تابعنا على

جور نار

ومضة فرح … في دهليز حالك السواد

نشرت

في

مع أولى زغاريد هذا اليوم، انفتحت أمام وجوهنا نسمات ربيع غاب عن موعده الطبيعي و ها هو يأتي متأخرا بأشهر، كعادة كل شيء تقريبا في بلدنا المتثاقل … إنها الباكالوريا، آخر فرص السعادة المجانية عندنا بعد أن تمت خوصصة كل شيء و بسعر الذهب المستحيل …

عبد القادر المقري Makri Abdelkader
عبد القادر المقري

اليوم إعلان نتائج باكالوريا 2021 في دورتها الأولى، و قد وعدت وزارة التربية بأن يكون ذلك صباح السبت ثم الجمعة، و ها هي تفي بوعدها … النتائج قد لا تكون هائلة مثلما اعتدنا في أعقاب الدورات الرئيسية، و رغم ذلك فإن الرسميين يعتبرونها أفضل من السنة الماضية بالأرقام … و نحن لا رأي لنا هنا بعد رأي الحكومة …  و مع النسبة العامة، هناك نسب فرعية تتعلق بالشعب المختلفة و يخفق القلب دائما مع شعبة الآداب التي تتذيل القوائم كما عهدناها مذ عمّ الجهل للأسف و ليس هنا مجال إضافي للتأوّه و التنكيد …

التوزيع يشمل أيضا الناجحين بحسب الولايات، و هنا يتكرر تقليد أخذ مكانه منذ عشرات السنين … حبيبتنا صفاقس في المرتبة الأولى وطنيا و لم ينازعها في ذلك موقع آخر و لو أنجب إنشتاين و نيوتن و النابغة الذبياني مجتمعين … مبروك لأصدقائي هناك و أبناء أصدقائي و أحفادهم … و لكي تفهم السرّ، يجب أن تقصد تلك المدينة الكادحة في السابعة صباحا من أي يوم، لتجد حرفييها فاتحين أبواب رزقهم باكرا في حين لن تفرح بذلك في أية مدينة أخرى من مدننا قبل التاسعة، و زادت على تعلاّتنا الكورونا و حجرها المزعوم … إضافة إلى مشهد لم يعد مألوفا كثيرا في أية بلاد عربية: تلاميذ يتوقفون أمام فترينة مكتبة و يتفحصون بشغف آخر عناوينها … لم أر هذا صراحة إلا في مكانين: صفاقس و بغداد …

و ربما لهذا السبب، تلاحظ أن أكبر نسبة من الأطفال الحاملين لنظارات طبية منذ الخامسة و السادسة ابتدائي هم من صفاقس … قالها لي رجال تعليم عديدون و رأيت ذلك بعيني و أنا الذي لم تنل شدة المطالعة من ناظريّ إلا بعد تلك السنّ بكثير، و كثير جدّا … لست من صفاقس العزيزة بل من جهة أخرى لها عقلي و قلبي و خالص وفائي … و لكنني كنت محظوظا بأن تتلمذت في سنوات الصبا البعيدة على مدرّس عتيد من عاصمة الجنوب اسمه سيدي الحبيب ذويب … لا أعرف اليوم إن هو ما يزال على قيد الحياة و أتمنى ذلك، و أتمنى قبلها أن أراه من جديد و لو مرة واحدة، و ألثم جبينه الأشمّ و “أكبّ” على يديه الطاهرتين و قد تعلّمت منه أفضل ما تعلّمت …

إذن نالت صفاقس كعادتها قصب السبق، و ليتنا نأخذ عنها أصول الجدّ و الكدّ بدل التناوح على واقعنا و مصيرنا و التباكي على التشغيل و التنمية و غلق الطرقات و مواقع الإنتاج القليلة دون ذلك … ليتنا نتعلّم من صفاقس و من غيرها من حواضر الجنوب خاصة، كيف تنحت مصيرك في الصخر الصلد، و كيف تصنع من الفقر كنوزا، و من القحط زراعة، و من سوء الحظ طوالع خير، و من اليد آلة عمل، و من الاعتماد على النفس صندوق دعم لا يعجز، و من الذكاء البشري ثروة باطنية تتصاغر أمامها البراميل و تتضاءل كل المحروقات …

و ها أن بوادر تثمين العمل، و العمل المضني فقط، تمرّ عدواها إلى ربوع أخرى من وطننا الكريم النفس … و قد لمع هذا الصباح تلاميذ من جهات منسية من نظامنا المركزي و دون منّة من أحد … أولى نوابغنا كانت من نموذجي جندوبة و قد حصلت على معدل قياسي (20 على 20) من النادر أن سجلته ذاكرة الباكالوريا … و تبعها عباقرة آخرون من الكاف و غار الدماء و بومهل و القلعة الكبرى أفقر مدن الساحل و أكثرها تهميشا من النظام القائم … و يقيني أن هذا المدد الطيب يؤكد القاعدة “الصفاقسية” و لا ينفيها … اعمل و ثابر و لا تنتظر أحدا …

أحرّ التهاني لناجحي اليوم، و أماني النجاح العاجل للمؤجلين، و النجاح الآجل لمن فاتته فرصة هذا الموسم … أما الذين سقطوا إلى الأبد و لا أمل لهم في باك و لا في تكماك، فأمامهم مستقبل زاهر في السياسة و في برلمان لا ينجح فيه سوى الساقطون و ـ حاشاكم ـ السُقّاط …

أكمل القراءة
انقر للتعليق

اترك تعليقا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

جور نار

ورقات يتيم … الورقة 37

نشرت

في

Logements et foyers universitaires : le parcours du combattant | La Presse  de Tunisie

عبد الكريم قطاطة:

..وانا في طريق العودة الى صفاقس بعد اعلان نتيجة مناظرة مؤسسة الاذاعة والتلفزة التونسية لتكوين اطاراتها التقنية دفعة 70 ـ 71 لم يكن وقتها القطارالسريع قد حلّ ركبه بقطاع السكك الحديدية ..

