تابعنا على

جلـ ... منار

التيار والإطار.. ومحنة العراق الممتدة !

نشرت

في

لم يكن اجتياح تيار الزعيم الشيعي “مقتدى الصدر” للبرلمان العراقي والاعتصام فيه حدثا مفاجئا بذاته، فالأجواء ملتهبة بالأزمات المتلاحقة وسيناريوهات التصعيد واردة طوال الوقت. ولا كان التصعيد المضاد من “الإطار التنسيقي” للقوى والأحزاب الشيعية الأخرى إلى حافة الصدام مفاجئا هو الآخر، فالمصالح والولاءات تتناقض.

عبد الله السنّاوي

في المشهد المأزوم بدا أن هناك شارعا ضد آخر في ما يطلق عليه “البيت الشيعي” وأن الصدام معلق على حسابات دولية وإقليمية وداخلية بالغة التداخل والتعقيد.
لم تكن هناك مصلحة لأية قوة متداخلة فى الأزمة أن تصل بالفعل ورد الفعل إلى انفجار لا يمكن السيطرة على تداعياته.
الأمريكيون ليسوا بوارد المجازفة فيما
“مباحثات فيينا” جارية لإحياء الاتفاق النووي مع إيران وإدارة “جو بايدن” مأزومة في صورتها الداخلية قبيل الانتخابات النيابية المقبلة.
ولا الإيرانيون مستعدون لأية مجازفة تسحب من رصيد نفوذهم الإقليمي فى لحظة تحولات جوهرية بمعادلات الإقليم فيما الأتراك يودّون ألا يفلت الأمن فى العراق بما يسمح بتمركزات أكبر وأخطر لحزب العمال الكردستاني الذي يعتبرونه تهديدا مباشرا لأمنهم القومي.

بحسابات المصالح المتداخلة قد يتوقف التصعيد عند الحافة، لكنه يظل احتمالا واردا بانفلات أعصاب، أو حماقة قوة.
وسط ذلك كله وجدت حكومة “مصطفى الكاظمي” نفسها متهمة من “الإطار التنسيقي” بالانحياز ضده، لكنها حاولت بقدر ما هو ممكن ألا تكون طرفا مباشرا فى الأزمة المتفاقمة، دعت إلى الحوار الداخلي، تحدثت مع قيادات من الإطار التنسيقي للوصول إلى تسوية.. ومؤكدة أن الجيش يقف على مسافة متساوية من الأطراف المتنازعة.
لم يتخلف أحد تقريبا حتى الأمم المتحدة عن الدعوة للحوار وتجاوز الخلافات.
الأزمة تكاد تتلخص فى رجلين، أولهما مقتدى الصدر ومواقفه تميل إلى نبض الشارع ودعواته إلى الإصلاح السياسي والاجتماعي وتياره يلتزم بكل ما يصدر عنه من أقوال ومواقف.. وثانيهما نوري المالكي صاحب الكلمة النافذة فى “حزب الدعوة” وتأثيره واصل إلى صلب قرار الإطار التنسيقي.
كان اختيار “الإطار” لـمحمد شياع السوداني مرشحا لرئاسة الحكومة المزمعة نقطة تفجير الأزمة، الرجل بذاته لم يكن مشكلة، فهو على درجة من الكفاءة مشهود بها، لكنه ينظر إليه كـ”ظل” للمالكي، وهذا ما كان مستحيلا أن يوافق عليه “الصدر”

