تابعنا على

منبـ ... نار

السياسة في “عشريّة الهذيان”… الحال والمآل

” السّياسة جعلت الناس ،في جميع الأزمان، مجانين أو متوحشين أو خطرين، وبكلمة واحدة، فاقدي عقل..”

نشرت

في

جريدة الصباح نيوز - الحصانة البرلمانية..متى يتمتع بها نواب الشعب وما هي  إجراءات رفعها؟

   إذا كانت السياسة هي السّعي المنظم من أجل اِمتلاك السلطة وطلب الطاعة في تدبير الشأن العام، عن طريق هيْئاتٍ أو حركاتٍ أو أحزاب اِنضوتْ تاريخيا تحت بُنىً اجتماعيّة مختلفة بدْءًا بالعشيرة والقبيلة، مرورا بالمدينة والإمبراطورية واِنتهاءً بالدّولة الحديثة، فإن السياسة إذن كنشاط إنسانيّ قد “ملأت تاريخ الكائن البشري” ولم يخْلُ منها تجمّع إنسانيّ على الإطلاق، وهذا ما جعل أرسطو يُعرّف الإنسان باعتباره “حيوانا سياسيّا”.

توفيق عيادي*

هذا الترابط التاريخي الوثيق بين كلّ نواة اجتماعيّة والممارسة السياسية، هو ما دفعنا لرصد أسباب انصراف القاعدة الشعبيّة عن الاهتمام بالشأن السياسي، متابعة ومشاركة، مما أفرز حالة من اللامبالاة بكل ما يمتّ للسياسة والسياسيين بـِـصِلةٍ في مستوى الانخراط أو المشاركة أو المتابعة. بحيث تعاظمت في أوساط العموم والمثقفين (بدرجة أقلّ) حالة من العزوف العامّ والاستهجان والسخرية من معظم السياسيين. 

    حالة العزوف العامّة عن الاهتمام بالشأن السياسي تعود في تقدير الكثيرين إلى تراجع مستوى الثقة في الناشطين السياسيين كأحزاب أو كجمعيات مجتمع مدني يتقاطع فعلها بالضرورة مع الممارسة السياسية في السياق العام للبلاد (النقابات مثلا)… وضعف مستوى الثقة يبقى مُبرّرًا لأن الناشط السياسي أو ناشط المجتمع المدني – في الغالب الأعمّ – ينخرط في الممارسة السياسية داخل الأحزاب أو الجمعيات أو المنظمات من أجل أن يُحقّق ذاته  (ونعني بتحقيق الذات على غير معانيها الإنسانيّة-الوجوديّة، بل على صيغ النفعية الانتهازية) … بحيث تنحصر أهداف هذا “الفاعل” السياسي أو المدني، في تحقيق تقدّم على مستوى مساره الشخصي لإحراز مكاسب أو مناصب يُعبّر من خلالها عن ذاته ويُحَـسّن انطلاقا منها مواقِعه في درجات سلّم الفعل والقرار… دون أن يكون معنيّا حقيقة بالمساهمة كقوّة دافعة للبلاد نحو التقدّم والازدهار والنماء… يكفي أن يتقدّم هو كفرْدٍ على طريق تحقيق المنافع الذاتيّة حتى يكون الحزب أو الجمعية أو المنظمة قد حققت مُبتغاها الذي أنشِـئتْ من أجله.

هذه الرؤى القاصرة والمحدودة هي التي تسبّـبت في انحسار رغبة المواطنين ، وفئة الشباب منهم بالخصوص، في الالتحاق بالأحزاب والجمعيات وممارسة النشاط السياسي ضمنها. وجعلت من الأحزاب مجرّد حوانيت فارغة، “خاوية على عروشها” إلاّ من ذواتٍ أناواتها متضخّمة، تفرض نفسها وتسمّيها كقيادة… وحوّلت الممارسة السياسيّة في ذهن المواطن التونسي إلى مجرّد “اِسْتدْرار” للوجاهة والثراء، وهي عقليّة عبّر عنها طيف واسع من التونسيين بـ ” عقليّة الغنيمة ” في سياق عشريّة الهذيان المعمّم.