عبد الكريم قطاطة
عبد الكريم قطاطة

كان الاومنيبوس هو وسيلة النقل الوحيدة .. والاومنيبوس بالنسبة لي علّمني ان الحياة امتع واجدى للمعرفة ..فأن تاخذ قطارا سريعا في حياتك فهذا يعني انّك ستتوقّف في محطّات قليلة وانّك لن تتعرّف الا على حرفاء تلك المحطّات .. اليست الحياة في حاجة لنتعرف على كل محطّاتها …؟؟ما قيمة الواحد منّا اذا اقتصرت حياته على الشمس المشرقة والبلابل الشادية اذا لم يعرف يوما صهيل الرعود ودعاء الكروان ؟؟.. ما قيمة النهر الخالد والجندول والكرنك اذا لم نستمع يوما الى “انا موش مريڨل وانت موش مريڨلة”؟ ما قيمة العقربي وديوة وبيليه ومارادونا اذا لم نشاهد يوما عبدالنور او عبد الظلام؟؟ …

نجاحي في تلك المناظرة كان بمثابة الشمعة الاولى التي اخرجتني من ظلمات الاحباط والضياع الى نور… نور غمرني بشيء من استرداد الامان النفسي ..كنت وانا في قطار العودة اراجع ما حررته في الامتحان الكتابي لتلك المناظرة ..الفيلم الذي عُرض علينا يومها لتحليله ونقده كان من النوع الكلاسيكي وكان بالنسبة لي تافها شكلا ومضمونا ..لأني تعودت ومنذ السنة الخامسة ثانوي ان امرّ من مرحلة استهلاك الافلام العاطفية الساذجة الى اختيارات ارقى… فالافلام المصرية لم تعد تغريني نظرا إلى تشابه الطرح فيها ..حبيب وحبيبة ومصاعب للوصول لبعضهما ثم “الهابي فينيشينغ” النهاية السعيدة بتزوج الحبيبين … وافلام جيمس بوند لا تختلف كذلك في الطرح ..ذلك العبقري الإنكليزي الذي يقهر كل الصعاب لينتصر على اعدائه وخاصة الروسيين… وافلام الويسترن تنحو ايضا نفس المنحى باستثناء البعض منها كـ”حدث ذات مرة في الغرب” والكبير شارل برونسون وبعض افلام سيرجيو ليوني عموما خاصة عندما يكون واضع موسيقاها اينيو موريكوني ..ذلك الموسيقار الايطالي الكبير ..

تلك النوعية لم تعُد ترويني ..خاصة وزخم الافلام الرائعة في تلك الحقبة بدأ ينهمر فمن “ذهب مع الريح” اسطورة السينما عبر العصور ، الى “فتاة ريان” الى “دكتور جيفاغو” الى “ساكو وفانزيتي” الى “رجال الرئيس” ..تلك الموجة من الافلام الهادفة والعميقة والتي كنّا نعشقها حسّيا وفكريا وبعيدا عن الالمام بالجانب العلمي لدنيا السينما، طوّرت في اختياراتنا …والغريب انه ورغم وجود نادي السينما انذاك والذي تتلمذ عليه العديد من رواد السينما التونسية (بوزيد ودمق وغيرهما) فانّي لم اكن من رواده الدائمين …كنت اضجر من تلك النقاشات التي لا تعتني بالفيلم بقدر انسياقها في معالجات ايديولوجية بحتة …ورغم ميولاتنا انذاك نحن كشباب مراهق للفكر اليساري الا أني كنت ومازلت وخاصة بعد دراستي لمجال العلوم السمعية البصرية، اعتقد وبكل اصرار ان نقاش عمل سمعي بصري هو حتما يناقش ضمنيا التوجه الايديولوجي للعمل المُقدّم، ولكن بحيّز زمني محدود اوّلا و الأهم ان يكون انطلاقا من احداث ووقائع المنتوج الذي يقع عرضه وبعيدا عن استعراض العضلات السياسوية …

لعلّ ذلك المخزون السنمائي الذي امتلكته (حسّيا لا معرفيّا علميا) هو الذي حضرني يوم المناظرة وعرفت في ما بعد ان العدد الذي تحصّلت عليه في الكتابي هو الذي شفع لي ايضا يوم امتحان الشفاهي، باعتبار عجزي عن مجاراة الحوار باللغة الفرنسية …ووصلت ليلا الى ساقيتي …الشلّة وقتها غادرت والحوانيت اغلقت ابوابها …وها انا ادُقّ باب قصرنا (الحوش)… العائلة لم تكن تدري ايّ شيء عن نتيجة الامتحان الشفاهي …نظر الجميع الى عبدالكريم دون النبس لا ببنت شفة ولا بابنة عمّها …السؤال بعد خيباتي التي سبقت اصبح مغلولا ..مكبّلا ..غير قادر على الانعتاق …ما ابشع تلك الحالة عندما نريد ان نطرح الف سؤال ولن نقدر على طرح حتى ربع سؤال …وكان عليّ ان ارحم الجميع وان اروي ظمأهم …نظرت اليها وعيناها مُسدلتان في خوف وامل ورجاء وقلت …الحمد لله نجحت ..

فرح ابي كعادته والدموع تنهمر من عينيه وقبّلني اخوتي وطفقت عيّادة صاحبة المُسدلتين تتمتم …حمدا وشكرا …نظرت الى العينين المُسدلتين وسالتها: اشبيك يا عيّادة ماكش فرحانة؟ ..اجابت دون ان ترفعهما: اه يا وليدي قللو يا كلب اشبيك تلهّف قللو خايف من قايلة غدوة … كنت اعرف ما تعنيه ولكن وبكل استعباط (وكم احبّ الاستعباط) سالتها: اش ثمة زادة ..؟؟ نظرت إلي بكل عمق وريبة واردفت: راك ماشي لبلاد الغربة …وماشي تبعد عليّ ..وتونس صعيبة (تقصد العاصمة) صعيبة برشة …وكان ما ربّي يبعّد عليك اولاد الحرام وبنات الحرام …هي ربّما ملتاعة من تجربة احد اخوتها (احمد رحمه الله) الذي كسّر قيود القبيلة وغادر صفاقس ليعمل ويعيش بالعاصمة وليتعلّم هناك معاشرة بنت العنبة ويعمل خلاه فيما ولاه حسب تعبير القبيلة …

