تابعنا على

جور نار

11 سنة بعد أحداث 14 جانفي … قصّة حبّ قيس وشعبه، تعاني من سوء التغذية !

نشرت

في

هل ما وقع يوم 14 جانفي 2011 يمكن اعتباره ثورة؟ و هل حقّقت هذه الثورة المزعومة أهدافها؟ و هل تغيّر حال البلاد و العباد بعد المزعومة “الثورة”؟ هذا ما يجب الحديث عنه و لا شيء آخر بعد احدى عشرة سنة من الخراب و الدمار على جميع المستويات…فنحن إلى يومنا هذا نعيش المأساة…نعيش الانحدار…فاليوم أسوأ من الأمس…و قد يكون غدنا أسوأ من يومنا هذا… و الأمس أسوأ من أول أمس… و أول أمس أسوا من اليوم الذي سبقه…فلا شيء تغيّر غير نسق تدفّق أنفاسنا التي بدأت تختنق يوما بعد يوم…

محمد الأطرش Mohamed Alatrash
محمد الأطرش  

نحن نعيش انحدارا رهيبا في مساحة الحريات و مساحة التعبير عن الرأي…والغريب أن بعضنا عاد إليه حنين التصفيق و الصراخ و لعق الحذاء…فصراخ وهتاف من يدافعون اليوم عن الجزء المتبقّي من منظومة 2019 و هو الجزء الذي انقلب على من كانوا معه، فاق كل هتاف و تصفيق من كانوا مع الزعيم بورقيبة والرئيس بن علي رحمهما الله…فما تعيشه تونس اليوم يفوق الخيال في حجم التقرّب و التودّد و التذلّل للحاكم…فالبلاد أصبحت شبيهة بإمارة أو مملكة أو ضيعة على ملك بعض الخواص…و الغريب أن أتباع الجزء المتبقّي من منظومة 2019 لم يستفيقوا إلى يومنا هذا من سكرتهم التي طالت بعض الشيء…فهؤلاء استقرّ بعقولهم أن من يحكمنا اليوم هو وحده من يمثل الوطنية و هو الوحيد من يقرر من يكون الوطني من غير الوطني…و هو من يوزع بطاقات الهوية الوطنية لمن يختاره هو…و من يرضى عنهم هو…

أي معارض لهذا الحاكم يجب معاقبته معنويا وجسديا عبر “القضاء العادل” أو دونه، او عبر الجماهير الفاقدة للوعي بمجرد ان يتهمه السادة الحكام بالخيانة و الخروج عن النهج الوطني…فخطاب التخوين والشيطنة أصبح خطابا وطنيا يوميا نستمع إليه في كل المنابر الإعلامية…وعبر هذا الخطاب الحاقد الغريب يحاول حكام اليوم و أتباعهم إسكات جميع الأفواه التي تعارض سياساتهم، و طريقة تسييرهم لشؤون البلاد والدولة…وعبر هذا الخطاب الذي يلتقطه أتباع حكامنا اليوم يقع اطفاء العقول و تحويلها الي كائنات بكماء… فمن ذا الذي سيغامر بمعارضة حاكم اليوم دون أن يكون عُرضة للتخوين و الاتهام بالعمالة و الملاحقة السياسية والقضائية و الشعبية…و الإقامة الجبرية و السجون؟

فشلت كل المنظومات التي تداولت على تسيير شؤون الحكم في هذه البلاد منذ خروج بن علي رحمه الله…وفشل كل من جلسوا على كراسي الحكم من المبزع وصولا إلى سعيد…و لا أحد نجح في محو صورة بن علي وبورقيبة من أذهان أغلبية هذا الشعب الذي عانى ما لم يعانه حتى في سنوات الاستعمار و الحماية، بل نجح جميعهم و دون استثناء في أمر واحد هو إحياء و إعادة الحنين في عهد “سعيد” إلى الماضي “السعيد” بكل ما كان فيه من خيبات… و من اعتداء على حقوق الانسان… و من تضييق على الحريات، فمنظومة ما قبل 14 جانفي لم تكن أبدا بالسوء الذي روّجوه عنها على جميع المستويات، فأوضاعنا الاجتماعية لم تصل أبدا هذا الحدّ من الانهيار و السقوط…و التضييقات لم تكن أبدا بهذا الحجم و هذا العنف اللفظي و المعنوي و البدني الذي تعيشه البلاد منذ 25 جويلية الماضي…فكل من كانوا يرفعون شعارات البدائل اصطدموا بواقع سياسي مخالف لتصوراتهم العرجاء…

هؤلاء الذين حكمونا منذ خروج من كانوا يريدون اسقاطه لعقدين، كانوا يتصورون أن الحكم و كراسيه هو مجرّد لعبة بسيطة، فتداولوا، و تطاولوا على كراسي الحكم، فكشفوا جهلهم الفظيع، و عدم قدرتهم على تغيير واقع كانوا يرونه سيئا، فجاؤوا بأسوأ منه و أردأ منه بأضعاف الأضعاف…هؤلاء نسوا جميعهم أن هذا الشعب يحنّ إلى استقرار كامل شامل…يريد العودة إلى ممارسة حياته الطبيعية بعد أن غطت أحداث 14 جانفي العجز الذي كانت البلاد تعانيه في مجال الحريات و التعبير عن الرأي و التعددية السياسية، هذا الشعب يريد العودة إلى الملاعب دون أن يتعرّض إلى أي مكروه…يريد العودة إلى ممارسة حياته الثقافية و الفنية، دون منغّصات و دون خوف من هجوم وندالي، أو من تتار هذه العهدة بجميع مكوّناتها الإسلامية و العلمانية بيمينها و يسارها…هذا الشعب يريد العودة إلى سهراته…إلى جولاته…إلى حفلاته الخاصة…إلى مقاهيه…إلى لعبة الورق…إلى نكاته و مقالبه…إلى مهرجاناته…إلى سعادته التي افتقدها منذ أن استوطن الحقد و الرغبة الجامحة في الانتقام و الثأر من الماضي عقول سكان الحاضر… و منذ سكن البحث عن الانتقام من الحاضر عقول سكان الماضي….

