تابعنا على

جور نار

17 ديسمبر أو 14 جانفي ، لا رابح .. لا خاسر ..

نشرت

في

لو كانوا يعرفون أنه بعد 12 سنة …

تاريخ أو تواريخ للاحتفال ، شارع أو شوارع للتظاهر ، قراءة أو قراءات لما حدث بين من يعتبره انتصارا لإرادة شعبيّة ومن يرى أنّه استجابة لقرار دولي بإزاحة بن علي ، تسمية أو تسميات بين انتفاضة و ثورة و انقلاب جزء من النظام على جزء آخر ...

عبير عميش

إلى اليوم لم يتّفق التوانسة على ما حدث … و لكن مهما اختلفت المواقف والرؤى ، فإنّ الجميع يقرّون بأنّ يوم 14 جانفي كان يوما استثنائيا بكلّ المقاييس و أن لا أحد يمكنه أن يمحوه أو أن يمحو رمزيّته من الذّاكرة بمجرّد مرسوم نابع عن إرادة فرديّة ، فالحكاّم راحلون و الشّعوب باقية وذاكرة الشعوب أبقى و أنصع … و ما أكثر الحكّام الذين حاولوا بناء التواريخ بما يتماهى مع رغباتهم و رؤاهم و لكنّهم فشلوا في ذلك بل زادوا الشّعوب تشبّثا بذاكرتهم الجمعيّة ….

فتونس بلادنا جميعا و هي ليست ملكا للدساترة أو للنهضة أو لغيرهما و هي كذلك ليست ملكا لشخص واحد يُهيَّأ إليه أنّه الصادق الوحيد و يُهيِّء إليه المحيطون به أنّه الزّعيم و المنقذ الوحيد و لكنّه يدرك و يدركون معه انحسار شعبيّته و يعرف جيّدا المأزق الذي أوقعه فيه مساره الفردي و استفتاؤه الضعيف و انتخاباته التي نفخوا فيها لتبلغ نسبة 11 % من المشاركين ..

شعبية يحسّ بأفولها و يحاول أن يسترجعها دون جدوى و لذا خرج يوم 13 جانفي مستبقا الأوس و الخزرج إلى الشارع و محاولا بسيره وسط الأسواق – مدجّجا بالأمن و حاملي السّلاح – أن يبيّن أنّه لا يخشى المعارضة و أنّه مازال محافظا على شعبيّته …غير أنّه فضح بعباراته و ملامحه ما أراد أن يخفيه فهدّد و توعّد و شتم المعارضين كعادته بأاعتبارهم سبب كلّ خراب و انهيار … متناسيا أنه في الحكم منذ 3 سنوات و في حكم فردي ممسك بكلّ دواليب السلطة منذ سنة و نصف و أنّ الازمة السياسية التي سببتها اجراءات 25 جويلية 2021 بإغلاق البرلمان و ما تبعها مثل المرسوم 117 و تعيين حكومة شكلية – مادامت القرارات الرّسميّة لا تصدر إلا عن قرطاج – و وضع دستور ذي صياغة فرديّة – رافضا أي حوار أو تشاور و مقصيا للمقترحات الواردة عليه – و سنّ قانون انتخابي على مقاس مؤيّديه و أنصاره ..

كلّ هذه الإجراءات عمقت من تردي الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية التي عاشتها البلاد منذ ثورة 2011 و حتّى ما قبلها (و إلاّ فعلام انتفض النّاس و سقط الشّهداء حينها ؟) فالتّوتّر الداخلي يلعب دورا كبيرا في التّضخّم و تدهور قيمة الدّينار و العجز عن إيجاد حلول للموادّ المفقودة في الأسواق ، أضف إلى ذلك ما يعانيه نظام قيس سعيّد من عزلة خارجيّة تسببّ فيها رفضه لكلّ حوار و تصريحاته المتشنّجة و خطاباته الفاقدة للدّبلوماسيّة و تطاوله على المؤسّسات الدّولية و حتّى على بعض القوى الأجنبيّة ممّا فاقم من عجز البلاد عن إيجاد الحلول و التمويلات …

أمّا من ناحية المعارضة فإنّ المشهد بالأمس كان أصدق تعبير عن وضعها و عمّا أراده لها سعيّد أيضا و قد انقسمت مربّعات مربّعات في شارع الحبيب بورقيبة و في غيره من المناطق … معارضة منقسمة إلى مِلل و نِحل تعارض السلطة و تعارض بعضها البعض … مازال بعض قياداتها يعيشون صراع السّبعينات و الثمانينات و انقسامات الجامعة ويحنّون إلى خطابات حجرة سقراط و مقاهي و حانات المدينة و يتشبّثون بالماضي …و قد نسوا أنّ المستقبل لن ينتظرهم و أنّ الشعب قد سئم عباراتهم المكرّرة و فقد ثقته فيهم و أنّه قد جرّب أغلبهم ففشل و أنّه عليهم إن أرادوا لأحزابهم البقاء أن يفسحوا المجال أمام وجوه جديدة و كفاءات شابّة بخطاب جديد مساير للعصر و تصوّرات تلبي احتياجات شعب 2023 و 2025 و 2030 و ما بعدها …