قبل أن تنفجر الأزمة الأخيرة سربت أقوال مسجلة للمالكي نال فيها من الصدر، متجاوزا كل الخطوط الحمراء فى لغة الخطاب.
أطلت “الكراهية الشخصية” على المشهد المأزوم، وكان رد الفعل اقتحاما للبرلمان لمنع تمرير رجل المالكي.
بدا مستلفتا أن يطلب “الصدر” أن يعتذر قادة “الإطار التنسيقى” عما بدر من المالكي، قبل الحوار فى بقية المطالب التي يتبناها تياره.
القوتان الشيعيتان، “التيار” و”الإطار” تناهض كل منهما الأخرى.
هذه حقيقة أساسية فى النظر إلى التداعيات المحتملة للأزمة الراهنة.
التيار ينتقد الفساد المستشري فى بنية الطبقة السياسية، التى تولت مقادير الأمور بعد احتلال بغداد (2003) ويحمل المالكي على وجه الخصوص مسؤولية تفشي الفساد فى المؤسسة العسكرية عندما كان رئيسا للحكومة إلى حد أنه لم تكن هناك أية مقاومة جدية لزحف “داعش” غلى العاصمة بغداد، و”الإطار” مصلحته فى بقاء الأمر الواقع.
التلاعب بالمعانى والعبارات يسيطر على الأداء السياسى لـ”المالكى” رئيس ائتلاف “دولة القانون” فهو يطلب السلطة، ويرشح أحد رجاله لتولي رئاسة الحكومة، رغم أنه يعترف علنا أمام كاميرات التلفزيون بأن الطبقة السياسية، وهو منها، فاشلة.
قال بالحرف: “لا يصح أن يكون للطبقة السياسية الحالية التي فشلت فشلا ذريعا فى العراق أي مستقبل فى رسم خارطة مستقبل العملية السياسية”.

هناك اعترافات مماثلة لقيادات أخرى بالضلوع في الفساد.. وأن الكل فاسدون دون خشية حساب.
على خلفية الفساد المستشري دب اليأس العام أوساط العراقيين، وتصاعدت في الفضاء العام احتجاجات تدعو إلى تغيير جوهري فى بنية الحكم.
التيار تبنى هذا المطلب داعيا إلى وضع دستور جديد بدلا من دستور (2005)، الذي صيغ في الشهور الأولى للاحتلال وجرى بمتقضى نصوصه تكريس المحاصصة الطائفية.
فى تلاعب آخر بالمعاني والعبارات اعتبر الإطار التنسيقي المظاهرات خروجا عن الشرعية وانتقاصا من هيبة الدولة ومؤسساتها.
المفارقة ــ هنا ــ أنه لم يعترف بنتائج الانتخابات النيابية الأخيرة، التي تصدّرها تيار “الصدر”، ولجأ إلى كل الوسائل المشروعة وغير المشروعة لمنع تشكيل حكومة أغلبية وطنية.
بقرار منفرد من زعيمه استقال نواب “التيار” وأفسح المجال أمام “الإطار التنسيقي” لتشكيل حكومة جديدة بالمواصفات التي يطلبها.
كان ذلك مشهدا غير مفهوم في أزمة سياسية معقدة.
هكذا تعطل انتخاب رئيسين جديدين للجمهورية والحكومة ودخل البلد كله في شلل منذر بإنتاج أزمات أخرى أفدح.
الأزمات كلها تعود إلى مصدر رئيسي واحد هو ما جرى فى العراق وبالعراق من تدمير منهجي إثر احتلاله.

لم يكن ما حدث عملا تحريريا، أو ديمقراطيا، على ما تردد وقتها لتسويغ الاحتلال بقدر ما كان تدميرا مقصودا لبنيته التحتية واستهدافا مباشرا لمقومات وحدته الداخلية، نهبت المتاحف وامتدت يد التخريب إلى المستشفيات والمدارس والجامعات والجسور والمباني الحكومية، الدولة كلها والذاكرة الوطنية نفسها.
جرى العبث بتركيبته السكانية المعقدة لإثارة فتن وأحقاد طلبا لتقسيمه.
تجرع العراق مرارة الهزيمة واستغرقته احتراباته الطائفية وسيناريوهات تقسيمه وتوحش جماعات العنف والإرهاب في جنباته، لكن الهزيمة شملت بالوقت نفسه العالم العربي كله.
كان احتلال بغداد نقطة تحول مفصلية استدعت مشروعات الشرق الأوسط الجديد وسيناريوهات التقسيم.
بعد احتلال العراق مباشرة كتب “توماس فريدمان” على صفحات الـ”نيويورك تايمز” أن السبب الحقيقي لضرب العراق هو أنه كان لابد من ضرب أحدهم فى العالم العربي بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر (2001).
لا أسلحة دمار شامل، ولا إيواء منظمات إرهابية، ولا تحرير ولا ديمقراطية، فكل هذه كانت ذرائع لضرب العراق.