هذا الشعب خاب ظنّه في كل من جاؤوا بعد 14 جانفي، و هنا أيضا لا أستثني أحدا، فحتى من نجح في بعض متطلبات الحكم فشل في أغلبها…هذا الشعب كان ينتظر تشغيل من عانوا من البطالة…فمات قبل أن يسعد بتلك اللحظة…هذا الشعب كان ينتظر رفع المظالم التي عاشها بعضه ليسعد بلحظات صفاء وحرية بعيدا عن ظلم الحاكم و تقارير المخبرين…فزادت أوجاعه من ظلم أكبر و من ممارسات أفظع…هذا الشعب كان ينتظر عدلا في توزيع الاستثمارات والثروات…فلم يسعد بذلك بل تعطّلت كل موارد الرزق التي كانت، والتي أوقفها الوندال و التتار بحجة “نخدم و الا نحرّم”…هذا الشعب كان ينتظر أن يكون سيدا في وطنه يجوب البلاد طولا و عرضا، و يستمتع بشمس الوطن و نُزُله وشواطئه…فلم يسعد بيوم واحد من شمس الوطن الدافئة، بل احترق بشمس حقد من حكموه الحارقة…و أصبح غير مرغوب فيه في وطنه و بين أهله…

فماذا فعل حكام ما بعد دخول الليالي السود؟ لا شيء…غير إشعال نار الفتنة بين أفراد هذا الشعب…فما أخطأ فيه من تربعوا على الحكم بعد انتخابات 2011 هو نفسه ما أخطأ فيه الباجي في سنته الأولى حكما قبل حكم الترويكا…و هو أيضا ما أخطأ فيه من حكموا البلاد توافقا بعد 2014…و هو أيضا وبشكل أفظع ما نعيشه اليوم في ظلّ حكم من انقلب على شركائه في الحكم…جميعهم اصطدموا بواقع غير ما كانوا يتصورونه…و جميعهم جاؤونا بشعارات من بعض ما قرؤوه في كتب الفلاسفة، و بعض ما قرؤوه عن المدينة الفاضلة… فلم نر شيئا مما وعدوا به و ما بشرونا بمجيئه…فهم صدّقوا أكاذيب الفلاسفة…و روّجوا لتلك الأكاذيب في خطبهم و حملاتهم الانتخابية…فعمر مات…و ابن عبد العزيز مات…و لن يعيد التاريخ نفسه في أمرهما…فلا عمر سيولد من جديد، و لا ابن عبد العزيز سيظهر غدا…

جميعهم شعروا بدغدغة الكرسي فأعجبهم ملمسه وفخامته، فنسوا ما كانوا يصرخون به في كل خطبهم…فجميعهم قبل جلوسهم على الكرسي أشعرونا و أوهمونا بأنهم عمر الفاروق و لما جلسوا على الكرسي رأينا الحجّاج و من مع الحجّاج…ففي عهدهم و إلى اليوم يتآكل النسيج المؤسساتي و الاستثماري و لا أحد يهتمّ لأمره…و في عهدهم نزل مستوى الناتج الداخلي الإجمالي و لا أحد صرخ منبها للأمر…و في عهدهم نزل معدّل النمو الاقتصادي و جميعهم يتهامسون سعداء…و في عهدهم تضاعف الدين الخارجي و الداخلي بأضعاف الاضعاف و لا أحد منهم شعر بالخطر…و في عهدهم تجاوزت خدمة الدين مستوى ما كان عليه بأكثر من ثلاث مرّات و لا أحد منهم أوجد الحلول …و في عهدهم تضاعفت ديون الدولة أكثر من أربع مرّات و لا أحد منهم أطلق صفارة نهاية الاستراحة…و في عهدهم تقدّمنا في ترتيب مؤشر الجوع العالمي و لا أحد منهم انتبه إلى فظاعة ما قد نعيشه قادم الأيام…و في عهدهم بلغت نسبة الجوع حوالي العشرة بالمائة، و لا أحد منهم سيتصدّق غدا على فقير جاع…و في عهدهم تضاعف عدد العاطلين عن العمل ليصل إلى حوالي المليون عاطل منهم 300 ألف من خريجي الجامعات، و لا أحد منهم شعر بالغبن و الوجع…

و في عهدهم أيضا نشطت حركة الحرقة بشكل لا يصدّق و هرب حوالي 200 ألف شاب من جحيم البلاد إلى السواحل الإيطالية، مات منهم الآلاف غرقا في المتوسط، و لا أحد منهم بكاهم…و في عهدهم انقطع مليون تلميذ عن الدراسة، و لا أحد منهم تساءل عن مستقبل البلاد…و في عهدهم هاجر حوالي 40 ألف مهندس مختصّ و أكثر من ثلاثة آلاف طبيب إلى بلدان الضفّة الشمالية، و لا أحد منهم دقّ ناقوس الخطر…و في عهدهم مات المئات ظلما و عدوانا بسبب المحاكمات الظالمة دون جرم ارتكبوه، و لا أحد منهم أيقظ ضميره السكران بخمرة ثورة كاذبة…و في عهدهم زار أكثر من مليون تونسي المصحّات النفسية و لا أحد منهم انتبه لما يجري…و في عهدهم عرف شبابنا في مدارسنا و معاهدنا كل أنواع المخدّرات حتى “الكوكايين”، و لا أحد منهم شعر بخطورة ما يقع على أجيالنا القادمة…و في عهدهم ظلم الآلاف من موظفي الدولة فجمّد منهم الآلاف…و أعفي منهم الآلاف…و عُزل منهم الآلاف، و لا أحد منهم خرج شاهرا سيف رفع المظالم…و في عهدهم أصبح “العزري أقوى من سيدو”…و لا أحد منهم أعاد الاعتبار للدولة و من خدموها…

جميعهم لم يرأفوا بحال الوطن…فما يأتيه اليوم قيس سعيد …أتاه من حكم قبله…بشكل آخر وبطريقة أخرى…وما أتاه قائد السبسي رحمه الله أتته الترويكا…جميعهم تركوا الحبل على الغارب إرضاء لمن يعتصم أمام بيوتهم ويقلق راحتهم…جميعهم أغلقوا أفواههم أمام التخريب الممنهج للاقتصاد والبلاد…جميعهم تآمروا على البلاد حين أغمضوا أعينهم أمام الإضرابات العشوائية…وأمام غلق مواقع الإنتاج…وأمام تسوية الوضعيات الظالمة وغير العادلة…وجميعهم تعاملوا مع “بلطجة” النقابات بشعار “أخطى راسي واضرب”…

جميعنا…شعبا…وحكومات وأحزابا…منظمات ومؤسسات…سكان قصور ونقابات أساسية…خربنا وطننا بأيدينا…ونواصل التخريب اليوم بشكل أفظع بحجةّ أن خصومنا أخفقوا في إنجاز ما وعدوا به…فماذا أنجزتم أنتم حتى تحاسبوا من لم ينجز شيئا قبلكم…؟؟

