطرح …وصلت الى نادي الاصدقاء بالساقية، حانوت الحلاق احمد الفقي، حوالي الساعة السابعة مساء ونزلت …العصابة كلّها هناك ..وتعالت الصيحات ..واضخمها صيحة الزمبار صانع الشاي في حانوت الحلاق ..سهريات …هكذا كان يحلو له ان يلقّبني… ويبدو انو كلمة عليها ملك وكلمة عليها شيطان، لان السهر والسهرات لازمتني طيلة حياتي ..فانا واحد من الذين قضوا معظم حياتهم ساهرا اما بفعل القيام بواجباتي المهنية، او برغبة جامحة منّي وعشقا لليل والسهر… لذلك تجدني بعدها وحتى في اختياراتي الغنائية في عملي مدفوعا بوعي ودون وعي الى اختيار اغان تتغنّي بالليل والسهر (انا حبيبي الليل والليل حبيبي انا …عدّينا عمر طويل نواسي في بعضنا) …

التف الاصدقاء حولي في عناق وتقبيل … وكان كل واحد منهم لا ينسى في خاتمة تحيّته ان يقول لي مبروك …وحتى سي المبروك حمّاص الساقية غمرني بقبلاته وهو يعيد كلمة مبروك مرّات … ويضيف _ والله انا كنت حاسس انّك ماشي تنقزها يا كُريّم ….اندهشت من وصول خبر عودتي للسبالة الى مسامعهم …. وكنت اردّ بدهشة وسعادة: الله يبارك فيك …وطفقنا ندردش معا وبالفاظنا السمجة والوقحة كما تعودنا دائما …وجاء السؤال من احدهم …ايّا انسى ما تتحدث وانحبوا المبروك ..هاذي يلزمها فيشطة كبيرة ويلزمها السلتيا والبوعرقوب …اي سكرة …واذعنت لمشيئتهم …فكيف لي ان ارفض طلبات عصابة الخلاّن ؟؟….خاصّة وانا انذاك ولسنوات عديدة من عمري كنت اعشق اجواء والوان سكرة الاصدقاء، وكنت اكثرهم انتشاء وسكرة رغم انّي لم اشاركهم في كل حياتي فعل شرب الخمر ولو قطرة واحدة منه …ولكن كانوا هم من يشربون وانا من يسكر …

اتذكّر جيّدا اني صعدت يوما سيّارة اجرة وسألني صاحبها الى اين فقلت له اذاعة صفاقس … نظر في وجهي ثم قال لي انه يحب جدا اذاعة صفاقس وان له صديقا حميما يعمل فيها… سالته عن اسم هذا الزميل الصديق الحميم له فقال لي: هو عبدالكريم قطاطة ..قلت له هل تعرفه جيدا ؟؟ اجاب: يا راجل اشنوة نعرفو ..؟؟ كل نهار نسكر انا وياه ..قدّاشو بحبوح ..و صاحب جوّ كبير ..وبعد السكرة نوصّلو خيوط لدارو … وتركته يسرد لي عنه اجمل الحكايات …لم اغضب منه بتاتا لان هنالك من المستمعين من يصورك كما يريده هو لا كما انت كائن وتكون ..فقط عندما وصلت الى مقر عملي سلمته دراهمه وقلت له ..راهو عبدالكريم نعرفو عمرو ما شرب في حياتو ..اغتاظ للامر وسخر منّي وقاللي: بالكشي تعرفو خير منّي ..انا نقلّك كل ليلة انا وياه فرد طاولة وانت تقللي ما يشربش ؟؟ ابتسمت له وقلت تعرف اشكون اللي معاك توة …راهو انا عبدالكريم اللي تحكي عليه وهاهي بطاقتي المهنية حتى تتأكد …وما تقلقش حتى انا كنت انّجم نعمل كيفك … الحبّ يعمل يا خويا ..

ومضيت في سبيل حالي …..

مع عصابة الاصدقاء في حانوت الحلاق بقي الهاجس كبيرا والمتمثل في معرفة من اعلمهم بنقلتي الى السبالة …علامات استفهام كانت تراود ني داخلي ..خاصة وان نقلتي لم تتم الا منذ يومين …واسندت كتفي الى صديق عمري (رضا التريكي اطال الله في انفاسه ومتّعه بالصحّة) وهمست له: يخخي كيفاش عرفتو اني حوّلت للسبّالة ..؟؟ اشكون قلّكم …؟؟؟ استدار رضا بكل اندهاش و”لهدني” بدعوة لا تقرا ولا تكتب من النوع القبيح والجميل عندنا، وقال اما سبالة متاعك ..؟؟؟ راك نجحت في الامتحان! … فتساءلت: اما امتحان؟؟ ..وردّ، يا كازي اشبيك سكّارة امتحان النقلة الى السادسة …قالها بصوت عال وبزهو وكأنّه فاز كاعلامي بـ “السكوب” وما افظع سكوبات هذا الزمن الردئ ….ونظر الى الجميع وقال ..قلّك حوّل للسبّالة يعطيه (تييييييييييييييييييييييييييييييت) ليلو وللسبابلة …وقهقه الجميع …وحتى لا ابقى مهزوما امام سخريته بي وسخرية العصابة عادت لي لحظة حضوري الذهني وقلت له: محسوب هي فاضلة عليك يعطيك …تييييييييييييييييييييييييييييييييييييلت … رُدّها عليّ ان استطعت …(شكرا للتلفزة التي لقنتنا كيف نستعمل الكلمات النابية )….