يبدو أن حالة العزوف هذه لا تحتاج إلى تأكيد ولا يختلف حولها مراقبان للشأن العام… ويمكن رصدها من خلال محاور عديدة، أوّلها قِلـّة المنخرطين وكثرة المغادرين لهذه الأحزاب، وثانيها انعدام (لدى بعض الأحزاب) وتراجع حادّ (لدى البعض الآخر) للأنشطة الحزبيّة التي تكتسي بُعدا شعبيا ووطنيّا وانحصار الفعاليات السياسية في ما يخصّ الإيديولوجيا الحزبيّة (مع تضييق المعنى في استخدام كلمة الإيديولوجيا)… أمّا ثالث محاور الرّصد فهو ضَعْف الإقبال الجماهيري على معظم الأنشطة التي تنظمها هذه الأحزاب وكيْفما كان نوعها أو هدفها، تكوينيا أو اِستقطابيا أو اِحتجاجيا، رغم ما يُرْصَدُ لها من جهد ومال ووقت.  وضعيّة الهذيان هذه أفرزت حالة من الإسهال الدائمة في تأسيس الجمعيات والأحزاب (أكثر من 240 حزب و24800 جمعية مدرجة بالسجل الوطني) حيث جاوز عدد الأحزاب مع مفتتح سنة 2023 مائتين وأربعين بعضها تناسل من أحزاب قائمةوّلها قِلـّة المن.

هذا العدد المهول من الأحزاب والذي لا يتناسب مطلقا مع التعداد السكاني ولا مع النموّ الاقتصادي ولا مع حاجات البلاد السياسية، حتى لو ربطنا هذا “السخاء” الحزبي بالمرجعيات الفكرية والإيديولوجية وتفصيلاتها الجزئية، سخاء يمكن تفسيره بمعطييْن اثنيْن، الأوّل أن قيادات بعض هذه الأحزاب مسكونة بوهْم الزعامة والرّيادة والقيادة، تحت وطأة السؤال الملحّ : لِما لست أنا الزعيم وأنا المقتدر؟ ويكون الجواب دائما ودون تنسيب: “أنا الزعيم” … ويبدأ عندها التأسيس، لِـتولدَ لديْنا أحزاب تحمل في طيّات ميلادها شهادة وفاتها واِضمحلالها، فلا يبقى منها سوى الاسم و”الزعيم” المؤسس وبعض مريدين … والمعطى الثاني هو أن قيادات هذه الأحزاب ومن فرط تضخّم أناواتها تُعطي لنفسها الحق التاريخي والأبدي في “الزعامة” وتختلِق لذلك حُجَجا ومبرّرات وإن تنوّعت أسبابها بين شرْعَنة هذا الحق بمـبادِرة التأسيس أو بالأسبقية الزمنيّة أو بالمسار النضالي التاريخي…

 وكلّها حجج تـُحِـيل على “عقل سياسيّ” يضيق بمفهوم التداول على المسؤولية والشراكة في ضبط الرؤية والحوار لوضع تصوّر لأفق سياسيّ حزبيّ… وذلك ما جعل من هذه الأحزاب بمثابة المنازل العائليّة، محكومة بعلاقات الأبوّة والبُنُوّة وتغيب عنها الممارسة السياسية المعقلنة… أو هي جزء من الملك الخاصّ تُوَرَّثُ وتوزّع المكاسب و المناصب فيها على الأبناء و الأنساب والأحباب… عقليّة الغنيمة والاستدرار هذه فتحت كل المنافذ أمام هذه الأحزاب على الفساد، فمارستْه وغضّت عنه الطرف وشجّعته وأخْلتْ سبيله وهذا الأمر بيّن جليّ من خلال فرض التعيينات وإبرام الصفقات وتمرير القوانين … وهكذا أصبح البرلمان مجرّد غرفة لتنسيق المصالح الحزبية الضيّقة أو حلبة صراع لتبكيت الخصوم- الأعداء وتعنيفهم، وهذا زاد من ترذيل الممارسة السياسية  وتحويلها إلى مجال للتندّر والسخرية والرّفض باعتبار حاصلها، الخداع في القوْل والعجز عن الفعل والضبابيّة في الرؤية والاستخفاف بمصالح عامّة الناس …