فماذا حقّقنا يا ترى منذ دخول الليالي السود …؟ لا شيء، نحن فقط خفّضنا من سعر الإنسان التونسي بناء على شروط وطلب صندوق النقد الدولي…وأصبحنا نعيش الغربة في وطننا وبين أهلنا…وفي بيوتنا…وحكامنا اليوم يريدون منّا ألاّ نكتب عن فشلهم شيئا…وألا نكتب عن جهلهم في إدارة شؤون الدولة شيئا…هم يريدون منّا فقط أن نكتب عن البصل…والطماطم…وتحسين إنتاج العجول…والهدف الذي ألغاه حكم المقابلة…وصراخ “كرونيكارات” البؤس والدعارة الإعلامية في قنواتنا التلفزية…هم لا يريدون منّا أن نكتب شيئا عن برامجهم الواهية….وعن إصلاحاتهم الموجعة…هم يُغطّون عن فشلهم بإيقاف هذا…ووضع الآخر في الإقامة الجبرية…ويغطون عن وضع هذا في الإقامة الجبرية بالتلميح لأحداث لا أساس لها من الصحة….حياة حكامنا أصبحت كعرض “ستريب تيز” فكل قميص يغطي قميصا…وكل سروال يغطي آخر…فكل الأحداث تُصنع اليوم في وطني حسب الطلب…وحسب هتاف الأتباع والأنصار…حكامنا اليوم يشترون أتباعهم وهتاف أنصارهم ببكاء أتباع وأنصار خصومهم…ونسوا قولة “لو دامت لغيرك ما وصلت إليك”…

فالنظام السياسي الهجين في تونس اليوم وعبر سعيه الحثيث لخلق مناخ مشبع بالضبابية والغموض والبلاهة يدعم استمراره في تحقيق ما يرغب فيه دون أن يلتفت إلى ما يريده شعبه، هذا التصرّف أصاب الشعب في مقتل فتحوّل اغلبه الي مجرد كائنات تسعي في الدنيا لا تعرف الي اين ولا كيف، فالمهم هو البقاء وتحت اية شروط و أيّا كانت الوسائل فأكثر من مليون تونسي يفكّرون جديّا في الهجرة والهروب من جحيم هذا الغموض والخوف الذي أصبح يشعر به كل مواطن في تونس، والآلاف من العائلات تستدين وتبيع ما تمتلكه من فتات الدنيا لتمكّن فلذات أكبادها من ركوب بقايا قارب قد يعبر بها الى بلاد لا يعرفها، او يبتلعها البحر لتنضاف في قائمة من هلكوا هربا من جحيم أوطانهم…فالتصرّف غير المفهوم والغامض لحاكم تونس اليوم وتعاليه على الجميع دون أن ينجز أمرا واحدا لصالح هذا الشعب، هو ما سيؤدي مستقبلا إلى تدمير اية امكانية لتغيير الواقع السياسي الذي نعيشه، وهو الذي سيقطع الطريق أمام كل محاولة جديّة للمصالحة الشاملة التي تحتاجها البلاد، فأية نخب لا معني لوجودها دون جماهير تصغي وتتأثر بما يطرح عليها، والا فمن ذا الذي سوف يدعم ويدافع عن أية بدائل تنفع البلاد والعباد، هذا الخلل دفع بالنخب السياسية الأخرى أو من يحاول ايهامنا أنه من النخب السياسية بالبلاد الى واقع مضحك حدّ البكاء…فكل أصبح يغنّي على ليلاه…أشباه النخب هذه اصبحت تفرز خطابا واطروحات في غالبها ضد بعضها البعض، وتسعي كل جماعة منها الى تصالح وتقارب منفرد مع مالك هذا النظام السياسي الهجين للفوز بمكانة خاصة وبموقع قريب من الحكم…

فهل من صالح هذا الشعب وحاكمه أن تتوسّع الهوة بين بعض الشعب وحاكمه المنتخب …وهل من صالح هذا الشعب وحاكمه ان تتزايد اعداد الجياع…والعاطلين عن العمل…والهاربين من أرض الوطن؟ وهل من صالح هذا الشعب وحاكمه أن يكون الانتماء للحاكم قبل أن يكون الانتماء للوطن؟ وهل من صالح هذا الشعب وحاكمه إيصال الشعب إلى مقارنة الحاضر بالماضي دون تفكير في المستقبل؟ وهل من صالح هذا الشعب وحاكمه إقصاء جزء من هذا الشعب لصالح جزء آخر منه؟ وهل من صالح هذا الشعب وحاكمه أن تتواصل الأحقاد بين مكوناته السياسية ولا أحد يقبل بإطفاء الحريق قبل إتيانه على بقية الزرع والمحصول؟ وهل من صالح هذا الشعب وحاكمه أن نخوّن كل من يعارضنا، ونحاربه في زمن نحن في أشدّ الحاجة إلى كل من يعيش على أرض هذا الوطن؟ هل من صالح هذا الشعب وحاكمه أن نغذّي النعرات الإيديولوجية والسياسية يوميا بشيطنة هذا وتخوين الآخر؟ هل من صالح هذا الشعب وحاكمه أن نواصل إخفاء حقيقة أوضاعنا الاقتصادية على الشعب؟ هل من صالح هذا الشعب وحاكمه أن يحقد هذا على هذا؟  ألم يصرخ كل حكامنا يوما “أحبك يا شعب”…ألم يعلنوا في برامجهم وجولاتهم الانتخابية عن حبّهم لهذا الشعب…فأي حبّ هذا الذي نراه اليوم بين حاكمنا وشعبه…فهل يعقل أن يكره الشعب حاكمه؟ وهل يعقل أن يكره الحاكم شعبه؟ ألم يقرأ هذا وذاك أن الكره يولّد الكره…؟

أظنّ أن حاكمنا اليوم في حاجة أكيدة إلى التمكّن من فنّ إدارة بيته السياسي…فالحبّ بين الشعب وحاكمه لا يمكن أن يكون من طرف واحد بل وجب أن يكون متبادلا…فقصّة حبّ قيس وشعبه تعاني من سوء تغذية حاد ونفور هذا من ذاك…فالحبّ بين الشعب وحاكمه يتغذّى من تحقيق الوعود…ومصالحة الشعب مع الشعب كل الشعب إلا من أجرم في حقّ البلاد والعباد…فالحاكم لا يمكن أن ينجح بالاكتفاء بحبّ جزء صغير من الشعب…والبلاد لن تعرف الاستقرار والشعب منقسم حول حاكمه…فماذا لو احتضن الحاكم شعبه…كل شعبه…وماذا لو احتضن الشعب…كل الشعب حاكمه…عوض الوقوع في فخّ من يحرّضه على بعض شعبه…فسوء التغذية لا يعالج بالتجويع العاطفي ولا بالهجر…بل بالكلمة الطيّبة…واختصار المسافات…وعدم التعامل بعقلية تعدّد الزوجات سياسيا…ففي السياسة لا يعترف الوطن بغير زيجة واحدة…الشعب وحاكمه…وقد تصحّ قولة “تزوجوا فقراء يغنكم الله..” وهي قولة وليست حديثا كما يروّجه بعضهم…