ثم هي تعني اساسا في عبارة “اولاد الحرام وبنات الحرام” عجُز العبارة “بنات الحرام” ….لانها تعرف جيّدا ولدها وتعرف انّ “عينو محلولة وقافز” مقارنة باقرانه …هي في جانب من طروحاتها على حق ..لأني كنت قريبا جدا من الفتيات في افراحنا ولمّاتنا ..وكانت تكرّر دوما وبضجر: اش عاملهم ..؟؟؟ طلاسم ..؟؟ اشبيهم في جرتك تقولشي ذبّان مقجّجين عليك …؟؟؟ واذا كان هذا هو انا وهنّ في ذلك الزمن وحتى بعده فهي وانتم ليتكم تعرفون الحقيقة …جلّنا انذاك كانت علاقاتنا بالفتيات من نوع “قطاطس باردو القفز وقلّة الصيادة”..اي لا شيء .. لا شيء ..لا شيء ..في علاقتنا …والله حتى بوسة لا ثمة ولا كانت ولا صارت … ولكن قلب الام لا يستكين حتى للاّشيء ..وعندما تتحدث مع اختها الصغرى نفيسة رحمها الله وهي التي تلعب معي دائما دور المحامية الجيدة في الحوار مع عيّادة، كانت تردّ بكل ثقة: بالله يزّي يا للتي محسونة توة تاخذ عليهم ..مازالو صغار ..الا ان عيادة ترد وبكل جدّية: اشكون يعرف تلصقشي فيه نحاسة مسوّدة (وهذه العبارة تُطلق على فتاة غرّر بها احدهم وافقدها عذريّتها) …

نظرت مجدّدا الى تينك العينين المسدلتين ومسكت يد عيّادة وقلت لها: اغزرلي اغزرلي … مليييييييييح …انت جبت راجل والا طلطول؟ ..ودون انتظار ردّت: “جبت راجل وسيد الرجال …اما خايفة عليك” ..قبّلت يدها ..واخذت نفسا عميقا كما افعل كلّما اقبّل يدا احبّها وقلت: “ما تخافش على كرمة العسل متاعك” ..هي تلك العبارة التي كانت تردّدها دوما وانا طفل … بعدها سالتني: توة اش ماشي تولّي تخدم …؟؟ ماشي يولّيو يشوفوك في التلفزة؟ ..هل لاحظتم انها لم تستعمل ضمير المتكلم ..؟؟ هي تريد ان تفتخر بابنها …قبل حتى ارتوائها من رؤيتي على الشاشة …اجبتها: لا انا ساُصبح تقنيا من تقنيي التلفزة …اش معناها ..؟؟ استفسرت …..حاولت ان افسّر لها نوعيّة الاختصاصات في العمل التلفزي واشهد اني لم اُفلح ..ربّما لعجزي عن الشرح او لعدم رغبتها في الفهم … وتدخّل الوالد بسؤاله: والخلاص باهي ؟؟ .. (كل فول يهمّو فلوس نوّارو…. موش لاهي بيه برك) .. واجبت ببرود: ان شاء الله …وتمتم: “ربي يجيبك في الصواب وما تنساناش عاد ..انت تعرف البير وغطاه” …

في الغد كان اللقاء مع الشلة …كان سي المبروك الحمّاص اوّل من حظي ببشارة الخبر …نظر إلي وقال ..والله نعرفك ماشي تنقزها … كان فرحه طفوليا بطفله الذي سلّكها ..وهاهو رضا يصل ..لم ينتظر اجابة منّي لانه احسّ بالنتيجة بادية على وجهي ووجه سي المبروك ..وقال: قلتلك؟ …ماشي نعيثو فيها فسادا غاديكة . نعيثو يعني نعيثو ..عانقني وانا ارد (خاربينها خاربينها) …وتسللت الشلّة من حانوت بو احمد حلاقنا وراعي حوار العصابة وعلى طريقته دوما علّق: ايّا سيّب سي المبروك وحضّر روحك للمبروك (يعني الزردة الخمرية)… وكانت لهم زردتهم وكان لي ولرضا الاستعداد للرحيل فنهاية سبتمبر على الابواب وبداية دراسته الجامعية، وبداية دراستي بمركز بيكلار التابع لمؤسسة التلفزة التونسية لتكوين اطاراتها، تنطلق في غرّة اكتوبر …

سجّل رضا بالمدرسة العليا لتكوين الاساتذة قسم تاريخ وسجّل ايضا بالمبيت الجامعي راس الطابية ..اما انا فاصطحبت مجموعة من زملائي الذين نجحوا في الباك لاقطن معهم بنهج قلاتيني بلافايات وتحديدا وراء معهد بورقيبة سكول ..ورغم تميّز المكان جغرافية وثمن كراء، فانه لم يكن مناسبا لي ..اولا لبعده عن مركز دراستي وثانيا وهو الاهم انه لم يكن ليتسع لي ومعي رضا نتقاسم وجودنا يوميا …لذلك قضيت معظم اوقاتي معه في البيت اف 16 بمبيت راس الطابية ..اف 16 وكما تعرفون عنوان لطائرة حربية ..واف 16 براس الطابية هو عنوان لقاعدة حربية يجتمع فيها كل الطلبة المنحدرين من ساقية الدائر ..هي تتسع في تركيبتها لـ4 طلبة ..ونحن نُخضع مساحتها لعشرة على الاقل ..وياما حروب جميلة ان لم تكن خمرية فهي بولاتية ..ويا ويلو اللي نركّحو عليه … مشى بازقة ..

يوم السبت عشيّة كنّا نقصد نهج اين خلدون ..وهنالك وبمقهى صغير جدا يجتمع الرفاق … مقهى علي بابا… انه مقهى الطلبة اليساريين وتبدا الطروحات التي لا تنفك ..فهذا زعيم اللينينيين وهذا التروتسكي المتطرف وهذا من جماعة ماو .وهذا وطد وهذا دستوري فليك .يتبهنس ثمّشي ما يسمع حويجة على تحركات الطلبة ويهزّها لسيادو … واغلبنا من القطيع …نتلمس طريقنا وسط الزحام الطلابي …يوم الاحد هو يوم عيد بمبيت راس الطابية ..يوم الكسكسي بالعلوش حيث يتوافد من دبّ وهبّ من الطلبة لوجبة الفطور والتي عادة ما تكون على غازون المبيت ..كنا انا ورضا نقف احيانا في بداية طابور الطلبة المتوجه لاخذ وجبته وكانت تذكرة الوجبة الجامعية بـ100 مليم… وكان الواحد منّا يحمل بيده 5 ملّيمات ويتعاطى مهنة طالبي الصدقة امام المساجد وهم يتكاثرون يوما بعد يوم بقولنا: يا رفيق تكمّلّي على تيكيه …