كفاءات تنبذ الصراعات الإيديولوجيّة و توقن أن البلاد تتّسع للجميع بعيدا عن منطق الكره و الإقصاء و العقاب الجماعي … و رغم عرقلة التنقّلات بين المدن بالأمس و رغم الانقسام و رغم أنّ يوم 14 لم يعد يوم عطلة بعد أن قرّر قيس سعيّد حذفه من قائمة العطل الرّسميّة و منع بطريقة غير مباشرة عددا كبيرا من المشاركة في المظاهرات … إلا انّ الأعداد كانت كثيفة و كان الشارع مسرحا لتحرّكات عديدة عبّر أصحابها عن رفضهم لحذف الاحتفال بهذه الذّكرى و عن معارضتهم لتوجهات الرئيس الفردانيّة و لكنّها رغم ذلك لم تكن كافية لإسقاط النّظام كما كان يحلم بعضهم …

فالغالبيّة العظمى من الشعب ليست مع سعيّد أو هي لم تعد معه كما كانت في الدّور الثاني من انتخابات 2019 أو حتّى كما كانت معه لحظة 25 جويلية بعد أن أرهقها ضعف تسييره لدواليب الدّولة و عجزه عن حلّ المشكلات الاقتصاديّة و الاجتماعيّة للبلاد … كما أنّها ليست مع من نزلوا اليوم من معارضة تميّز بعضها سابقا بانتهازيّته و بفشله في إدارة دواليب الدّولة عندما كان في الحكم و تميّز بعضها الآخر بتقلّب مواقفه و رقصه على كلّ الحبال …

و في الأثناء و أمام فقدان الثقة في الطّرفين سُلطة و معارضة تستمرّ حالة التوازن المتفجّر و عدم حسم أي طرف للمعركة و تتواصل أزمة البلاد و تتزداد هشاشة الواقع و يوشك غضب الشّعب أن ينفجر بطريقة سيعجز الجميع عن تأطيرها و الإحاطة بها، فالجوع كافر و اليأس قاتل و من يفقد الأمل في الحاضر لن يأبه أبدا للمستقبل … و لعلّ الأيّام القادمة تحمل الجديد خاصّة بعد خطاب الطبوبي بالأمس و بعد المبادرة التي يعدّ لها الاتحاد و من معه من منظمات و يوم 26 جانفي في البال …

أكمل القراءة
انقر للتعليق

اترك تعليقا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

جور نار

ورقات يتيم … الورقة 28

نشرت

في

Les outils de l'enseignant

في حياة الواحد منّا هزّات تعصف باحلامه او لنقل تعصف بالعديد منها ..هزيمتي في تجاوز عقبة الجزء الاول من الباكالوريا اربكتني لاسباب عدّة ..اولها نرجسي ..لاّني كنت دوما في نظر محيطي من عائلة واصدقاء وزملاء في الدراسة واساتذة ..عبدالكريم الشاطر ..فاجدني خذلتهم جميعا ..

عبد الكريم قطاطة
عبد الكريم قطاطة

ثاني الاسباب ان وضع العائلي المادي لم يكن يسمح بمزيد المصاريف … وثالثهما تلك الفتاة التي ارتبطت بها عاطفيا ..كيف لي ان اوفّر لنا معا الارضيّة لبناء عشّ مشترك ..لهذه الاسباب مجتمعة قرّرت ان لا رجعة للدراسة والبحث عن شغل …. مستواي الدراسي في تلك الحقبة من الزمن (سنة 1968) كان يسمح لي بولوج دنيا الشغل فالاطارات التدريسية انذاك كانت تحتاج الى معلّمين واساتذة وفي اختصاصات متعددة .. لذلك كنا نجد في جل معاهدنا نقصا فادحا في الاطارات التونسية، حيث تلتجئ تونس الى متعاونين من فرنسا وبلجيكا وحتى من الولايات المتحدة الامريكية لتدريس لغتي الفرنسية والانكليزية … وتلجأ كذلك الى اساتذة من فلسطين لتدريس بعض المواد العلمية كالرياضيات والعلوم الطبيعية والفيزياء والكيمياء …

اما في التعليم الابتدائي فكانت الحاجة ملحة جدا للمعلمين خاصّة في الاماكن الريفية النائية حيث يغلب على نظام التدريس فيها طابع الفرق … اي 3 مستويات مثلا من الاولى الى الثالثة في قسم واحد ومع معلّم واحد يوزّع مدّة الحصّة الواحدة للمستويات الثلاثة ..ولهذا السبب كانت وزارة التربية انذاك تعمد لانتداب ما يسمى مدربين … فمدارس الترشيح انذاك ورغم الدفعات التي تتخرج منها لم تكن تفي بحاجة البلد الى المعلّمين… وكان المدربون صنفين: مدرب درجة اولى وهو الذي اتم دراسته في السنة السادسة ثانويا اي السابعة حاليا دون نيل الباكالوريا ..او مدرب درجة ثانية وهو الذي اتم دراسته حتى الخامسة ثانويا دون نيل الجزء الاول من الباكالوريا وهي حالتي…وعزمت على التقدم بطلب في الامر …وقُوبل طلبي بالايجاب ..لكن مع وجوب القيام بتربّص بيداغوجي في ميدان التدريس وعلى امتداد شهرين مع متفقد تعليم ابتدائي مكلّف للغرض ..