يوم عودتي الى صفاقس ذلك السبت الجميل صادف يوم ظهور نتائج الامتحان الاستثنائي للانتقال الى السنة السادسة… سنة الباكالوريا انذاك …وكنت من بين الناجحين ..عندما علمت بالخبر كانت الوان من السعادة تغمرني …السعادة بالانتصار على امتحان كم قهرني وانا اخيب فيه _امتحان الجزء الاول من الباكالوريا …خاصّة وانا اسقط في مادّة العربية وبـ 6 على 20 …سعادة الانتصار لعائلتي ..لعيّادة لاصدقائي الذين وثقوا بي ..سعادة النجاح الذي سيخوّل لي الارتقاء أليا في مهنتي من مدرب صنفا ثانيا الى مدرب صنف اوّل ..وهذا يعني انّ مرتّبي سيسمن نوعا ما وهو ما يهيّئني عمليّا اكثر لبناء مستقبلي مع فتاة احلامي … وسعادتي النرجسيّة التي يحس بها جلّ التلاميذ الذين ينجحون في امتحاناتهم ..انذاك كنّا نحس بأننا شبه ملوك نرفل في حلل الافتخار والزهوّوالخيلاء …

واستأذنت من الجميع ان اغادر للالتحاق بمنزلنا ..وغادرت انا وصديق عمري رضا في اتجاه الحوش ..كنت متلهّفا لاقرأ جداول السعادة وهي تنهمر من عينيّ عيّادة ..كنت احسّ بأنني اليوم سأرفع لها رأسها امام الجميع وكنت متشوقا لرؤية سي محمد الوالد وهو العاجز في مثل هذه المناسبات عن الكلام . …لأنه عادة ما يترك المصدح المشاعري لدموعه تُلقي معزوفته الخاصّة به …طرقت الباب وخرجت حميدة ابنة عمّي واحبّهن الى قلبي لفتح الباب .. حميدة هذه كانت “البهيّم القصير” الذي يستعمله الجميع هادئة مطيعة وطيبة هلبة ..وكانت ابتسامتها لا تفارقها رحمها الله ..لذلك هي صاحبة جميع المهمات التي يتأفف ثم يتملّص منها الجميع …ومن ضمنها فتح باب الحوش …

اه عبدالكريم ايّا مبروك، والله فرحتلك يا ولد عمي … هكذا استقبلتني … وعلى وقع كلماتها هبّ الجميع لاستقبالي والزغاريد تلوّن الاجواء ..وصدقا كانت كاميرا عبدالكريم مركّزة على عيّادة… كنت انتظر تلك اللحظة التي ترى فيها ابنها “هلال على روس الجبال الشمس لا تحرقو والعدو لا يلحقو” تلك كانت دعواتها …وتلك يومها كانت عيناها تحكي وتحاكي ابنها .. وكأن هواجسها التي رويتها لكم وانا في السبالة (ومن ضمنها يا لندرى وليدي جيعان شبعان .؟؟؟ يا ربي جيب وليدي على خير ) قد سمعها الرحمان فاستجاب لها …وكان سي محمد رحمه الله كما صورته لكم ..لكن هذه المرّة كانت دموعا ونشيجا مصاحبا لها ..اي انّه كان في قمّة سعادته …ولم تنتظر عيّادة لا نشرة اخبار ولا حتى موجزها بل سألت: تلقاك مقطوع بالشرّ (اي بالجوع) هوّاشي يا وليدي ؟؟…ايّا توّة نحضرلك عشاك انت ورضا ..

امّي تعرف ما معنى رضا في حياتي انذاك …وكنت اقول لها كان تحبّني بالحق وقت رضا يكون معايا نحبّك تعطيه هو الباي الباهي اي منابي في “الزهومة” (وهذه تعني اللحم او السمك) …. امّي اعدّت ليلتها كسكسي بلحم العلّوش لكل متساكني الحوش، كيف لا وطفلها ينجح في الامتحان ..؟؟ وانغمسنا انا ورضا في ذلك الطبق الشهي …رغم اني لم اكن يوما من عشاقه ولكن ان ياتيك بعد سردينة بالبسكويت … علّقوا انتم …انتهينا من زردة الكسكسي وخرجت مع رضا كي اوصله بعض الامتار في طريقه الى منزلهم ..وماكدنا نقطع بعض الخطوات حتى فاجأني رضا بسؤال لم انتظره بتاتا …. قال: .ايّا قللي اش ماشي تعمل توّة …؟؟؟ لم افهم وقلت له: يعني ؟؟؟ قال هل ستعود الى السبالة ام تعود الى دراستك …؟؟؟ …

وبُهت الذي سمع ….تجمّدت في مكاني … وتجمّدت كلماتي … هل وثقتم اليوم بأن افصح الفصحاء يصاب هو ايضا كالاخرين في لحظة ما ..في واقعة ما …. في زمان ما …. في مكان ما …. بالشلل …؟؟ بعدم القدرة على النطق ..؟؟؟ بالعجز …؟؟؟ فما بالكم وانا في زمن لم ابلغ بعد مرحلة “من اين تأتي بالفصاحة كلّها .. وانا يتوه على فمي التعبير”؟ …

ـ يتبع ـ

أكمل القراءة

صن نار