لم تدم سكناي بنهج قلاتيني اكثر من اسبوعين ..وذات يوم وانا بمقهى ابن خلدون التقيت صدفة باحد متساكني الساقية وهو طالب في سنته الاولى بتونس اختصاص علوم (محسن المنجّة) وهو قريب لقائدي في الكشافة محمد المنجة ..وككل لقاء يتم بين افراد المنطقة الواحدة تجاذبنا اطراف الحديث العادية ..اشنية حوالك ..اش عامل ..وين تسكن …؟؟ وهنا عبرت له عن قلقي من موضوع السكنى ..وهاهو يعرض عليّ السكنى بنهج ابن خلدون …(كلب وطاحت عليه جردڨة)… هو لا يبتعد عن مركز دراستي اكثر من 100 متر ..وهو استوديو يتسع لشخصين … وصديقنا هذا لا يّقضّي نهاية الاسبوع فيه، حيث ينتقل الى اطراف عائلية له بتونس … و6 الاف معلوم الكراء شهريا …موش قلتلكم كلب وطاحت عليه …لا موش جردڨة، مبسوطة اصلا …اتفقنا واسرعت الى رضا ..فُرجت ..ذكرتها وانا اغني وارقص ..على وزن “بُعثت” التي تجدونها في اغنية كيلوباترة (بُعثت في زورق مستلهم من كل فن … مرح المجداف يختال بحوراء تُغنّي … يا حبيبي هذه ليلة حُبّي .. اه لو شاركتني افراح قلبي) …

هل فهمتم ماذا اعني ب ـ” بُعثت” وبمعارضتها “فُرجت” ؟؟؟… ان غدا لناظره لقريب …

ـ يتبع ـ

أكمل القراءة

جور نار

ورقات يتيم … الورقة 36

نشرت

في

3 et 4 décembre 2020 : Brevet blanc | Collège Notre Dame

عبد الكريم قطاطة:

في حياة الواحد منا حياة لا تشبه الحياة في شيء …هي اشبه بموت حيّ او بحياة ميّتة ..تلك التي لا طعم فيها ولا لون ولا رائحة ..تلك التي يتحوّل فيها الانسان الى كتلة لحم متحرّكة تندثر فيها كل معاني الاحساس ..الاحساس بمن حوله … ولكن وهو الفظيع الاحساس بذاته .. انذاك يتحوّل الى لا شيء في مهبّ اللاشيء ..

عبد الكريم قطاطة
عبد الكريم قطاطة

هكذا كنت انا في اليوم الثاني بعد فشلي في امتحان الباكالوريا ..”جهامة على الارض”.. لست ادري اين حملتني ساقاي يومها الا وانا اجد نفسي في منزل اختي الكبرى ..استقبلتني بكل برود ..ربّما هي تحاشت حتى النظر اليّ رفقا بحالي الكئيبة …وربّما هي موجوعة على اخيها ومن اخيها الذي لم يشرّف العائلة ..تلك العائلة التي ضحّت بالنفس والنفيس حتى يُرفع راسها بين افراد العشيرة ..لم يكن معها في المنزل احد ..كل اطفالها بمدارسهم وزوجها رحمه الله كعادته لا يعرف للراحة طعما .. منذ صغره كان يشتغل ليلا نهارا وهو يتيم الابوين ووحيدهما .. تجرّع طعم اليُتم منذ نعومة اظافره وعاش الميزيريا منذ طفولته فانقطع باكرا عن التعليم وانخرط في بناء حياته بكل تفان ونجح نجاحا باهرا في تأمين عيشه وعيش عائلته ليصبح احد كبار صُنّاع الاحذية في صفاقس …وكلّ ذلك كان على حساب صحته…

رحل ذات يوم الى فرنسا دون رجعة بعد ان فشل الاطباء في انقاذه اثر عمليّة زرع لاحدى الكليتين …ذهب راجلا الى باريس وعاد محتضنا تابوته …كان طوال حياتي الدراسية سندا لي لا مثيل له ..كان الاخ الاكبر الذي لم يتركني يوما في خصاصة ..وكان تماما كسي المبروك (اصرف ولا يهمّك ..واذا استطعت يوما ارجاع المصاريف حبّذا والا السماح بيناتنا)… وكنت كلّما مررت عليه في حانوته ااستقبلني بابتسامته الرقيقة وهو يقدّمني الى زملائه وحرفائه بكل فخر: هذا نسيبي عبدالكريم …وينبري في تعداد مآثري ويذكّرهم دوما بانّي اول غصن من آل قطاطة الذي نجح في دراسته …

يومها وجدتني بمنزل من خذلته ..استأذنتني اختي في الخروج لقضاء شؤونها بالمدينة …دون تفاصيل اخرى .. وانقرضت اختي … وواجه عبدالكريم …عبدالكريم ..كنت وما زلت قاسيا في مواجهة نفسي ..لا اذكُر اني كنت رحيما معها ..وانهمرت عرائض اللوم والادانة ..ايّة حجّة يمكن ان ابرّر بها فشلي؟ ..اوكي يا سي الشباب ..حطّمك الاستاذ الذي اصلح لك فرض العربية ..ولكن ماذا عن بقية المواد ؟؟؟ عاملّي فيها بطل وزعمة زعمة قرّيت معلّم وشايخين بيك زملائك والمتفقّد ..وبعد ..؟؟ الا تستحي من نفسك وبوك يصرف عليك وانت في سن العشرين ..؟؟؟ الا تستحي من نفسك وامّك تنتظرك لتراك يوما “هلال على روس الجبال” ؟؟ الا تستحي من نفسك وكل اترابك يعتبرونك متفوّقا فوق العادة…؟؟؟ انظر الى كشختك في المرآة ..ماذا تساوي انت الان ..رسبت في الاولى عديناهالك ..مازلت صغير وعدّيت عام طايش ..رسبت في الجزء الاول من الباكالوريا وقلنا خيرها في غيرها …

ثم جاءت الفرصة الاخيرة كي تكفّر عن سيئاتك فاذا بك مفصول نهائيا عن الدراسة ..اذ ان النظام التربوي انذاك لا يسمح لأي تلميذ بالرسوب لاكثر من ثلاث مرّات طيلة المرحلة الثانوية .. اذن وبعد فتح صندوق الباك ستتخلّى نهائيا والى الابد عن مبلغ قدره “الدراسة”… ولم يبق في دليلي ملك الا صندوقي لافتحه .ولم اترك سامي الفهري يفتحه لاني كنت متأكدا انه يحتوي على شلاكة …وخلافا لكل قواعد ولد الفهري قررت ان لا اُتمّ اللعبة وان انسحب ..نعم قرّرت الانسحاب من الحياة ..وماذا انتظر من هذه الحياة التي اكّدت انّي لا استحقّها ..لم ادر وقتها ولم ادر لحد يوم الناس هذا هل كنت جبانا ام شجاعا في اتّخاذ مثل ذلك القرار ..لأن الانتحار عندي هو في نفس الان قمّة الشجاعة وقمّة الجبن ..طبعا دون تحليل الفكرة دينيّا لأن الواعز الديني انذاك لم يُولد بعد ..وصعدت المدرج …يجب ان اضع حدّا لحياة لا حياة فيها ..عُلوّ المنزل كان كفيلا بتفتيتي اربا اربا ..هيّا عبدالكريم ..انت لا تستحقّ الحياة ..