وبدأنا التربّص … كان ذلك بـ”الليسيه” (معهد الهادي شاكر حاليا) وكان سي محمد الصغيّر هو رجل المرحلة… كان متفقدا يتّقد نشاطا وحيوية … كان ذا كاريزما “ترعب” وبقدر ما كان يجيد ويبدع في ايصال المعلومات الخاصّة بتكويننا بيداغوجيا ..بقدر ما يبدع ايضا في الاستماع الينا وبكل تركيز …ربّما لانه كان مطالبا ايضا باختيار افضلنا في نهاية التربّص لترسيمنا بقائمة المتربصين الناجحين ..ولكن والاكيد انه فعلا يحسن الاستماع خاصّة عندما يجيب احيانا بابتسامة قد تكون ساخرة وقد تكون مرادفة للاعجاب والاقتناع …وانتهى التربّص وقبل ان يودّعنا راجيا للجميع حظا سعيدا في انتظار التعيينات ..جذبني السيد محمد الصّغيّر على انفراد وهمس لي: “واصل في اجتهادك ..ستنجح حتما كمربّ .. انا فخور بك ..ولا تبح بالامر لايّ من زملائك” …

كانت تلك الكلمات كفيلة بترميم ما زلزله فشلي في الجزء الاول من الباكالوريا … عاد عبدالكريم الشّاطر الذي غيّبته الهزيمة ..وحضرت في تلك اللحظة جموع مكوّنات محيطي ..حضرت صورة عيّادة وهي تزغرد لولدها الذي اصبح معلّما ..والمعلّم انذاك بمقام الدكتور حاليا ..حضرت صورة اصدقائي وهم يستقبلون “سيّدي المعلّم” بحانوت الحلاّق بكل فخر واعتزاز ..عادت صورة رجل اختي رحمه الله الذي تكفّل بجلّ مصاريفي و”جاء وجهو للضوء”… عادت صورة سي مبروك الحمّاص رحمه الله الذي تكفّل بمصاريف سجائري وحان الوقت من جهته ليفتخر بابنه… ومن جهتي حان الوقت لردّ جميله ..عادت صورة الشّامتين الذين فرحوا لفشلي …والشامتون لم ينقطعوا يوما في حياتي شفاهم الله وغفر لهم _.. وحضرت صورة تلك الفتاة التي لابد ان تفخر بي وانا ادخل عالم الوظيفة …خاصة ان زوج اختها هو ايضا معلّم بالتعليم الابتدائي … كانت همسات سي محمد الصغيّر بمثابة عطر رّش على فاقد الوعي فاعاده الى وعيه وبكثير من الزهو والنرجسية ..

يومها لم اعد الى حوشنا كسائر ايّام الجمر ..يومها حلّقت الى امّي كعندليب اسمر لازفّ لها خبر نجاحي في التربّص …”هيّ دي هيّ فرحة الدنيا دق يا قلبي غني يا عينيّا” … وكعادتها عبّرت لطفلها عن فرحها وباحتراز حيث همهمت: “ما نصدّق اللّي ما نعنّق”… اما سي محمد فكعادته ادمعت عيناه وهبّ مسرعا لشراء رطل لحم حتى يكون زردة لابنه الذي اصبح “معلّم قدّ الدنيا” .. السنة الدراسية في تلك الحقبة كانت تنطلق في الفاتح من اكتوبر ..وحتى نهاية جوان ..وبدأت عقارب ايّام شهر سبتمبر تمرّ ببطئ شديد ..وكأن قدر سبتمبر ان يشترك في اول حرف في سرعته مع السلحفاة ..وجاء يوم 15 سبتمبر ليحمل لي ساعي البريد (جارنا سي علي غربال الو يا قابس شكشوكة ..هل تتذكّرونه ؟؟ رحمه الله) …حمل لي برقية من وزارة التربية …ياااااااااااااااااااه عبدالكريم شاطر بالحق ..؟؟ لقد وقع تعييني مدرّبا صنفا ثانيا بالمدرسة الابتدائية بسبّالة اولاد عسكر … وهي على الطريق الرابطة بين صفاقس والقصرين طريق منزل شاكر وقبل الوصول الى سبيطلة ببعض الكيلومترات …

وانبرت عيّادة في اعداد عدّتها من محمّص وكسكسي وملثوث كمؤونة لي ..وانبرى سي محمد في شراء بعض الملازم …سرير حديدي وطاولة صغيرة وبعض الاغطية …(اشبيك راهو ولدو معلّم ..؟؟)… وانبريت انا في التبضّع بما يلزمني من سجائر وادوات مدرسية لازمة لمهنة المعلم من مذكرات ودفتر الاعداد اليومي واقلام حبر مختلفة الالوان ..كل تلك المصاريف كانت بالكريدي … وحتى المال اللازم لتنقلي في المدّة الاولى كان ايضا بالكريدي ..ولا يهمّك، ما هي الا اشهر و(تهبط الدزّة)…جراية ثلاثة اشهر وهي التي لا تصل في مجموعها حتى المائة دينار ..نعم جراية المدرّب صنف 2 انذاك كانت بالضبط 31 دينارا ..واستاذ التعليم الثانوي كان راتبه 60 دينارا …. طبعا وحتى ننسّب الاشياء كان كيلو اللحم بـ 700 مليم ..