سياسة هذا حالها، فكيف سيكون مآلها ؟

بدأ المآل يتشكّل من خلال اِنتشار شعار : “حِلّ البرلمان ..” . وكان “الحلّ” عبارة عن بداية مرحلة سياسية جديدة تمّ خلالها نقل مركزة السلطة من الغرفة البرلمانية بـباردو إلى قصر الرئاسة بقرطاج… وقد اِسْتحْسن معظم التونسيين هذه الخطوة، ربّما لـوشائج تاريخيّة بين المواطن التونسي ومفهوم “الرئيس”…  سياسة الرئيس الجديدة عبّرت عن نفسها من خلال جملة من المحاور الأساسية على المستوى الداخلي والخارجي، أهمّها على الإطلاق داخليّا، أوّلا وضع حدّ لتغوّل حركة النهضة وعنجهيّة ائتلاف الكرامة وانتهازيّة حزب قلب تونس، ولم يكن من السّهل إزاحتهم إذ لا يخلو الأمر من مجازفة… وثانيا تعديل الإستراتيجيات الصحيّة في التعاطي مع جائحة “كورونا” بما ضمن أكثر توفير اللقاحات وحفظ صحّة التونسيين و التونسيات.

هذه المحاور كانت متلازمة مع الكثير من التفاصيل الأخرى وعلى أهمّيّتها وحساسيتها لدى المواطن التونسي ( غلاء الأسعار/مقاومة الفساد/ التهريب / الاحتكار ) وما اعْتراها من انتكاسات، بقيت مجرّد تفاصيل واِستأثرت المحاور الكبرى وحدها بتمثيل زاوية تقييم التونسيين لِسياسة الرئيس، وقد ظل دائما متقدّما على خصومه… أمّا خارجيّا، فإن الإعلان عن عودة الدولة التونسية إلى مُعْـتادها في اِنتهاج سياسة خارجية تنأى بها عن الانحيازات والكُـتل إقليميا ودوليّا، في مستوى الخطاب على الأقلّ. فكانت مسألة السّيادة الوطنيّة موضوعا دائم الحضور في تدخّلات الرئيس وغير قابل للاطّراح حسب رأيه مع عديد الأطراف الخارجية.

  لكن هذا الحياد في علاقة بالقضايا  المطروحة على المستوى الدولي لم يمنع تونس من التعبير عن موقفها وبلورة رؤية إزاء السياسة الدوليّة بصورة عامة، عبّر عنها الرئيس في واشنطن بمناسبة فتح نقاش حول إمكانية بناء “إفريقيا مزدهرة”، في كلمة تضمّنت الكثير من المعاني الإيجابيّة والإنسانيّة والآمِلة، والتي ليس بمستطاعنا إلاّ التقاطع معها ودعمها في ما يخص توصيف حالة النظام العالمي الراهن، والذي لا تخفى خافيته عن كل ذي عقل، من حيث بنية هذا النظام المحكومة بجشع الدول الكبرى في الحِيازة والاستثمار والاستئثار بمعظم خيرات العالم… ومن حيث مؤدّاه الذي أفضى إلى مزيد من التفقير والتداين والتجويع، لمعظم شعوب الدول الإفريقية… كما تضمّن خطاب الرئيس أيضا دعوة صريحة للقوى العظمى المعنيّة أكثر بروح هذا النظام (أمريكا) إلى إعادة التفكير في بناء نظام عالميّ جديد قوامه العدالة والتشاركيّة والديمقراطية التي “يعمّ أثرها الجميع”… فنكون عندها أمام اجْتراح طريق جديدة للسياسة العالمية، “… طريق جديدة نُعبّدها معا، وهذه الطريق لا يُمكن أن تـُـرْسَمَ من جانبٍ واحدٍ بل يجبُ أن نرسُمها مجتمعين.”…