وصلت الى سطح المنزل ..والقيت نظرة على المكان الافضل الذي سيستقبل جُثّتي ..انها الفيراندا القبليّة .. واتجهت ثابت الخطوة نحوها …ووقفت وقفة مودّع واقتربت من خطّ القفز ..لست ادري لماذا لم اُسرع في الارتماء ..ربّما هو الخوف ..ربّما هو قدر لم انتظره ..ربّما هو شيء لا استطيع تفسيره .وقفت على رجل واحدة على الحائط القبلي للمنزل ..لم ارتجف لم يختلّ توازني .. ولم اعد اشعر بأي شيء ..اغمضت عينيّ واطلت اغماضهما ..ولم افتحهما حتى وانا اسمع الباب الخارجي يُفتح ..نعم هنالك قادم ..هل هي اختي عادت من قضاء حاجاتها ..؟؟ هل هو احد ابنائها عائد من مدرسته ..؟؟ هل هو جار من الجيران ..؟؟ ولم استفق الا على صوتها … انّها عيادة ومن غيرها …اشبيك يا وليدي اش تعمل غادي …؟؟؟ هل فهمتم ما معنى “اقدااااااااااااااااااااااااار “؟؟؟ المثل يقول (قلب المومن خبيرو) وعيّادة قلبها خبيرها ..حكت لي فيما بعد انّها احست بوجع بداخلها عبّرت عنه بـ “قلبي اتنقرص تنقريصة وحدة” فلبست سفساريها وخرجت تبحث عنّي وحملتها ساقاها الى منزل ابنتها الكبرى لا تدري كيف ولماذا ولكن قلب عيّادة خبيرها …

عندما سمعت صوتها وهي تسأل ماذا افعل هناك .. ابتعدت قليلا عن خط الارتماء وجثوت على ركبتي ..لم ادر وقتها بم سأردّ عليها …ولم احس الا وهي بجانبي واجمة تبحث عن تفسير لوجودي في ذلك المكان …لم اشأ اخبارها بقراري ..كنت خائفا عليها من تجذّر الفكرة في داخلها… وذلك يعني القضاء نهائيا عن امنها وامانها الدّاخليين والى الابد تجاه ردّ فعلي على اي حدث او حادث بسيط ..قد يقع يوما ما ..ويستحيل ان تمّحي من ذاكرتها فكرة محاولة الانتحار ..وهذا يعني انّها لن ترتاح يوما ولن تهنأ براحة البال .. قلت لها: “فادد وحبّيت نشم شويّة هواء” …هل صدّقت ..؟؟ لا ادري ..هل حفظت الدرس معي ولم تعد تلك “الڨرڨارة” واصبحت تكتفي بقليل الكلام ..؟؟ لا ادري ..كل ما ادريه انها وفي ذروة الالم الذي عاشته نتيجة خيبتي، همهمت بكلمات مقتضبة: يا وليدي اش نعملو موش كاتبتلك الباك ..المهم تعيشلي …يخخي اللي ما خذاوش الباك ماتوا ..؟؟ تكبر وتخدم وتولّي سيد الرجال ونفرح بيك وبصغيّراتك…

لم اشأ بل لم استطع الردّ (بلعت السكينة بدمها) ونزلت من مسرح الجريمة …الايام التي توالت لم تختلف عن سابقاتها فقط… اندثرت فكرة الانتحار نهائيا من داخلي .. بل واصبحت مرة اخرى شديد التقريع لذاتي لما عزمت عليه ..ليس حفاظا منّي على حياتي، ابدا ..بل حفاظا على عيّادة ..كنت يوميّا اجلد نفسي جلدا داعشيا لا رحمة فيه ..كيفاش يا مكبوب السعد تفكر في الرحيل ..؟؟؟ وعيّادة ماذا ستفعل بعدك ..وانت كل املها كل معنى لوجودها كل الاكسجين الذي تتنفّسه .؟؟؟..”هذا كفوها” ؟؟؟ تقتلها وعيتها حيّة . ؟؟؟ .يلعن جد بو والدين الراتسة متاعك .. وكنت اقول لها يوميا دون ان اقول: يا عيّادة لن اتركك ..لن اخذلك ..لن افعلها ..ومن اجلك فقط يا غالية الغاليات …

كانت الاجواء رتيبة جدا ..حاولت الشلّة ان تحيطني برعايتها لرفع معنوياتي وبحذر ..لانهم يدركون جميعا اني افضّل في حالات تعاستي ان اصمت وان اطلب من الاخرين الصمت … لم اعد عبدالكريم صانع الاجواء معهم ..كنت معهم جسدا دون روح ..وكان سي المبروك اكثرهم لوعة وحرقة على ولده كُريّم ..وكان اذكاهم ..لم يفاتحني في الامر بتاتا ..وحتى اسلوبه في التّعامل مع سجائري كان في منتهى الكياسة ..ينتظرني عندما اقف بائعا لڨليباتو وحميصاتو ويدسّ خفية “باكو المنته” في احد جيوبي ..وعندما احسّ بصنيعه وانظر اليه بكثير من الحياء وعزّة النفس، كان يردّ وبكل صدق وايجاز (ما تقللي شيء ..راك ولدي) …وللامانة وجدت في حانوته ملاذا اقضّي به يومي بعيدا عن الشلّة لسببين… اوّلهما انّي كنت غير قادر على الاشتراك معهم في عبثهم وجنونهم …وثانيهما اني اردت ان ابتعد عنهم حتى لا افسد عليهم اجواءهم وانغّص شيخاتهم وانا التائه المهموم …