جاء يوم 30 سبتمبر وانتقلت لاول مرة في حياتي من تلميذ الى موظّف ..وصلت الى السبّالة على الساعة الثالثة ظهرا ووجدت في استقبالي السيد حاجب المدرسة (ابراهيم رحمه الله) وعلى بعد امتار منه المدير السيد رضوان هنيّة …كان الاستقبال مزيجا من الترحاب العفوي الجميل من ذلك الحاجب الريفي ..و من الدهشة …هذا الولد هو المعلّم .؟؟؟ بهذا الجسم النحيف..؟؟؟ ..بهذا العمر الغضّ ..؟؟ ولعلّ نفس الاحساس كان ينتاب حضرة السيّد المدير ابن القلعة الكبرى المدينة الساحلية وصاحب الجسم الممتلئ… والذي لم يجد فيّ الا الكوخ الصغير او لنقل احد اعمدته السمراء ..الا انه وبصدق كان متّزنا جدّا ..هادئا ..رصينا ..وصلت ودلّني الحاجب على مسكني او بالاحرى غرفتي حيث كانت الوزارة انذاك تمنح المعلّمين في المدارس النائية سكنا مجانيا ..

حمل معي ادباشي دون ان اكون معه ..الريفيون في جلّهم يقدّرون تقديرا لا حدود له الضيف عامة ورجل التعليم خاصّة ..لذلك لم يتركني احمل معه ايّ شيء… كان في كل مرة يقسم باغلظ الايمان انه هو فقط من سيتكفّل بايصال الادباش (هو يصير سي عبدالكريم ؟؟ راك معلّم … هكذا كان يقول وبكل عفويّة وصدق)…وحتى عندما هممت باعطائه شيئا من المال (500 مليم) لشكره على تعبه، انتفض غاضبا وابتعد مسرعا واضاف: “اهاه يا سي عبدالكريم ..ما يشرقش علينا ..واش درت انا حتى تعطيني 500 فرنك..عيب” ..وهرب … دخلت بيتي لاستريح قليلا ..وتمددت على سريري ..هل تفاجؤون اذا قلت لكم انها اوّل مرة في حياتي اتمدّد على سرير ..؟؟ نعم سريري قبل ذلك كان بساطا تصنعه امي من قماش يلف بعض الملابس المترهلة ..وفي افضل الحالات صيفا “جلد علوش” وكفى …

اغمضت يومها عينيّ واحسستني انام على عرش كسرى انو شروان ….خرجت بعدها الى المدرسة لاكتشف اقسامها ثم الى مكتب المدير لالتقي الزملاء المعلّمين ..كنا سبعة..اثنان من صفاقس… ثالث من قرقنة… رابع من مساكن… خامس من القلعة… سادس من السواسي وسابع من فريانة …خليط من مدن متعددة ..كنت اصغر واحد فيهم عمرا وجسما ..بل يكاد الواحد منهم سنّيا يكون ابا لي ..ونظرت اليهم فقرأت في اعينهم نظرة تساؤل واستغراب يمكن حوصلتها في (زعمة هالولد ماشي ينجم روحو ..؟؟) وبعبارة اخرى …(اش ماشي يعمل ها الفرخ اللي مازال كيف حلّ عينيه في الدنيا ؟)..او بعبارة ثالثة …(مسكين التعليم قداش كب ربّي سعدو) …ربّما لو حدث الامر في هذه الحقبة لخرج هؤلاء الزملاء في اعتصام امام وزارة التربية للتنديد بجلّول على تطّيح القدر متاعهم كمربين وهو يرسل معهم هاالفرخ، يقاسمهم المهنة الشريفة والتي ما اصبحت في يومنا شريفة بعد ان انتهكتها كل الاطراف ..وبعد ان اصبحت واصبح التلميذ فيها كبش فداء لكل التجاذبات… لك الله يا تعليم لا تربية فيه ….

تكلّم المدير مرحّبا بالجميع ومقدّما الجميع .. ووزّع السنوات على الجميع …وعرفت انّه اختصّني بالسنة الثانية ابتدائية وهي المتكونة من قسمين ..حمدت الله على ذلك لان التعليم في مرحلته الابتدائية حسب ما توفّر لي في التربّص الصيفي من معلومات، يكون اكثر سهولة في السنوات الزوجية (الثانية والرابعة والسادسة) مقارنة بصويحباتها الفردية (الاولى والثالثة والخامسة)… تمنّى للجميع التوفيق في سنتنا الدراسية واستدار للبعض منّا وقال كيف العادة نسهرو في دار سي عبدالحميد ..(سي عبدالحميد هذا هو اكبرنا سنّا على ابواب التقاعد وهو مختص في تدريس السنوات الاولى) وفهمت من اشارة المدير للالتقاء ببيته انهم على موعد يومي بمقهى المدرسة والمدرّسين وبعيدا عن الاعين للشكبّة والروندة ..بل واكتشفت ايضا العابا لم اكن اعرفها كالبليڨو والتريسيتي علاوة طبعا على النوفي …