 وكالعادة تعاطت المعارضة مع الخطاب بكثير من السخرية (رغم إدراكهم لمقبوليّته لدى عموم الشعب)، واستكثروا على الدولة التونسية أن يكون لها موقف من سياسة أمريكا للعالم (العولمة)… فهذا الشعب على فقره وتدايُنه وقلة حيلته، من حقه أن يأملَ في عدالة وديمقراطية “يعمّ أثرها الجميع” حتى ولو على سبيل الموقف والفرضيّة من أجل بناء نظام تتوزع فيه الأعباء والخيرات بالتساوي… النقطة المهمّة الثانية في محاور السياسة الخارجية للرئيس، هي كيفيّة تعاطيه مع صندوق النقد الدولي وإبدائه لمقاومةِ فرض الإصلاحات وضبط الخيارات السياسية والاقتصادية على الدولة التونسية من لدن الدول المانحة… وهذا الموقف رغم الضريبة التي دفعها الشعب في مستوى فقدان بعض المواد الأساسية والطاقيّة والتضحيات التي قدّمها الفقراء من أبناء الشعب، فإن ناتجُ هذه المقاومة لسطوة الصناديق الاستغلالية، تنضاف إلى رصيد الرئيس الذي قال “لا” لإملاءات الدّول المانحة، على عكس خصومه الذي أذعنوا وراهنوا على المانحين وارتهنوا لإملاءاتهم ورهنوا الشعب والدولة في مديونيّة مجحِفة.

محور آخر من محاور الفعل السياسي الذي يحظى باهتمام شديد لدرجة تعقيده وتقاطعه مع مجالات مختلفة، سياسية واقتصاديّة وأمنيّة وحقوقيّة، هو ملفّ الهجرة الذي أربك ضفّتيْ المتوسّط وحفّز أوروبا على مزيد الاهتمام به بدرجات متفاوتة… وقد أبدت تونس موقفا حاسما بخصوص هذا الملف وفي علاقة بنقطتيْن أساسيّتيْن هما رفض إعادة التوطين للمهاجرين أوّلا ورفض تحويل تونس إلى قاعدة إيطالية خلفية تحرس الحدود وتؤوي المهاجرين والمرحّلين، ثانيا…. موقف تونس هذا (ويُمثّله الرئيس) يحتاج إلى إسناد داخلي وإقليمي من أجل معالجة هذه “المعضلة” خارج حدود البعد الأمني المعتاد فقط …

    لقد أصبحت الساحة السياسيّة مجال فعْل  ومبادرة للرئيس، ومجال تدارُكٍ وردّ فعل -عدائيّ في معظم الأحيان- بالنسبة لخصومه… وهذا ما زاد من عزلة الأحزاب السياسية وعجزها ونفور الناس منها، وقد اِعتبرها الرئيس مجرّد أجسام وسيطة على كثرتها، وأقنع عامة الشعب أو كاد، بأن كثرة الوسائط هي فقط ترفيع في التكلفة. وصار مآل السياسة مع هذه الأحزاب  مآلا تعِسا  باعثا للشفقة والنكتة في الآن نفسه، حيث صارت قيادات بعض الأحزاب تصاب بحالات إغماء متكرّرة ( ترمي الدهشة)، وقيادات أحزاب أخرى استفحلت فيها الوعكات الصحيّة، وأحزاب أخرى، كلّما تكلّمت قياداتها غـمْغَمتْ وثرثرتْ دون أن تقول كلاما مفهوما ومعقولا…

  نصيحتي لهذه الأحزاب، كفّوا عن السلبيّة، فالأوطان لا تبنى إلاّ بالفعل الإيجابيّ …

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

*أستاذ الفلسفة بالمعاهد التونسية

أكمل القراءة
انقر للتعليق

اترك تعليقا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

منبـ ... نار

مفارقات تونسية… إلى متى يُؤجّل قرار إلغاء امتحان “الباك سبور”؟

نشرت

في

رئاسة الحكومة تتخّذ إجراءات ردعية بخصوص الشعارات الإرهابية والعنصرية في  "دخلات الباك سبور"