                                                       

أكمل القراءة
انقر للتعليق

اترك تعليقا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

جور نار

إنت وما جاب العود… عن مسلسلات رمضان

نشرت

في

أخبار مسلسلات رمضان 2024: مواعيد عرض مسلسل فلوجة 2 بطولة ريم الرياحي في  رمضان 2024 والقنوات الناقلة - المشهد

عبد القادر المقري:

لي شبه يقين أن مسلسلاتنا التونسية (تماما كسينمائنا) محظوظة حظا يكسر الحجر كما يقال … فهي أقرب ما تكون إلى تلاميذ ذات فترة من عمر وزارة التربية، وهي تجربة المقاربة بالكفايات … لا أحد يأخذ صفرا، لا أحد يسقط في امتحان، لا أحد يعيد عامه، ولا أحد يتم طرده لضعف النتائج …

عبد القادر المقري Makri Abdelkader
عبد القادر المقري

بل لا قياس أساسا لأي جهد … الكل ناجح، والكل ممتاز، والكل متفوق، والكل نابغة بني ذبيان … والدليل أننا عند نهاية مهرجان من مهرجاناتنا أو عرض فيلم من أفلامنا، لا تسمع سوى الشكر، ولا تقرأ سوى المدح، و لا ترى سوى الحمد على نعمة السينما والذين أدخلوها إلى تونس … تماما كما يحصل عقب كل رمضان مع أعمالنا الدرامية، إن وُجدت … فدائما عندك جوائز لأحسن عمل، وأفضل مخرج، وأبرع ممثل، و أقوى سيناريو، وأكبر وأجمل وأبهى وأمتع وأروع … يا دين الزكش، كما يقول صديقي سلامة حجازي … يعني كل بلاد العالم (بما فيها هوليوود وبوليوود وقاهرة وود ودمشق وود) تنجح فيها أعمال وتفشل أعمال، إلا عندنا فيبدو أننا الفرقة الناجية …

… أو فرقة ناجي عطا الله !

هذه السنة، أتاح لي زميل مسؤول بإحدى الإذاعات أن أتفرج على قسم كبير من مسلسلين تونسيين مرة واحدة… قلت أتاح لي بعد أن رجاني مشكورا أن أدلي برأيي في هذا وذاك، وأنا اليائس منذ أعوام من مستوى مسلسلاتنا خاصة حين جنح معظمها إلى تقليد عمل أعتبره كارثة فنية بكل المقاييس، وهو مسلسل “مكتوب” … وصار الكل يستنسخ منه استنساخ أهل الغناء والمسرح لعرضي النوبة والحضرة طوال الثلاثين سنة الأخيرة … وكيف لا يفعلون وهم وجدوا الوصفة السهلة التي لا تكلّف تعبا ولا وجع رأس … فمثلما بإمكانك أنجاز “عرض” فني لا نص فيه ولا فكرة مبتكرة بل تكديس جملة من أغاني التراث وإلصاق بعضها ببعض، بإمكان الواحد أن “يبيض” مسلسلا لا قصة فيه ولا حوار ولا سيناريو… فقط عندك ركام من عارضي وعارضات الأزياء، يقولون في ما بينهم كلاما من الحزام فما أدنى منه، ويعيشون في بذخ لا تحلم به أميرة خليجية، ويستبيحون القوانين أصغرها وأكبرها، ولا قيم توقفهم ولا منطق ولا نواميس مجتمع … عكعك وهي حالّة معك، كما يردد شباب هذه الأيام …

إذن أخذا بخاطر صديقي، تفرجت صاغرا في اثنين من أعمالنا المعروضة لرمضان هذا العام، قائلا لعل الأمور تحسنت عمّا تركتها، وربما ظلمت مبدعينا الفتيان وهم يفتحون البلدان ويغزون الفضاء في غفلة مني … وبما أن ذلك فاتني على المباشر، فقد لجأت إلى التساجيل التي تبث على الإنترنت، وأطوي الأرض طيا حتى أرى أكثر ما يمكن ولا أتسرع في الحكم على أحد … رأيت إذن جزءا كبيرا من مسلسل “فلوجة 2” على الحوار التونسي، وجزءا مماثلا من “رقوج 1” (بما أنهم يبرمجون لجزء ثان على ما سمعت) … وأعطيت رأيي في حدود ما شاهدت، وواصلت بعد ذلك باقي الحلقات حتى تكتمل الفكرة وأكون بدوري من المحتفلين ختاما بأفضل عمل وممثلين ومخرجين إلى آخر الليستة … وعلى حق …

نبدأ بفلّوجة … هو أولا استمرار لقصة السنة الماضية التي أثارت أكثر من ضجة لدى رجال التعليم ونسائه … والسبب أن احداث المسلسل تدور في وحوالي معهد ثانوي فيه كل شيء إلا الدراسة … مخدرات في قارعة الطريق، علاقات جنسية بوها كلب بين الجميع والجميع، ولادات خارج إطار الزواج وغير ذلك … والعجيب أن احتجاج المربين قابلته عاصفة تبريرية كانت دائما السند الرئيسي لسامي الفهري ومسلسلاته … من نوع: أليس هذا واقعنا؟ ألا تحدث يوميا مثل هذه الفضائح؟ هل ما زال عندنا تعليم؟ ألم يهبط مستوى مؤسساتنا التربوية منذ زمن؟ هل نغطي عين الشمس بالغربال؟ أما كفاكم نفاقا؟؟ … ويصل التبرير إلى ذروته بالتهجم على الأساتذة أنفسهم … “ماهي جرايركم” … “ما هو من جرة” انغماسكم في الدروس الخصوصية وإهمالكم لعملكم الأصلي … “ماهي نقاباتكم” وإضراباتكم ومطالبكم وزياداتكم المتلاحقة، وبسببها أفلست المعاهد وصارت بؤرا فاسدة، فيما هرب الجميع إلى التعليم الخاص… وغير ذلك وغير ذلك …

ولم يقل أحد من هؤلاء لسامي الفهري: وأنت، ما غايتك من الترويج لهذه المظاهر؟

وبقطع النظر عن صحة كل هذا في المطلق، والإحصائيات التي ما زالت لصالح التعليم العمومي في الباكالوريا وغيرها مهما حصل … فإن هذا التعميم يظلم كثيرا من أهل التعليم الأوفياء وجهدهم في إنجاح تلاميذهم وتمكينهم من مستوى جيد دون مقابل عدا مرتب شهري بعرق الجبين … كما يحط هذا التقييم الشمولي من قدر أبنائنا وبناتنا المربين والمربيات الأشراف وأغلبهم يتمسك بفضائلنا وأخلاقنا … فهل كل أساتذتنا متحرشون بتلميذاتهم كما في المسلسل، وهل كل أستاذاتنا ومديرات معاهدنا شغلهن الشاغل إقامة علاقات جنسية مع هذا التلميذ أو ذاك الرجل العابر؟ …