لم اشاركهم ليلتها السهرة .ولم اشاركهم يوما العابهم …كنت منشغلا بترتيب بيتي ..وهي المرة الاولى التي ارتب فيها بيتا ..قبلها كنت وكسائر الاطفال الذكور نترك ذلك لاخواتنا الفتيات ..ذلك اختصاصهن و”يومها مشوم” التي لا تقوم بذلك حالما تفتح عينيها من النوم ..ليلتها لم انم الا قليلا ..غدا ساكون معلّما فعلا ..جالت بفكري عديد الذكريات ..عدت الى سنواتي الاولى في التعليم الابتدائي تذكّرت: ” ما بك .؟؟ هرب طاهر بكرتي” …و “لسعت حليمة عقرب فجعلت تبكي وتقول اُّو ..اّو ..أّو” .. تذكّرت: “هذا مفتاح بابك …و “هذا ابي مبروك” … وعدت الى واقعي بهذه المدرسة الريفية ..اين سأجد الكرة لامارس هوايتي ..؟؟ هل فعلا هرب بها طاهر ..؟؟ و حليمة التي لسعتها العقرب ..وواقعي في السبّالة يقول ان العقارب لا معنى لها ولا خوف منها امام الثعابين وخاصة الذئاب … المتسكعة ليلا نهارا .. و مفتاح الباب ….؟؟… غدا سافتح بمفتاح فكري وقلبي ووجداني صفحة جديدة في حياتي ..اما الاب مبروك فذلك شأن بعيد المنال لأني ومهما كنت محظوظا لن اجد مبروكا اخر مثل سي مبروك الحمّاص في بسمته الجميلة وطيبته ووداعته .

.تدثّرت بغطائي (من راسي لساسي) وقلت كما كانت تردد “سكارليت” في فيلم ذهب مع الريح وعندما تتمشكل عندها الحياة: “غدا ستكون الامور افضل” …هي حكمة جدّ ثمينة ليتنا نتعلّمها جميعا عندما تتمشكل الحياة ..لذلك كنت دوما انصح نفسي والاخرين “ما تمشكلوهاش” …وبمعنى اخر علينا ان لا نعطي الفرصة لايّ اشكال ان يضحك علينا وهو يرانا مهمومين ..بل الانسب ان نضحك عليه ..ادرك جيدا ان الفارق شاسع بين النظري والعملي ولكن يكفي الواحد منّا شرف المحاولة، حتى تشرق الشمس من جديد ….ونمت …لا ادري كم …. لا ادري متى ..لا ادري كيف .. لان موسيقى الذئاب لم تنقطع طيلة الليلة …والغريب انه لم ينتبني شعور بالخوف منها ..علاوة على صرير الرياح الذي رافقها …المدرسة كانت محاطة بهضاب ولا شيء غير الهضاب …بعض المنازل المتناثرة على سفوحها …اما نحن المعلّمين فكنّا محظوظين لان بيوتنا لا تبعد عن المدرسة الا بعض الامتار ..وكنّا محظوظين ايضا لان المكان كان به حانوت عطرية …وبه جزار ..وكفى بالله حسيبا ..وكنا محظوظين لان المدرسة تقع على الطريق اي انها ليست في الارياف العميقة ..التي تستوجب بغالا او احمرة كي نصل اليها ..عرفت في ما بعد اني ولأني نجحت في التربص متحصّلا على المرتبة الاولى، وقعت تسميتي بتلك المدرسة (اي كان عندي بونيس) لان زملائي المتربصين الآخرين وقعت تسميتهم ..في ادغال الريف … ومدرسة السبالة حاليا اصبحت معهدا ثانويا بعد ان تحولت المنطقة من عمادة الى معتمدية تتبع سيدي بوزيد وبعد ان كانت تتبع القصرين …

واستفقت صباح اول يوم من اكتوبر 1968 …لبست ميدعتي البيضاء وحملت محفظة المعلم السوداء الكبيرة …وقصدت القاعة المخصّصة لتلاميذ السنة الثانية ..كانت الساحة تغصّ بالاولياء، الذكور طبعا ..فالمرأة الريفية لا يحق لها ان تكون هنالك …فهي اما ان تقوم بشؤون البيت اوهي ترعى المواشي وما تبقّى شؤون رجالية صرفة ..وكنت المح في اعين جلّهم السؤال ….شكونو ها الشنتي ..؟؟؟ ولعل سؤالهم منطقي جدا ..بقيّة المعلمين هم معروفون لديهم وانا (ها الشنتي) معلّم جديد في المدرسة .للمرّة الاولى ..وصفّر الحاجب …واصطفّ التلاميذ امام قاعاتهم …وانا متوجّه الى القاعة كنت مشتت الذهن ..كيف ساتعامل معهم ….؟؟؟.هل اكون مثل سي عبدالقادر اليانڨي وسي علي الشعري رحمهما الله في كاريزمتهما .؟؟ .هل ساكون مثل سي شراد في ليونته وعطفه عليّ ؟؟ .. مثل مسيو دوميناتي في دهائه ؟؟؟؟.. اغمضت عينيّ وقلت كما اوصتني عيّادة: “يا رضاية الله يا رضاية الوالدين”….