تعيش تونس هذه الأيام، وخلال كامل الفترة من 15  إلى 27 أفريل 2024، على وقع ما يُسمّى بالباك سبور، ونغتنم فرصة الاهتمام العام بهذا الموضوع ومواكبته من قبل العائلات التونسية ووسائل الإعلام المختلفة،  لنقدم ملاحظاتنا ومقترحنا حوله،  لعلنا نساهم بذلك، في فتح النقاش العام حول الإشكاليات المطروحة، يحدونا الأمل في التعجيل باتخاذ القرار الرسمي الملائم، الذي طال انتظاره وهو إلغاء “اختبار آخر السنة في التربية البدنية والاقتصار على نتائج التقييم المستمر أثناء السنة الدراسية”.

د. مصطفى الشيخ الزوّالي

ويتضمن هذا المقال تذكيرا بنماذج من الآراء والمعطيات الموضوعية المتداولة في الدراسات التربوية والتقارير الرسمية، والتي من المفروض أو  تُقنع الرأي العام  والمسؤولين بضرورة التعجيل بالقرار المقترح وبغيره من القرارات، ولكن، وفي سياق “انحلال الروابط الصلبة”، كإحدى السمات المميزة لحياتنا المعاصرة في “زمن السيولة”، كما يعرفه عالم الاجتماع الشهير زيغموند باومن، يتواصل التأجيل لهذا الأمر، كما يتواصل الـتأجيل لقرارات أخرى، لا تقل أهمية، قد تناولنا بعضها في دراسات علمية وتقارير رسمية أو  مقالات رأي حول “مفارقات تونسية” أخرى.[1]

أولا: نبدأ بالتذكير  بما حصل  سنة 2010 ،( في زمن “الصلابة” الرسمية التونسية)، فقد صدر  قرار إلغاء اختبار التربية البدنيّة لآخر السّنة وجاء ذلك بناء على تقرير من وزارة التربية والجهات الأمنيّة، حيث اتّخذ مجلس الوزراء يوم 20 أوت 2010 قرار إلغاء اختبار آخر السّنة في التربية البدنيّة: “حفاظا على سلامة التلاميذ والتوقّي من السلوك غير الحضاريّ، داخل المؤسّسات التربويّة وخارجها.  وقد برّرت الوزارة هذا القرار-كما جاء على لسان وزير التربية آنذاك- بثلاثة أسباب، هي:

  1. ارتفاع تكلفة الامتحان (3 ملايين دينار): ويحسن تخصيصُ هذه الأموال لتهيئة الملاعب واقتناء التجهيزات الرياضيّة.
  2. سبب بيداغوجيّ يتمثل في كون الأعداد المتحصّل عليها في اختبار آخر السّنة هي دون معدّلات المراقبة المستمرّة،
  3. سبب وقائيّ وأمنيّ، بعد تفاقم ظاهرة السّلوك المخلّ داخل المؤسّسات التربويّة وخارجها، بمناسبة تنظيم اختبار آخر السّنة في التربية البدنيّة.

ولئن استبشر عدد كبير من الأولياء ومديري المؤسّسات التربويّة بهذا القرار، فقد لاقى نقدا ورفضا من قبل نقابات التعليم ومدرّسي التربية البدنيّة الذين رأوا في القرار تهميشا لمادة التربية البدنيّة.

لاحقا، وفي سياق ما يمكن تسميته بالنتائج  المنحرفة” أو “غير المأمولة” لثورة 17 ديسمبر 2010/14 جانفي 2011، صدر سنة  2012، “قرار عودة اختبار التربية البدنيّة لآخر السّنة” دون معالجة الإشكاليات التي أدّت إلى إلغاء هذا الاختبار.

للتذكير أيضا، فقد تم خلال دورتي 2020 و2021، إلغاء الباك السبور واحتساب المعدل السنوي للتربية البدنية كعدد نهائي في امتحان الباكالوريا في كافة المعاهد العمومية والخاصة، وذلك بسبب الحجر الصحي وأزمة الكوفيد19.