وحتى إن حصلت بعض حالات فماذا تمثل نسبتها؟ 1 بالمائة؟ اثنان؟ ثلاثة بالمائة ولا أعتقد ذلك وسط مئات آلاف من منظوري وزارة التربية … ومن يقول أكثر عليه بإجبار الوزارة على التحقيق العاجل ويكون معها فيه، ثم أين منظمات الأولياء والتربية والأسرة؟ لو كانت معاهدنا على شاكلة معهد سامي الفهري، فمن الأحرى غلق مؤسساتنا التعليمية وإحالة ميزانية الوزارة نحو قطاعات أكثر احتياجا كالشؤون الاجتماعية أو الثقافة أوالفلاحة والصيد البحري … بل ربما نضع كل ما نملك بين يدي الأمن والقضاء حتى يقضيا القضاء المبرم على الداء الذي استفحل ويهدد بنسفنا من الجذور …

فلوجة في جرئه الثاني لم يشذ عنه في الجزء الأول … لا بل هو يستمر في شذوذه الآخر … عن كل ما هو مجتمع وأعراف وقيم ولنقُلْ أيضا، مسؤولية … فالعمل الدرامي ليس مجرد نقل للواقع (هذا إذا كان واقعا) بل فيه طرح ورسالة وتأثير مباشر خاصة مع طغيان الصورة ووسائل الاتصال الحديثة … الفهري ومرؤوسته سوسن الجمني، يتملّحان طولا وعرضا بما يمكن أن ينتج في مجتمعنا من تغيير سلوكات جراء ما يعرضانه في كل مسلسل …

ـ يتبع ـ

أكمل القراءة

جور نار

هل ستقع المواجهة بين إيران والكيان الصهيوني؟

نشرت

في

الرابطة الدولية للخبراء والمحللين السياسيين - هل تملك اسرائيل ان توجه  ضربتها الى إيران؟

لم تكن التهديدات من هذا الطرف او ذاك توحي بخطر شن حرب بين إيران و اسرائيل، ذلك ان طهران كانت عمليا تتفادى مواجهة مباشرة مع اسرائيل المدعومة من الولايات المتحدة وتعي بان الكيان اللقيط لا يعدو أن يكون إحدى ثكنات القوة الأعظم.

محمد الزمزاري Mohamed Zemzari
محمد الزمزاري

و لم يتهور الايرانيون المعروف عنهم العمل بصمت و عقلانية و تقبل بعض الخسائر المفترضة و المنتظرة مقابل تنويع مواطىء اقدامهم و تركيز مواقع قد تخدمهم لاحقا دون أي تسرع عاطفي ممثل في رد فعل غير محسوب الهدف او النتائج … لقد دفعت إيران قرابين كثيرة منذ التسعينات ضحايا لاغتيالات الموساد و المخابرات الأمريكية المتعاونة من تفجير مراكز نووية إلى اغتيال علماء او قيادات عسكرية هامة و الظاهر ان الإيرانيين يرسمون أهدافهم الاستراتيجية على المدى الطويل والتي يعتبرونها اهم بكثير من صراعهم مع الكيان الصهيوني… وقد نجحت لحد الان السياسة الإيرانية في تركيز اذرع في عدد من البلدان العربية ذات مكانة استراتيجية هامة مثل سوريا و العراق ولبنان و اليمن، وهي ساعية اليوم لغرس امتداد لها بالأردن، كما عمدت خلال هذه الأسابيع إلى دعم حكومة السودان ومدها بالطائرات المسيرة التي قلبت موازين المعارك ضد قوى الدعم السريع.

لكن الحدث الذي جد اخيرا و الذي تمثل في ضرب الصهاينة للقنصلية الإيرانية بسوريا والقضاء على واحد من اكبر القيادات الحربية و التنسيقية قد يؤجج ما كان كامنا بين الكيان وطهران. فإسرائيل ترغب منذ سنوات في توريط حلفائها الأمريكان في حرب ضد إيران وقد تراءت لنتنياهو فرصة سانحة للدفع نحو هذه الحرب المرغوب فيها اولا و لتمديد بقائه في الحكم و إتمام خططه النازية من تهجير و مجازر و تدمير لغزة و لاحقا للضفة الغربية، وهنا لم يبق لإيران بد من رد فعل قوي لحفظ ماء الوجه و تأديب الكيان الذي تجاوز الخطوط الحمراء و ضرب القنصلية الإيرانية التي تمثل سيادتها و صورة قوتها أمام الجميع وخاصة لدى اذرعها وأنصارها في المنطقة.

ومنذ ساعات أعلنت المخابرات الروسية عن تحديد ضربات او حرب خاطفة ممكنة الوقوع قريبا جدا و دعت مواطنيها لملازمة الحذر بالشرق الأوسط وخاصة بالكيان الصهيوني و منذ اكثر من ساعة دعت الولايات المتحدة مواطنيها في الأرض المحتلة وتل أبيب خاصة الى نفس الحذر. اذن فالوضع قابل جدا لوقوع حدث هام مدمر ليس باسرائيل فقط لكن أيضا بايران اعتمادا على ان الكيان الصهيوني يرغب فعليا في خلق مواجهة مع ظهران ستقودها الولايات المتحدة دون شك.

هل ستصدر الضربة الإيرانية انطلاقا من قاعدة احد اذرعها؟ هل سيكون الهدف محطة ديمونة النووية او ايلات او تل ابيب؟ اظن ان ضرب تل أبيب مستبعد مما يبعث على الظن بان الهدف المحتمل هو: إما إحدى السفارات الاسرائيلية في بلد خليجي او قصف إحدى المدن او المطارات الكبرى بالكيان الصهيوني. فيما يبدو أن الولايات المتحدة لا ترغب حاليا في خلق بؤرة حرب جديدة مكلفة قبل انتخابات نوفمبر القادم و لن تصل اية ضربة مهما كانت صدمتها إلى دفع بايدن إلى رد فعل ضد إيران …

أكمل القراءة

جور نار

ورقات يتيم … الورقة 25

نشرت

في

‫جمال عبدالناصر‬‎

عبد الكريم قطاطة:

الساقية مسقط رأسي في تلك الحقبة ومن خلال حانوت الحلاّق شكّلت في حياتي نواة لشلّة من الاصدقاء متنوّعة سنّيا، مهنيّا، تعليميّا … وفكريّا … وهذه ميزة كبرى في تجربتي مع الحياة ..