ذات يوم وانا في حانوت سي المبروك اقبل ساعي بريدنا (سي علي غربال) ليحمل لي برقيّة ..برقيّة ؟؟؟ من اين ..؟؟ ومن انا حتى تأتيني البرقيّات..؟؟ وسألت: هذي ليلي انا سي علي ..؟؟ _ اجاب لا لا لأمّي ..يخخي ما تعرفش تقرأ ..اوكي باسمك ..واضاف كعادته: “ملاّ شكشوكة” ومضى ..فتحت البرقيّة على عجل وقرأت ..السيد فلان الفلاني (اسمي ولقبي طبعا) انت مدعو لاجراء مناظرة تابعة لمؤسسة الاذاعة والتلفزة التونسية يوم كذا على الساعة كذا بالمعهد الفني بتونس …؟؟؟ كيف حدث هذا ..؟؟ لماذا اختارتني المؤسسة لاجراء هذه المناظرة ..؟؟ هل هي ترسل هذه البرقيات للفاشلين امثالي ..؟؟ ولماذا انا بالذات .؟؟؟ لم افهم شيئا ممّا حدث ..وهرعت الى صديق عمري ابثّ له الخبر ..ضحك وقال ..لم اشأ اخبارك ..اما الان وقد وصلتك البرقية فلعلمك ان اخي عبدالحميد والذي فشل في الباك مثلي .نقّب في الجرائد وخاصة في عروض الشغل والتشغيل، ووجد اعلانا من طرف المؤسسة وارسل طلبين واحد باسمه والثاني باسمك ..ولقد وصلته برقيّة امس باسمه ولم يشأ اخبارك وهاهي برقيّتك تصل اليوم …

اقداااااااااااااااااااااااااااااااار ..

وجاءني اخوه عبدالحميد منشرحا جدا للخبر… علّقت بمثل شعبي وقلت:خويا عبدالحميد، لو كانو فالح راهو جا من البارح _..تدخّل رضا وبكل حزم وصرامة: تمشيو وتعدّيو المناظرة، خاسرين حاجة؟ ..ما عندكش فلوس نعطيك المهم فرصة ما تتفلتش …ثم اضاف: هذي ما تناقشنيش فيها ..وكان تحب نمشي معاكم نمشي ..في تلك اللحظة لم يكن القرار جاهزا بداخلي ..فآثار النكسة لم تندمل بعد …الا انّ رضا اضاف: انت طول عمرك مغروم بالاذاعات والسينما والتلفزة ..اشكون يعرف بالكشي تخطف ؟؟…ويزّي من (تيلت) متاعك …. صدقا وبعنادي ونرجسيّتي وراسي الكبير لم يؤثّر فيّ منطق رضا كثيرا ..تعوّدت ان آخذ وحدي جلّ القرارات في حياتي ..رغم يقيني ان اطروحته للامر منطقيّة جدا ..ولكن و في تلك الظروف النفسية المعتلّة كنت احسّ بانّي وحدي الذي يجب ان اصنع مصيري ..عبدالكريم ولد الزناتي اتهزم يا رجّالة نعم ..ولكن عبدالكريم لم يمت ويجب ان يقاوم ويجب ان يّقرر ولا يترك مصيره حتى لاقرب واوفى الاصدقاء ….ربّما هو ردّ اعتبار لا شعوري لذاتي ..او هو ربّما اختصره في (قد انهزم ولكن لا اموت)…

اعلمت العائلة بوصول البرقية ..ولئن استبشر الجميع بالخبر فان عيّادة عبّرت عن ذلك باحتراز …واضافت: زعمة دعوة هاكي المرا اللي قالتلك بعد ما غششتها وما خليتهاش تسمع كسوديّة (برّة يجعلك تطلع تخدم في الاذاعة) طلعت دخان للسماء ..؟؟ امي وكسائر الامّهات انذاك تتمنى لولدها رتبة لا تقلّ عن الطبيب او المهندس وفي اسوأ الحالات استاد (بالدال وليس بالذال)… لذلك بقدر فرحها بالبرقية والتي ستخرج ولدها من حالة الضّياع، بقدر خيبتها في ان ولدها سيدخل للاداعة (مرة اخرى بالدال) والتي كانت تعني في تلك الحقبة بؤرة فساد و”اولاد العايلة ما هياش متاعهم” …ووجدتني اجلس مع نفسي لاُقرّر …انا ابن شعبة آداب والمسالك لامثالي منحصرة اما في الاداب العربية او التاريخ والجغرافيا او الحقوق … وحتى ان قُدّر لي النجاح، فحسب امكانياتي الدراسية كلّية الاداب هي الافضل بالنسبة لاختصاصي العربية رغم اني صاحب الستّة على عشرين في الباك …

قلت في نفسي بعد هذا التمحيص “بوزيد مكسي بوزيد عريان .. خاسر حاجة انا نمشي نبدّل الجو اقلّ شيء ..ومولاها ربّي” …سافرت قبل يوم من اجراء المناظرة الى تونس صحبة عبدالحميد وبات كل واحد منّا عند اصدقاء له ..والتقينا في الغد صباحا امام المعهد الفني .لم تكن المرة الاولى التي ازور فيها تونس… زرتها قبلها مرّات عندما كان والدي يشتغل بنّاء هنا وهنالك ..والفضل يعود اليه اني زرت لاول مرة وانا تلميذ في الابتدائي “بوجربوع” … وهي منطقة ليست بالبعيدة عن صفاقس ولكنها في ذلك الزمن كانت خرجة . وانا الذي لم اغادر يوما لا الحوش ولا حضن امّي …كانت مغادرة الحوش لمدة نصف شهر اثناء عطلة الصيف مع والدي وهو يشتغل في المرادم لصنع الفحم وكانت عيادة ايدها على قلبها … فكيف لصغير مثلي ان يقطن في اماكن شبه خالية ..؟؟ وهل يطمئن والدي عليّ ؟؟… ثم كانت زيارتي الثانية لجرزونة من ولاية بنزرت في عمر متقدّم دون نسيان تونس العاصمة في مناسبات …

يومها وامام المعهد الفني بدأت جحافل المشاركين في المناظرة تتوافد ..عشرات ثم مئات ..ماهذا يا هذا …؟؟؟ ثم وبوسائلنا اكتشفنا ان المستويات الدراسة تترواح بين تلاميذ الباكالوريا المنكوبين امثالي لتصل حتى الثانية جامعة ..ثم وعلى مسمع منّي جلّهم يجنڨلون باللغة الفرنسية فتحسبهم احفاد موليير … ورغم ذلك كنت يومها “جومونفوتيست”… لم اعر اي اهتمام لهذه المستجدّات… ربّما هو الفشل الذي مازال يسكن اعماقي والذي خدّر فيّ الاحساس بهول الاشياء فالشاة لا يهمّها سلخها بعد ذبحها ..او هو شعاع بسيط بدأ يولد في داخلي ويمكن حوصلته في (يوجد في النهر ما لا يوجد في المحيطات) …