ثانيا: حول انعكاسات امتحان “الباك  سبور” على التنظيم البيداغوجي والحياة المدرسية [2]

  1. توقف دروس التربية البدنيّة منذ منتصف شهر أفريل ، بسبب تجنيد جميع مدرّسي المادّة في لجان الامتحان .
  2. تعدد التجاوزات ومظاهر الإخلال أثناء سير الامتحان والسّعي إلى التحيّل على التراتيب، فترى عددا من المترشّحين الذين ضمنوا معدّلات سنويّة في التربية البدنيّة مرتفعة يقومون بتقديم وثائق تعفيهم من اختبار آخر السنة، وصنفا آخر اختار الإعفاء من دروس التربية البدنية طيلة السّنة الدّراسيّة ولكنّه يريد المشاركة في اختبار آخر السّنة لجني بعض النقاط التي قد تكون ثمينة عند احتساب العدد النّهائي.

ثالثا: حول العادات والطقوس التي انتشرت قبل إجراء الاختبار وبعده:

 ويتمثل ذلك في إقامة نوع من الحفلات والاستعراضات أمام المعاهد وفي الشّوارع، تعطل حركة المرور وتتحوّل في عديد المرات إلى  مآس وحوادث مرور خطرة. وفي ما يلي فقرات واردة في وسائل إعلام مختلفة وبمواقع الكترونية تناولت هذا الموضوع ، وهي تؤكد وجود شبه إجماع على خطورة الظاهرة في المجتمع التونسي:

  1.      ” احتفالات بها بكثير من الصخب وتتوجّس منه إدارات المؤسّسات والسّلط الجهويّة والمحليّة لما يرافق احتفالات التلاميذ به من تجاوزات خطرة…” 
  2. ” أسوأ هذه العادات هي (الكُورتيج) :“استعراض السيارات”حيث يخرج التلاميذ في استعراض بالسيارات يجوبون وسط المدينة  و شوارعها إضافة إلى الألعاب النارية و الشماريخ، عادتان تأتيان في المرتبة الثانية للائحة العادات السيئة حيث يعمد عديد التلاميذ إلى الاحتفال بالـ”فلام”و الألعاب النارية …”
  3. دخلة الباك سبور …وفاة تلميذ باكالوريا بعد سقوطه من نافذة السيارة خلال احتفاله مع أصدقائه…”
  4. “الآن وقد تمّ تسجيل وفاة التلميذ ( والتلميذة)… على إثر حادثي مرور خلال احتفاليات (الدخلة) الملعونة في الباك سبور…متى يتمّ التدخّل ومنع هذه الظاهرة الخطيرة.”

رابعا: انتشار الدروس الخصوصية في “الباك سبور” وتحوّلها إلى “عنوان فساد”

لاحظنا في السنوات الأخيرة، استفحال ظاهرة الدروس الخصوصية في “الباك سبور”، وذلك رغم غلاء أسعارها، فقد صرّح وزير التربية بتاريخ 16 أفريل 2019 ، أنّ”5  أيام دروسا خصوصية في (الباك سبور) بـ700 دينار” [3].  كما صرّح الوزير نفسه، بتاريخ 21 ماي 2019، أن :  “باكالوريا الرياضة في شكلها الحالي هي عنوان الفساد وهي  لا تحمل أي معنى …. من موقعي كوزير للتربية …. لا أسمح لنفسي بمباركة أشياء أعرف جيدا أنها غير مقبولة وغير معقولة . فهل يعقل مثلا أن يتحصل 99 بالمائة من التلاميذ في الباكالوريا رياضة على أعداد فوق 18 من عشرين، هناك تضخيم غير مقبول للأعداد التي تسند للتلاميذ على خلفية الدروس الخصوصية في الرياضة، ولو كانت هذه الأعداد تسند لها ميداليات ذهبية لكانت تونس بطلة العالم في الرياضة…”[4]

يبدو جليا  من خلال هذين التصريحين، أن الوزير قد كان يؤسس لحملة إعلامية، تمهيدا لاتخاذ قرار إلغاء “الباك سبور”، ولكن بعد أقل من سنة، تغيرت الحكومة وتغير وزير التربية، وتأجل اتخاذ القرار المذكور . ويبدو أن السبب الأساسي وراء التأجيل المستمر لاتخاذ  هذا القرار وعديد القرارات التي يحتاجها قطاع التربية في تونس منذ أكثر من عقد من الزمن، هو  عدم الاستقرار الحكومي وتعاقب أكثر من 10 وزراء على قطاع التربية منذ  2011.