إننا أمام محنة ممتدة، دفع العراقيون ثمنها مروعا من حياتهم ومستقبلهم، ودفع العرب معهم أثمانا أخرى من أمنهم القومي ومن قدرتهم على التماسك.

ـ عن “الشروق” المصرية ـ

أكمل القراءة
انقر للتعليق

اترك تعليقا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

جلـ ... منار

فلسطين والأمم المتحدة… أعراف نوادي العراة

نشرت

في

الجزائر تدعم ترشح فلسطين لتصبح الدولة العضو الـ 194 في الأمم المتحدة –  جريدة الجزائر

اعتمدت الجمعية العامة للأمم المتحدة قراراً ينصّ على أنّ فلسطين مؤهلة لعضوية الأمم المتحدة، ويوصي مجلس الأمن الدولي بإعادة النظر في هذا الأمر بصفة إيجابية؛ أي على نقيض مشروع سابق في المجلس تقدمت به الجزائر، وصوتت لصالحه 12 دولة، وامتنعت بريطانيا وسويسرا عن التصويت، وأفشلته الولايات المتحدة عن طريق استخدام حقّ النقض (الفيتو) الشهير.

صبحي حديدي
صبحي حديدي

قرار الجمعية العامة حظي بأغلبية ساحقة بلغت 143 صوتاً، مقابل معارضة 9 دول، وامتناع 25 عن التصويت.ورغم أنّ القرار، على أهميته الرمزية العالية، ليست له “أسنان” تنفيذية في نهاية المطاف، ما دام الـ”فيتو” الأمريكي سيفا مسلطا على رؤوس أعضاء مجلس الأمن الدولي؛ فإنّ بعض التمعن في أصوات المعارضة والامتناع يمكن أن تمنح المرء فرصة إضافية لتأكيد ما هو مسلّم به، بصدد توازنات القوى داخل هيئات الأمم المتحدة المختلفة، وطبائع التصويت على مشاريع القرارات عموماً.

أمر مفهوم تماماً أن تكون الولايات المتحدة ودولة الاحتلال الإسرائيلي ضمن أصوات الرفض، فلا جديد هنا ولا مفاجأة ولا خبر أصلاً. مألوف، أيضاً، ومتكرر، أن تلتحق بالصفّ الأمريكي/ الإسرائيلي كيانات مثل ميكرونيزيا، ناورو، بالاو، وبابوا. مفاجئ، قليلاً فقط، أن تنضم إلى رهط الرافضين دول مثل تشيكيا وهنغاريا والأرجنتين، بالنظر إلى أنّ النهج العنصري أو الانعزالي أو الذَيْلية الأمريكية لدى بعض حكامها لا يبرر، على نحو كافٍ، هذا الخيار العدائي.

في صفّ الامتناع عن التصويت تُفهم، أيضاً توجهات دول مثل المملكة المتحدة وألبانيا والنمسا وبلغاريا وكندا وكرواتيا وألمانيا وجورجيا وإيطاليا ولاتفيا وموناكو وهولندا ومقدونيا الشمالية ومولدوفا ورومانيا والسويد وسويسرا وأوكرانيا؛ ولكن… ما الذي يجبر دولاً مثل جزر فيجي وجزر مارشال وباراغوي وفنزويلا على اللهاث خلف الممتنعين؟ وبمعنى التراكم الدبلوماسي، النوعي والكمّي والتاريخي، لدول ذات ماضٍ في الانتماء إلى “الجنوب” أو “العالم الثالث”؛ ما الفارق المقارَن مع المكسيك ومالاوي ومنغوليا والموزامبيق… التي صوتت لصالح القرار؟