عبد الكريم قطاطة
عبد الكريم قطاطة

فاختلاط الفرد بهذه الشرائح على اختلافها هو الكفيل اولا برؤية انسانية بعيدة عن التمييز والتّنخْوب (محاولة اشتقاق من نخبة) ..وثانيا نتعلّم فيها ومنها اشياء لن نجدها في تعليمنا مهما تعلّمنا .. استحالة ….في تلك الشلّة كان هنالك التلميذ والمرمّاجي والحذّاء والبطّال والمهني ..وكانت لقاءاتنا يوميّة وفي كل المناسبات ..يوم الاحد مثلا كان للعب البولاط ومباراة او اثنتين في كرة القدم . في رمضان ننهي مشوار الافطار مع عائلاتنا في دقائق معدودة ونهرع الى حانوت الحلاق لسهرات حتى قرب موعد السحور… طبعا دون نسيان قلق عيّادة من خروجي المبكّر ودخولي المتاخر … وهل تصير تاكزة من غير فحمة ؟؟ ..

في فصل الصّيف نبحث كل ليلة عن حفلات الاعراس لـ “نهُدّ” على اصحابها ونقتحمها طوعا او كرها … وبعدها كنّا كثيرا ما نواصل السهرة حتى شروق الشمس على ضفاف شاطئ بحر سيدي منصور … في محطة قهوة حمزة حيث تلك البرّاكة الجميلة وسط البحر … نتوسّد “الضريع” أي حشائش البحر ..الارض بساطنا والسماء لحافنا وموسيقى خرير المياه تعزف ابهى التقاسيم ….امّا في عيدي الفطر والاضحى فتلك اطباق اخرى …. كنا نستعد لسهرة العيد استعدادا مادّيا فليلتها تعني ليلة القبض على السينما … قاعات السينما في مثل تلك المناسبات وفي اغلبها تبرمج 4 افلام لزوارها بمعدّل فيلمين في بداية السهرة وفيلمين في نهايتها . ازمنة .// deux grands films//..وكانت كل قاعة مختصّة بنوعية معينة من الافلام فقاعة الماجستيك كان اختصاصها الافلام الهندية… وقاعات الهلال والكوكب وبغداد والكوليزيه كانت تختص بالافلام المصرية فيما تبقى الافلام الغربية بانواعها الكاوبوي والبوليسية من مشمولات قاعات النور.. والراكس ..والاطلس ..

شلّتنا ونظرا إلى المستوايات التعليمية المتفاوتة كانت تنتمي الى القاعات الشرقية فاما افلام الثنائي فريد شوقي ومحمود الملّيجي او الافلام الغنائية وخاصة عبدالحليم وشادية او الافلام التاريخية من نوع صلاح الدين الايوبي ورابعة العدوية _وهذا الفلم ابكاني في ذلك الزمن لاوّل مرة في علاقتي بالافلام …وبالذات في فقرته الاخيرة عندما يحضر فريد شوقي في موت رابعة ويقول لها باعين دامعة (سامحيني يا رابعة) وتبدا رابعة او روحها كما صوّرها المخرج بغناء واحدة من اروع الاغاني الدينية لحدّ يوم الناس هذا (الرضاء والنور ) … ومن الافلام ايضا التي شدّتنا في تلك الحقبة وبدرجة مذهلة فلم عنتر وعبلة ..واصبحنا نردّد في كل فوز في البولاط او كرة القدم (عنتر حيّ)…

الحديث عن سينما ليلة العيد تسبقه اشياء … ليلة العيد بصفاقس تعني ثلاثة عناصر لتأثيثها .. السينما كما ذكرت ..كسكروت السهرة على بساطته واحيانا ببطاطا _مخنونة _.وخاصّة .. العنصر الاهم ..نهج الباي ..نهج الباي المنجي سليم حاليا هو اشهر نهج في المدينة العتيقة بصفاقس اولا لانه يربط بين المدينة العتيقة والمدينة العصرية اي من باب الجبلي الى باب الديوان، وثانيا لانه نهج يتكدّس فيه كل ما يحتاجه المواطن ليلة العيد من شراءات …احذية عطور وخاصّة ملابس … ومن العادات التي كانت تسود سكان اهالي صفاقس انهم يستعدّون فقط ليلة العيد لشراء ملابس والعاب الاطفال ..ليلة العيد دون غيرها ..ذلك يعني ان الازدحام ليلتها على اشدّه . … وتلك هي بغية جميع الشُلل ..كان بامكان اي واحد من ايّة شلّة تفادي الزحام عبر المرور بانهج اخرى . للوصول الى باب البحر (المدينة العصرية) _…لكن الم اقل لكم ان الزحام هدفنا ..عفوكم لم نكن يوما من شلّة اللصوص التي تغتنم ولحدّ الان مثل هذه الفرص … باش ادّوّر صوابعها … معاذ الله ..بل كنّا لصوصا من نوع آخر ..

كنا نطمع في تلك الزحمة بالالتصاق بعيدا عن العفوية باي جسد انثوي تضعه الاقدار امامنا … وكل واحد واش تهزّ مغرفتو في تلك الليلة …وكثيرا ما كنّا نُرجم بنظرات مرعبة من امرأة تنتبه الى افعالنا “الخايبة” وهي تحس بشيء ما يوقظ جسدها .من الخلف ….فكنّا نلتفت الى من وراءنا ونصيح فيهم (يزّيو من الدزّان) ثم نعود الى تلك المرأة المرعبة بنظراتها النارية لنقول لها في شبه حياء وكثير من الخبث (خاطيني راهم يدزّو فيّا) ..ولأن تلك المرأة قادرة على فك شفرة مقصدنا فانها تواصل زمجرتها وتصيح: “لا حتى انت حليّس مليّس ..يلعن بو هالفيّة” … وسعيد منّا من يجد امامه واحدة اما انها (عزوزة ما يهمّها قرص) او هي ايضا من عشّاق الزحام لانّها فرصتها الوحيدة (مرّتان في السنة) كي تعيش الزحام .ولذّات الزحام .. وينتهي مشوار نهج الباي وتنتهي فرصة الالتصاق القسري بين بعض “كلاب السوق” امثالنا وبين نساء مزمجرات مرعدات وبين اخريات راغبات متمتعات ..في اتنظار عيد آخر ..والتصاق آخر …