دخلت قاعة الامتحان وكان يومها يتمثّل في تحليل فيلم بعد مشاهدته ..ومما اعطاني شحنة معنوية مفصلية بالنسبة لي ‘مكانية التحرير بإحدى اللغتين .. شاهدت الفيلم وحللته باللغة العربية طبعا وسلّمت ورقتي وخرجت ..في بهو ساحة المعهد تحلّق المشاركون في المناظرة حول شخص قصير القامة وديع بحق وليس كوديع الجريء ..تسللت اذني من وراء المتحلّقين لاستمع الى حديثهم ففهمت اّّولا انه مهندس يشتغل في التلفزة التونسية وانه مسؤول اداري عن تلك المناظرة ..وسمعت وهو الاهمّ ان العدد المطلوب للناجحين لا يتجاوز الثلاثين …في حين تقدم 700 ونيف لاجتياز المناظرة ..التلفزة التونسية انذاك كانت في عامها الرابع ..والمدارس المختصة في تكوين التقنيين (مونتاج وتصوير ومساعد مخرج وكاتبة مخرج) غير موجودة تماما وقتها في تونس… فكان عليها كل سنتين ان تفتح الباب لمثل هذه المناظرات لتكوين تقنييها بمركز تابع لها بنهج بيكلار و على امتداد سنتين ..سنة ونصف في النظري و6 اشهر في التطبيقي …وتلك السنة كانت المناظرة لاستقبال الدفعة الثانية …

تلك كانت الاخبار المستقاة من سي عمر ذلك المهندس الشاب …لست ادري لماذا لم تزلزلني اخباره .. خاصة المتعلقة بعدد الناجحين والذي كما اسلفت لا يزيد عن الثلاثين …وعدت الى صفاقس ..وعدت الى حانوت سي المبروك …وكان عليّ ان اشتري يوميا جريدة “لابريس” التي ستُعلن فيها نتيجة المناظرة … وهاهي الاقدار مرّة اخرى تُدلي بدلوها ..صديقي عبدالحميد الذي ارسل الطلبين لم ينجح وعبدالكريم نجح …ولكن لم ينته الامر بعد .. الذين نجحوا عددهم يفوق الثلاثين بكثير فما الامر ..؟؟ في نفس عدد لابريس لذلك اليوم وُجّهت دعوة للناجحين للحضور يوم كذا لاجراء الامتحان الشفاهي …وها انا يومها امام ثلاثي مرعب ..مدير التلفزة والمدير التقني ومركب افلام رئيس ..مرعب لانهم يحاورونني باللغة الفرنسيّة وانا “العيّل” الصغير في هذه اللغة كنت افهم احيانا بالحدس واجيب بالعربية …سألني احدهم: الا تُجيد الحوار بالفرنسية؟ ..اجبته بأني خرّيج شعبة آداب كلاسيكيّة (أ) وهذا يعني اني درست كل المواد بالعربية لذلك اجد صعوبة مع اللغة الفرنسية …

لم افهم بالضبط كيف تقبّلوا فكرة اني “ما نطشش برشة” انذاك بالفرنسيّة ..ولكن صدقا كنت مرتاح البال ..اتممت الامتحان الشفاهي الذي كان محوره ثقافة عامة وسينما ..وخرجت ..ووجدته دوما في بهو الطابق العلوي ينتظرنا ..انه سي عمر ذلك المهندس الشاب الوديع .. والذي دوما لا يشبه وديع الكورة في شيء ..وديع تنظر اليه فيمتلأ قلبك بشرا ووديع آخر تنظر اليه فيمتلأ قلبك غثيانا …سي عمر اشار علينا بعدم المغادرة لان نتائج الامتحان ستظهر نهائيا اليوم بعد اتمام الشفاهي ..وانتظرنا حتى الرابعة مساء …وخرج علينا سي عمر بالقائمة ..وعادت لذهني “سه سه ” واعلان نتيجة الباك …الا ان غفوتي لم تدم طويلا ..لانه ما ان قال ساعلن عن اسماء الناجحين نهائيا في المناظرة حتى بدأ بعبدالكريم قطاطة ..ياه لا قوائم ولا سلاسل ولا ابجدية ولا هم ينقرضون …وحملت نفسي لست ادري كيف و طرت ولسان حالي يقول:هاني جايك يا عيّادة …

يااااااااااااااااااااااااه كما للخيبة زلازل فللانتصار براكين ….وقتها ربّما بدأت افهم ان الانسان دون زلازل وبراكين… شبه انسان …

ـ يتبع ـ

أكمل القراءة

جور نار

سنكتشفُ بعد رحيل العمر

نشرت

في

عندما تضيق مساحات الأمل ويتناقص مخزون التونسيين الاستراتيجي من أوكسيجين حبّ البقاء ويملّ الكلام من الكلام وتتعاظم كتلة العابرين إلى الضفة الأخرى ولا نجد من حِيلٍ نافعة سوى النكتة والبهتة والنّهل من مدّخراتنا من الصّبر والجلَد أو ما تبقّى منهما بعد كل العقود والسنوات الوعرة التي مررنا بها،

منصف الخميري Moncef Khemiri
منصف الخميري

عندما نبلغ هذا المستوى من فقدان المناعة الفردية الداخلية في طريق ليلية لا تعترضك فيها أية دلائل ضوئية على انفراج قريب في الأفق، يُصيبنا ما يُشبه متلازمة القولون العصبي (وهي حسب القواميس الطبية حالة صحية مزمنة وشائعة تصيب الأمعاء الغليظة وتسبب تقلصات وانتفاخا في البطن) بحيث تتراجع شهيّتنا للأكل والحركة والفرح والكتابة والقراءة ومتابعة الأخبار جميعها… وأمام هذا الشدّ العصبي المُزمن، نلجأ إلى أسلوب أجدادنا في الجلوس الهادئ (بقرار واعٍ) أمام مشهد يعرفون دقائق ما يعتمل فيه ويقدّرون جيدا ألاعيب جميع اللاّعبين وفهلوتهم المكشوفة. تسألهم عمّا يجري فتأتي أجوبتهم بصورة عامة مُختصرة ومُمعنة في رميهم -على طريقتهم- بمعاتبات مُؤنّبة وصاعقة ولكن لا يلتقط لظى سخريتها سوى من كان هدفه حب وطنه بإطلاق لا حبّ ما سيجنيه عندما يقول إنه يحب وطنه.

فكأنّي أسمع تنهّدهم قائلين  : سنكشف (نهار الكِشفة) بعد رحيل العُمر :

أنه كان لدينا عنوانا أسطوريّا اسمه “قرطاج” كان من الممكن تثمينه واستثماره وتوظيف أغلى الرّسوم على حق عبور أبوابه بدلا من تحويله إلى “رِتعة” ومرتع وملجإ للفارّين من فُضول الأجوار وتطفّل الأنظار، المدنية منها والأمنية.