ولعلّ خلاصة أولى خلف هذا المشهد الثلاثي، بين قابل ورافض وممتنع، يمكن أن تقتفي الخطّ المعهود حول انقسام المنظمة الدولية إلى نادييَنْ، وليس إلى ثلاثة نوادٍ في الواقع: 1) الأقوياء الخمسة، أمريكا وروسيا والصين وفرنسا وبريطانيا، دائمو العضوية في مجلس الأمن الدولي وحَمَلة ذراع الـ”فيتو”؛ و2) سائر دول العالم، من القويّة بدورها إلى الضعيفة مروراً بمقام المنزلة بين المنزلتين.

هذا التشخيص الكلاسيكي لا يجبّ، مع ذلك أو بسبب منه على وجه التحديد، تلك الخصوصية الاستثنائية الفائقة التي تتمتع بها دولة الاحتلال الإسرائيلي، ضمن مفارقة ناظمة صارخة: أنّ الكيان الصهيوني وليد هيئة الأمم المتحدة، وأنه الأكثر استهتاراً بميثاق وقرارات وسياسات ومعنى وجود المنظمة الدولية. وليس من شطط كبير في الافتراض بأنّ النادي الذي تسرح فيه دولة الاحتلال وتمرح، ليس مغلقاً وحصرياً ونخبوياً ومحظوراً على العوامّ، فحسب؛ بل هو أقرب إلى ناد للعراة، فيه تُنتهك الشرعة الدولية وتُعرّى، بافتراض أنها لا تتعرى إرادياً وتلقائياً.

ولا عجب أنّ مندوب الاحتلال اعتلى منبر الجمعية العامة، وأقذع في شتم قرار أهلية فلسطين لعضوية الأمم المتحدة، وانتهى إلى تمزيق الميثاق الأممي في وصلة مسرحية مبتذلة فاقعة، وقحة وسفيهة أيضاً؛ إذْ كيف لا يفعل إذا كان رئيس حكومته، بنيامين نتنياهو، هو السابق إلى تمريغ المنظمة الدولية بأوحال أشدّ وقاحة وسفاهة، من موقعه كمندوب للكيان الصهيوني سنوات 1984ـ1988؟

ذلك لأنّ نادي العراة الذي تديره دولة الاحتلال داخل أروقة المقر الأممي في نيويورك، ليس سوى فرع واحد من سلسلة نوادٍ لا تبدأ من البيت الأبيض وحده، ولا تنتهي في الكونغرس؛ حيث تتنوّع شروط الانتساب، من دون اختلاف الأعراف المؤسِّسة!

ـ عن “القدس العربي” ـ

أكمل القراءة

جلـ ... منار

اللؤلؤة الصافية… و”أبوحسين”!

نشرت

في

Peut être une image de étendue d’eau

بيني وبين تلك البحيرة قصة عشق عمره 13 سنة،كم من المرات ألقيت بها أكواما من ضغوطي فأعادتها إليّ بهجة وسرورا.

وفاء سلطان
وفاء سلطان

تقاجئت مؤخرا أنها تحولت إلى مستنقع موحل بعد أن كانت أصفى من دمعة العين… قررت أكثر من مرّة أن أتصل ببلدية المدينة لأسألها السبب، ومتى سيتم تنظيفها، ولسبب ما لم أفعل.

اليوم وخلال رياضتي الصباحية رأيت بعض عمال التنظيف، فاقتربت من أحدهم، وسألته عن سر هذا التلوث.