لم اكن وقتها ذلك المؤمن جدا بمثل ذلك الدعاء .ولا حتى بواجباتي الدينية ..كنت “صايع” ولكن اكتشفت بعد مراحل من الزمن ان رضاء والديّ على الاقل وارجو رضاء الرحمان…لاني لا ازكّي رضاء الله عليّ فهو وحده من يعلم ما في الصدور وهو وحده احكم الحاكمين _…اكتشفت ان دعاء والديّ كم اسعفني في ظروف حالكة من عمري …وكم وقف حاجزا لصدّ وابعاد الشر عنّي ..ولانني احبّكم جدا استسمحكم في دعوتي لكم للبرّ بوالديكم وهم احياء ….لا تضيّعوا عنكم فرصا قد لا تعود ..بوسوا ارجلهم صباحا مساء ويوم الاحد ..لانهم سجّادة الحياة .الناعمة ….الفواحة … والتي لا مثيل لها …

أكمل القراءة

جور نار

ظواهر تونسية تدُلُّ علينا

نشرت

في

إذا صادف أن قرأت عن بلدٍ لا تُسجّل فيه أكثر من جريمتين وحيدتين على امتداد سنة كاملة، أو رأيت جهازا نظاميا للشّرطة لا يحمل سلاحا ناريّا ولا يتدخّل بصورة عامة إلا لإنقاذ بعض الحيوانات التائهة أو لإطعام البجع أو لمساعدة الأطفال على ركوب ألواح التزلّج، فذلك دليل على أنك في شوارع إيزلندا، وهو مؤشّر وضع بلد الشفق القطبي على رأس قائمة الخمسة بلدان الأكثر أمنا وأمانا في العالم (قبل النمسا وسنغافورة والبرتغال وسلوفينيا…).

منصف الخميري Moncef Khemiri
منصف الخميري

وإذا لاحظت مستغرِبا وجود قوارير فارغة مُلقاة على قارعة الطريق أو رجالا يمتنعون تلقائيا عن التبوّل وقوفا داخل بيوت الحمّام العامة والخاصة، فتلك الحُجّة على أنك في ألمانيا : في الحالة الأولى من أجل وضع القوارير على ذمّة المحتاجين لأن إرجاعها إلى المتاجر يُوفّر بعض المال، وفي الحالة الثانية (62 % من الألمان يصرّحون بأنهم لا “يرشّون الماء” إلا جلوسا) لأن ذلك أفضل بالنسبة إليهم من الناحية الصحية ومن ناحية حفظ الصحّة والنظافة عموما. وما دامت سلوكات الناس في الطريق العام وبين ذويهم وفي علاقتهم بالأجوار وبنِعالهم وبالملك العام وبالمال وبماضيهم وشعائرهم مؤشراتٌ يمكن اعتمادها للتعرف على هويّتهم الحقيقية “السّائلة والخفية غير الرسمية”، أعتقد أنه من المهم والطريف الاشتغال على محاولة رصد  أعاجيبنا وغرائبنا التي نعيها ولا نعيها من أجل الوقوف على ما بواسطته سيتعرّف علينا العالم ويكتشفنا.

ويكفي للُمتابع أن يتحلّى بقليل من الصبر ويقف لمدّة ساعة من الزمن على حافة الطريق ليُشاهد بأم عينه عديد الظواهر التي عايشنا بدايات تشكّل براعمها الأولى منذ العهود السابقة، لكن يبدو أن بعضها أخذ في التفاقم والاتساع خلال السنوات الأخيرة بحيث لم تعد مجرد ظواهر نامية ومعزولة بقدر ما أضحت سلوكا يوميا نكاد نعتاد عليه في كل مدننا وأريافنا بلا استثناء.

وإليكم بعض النماذج :

عندما تُشاهد دراجة نارية مُنتفِضة يعتلي صهوتها شابّان يبدو عليهما أنهما يُتقنان مغانم “الخوضة والخوماضة” أكثر من خاصيات “الخوْذة” وفوائدها، ويكون شكل لباسهما ومفردات خطابهما مُحيلا على سجلّ متمرّد على الأخلاق والقانون وأقرب إلى التهوّر والجنون، وتمرّ متحدّية أعوان المرور لا يستوقفونها أو حتى لا يدعون سائقيها بلطف إلى التمهّل وعدم التعجّل، بل تظلّ أنظارهم مشدودة إلى السيارات القادمة وراءهما لاستقصاء أية جُزئية قد تُنبئُ بخلل أو تجاوز مَا يذهبون إليه مباشرة مثل الطيور المتمرّسة على رصد الأسماك في عُمق المياه من علوّ كبير…

ولمّا تعترضك دراجة نارية أخرى “يتفرسنُ” على ظهرها كهلٌ مُثقل بالالتزامات المهنية والعلائقية ومُحمّلٌ كذلك بكامل أفراد عائلته يُنقلهم خلفه دون إجراءات حمائية تُذكر … فيبدو مُسيطرا تماما على مركوبته العجوز وعلى حالة الطريق وضغوط حركة المرور إلى درجة يسمح معها لنفسه بمواصلة تدخين سيجارته التي لست أدري متى أشعلها، ويُمسك بإحدى يديه هاتفه الخلوي ليتواصل مع جارٍ له فاته أن يقترض منه نقّالة للتخلص عشوائيا من فضلات الإصلاحات التي أدخلها على المطبخ قبل شهر رمضان…

وحينما تقودك قدماك طوعا إلى مقهى (برلمان الشعب كما يقول بلزاك) يبدو من خلال رحابة واجهته الأمامية أنه فضاء قد يُوفّر لك مساحة للاختلاء بنفسك وإجراء بعض الاتصالات المتوجّبة على مذاق قهوة حقيقية لها نكهة وكيان، وبعد طول انتظار يُقبل عليك نادل متأفّف وغير متحفّف لا يتوفّر قاموسه على ما يُفيد الترحيب أو إلقاء التحية ولا يُكلّف نفسه عناء ما ترغب في شُربه، بل يكتفي بالإيماء إليك مستخدما أقواس حاجبيه فترتسم بين عينيه ما يُشبه “الشدّة” المكسورة في العربية … وغالبا ما لا يدعُك تُنهي طلبيّتك بتفاصيلها ليعود إليك بقهوة سخيفة لا روح فيها صُبّت في كأس سوقيّة (بالمعنى الحرفي) لها أنياب… تغتاظ فتسلّمه ثمن “المزعود” لا زيادة فيه ولا نقصان لأنه لم يبذل أي مجهود لإضفاء شيء من الاستحقاق على رغبتك في إضافة بعض المال للثمن الأصلي… فيغتاظ بدوره ويحسدك في تحية التوديع كما حسدك من قبلها في مجرد ابتسامة يستقبلك بها…