وأننا لم نفعل شيئا من أجل شدّ الآلاف من خيرة شبابنا إلى وطنهم الذي حباهم رغم نُدرة موارده- بتكوين أهّلهم للاندماج بيُسر نادر في المنظومات العالمية…بل لعلّنا فعلنا كل شيء من أجل إحباطهم وتخييب آمالهم وجعلهم لا يثقون البتّة في قدرة بلدهم الذي يعشقون، على النهوض يوما وتوفير بيئة قادرة على استيعاب معارفهم ومهاراتهم ولو بمستويات أجور أقل مرتين أو ثلاث من تلك التي يتقاضونها هناك.

وسنتظاهر زيفا بعد رحيل العمر، بأننا فهمنا الآن أن سنة إضافية واحدة تجتازها مدرستنا دون ترميم، مُرادفها آلاف البطّالين والمُنحرفين والمُلاحقين أمنيا والمُرشحين لاجتياز بحار الموت خلسة والمُهرّبين وأصحاب اللواحق العدلية (بحكم أن المدرسة هي التي كانت تحول أن تكون لديهم سوابق) وكل المُساهمين بشكل نشيط في إنتاج مجتمع يعيش تحت مستوى الجهل والميل الطبيعي إلى الفوضى وعقلية التدمير : تدمير الذات والأسرة والطبيعة وتهديم السقف على الجميع.  

وسنعرف يوم المُكاشفة الكبرى أننا أضعنا سنوات ثمينة جدا كان بإمكاننا استثمارها في تصويب صورة “التونسي” التي اهتزّت كثيرا خلال السنوات الأخيرة حتى بِتنا نهمس بجنسيتنا همسًا في مطارات العالم وشوارعه… والحال أننا قادرون تماما على صُنع صورة أخرى لنا ندُكّ بها ترويجاتهم عنّا وتعاليهم الزائف إزاءنا، لأننا نتميّز عن باقي شعوب الأرض بكون السؤال التقليدي “ما هي الخيرات التي يزخر بها بلدٌ معيّن ؟” لا ينطبق علينا نحن التونسيين بل ينسحب علينا السؤال الأكثر إثارة وهو “ما الذي لا تزخر به تونس حتى تكون أجمل وأسعد بلاد الدنيا ؟”.  

وسنكتشف كذلك في ساعة متأخرة من ليل العُمر أن عدد التونسيين ضئيل جدا بالمقاييس الأسيوية (خاصة إذا خصمنا منه حوالي 1.816.833 تونسي يُقيمون بصفة قانونية بالخارج أي حوالي خُمس مُجمل التونسيين) وكان من الممكن تماما – لو كانت تونس مقاطعة أوروبية –  أن يكون نصيب الفرد التونسي من الناتج المحلي الإجمالي أعلى من اللوكسمبورغ أو إيرلندا أو النرويج.

وسنُدرك بعد فوات الأوان أننا بدّدنا وقتا ثمينا في بعث لجان التحقيق التي تظل تراوح مكانها إلى أن ينسى الناس مواضيع تحقيقها، وإطلاق الاستشارات التي تظل نتائجها رهن الرفوف، وإعلان مشاريع الإصلاح التي تتعطل قبل انطلاقها، وإطلاق النوايا الواعدة التي تغمرها مياه الأحداث فتضحى بسرعة نسيًا منسيّا.   

وسنفيق عندما يصبح جسم البلد غير قادر على مزيد تحمّل النكسات والانكسارات، أن بلدانا كنّا نُدعّمها بالخبرة والتجربة والمهارة في شتى المجالات ( في التعليم والمواصلات وتشييد الجسور والطرقات والخدمات السياحية والتقنيات الفلاحية…) قطعت أشواطا متقدمة أكثر منا في صنع شروط مناعتها وسيادتها، ويكفي اليوم أن نتجول في شوارع أثيوبيا أو المغرب أو رواندا أو البلدان الخليجية لنقف على هذه المفارقة.

وسنفتح أعيننا مشدوهين يوم لا ينفع الاندهاش أننا أخفقنا في ترويض كل منعرجات الطريق التي اعترضت مسيرتنا، وأخفقنا كذلك في إنشاء عقلية مجتمعية بنّاءة لا ينتشي أصحابها لمجرّد الاستماع إلى أخبار الإيقاف والإعفاء والإحالة والاستماع حتى كاد الخطاب اليومي للتونسيين يخضع إلى استقطاب ثُلاثي فريد في العالم : فإما معارك طاحنة في الملاعب أو معْمعَات يومية في الدوائر والمحاكم، أو كذلك شبكات تهريب واتّجار خطيرة يُطاح بها على الطرقات العامة. إن العقلية السائدة اليوم لم يعد يُغريها الحديث في مشاكلنا المزمنة إلا من زاوية تقليبها على جميع أوجهها من أجل الاحتفاظ فحسب بما يزرع مزيدا من الشعور بالخيبة والرّيبة والهزيمة.

وسيُفرض علينا عندما تستكمل الحلقة دورتها أن نُحدّق مليّا في مرآة التاريخ وأن نُجيب بدون مواربة عن الأسئلة الفادحة : بماذا نفعنا بلادا أعطتنا بلا حساب وبِم أفدنا الانسانية التي نأكل من فيئها  العلمي والتكنولوجي يوميا، وما هي مؤثّثات المشهد الذي سنُورّثه لأبنائنا وماذا كسبنا من الإيذاء المجاني الذي سبّبناه لبعضنا البعض وأية الجنّات الكاذبة التي ستؤوي القتلة والمحرضين على الفتك والهتك وبِأية إنجازات حققناها أو صُروح بنيْناها ستحتفظ سجلات التاريخ ؟

وسيقول عنّا أحفادنا  “نهار الكِشفة” إن :

أجدادنا العُتاة برعوا في رياضات مختلفة وأجادوا فنونها مثل رياضة التفرّد بالتقوى والوطنية وتخوين أو تكفير سواهم، ورياضة نفخ الصّدور والجيب المقعور ورياضة توليد خطابات تُسكر قائلها لكنها لا تقول شيئا له معنى، ورياضة “رمي الجُلّة” على أهداف وهمية لا أثر لها على حياة الناس ومعيشهم وتوقهم إلى مغادرة حالة الاستثناء الدائم والسّعد النائم. 

أكمل القراءة

صن نار