أشار بيده إلى مشروع سكني كبير يتمّ بناؤه على الهضبة الملاصقة للبحيرة، وقال: لم يكن الجدار الاستنادي الذي بنته شركة البناء حول المبنى كافيا لصد مياه المطر، فأثناء العاصفة المطرية التي ضربت المدينة جرفت المياه الهائجة الأتربة وأطنان من الرمال، وألقت بها في البحيرة،

ثم تابع:بلدية المدينة رفعت دعوى قضائية ضد شركة البناء،وأعتقد أنها ربحت القضية، لأنني سمعت أن عمليات استبدال ماء البحيرة وتنظيفها ستبدأ قريبا!

مدينتا مدينة سياحية فيها 53 مصنعا للخمور.عام 2019، أي قبيل وباء كوفيد، دخلها حوالي 3 ملايين سائح، علما بأن عدد سكانها لا يتجاوزون 120 الفا. العناية بها تفوق الخيال، ولذلك استغربت جدا وضع البحيرة حتى فهمت أن القضية وصلت إلى المحكمة، فتأخر مشروع تنظيفها.

أثناء دردشتي مع زوجي ونحن نمشي حولها، قلت له: صدقني أشعر بالأسف على شركة البناء، لقد أكلها المتعهد، وستكون المخالفة كبيرة جدا!

فردّ ببرودة أعصاب كعادته: لاااا تخافي ، هلأ بيطلع مالك الشركة لعند المساعد أبو حسين (وعا فكرة كل المسؤولين العرب عند زوجي اسمهم أبو حسين)، ويرمي له 1000 دولار على الطاولة، فيحل المشكلة.

لم أعد أذكر أي رئيس أمريكي قال:(عندما يفشل القائد هو المسؤول عن فشله،وعندما ينجح يكون الطاقم الذي يشتغل معه مسؤولا عن نجاحه)!

في بلادنا يفشل المسؤول لأن طاقمه يقتصر على اللصوص والحمير في عائلته وعشيرته، من منطلق “الأقربون أولى بالمعروف”.

نعم، إنها ثقافة الغزو وسرقة الغنائم،فكل مسؤول غازٍ، وكل منصب غنيمة.

إذ كان لهم به أسوة “حسنة”

Motif étoiles

أكمل القراءة

جلـ ... منار

من فيتنام إلى غزة.. الانتفاضات الطلابية مجددا

نشرت

في

مظاهرة أمام جامعة كولومبيا في نيويورك تضامنًا مع الطلاب المعتصمين داخلها  للمطالبة بوقف حرب غزة

بعد (56) عاما عادت جامعة كولومبيا العريقة في مدينة نيويورك إلى مركز اهتمامات الرأي العام بإلهام الاحتجاج السياسي وتأثيره على مجريات الحوادث. فى عام (1968) ولد جيل أمريكي جديد يعترض ويحتج على جرائم الحرب في فيتنام، ويرفض التجنيد في الجيش الذي يرتكبها على بعد آلاف الأميال.

عبد الله السنّاوي
عبد الله السنّاوي

كان ذلك داعيا إلى وقف تلك الحرب بعدما افتقدت ظهيرها الشعبي داخل الولايات المتحدة.

نفس الأجواء الغاضبة بنفس المكان تتكرر الآن تحت عناوين جديدة تستنكر التورط في حرب الإبادة الجماعية والتجويع المنهجي بغزة المحاصرة، تطلب وقفا مستداما لإطلاق النار ووقفا آخر لأية استثمارات في شركات تدعم إسرائيل بالتكنولوجيا العسكرية.

كان ذلك المطلب الأخير تطورا غير مسبوق في السياسة الداخلية الأمريكية يضع مستقبل العلاقات مع إسرائيل بين قوسين كبيرين.

“ليس من السهل تجاهل جثة طفل بين ذراعي أمه، ليس من السهل تجاهل الجياع وهم يتدافعون بحثا عن رغيف خبز والرصاص يطلق عليهم، وليس من السهل إزالة الحطام بعد تعرض شاحنات المساعدات لإطلاق النار ومقتل عمال إغاثة إنسانية”.