وعندما في نفس المقهى، يجثو عليك أحدهم بعد استئذان شكلي عَجول والحال أنك لا تعرفه إلا لِماما لكنه لا يكتفي بالجلوس (وإلا لَمَا أناخ ناقته في نفس موقعك) بل ينطلق بمجرّد سؤالك عن أحواله – وهو الحدّ الأدنى الضروري المطلوب في آداب اللياقة الاجتماعية- في الإفراج عن سيول طوفانية من التحاليل السياسية والعسكرية والهدف الحقيقي من عملية إطلاق “المسيّرات الإيرانية” (هكذا يسمّيها بالضبط كما يسمّونها في قناة الجزيرة) والأسباب الخفية (خفيّة عن كل أجهزة مخابرات العالم إلا بالنسبة إليه) وراء تمايز ميلوني الإيطالية من أزمة المالية التونسية مقارنة بموقف الاتحاد الأوروبي، ثم ينتقل بشكل بهلواني لا ينتبه إلى براعته أكثر الاتصاليين مهارة وفطنة، إلى الحديث عن “عجز المسلمين وعن كسلهم في اكتشاف الحقائق العلمية الثابتة الموجودة بين أيديهم في كتاب الله وحديث الأوّلين”… وعن خُرافة الذكاء الاصطناعي وأسطورة كُرويّة الأرض…، يُمطرك بعشر حكايات متهافتة ومتداخلة لا رأس لها ولا ذنب وهو الذي لم يتجاوز رصيد مطالعاته قصة “ليلى والذئب” و “عنز قيسون” في أحسن الأحوال… ثم يختم اجتياحه الأرضي والسّماوي لك بالتعبير عن أمنيته الصادقة في تجدّد اللقاء وتبادل الآراء…وقد نسي تماما أنك لم تغادر صمتك وهو يتجشّأُ من أعماق أحشائه ما شذّ وخاب على امتداد نصف ساعة أو أكثر دون انقطاع…

وإذا وُلدت في رأسك فكرة ضرورة مراجعة مصلحة إدارية عمومية شُيّدت وأُثّثت وكُيّفت وتمت تدفئتها وانتداب أعوانها ومسؤوليها واقتناء كل مستلزمات العمل فيها من ضلوع أبناء هذا الشعب اليتيم، وانتابك الرّعب وبِتّ ليلتك تُفكّر في إعداد قائمة الوثائق غير المطلوبة رسميا تحسّبا لمواجهة كل الطلبات غير المتوقّعة التي تُبدع إدارتنا التونسية في ابتداعها لتبرير رفض ما ذهبت من أجله، ويحدث أن تسأل الموظفة فلا تردّ عليك، وتجد أمامك خمسة شبابيك هجرها أصحابها باستثناء شبّاك واحد كآلية مُريحة متفق عليها سلفا ويتمتع الجميع بمزاياها بالتناوب، وحصل أن أضعت أسبوعا كاملا لإعداد وثيقة مّا ثمّ تقدّمها لنفس الموظف الذي طلبها منك بإلحاح فيقول لك “ميسالش خليها عندك موش لازمة”…

___إذا حصل كل ذلك وأنت “داهش في عجب ربّي”  وتتساءل في صمت مُنكسر عن طبيعة الجينات الخصوصية التي جعلت منّا شعبا يضلّ طريقه في كل مرة لأن يكون أحلى شعوب الدنيا وألطفها، إذا حصل كل ذلكـ، تأكد أنك هنا تماما لم تغادر البلاد وتُقسم بأغلظ الأيمان أنك لن تُغادرها ما دام في نُسغ اسمها أنس ومؤانسة وناس وإنسان واستيناس (بالعامية). 

أكمل القراءة

جور نار

عن مسلسلات رمضان… المدينة الخالية (2)

نشرت

في

الحوار التونسي تحذف مشاهد من مسلسل أولاد مفيدة، والهايكا تتراجع عن قرارها -  أنباء تونس

منذ أيام حصلت حادثة التلميذ الذي طعن أستاذه بأحد المعاهد وهو مستدير إلى السبورة يكتب له ولأقرانه الدرس… وقد صاح أكثر من معلق: “هاهو أحد نجاحات سامي الفهري في تحويل تلامذتنا إلى منحرفين” …