العلاقة مع الشلة لم تكن لتفصلني عن مكونات الساقية من اناس آخرين وسلوكياتهم خاصّة ..كانت العين الرقيبة فيّ حاضرة وبامتياز ..كنت استغرب جدا من احد بائعي المواد الغذائية بانواعها وهو وسخ الهندام ولحيته لا تعرف الحلاق الا مناسباتيا من صنف زوروني كل سنة مرّة .. مبالغة برشة ؟؟؟ طيب خليوها مرّتين ..وما انجمش نطيّح راني مسبّق راس مالي ..وما تلحّوش عليّا برشة …. لذلك كنّا عندما نذكر اسمه نردد فقط: “هاكة اللي يكيّل في الحليب حافي” … احد روّاد الساقية كان يشتغل بمخبزة اختصاصها رحي القمح والشعير وطهي حلويات رمضان في فرنه ..كان في كلمة “تكارّي” وهذه مشتقّة من تكروري ..كانت سيجارته الارتي لا تفارق مبسمه وكان نحيفا وكان ايضا رمادي الملامح من شدّة علاقته غير الودّية بالنظافة . هو.تماما كرماد فرنه ..مما يحكى عنه انه دخل ذات يوم على حين غفلة الى منزله فوجد احدهم باركا على زوجته … خرج مهرولا لاخيه الاكبر والقدوة والقاضي في العائلة اي في القبيلة وهو يشتكي له ما راى فما كان من اخيه الا ان اجابه: اش ماشي نقلّك النساء يعملو . زعمة حتى هو طايح من السلّوم ؟؟؟. ويضيف ..صبّر روحك وخي يخّي ربّي ما قالش كيدهنّ عظيم … فيجييه هذا رايك ؟؟ طأطأ اخوه راسه وقال استرها واستر روحك اما خير والا تعمل فضيحة في ام صغارك ..وبصوت مهموم اجاب صاحب الكوشة ..رايك والبركة ..اللي تقول انت اكهو ..وما ان خرج هذا المركوب على زوجته حتى نظر اليه اخوه واتبعه بتمتمة: “حتى انت اش من دغفة فقت بيها كان تو” …زعمة ثمة منها حكاية حرام المحارم ؟؟..

نفس صاحب الكوشة هذا شاهدته يوما في رمضان وهو يستقبل حرفاءه بصينيات الدرع والڨاطو والمقروض الاسمر لتاخذ مكانها في الفرن حتى تحلّي البيوت في عيد الفطر ..شاهدته وهو يستقبل فتاة بالكاد في ربيعها السادس عشر ولكنّها جسديّا “هسكة” وهي ترمق عينيه اللتين جحظتا في ما تحت وما فوق الميني جيب الذي ترتديه … وبخبث انثوي صبّحت عليه وقالت: “امّي مسلّمة عليك وقالتلك ارميهولي تو” …ما اخيب نيّنكم … راهي تقصد المقروض… الا ان صاحبنا كانت نيّته تماما كنيّتكم ..لم يشأ ان يرد عليها في صبيحة رمضانية و حشيشة الدخان ضاربتلو الطّاسة متاع مخّو … فادار وجهه مستعيذا من الشيطان (الذي بداخله) لان الشياطين في رمضان توصد الابواب في وجهها وتدخل في عطلتها السنوية … الا ان هسكتنا الجميلة جدا والمثيرة جدا والخبيثة جدا تصرّ على اعادة كليبها الصباحي بعد ان عرفت انه فعل فعلته في “رواشك” صاحب الكوشة …وكاد يسيل لعابه من فمه ومن هنالك .. ورددت الاسطوانة (قالتلك امّي ارميهولي تو) نظر اليها صاحبنا وانفجر بتمتمة: “يا بنتي امش على روحك خير ما الواحد يفطر عليك في سيدي رمضان الفضيل” …وحاولوا فقط معي ان تجدوا تفسيرا للعلاقة بين “نفطر عليك” و “سيدي رمضان الفضيل” …

من شقاواتنا كشلّة في تلك الحقبة وفي الساقية، اننا وبعد كل سهرة كنا نقف امام متجر صغير لنكمل السهرة هنالك ..ونختمها بالتبوّل في فتحة مدخل المفتاح (المجليق) ونذهب اليه في الغد ليشكو لنا همومه من كلاب السوق الذين كثيرا ما يعطرون متجره بعطورهم .. رحمه الله وغفر الله لنا تعطيرنا لحانوته ..واحد اخر كان ثريّا جدا (ما يعرفش طرف مالو وين) ولكنّه وكسائر الاثرياء كان واحدا من بخلاء الجاحظ.. وكنّا في فصل اللوز نستمتع جدا بالذهاب الى جنانه الكبير والبعيد عنه وعنّا 3 كلم لنسرق لوزه الفريك ودليلنا في السرقة ابن اخيه… ثم وفي ساعة متاخرة من الليل نذهب الى فيلّته الفاخرة بالساقية ونتربع على فيراندته لنفترس بشهيّة ما سرقناه ونترك له القشور مشتتة على الفيراندا … وقد يداهمنا احيانا اذان صلاة الفجر فنسرع في مغادرتنا المكان باعتباره من المواظبين على صلاتهم بالمسجد …وما ان يصل المؤذّن الى مقولة (الصلاة خير من النوم) حتى يردّ الواحد منّا (حتى النّوم فصيّل ما عندك ما تقول فيه) … وفي الغد ينتشر خبر سرقة جنان ذلك الثّري وخاصّة حرقته وهو يقول لكبار الساقية (لا ومازاهمش سرقوني جاو للفرندا متاعي وكملوا سهريتهم وخلّلاولي القشور.. الله لا تربّحهم اولاد الحرام …وكان كل ذلك يحفّزنا للروبولات او وكما يقول عبالعال (كماااااااااااااااااان) …

في الساقية ايضا عرفت انماطا اخرى من اناس طيبين للغاية… فعلاوة على سي المبروك حمّاصنا الطّيب رحمه الله هنالك الحاج البقلوطي، حائك السراويل التقليدية والبلوزات الرجالية ..هو.دائم الابتسامة وديع الملامح ولم نستطع يوما تحديد عمره… كان كلما سالناه عن عمره يبتسم ويقول 38 سنة ..ولم ندر لحد الان كم يبلغ من العمر ..كان هنالك صاحب كرّيطة، اي “كرارطي” بالمعنى الحقيقي للكلمة لا المجازي (والتي تعني زير نساء)… كان اسمه “الشنّة” ولقبه بربّة … وهما اسما ولقبا غريبان جدا ..لكن ميزته انه كان دائم الغناء وبصوت عال وطربي، لم اره يوما مهموما …ربما هو من القلائل الذين فهموا انه وعلى حد قول اندريه مالرو (الحياة لا تساوي شيئا ولكن لا شيء يساوي الحياة) …او وعلى حد تعبير شابّينا ابي القاسم (خذ الحياة كما جاءتك مبتسما … في كفّها الغار او في كفّها العدم) …