كان ذلك تلخيصا إنسانيا أوردته صحيفة “نيويورك تايمز” لدواعي الغضب السياسي، الذي اجتاح الأجيال الجديدة.

في المرتين على اختلاف الأزمان والعناوين، نصبت خيام في الحرم الجامعي، جرت صدامات واقتحامات واعتقالات دون أن توقف زخم الغضب. وفي المرتين امتدت التظاهرات والاحتجاجات من كولومبيا إلى كافة جامعات النخبة الأمريكية.

نحن أمام جيل جديد يصطدم مدفوعا بمثله العليا مع مؤسسات الحكم، البيت الأبيض ومجلسي الكونغرس والمدعين العامين وحكام الولايات مستندين إلى رؤساء الجامعات، الذين أخذوا يلوحون بالقبضة الأمنية. حسب قراءة “تشارلز بلو” في الـنيويورك تايمز، فإن الجيل الغاضب على حرب فيتنام أنضجته حركة الحقوق المدنية.. والجيل الغاضب على حرب غزة اكتسب وعيه من الحركات الاحتجاجية ك”احتلوا وول ستريت” و”حياة السود مهمة”. بأثر ذلك الصدام تبدو أمريكا عند مفترق طرق في إدارة صراعاتها بالشرق الأوسط.

سوف يأخذ الصدام مداه قمعا واعتقالا وإغلاقا إداريا وعقابا للأساتذة الذين يدافعون عن حق الطلاب في التعبير عن آرائهم بحرية.

أي صدام مع المستقبل خاسر مقدما. هذه حقيقة مؤكدة. لا يوجد غضب خارج سياق مجتمعه. وهذه حقيقة أخرى. وفق استطلاع أخير في صفوف الحزب الديمقراطي فإن (53%) يعارضون إرسال المزيد من المساعدات العسكرية لإسرائيل. التطور لافت بذاته رغم ما أبدته المؤسسة التشريعية بجناحيها الجمهورى والديمقراطى من استعداد للمضي بعيدا في دعم إسرائيل وغض البصر عما يحيق بأهالي غزة من عذاب فوق طاقة بشر على التحمل.

كان دخول رئيس الوزراء الإسرائيلي “بنيامين نتنياهو” على خط المساجلات الأمريكية الداخلية باتهام الطلاب بـ”معاداة السامية” صبا للزيت على النيران المشتعلة في الصدور، فهو بشخصه وتصرفاته وجرائمه يلخص كل ما يكرهه الجيل الجديد، خاصة بأوساط اليهود الأمريكيين. بالتزامن نشأت حركة احتجاج في جامعة السوربون الفرنسية ضد تورط الرئيس “ايمانويل ماكرون” في الحرب على غزة وتعرضت للقمع.

القمع هو المحرك الأول للتصعيد. كلما أمعنت السلطات في القمع تزايدت مشاعر الغضب. الذين لا يقرأون التاريخ يرتكبون الخطأ نفسه مرة بعد أخرى. تلوح في الأفق مقدمات موجة جديدة من الحركات الطلابية بأنحاء مختلفة من العالم تكاد تقارب مستويات غضب شباب أواخر ستينات وأوائل سبعينات القرن الماضي. في عام (1968) نشأت حركات وانتفاضات طلابية، أهمها وأكثرها دويا الفرنسية والأمريكية والمصرية. اكتسبت انتفاضة مايو في فرنسا تأثيرها الواسع من الأفكار التي صاحبتها والرموز الثقافية والفكرية التي شاركت فيها، ومن الأثار الاجتماعية التي ترتبت عنها.