عبد القادر المقري Makri Abdelkader
عبد القادر المقري

وهل عندنا شك في هذا؟ صح النوم … كذا كلام قلناه وقاله غيرنا منذ عشرين سنة وأكثر … وعن هذا الفهري، فقد نبه المنبّهون منذ الحلقة الأولى من أول مسلسل افتتح به صاحب “كاكتوس” أعماله الدرامية معنا … مكتوب يا مكتوب … ورغم تبرير الجوقة السوداء التي كما قلنا رافقت نكبات الإنتاج السينمائي والدرامي التونسي من سحيق الزمن، وبخّرت للسوء وطوّبت الرداءة وجمّلت القبح وكانت جلد تدهورنا السميك وحاميته من كل مسؤولية وتصحيح، بل من كل نقد … رغم عجاج هؤلاء، فإن الحقيقة ما لبثت أن انكشفت ساطعة قاطعة صافعة في وجوهنا … وما علينا سوى أن نشرب المرّ حتى الثمالة، بعد أن أضعنا وقتا رهيبا في التساهل مع ما لا يمكن التساهل معه …

من اللائق سياسيّا وديمقراطيّا وإعلاميّا، أن ننتصر للحرية وأن نقول لا لهذا المقص أو ذاك الرقيب … عال … ولكن مع من؟ مع الموهوبين الذين يذهبون بنا إلى الأفضل والأعلى والأرقى … الحرية يستحقها الشابي وبودلير ومحمود بيرم وعاصي الرحباني وسيد درويش … الحرية تخدم كثيرا رسوم ناجي العلي ومسرح سعد الله ونّوس ولافتات أحمد مطر … الحرية كان يمكن أن تصعد بنا إلى السماء لو أعطيناها لـ”بشائرنا” الثلاثة: العالم بشير التركي، ورجل الأعمال الوطني بشير سالم بالخيرية، والصحفي الفذّ بشير بن يحمد … الحرية أشعة شمس حُرم منها منور صمادح ونبيل البركاتي وجيلبير نقاش وعبد الجليل الباهي… الحرية كان بإمكانها تحويلنا إلى باريس عربية أيام زخم الثمانينات وتوهّج مبدعينا وانجذاب العرب والعالم إلى عاصمتنا في تلك العشرية المدهشة …

ولكن كما قال لي صديقي الراحل صالح جغام، هل معقول توهب الحرية لعلي شورّب؟ … وهذا للأسف ما حصل … فقد أوصدنا الباب أمام كل أصيل وجميل، وخاف مزالي وبعده “بن علي” من نسمات قلم وطيران نغم وحُقة ألوان… وفي المقابل وبحسابات سياسية غبية أو متواطئة، اطلقا العنان لكل من خدش الذوق ورعى الظلام وقاطع العصر … أحدهم سخر منّي حين قلت إن التغلغل السلفي بدأ مع ترويج ثقافة النوبة والحضرة، وسألني مستنكرا: وهل المزود دعوة إلى السلفية؟ فأجبته نعم نعم نعم … خاصة حين يخرج هذا الجنس الفني من حيّزه العائلي المحدود إلى الفضاء الواسع، ويصبح أنمــــوذج فكر ومنهج تربيــة وسيــــــاسة دولة …

في هذا السياق التدميري جاءت مسلسلات الفهري وما تبعها، وما نُسج على منوالها … ورافق هذا الانحطاط الفني انحطاط إعلامي مع ظهور الإذاعات والتلفزات الخاصة … ويزول العجب عندما يتلازم الانحطاطان ويتزامنان، من نفس اللوبيات المحصّنة والمتروك حبلها على غاربها، بل والمتحكّمة في أعمّ مفاصل الدولة … وإذا كان بعضنا اليوم يتفجّع ـ وهو على حق ـ من انهيار أمن البلاد بعد تفكيك جهاز أمن الدولة، فإن امننا الثقافي والاجتماعي استبيح منذ تفكيكنا كافة آليات الرقابة على المسرح والسينما والتلفزيون إلى آخره … والتعلاّت كثيرة، ولعل أخبثها وأنجعها ضغط الوقت قبيل كل رمضان … فيمطّط الكل عمله إلى ماقبل الشهر بأيام، وأحيانا يبثّون حلقات مسلسل لم يتم تصوير باقي حلقاته … فإذا العمليات تتلاحق، والكل يرجو أن ينهي برمجته دون تأخير، ولا يهمّ مستوى المسلسل ولا محتواه ولا أيّ همّ يصدر فيه … وإذا تحركت الهايكا (بعد فوات الأوان) فهي بالكاد تحاول منع إعادة بث ـ كأضعف الإيمان ـ ونقف هناك …

قال مخرج مسلسل “رقوج” إن الرقابة حذفت له مشهد قبلة، متحسرا على ذلك ومضيفا بأن السينما المصرية كانت تجيز لقطة مماثلة بين عبد الحليم وشادية منذ أفلام الأبيض والأسود، عكسنا نحن في 2024 … ورغم أن السينما تقارن بالسينما، والدراما بالدراما، فهو يعرف قبلي أن لقطة كهذه لا تمر في مسلسل مصري لا سابقا ولا لاحقا ولا بعد عشرين سنة … ما علينا … على كل حال لو صح كلامه واشتغلت فعلا لدينا الرقابة، فيا ليتها تركت له لقطة البوس وفي المقابل، قامت بحذف لقطات أخرى لا يقبلها متحضّر … كتدخين الأطباء والممرضين (وفي محيط مستوصف أيضا!)، أو تعذيب الأطفال وتشغيلهم، أو ضرب المرأة، أو إهانة رجل الأمن أكثر من مرة … وهذا ما تمنعه كافة أجهزة الرقابة في دول تحلمون بالهجرة إليها وإلى ديمقراطيتها…

ـ يتبع ـ

أكمل القراءة

صن نار