شخصيّة اخرى اشتهرت في الساقية ببّفائيتها ..هو “دلاّل” خاصّة في قطاع الغنم …تقدّم به العمر واصبح بالكاد ينافس السلحفاة في سرعتها …كان كلّما قام بالدلال على نعجة مثلا بدءا بـ”يا باب الله” وتدريجيا يرتفع الثمن من مشتر الى آخر … يحدث ان تمر بجانبه امرأة بسفساريها وتضع يدها على ظهر النعجة فتجده يابسا لا لحرمانها من كبشها بل لسنّها المتقدّم وربّما للاثنين معا فتشير الى صاحبنا الدلاّل بقولها: “تي هذي حطبة” …ويلتقطها من فمها وتصبح دلالته من نوع (راهي حطبة)… وقد ياتي اخر وينعتها بـ “هذي وافية ماشية تموت” … فيردد: “راهي وافية ماشية تموت” _…لماذا يفعل ذلك دون غضب لا من صاحب النعجة الذي امّنه على بيعها، ولا من شرذمة العابثين امثالنا ونحن نتصيّد الفرصة لابداء تعاليق تعدد عيوب بضاعته حتى يرددها بحذافيرها ..؟؟؟

هذه النماذج من متساكني ساقيتي رسّخت في شخصيّتي وفي فكري وفي اعمالي بعد سنوات متقدمة اشياء هامّة جدا… لعلّ ابرزها ان كل فرد ومهما كان سلوكه مهما كانت طبقته الاجتماعية مهما كان مستواه التعليمي هو مهم جدّا وعلينا ان لا نلغيه في كل ما نعمل …

في اواخر السنة الرابعة آدابا حدثان هامان اثّرا جدا على كُريّم ..نعم جدّا … اوّلهما نكسة جوان 67 …انا خرّيج معهد الحي الذي اغلب اساتذته قوميون ..نصحو يوما على الخبر الفاجعة ..هزيمة العرب وبالتحديد عبد الناصر في حرب جوان مع اسرائيل …كانت صدمة لا توصف… كانت مشاعرنا ممتزجة بألم انتصار اسرئيل على العرب ولكن خاصّة بخسارة عبدالنّاصر الريّس الذي كان بالنسبة لنا الزعيم الاسطوري ..خاصّة والاعلام الحربي المصري انذاك يبشّر برمي اسرئيل في البحر …. عبدالناصر ذلك القومي العروبي الى اخمص قدميه لم يتفطن إلى أن رئيس أركانه كان اثناء الهجوم الاسرائيلي في ملاهيه مع برلنتي مزطولا ..؟؟ ولم يتفطن إلى خيانة روسيا له وهي تجهزه بعتاد حربي فاسد .؟؟؟.. ياااااااااااااه كم هو مؤلم وكم كانت الصدمة قوية …

لم نستطع وقتها تحديد موقفنا ..هل ننتفض غضبا على من احببنا ام نشفق عليه ؟؟؟.. وهل باستطاعتنا ان نغضب و نلعن من نحب مهما فعل ..مهما فعل …مهما فعل ؟؟؟ … او هل نثمّن ما قاله بورقيبة في خطاب اريحا …ام نبقى دوما اعداء لبورقيبة حتى ولو كان على حق ؟؟ وبدأت المظاهرات في تونس ..الدستوريون ينددون بالريّس الطاووسي وغير الواقعي سياسيا مفتخرين بالآراء الحصيفة لبورقيبة ..والقوميون منددين باسرائيل وامريكا … دون المس من زعامة عبدالناصر ..اذكر يومها اني كنت من ضمن التلاميذ الذين خرجوا من معهد الحي (ضمن القوميين)واتجهنا الى الليسيه (معهد الهادي شاكر) لنخرج تلاميذه معنا الذين لا حس سياسي لهم انذاك مقارنة بنا نحن ابطال الحي الزيتوني … ولنتوجّه الى المدينة العصرية نجوب شوارعها ونهتف بسقوط اسرائيل وامريكا … وكان جلّ الرجال الكبار ينظرون الينا في صياحنا وهو يسخرون قائلين متهكمين: اش ثمّة ؟؟ اشبيهم هالفروخ يعيّطوا …؟؟؟ … اي انهم كانوا خارج سياق ما يقع في العالم ..وهذه طبيعة اغلب متساكني تونس عموما في تلك الازمنة …اهتمامهم بالسياسة “نيانتي” …مفقود تماما … واحيانا المفقود افضل من الموجود واعني به ذلك الموجود ، المزعج ..الغبي …الانفلاتي .. والمدمّر …

وعندما يخبرهم البعض عن اسباب تظاهرنا ..يواصلون: “وهذوما اش يفهمو فيها تي خ…….هم مازال في ص….. هم” … (صدقا كتبتها كاملة دون نقصان الاحرف ولكن وكقارئ وجدتها “ناتنة ذوقيّا” فاصلحت وحذفت بعض الاحرف ..المهم وصلت الفكرة) … لذلك انا واحد من الذين يتفهمون جيدا خروج تلاميذ المعاهد للتظاهر …في كل الازمنة … انه تدرّب لتكوين الذات ..لنحتها .. للقادم ..شريطة ان تخلو تلك المظاهرات من اي شكل من اشكال العنف، وذلك بتأطير من قادتها … وربّما ما خفّف علينا صدمة نكسة العرب خروج ملايين المصريّين للشارع عندما اعترف عبد الناصر بمسؤوليته الكاملة وبتخلّيه عن الحكم ..يومها خرجت مصر لتقول له انت الريّس وستبقى الريّس … وعاد الريّس ليهيّئ كما ينبغي لحرب العبور …والتي اخذ وسامها السادات …وبقطع النظر عن كل التحوّلات الجذرية التي حدثت لي في ما بعد ايديولوجيّا فاني اعتبر كلاّ من عبد الناصر وبورقيبة وبكل سلبياتهما واخطائهما من افضل الزعماء العرب ماضيا وحاضرا …

الحدث الثاني في اواخر سنتي الرابعة آدابا كان ….هو في الحقيقة لم يكن كان فقط بل هو كمّ هائل من الافعال الناقصة كان صار.. ليس … بات … وكما تعلمون من ميزات هذه الافعال انها ترفع المبتدأ وتنصب الخبر ..فما بالكم اذا كانت تجرّ المبتدا ويصبح الخبر في خبر اصبح … يتبع ؟؟ يتبع ونصف وثلاثة ارباع وخرّوبة …

ـ يتبع ـ

أكمل القراءة

صن نار