لكل حركة طبيعة وأسباب تختلف عن الأخرى، لكن يجمع بينها الغضب على ما هو حولها وأمامها وخلفها. انتشرت في تلك الأيام مسرحية الكاتب البريطاني جون أوسبورن:”انظر وراءك في غضب” رغم أنها كتبت في الخمسينات – كأنها بدلالات عنوانها ثورة جامحة على الماضي بكل إرثه. شاعت كتابات الفيلسوف الألماني “هربرت ماركوز” عن دور الطلاب في صناعة التاريخ، واحتلت صور الثائر الأممي “أرنستو تشي غيفارا” جدران المدن الجامعية رمزا للتمرد على سطوة النظم. بدأت تظهر مجلات الحائط على جدران الكليات الجامعية بأقلام “فلوماستر” وروح متمردة. وقد استوحيت من الثورة الثقافية في الصين.

كانت مجلات الحائط في وقتها وظروفها ثورة في حرية التعبير عما تختلج به النفوس دون رقابة، أو مصادرة. ثورة أتاحت أوسع فرص ممكنة للحوارات المفتوحة. في فبراير من ذلك العام الغاضب تبدت في مصر صدمة واسعة على خلفية أحكام مخففة بحق المتسببين في نكسة يونيو (1967) من سلاح الطيران. خرجت تظاهرات في جامعة الإسكندرية تحتج على الأحكام. تطورت مطالبها إلى تعبئة موارد البلاد لخوض حرب تحرير سيناء المحتلة وتوسيع المشاركة السياسية في صناعة القرار. وكانت التظاهرات الطلابية عام (1972)، التي انطلقت من جامعة القاهرة، بحجمها وأثرها، إعلانا مدويا عن ميلاد جيل جديد.

ارتبطت لحظة الميلاد مع نداء استعادة الأراضي المحتلة بقوة السلاح ورفض المماطلة في اتخاذ قرار الحرب. كما ارتبطت بصورة “الفدائي الفلسطينى”، الذي وجد هويته في بندقيته ـ على ما أنشدت أم كلثوم من كلمات نزار قباني. بدت الانتفاضة قوية ومباغتة كأن غضبا مكتوما قد انفجر.

بدأت الشرارة في كلية الهندسة وانتقلت بشرعية غضبها إلى كليات أخرى ومن جامعة القاهرة إلى جامعة الأزهر، ثم إلى جامعات ثالثة ورابعة وخامسة. السيناريو نفسه يكاد يتكرر الآن بحذافيره في جامعة كولومبيا، إنها الروح الجامعية الشابة في كل مكان.

في العام التالى (1973) تحركت في جامعة القاهرة انتفاضة طلابية جديدة، كما لو أنها استئناف لانتفاضة (1972). انتقلت الانتفاضة الجديدة بأجوائها إلى الجامعات المصرية الأخرى تحت نفس المطالب: تهيئة الجبهة الداخلية للحرب وتوسيع المشاركة في صنع القرار. جرت تظاهرات واعتصامات وتكرر سيناريو اقتحام قاعة الاحتفالات الكبرى بقوة الأمن المركزي واعتقال أعداد كبيرة من القيادات الطلابية، سرعان ما كان يجري الإفراج عنهم- كما جرت العادة في تلك الأيام.

أطلقت اتهامات عشوائية تصف جماعات الشباب بـ”القلة المندسة” كتلك التي تتهم الاحتجاجات الأمريكية الجديدة بأنها معادية للسامية، أو أن “حماس” تقف وراءها!! كان ذلك ادعاء لا دليل عليه، إذ تشارك جماعات يهودية عديدة فى الاحتجاجات.

بأثر التضامن الجيلي وقوة الضمير الإنساني تمددت التظاهرات واتسع نطاقها واضطر البيت الأبيض إلى استبعاد اقتراح رئيس مجلس النواب باستدعاء الحرس الوطني لقمعها. لا يمكن مصادرة المستقبل ولا الحجر على الغضب ولا الاستمرار في حرب إبادة غزة دون ردات فعل غاضبة وعواقب وخيمة.

ـ عن “الشروق” المصرية ـ

أكمل القراءة

صن نار