خامسا:  “دخلة الباك سبور”

لا يفوتنا، في خاتمة هذا المقال، أن نُذكّر بنقطة إيجابية في “الباك سبور”، قد تدفع البعض إلى الدفاع عن استمرار هذا النوع من الامتحانات ونعني بذلك ما يمكن تسميته بـ”قصص النجاح في دخلة الباك سبور” والتي أكد  من خلالها التلاميذ في عديد الحالات، قدراتهم الإبداعية وتميزهم في التعبير عن حاجياتهم الأساسية وقيمهم الإنسانية أو احتجاجاتهم ومطالبتهم بحقوقهم. ومن المواضيع التي لاقت استحسان التونسيين وراجت في الاعلام: “تكريم الأساتذة والأولياء“،  “التحسيس ضد كورونا”، وآخرها الحضور البارز للقضية الفلسطينية في “باك سبور” 2024.

لضمان المحافظة على هذه النقطة الإيجابية، يمكن التفكير في تطوير  فكرة “دخلة الباك سبور”، دون إجراء اختبار التربية البدنيّة لآخر السّنة، وذلكعبر اعتماد صيغة مشاريع عروض فنية ورياضية وثقافية، تُطبّق فيها بيداغوجيا المشروع، حيثيمكن الاستفادة من دروس فشل تجارب سابقة للوزارة في هذا المجال. نعني بذلك تجربة “التعلمات الاختيارية” (2003- 2006)  أو “”مادة إنجاز مشروع” (2006-2015) [5]. واستنادا للوثيقة الرسمية للتجديدين المذكورين، يمكن أن تتكون مجموعات من التلاميذ، تنطلق في تصور مشروع “دخلة الباك” وإعداده وتنفيذه،  بداية من السنة الدراسية للسنة الرابعة ثانوي، أو انطلاقا من السنة الثالثة ثانوي . يؤطر المشاريع مجموعة من المربين من اختصاصات مختلفة كالتربية البدنية والموسيقى والمسرح وغيرها، وبالتعاون والدعم من أطراف أخرى من العائلات والمحيط الاجتماعي والاقتصادي والثقافي للمؤسسة التربوية كدُور الشباب أو الثقافة أو مؤسسات أخرى ( طبعا في سياق مشروع المؤسسة التربوية وتطبيق القانون المنظم له منذ 2004، وهو الأمر المنظم للحياة المدرسية، أو ربما القانون الذي ننتظر أن يعوّضه) يمكن كذلك أن تُرصد جوائز جهوية ووطنية لأحسن العروض التي يتم تقديمها في الاحتفالات المدرسية لآخر السنة إلخ إلخ…


هوامش:

[1] مثال ذلك دفاعنا عن قرار إلغاء الاعداديات والمعاهد النموذجية ، في مقالين منشورين بجلنار  وهي  “مفارقات تونسية ( 2)(28 أفريل 2022) و”مفارقات تونسية” (3) بتاريخ 22 جوان 2022

[2]  معطيات هذا العنصر والعنصر السابق مستخلصة، أساسا، من دراسة حول “الباك سبور” منشورة بموقع “المدونة البيداغوجية” بتاريخ 26 أفريل2015.

[3]  https://www.guideparents.tn/article

[4] https://ar.espacemanager.com

[5]  تناولنا  هذا الموضوع  في  كتابنا ” المدرسون والتجديد” ويمكن الاطلاع على تقديم الكتاب من الصديق منصف الخميري بالمدونة البيداغوجية  بتاريخ 6 مارس 2022 وكذلك على الفصل الأول من الكتاب بنفس المدونة  في 4 تواريخ متتالية بداية من 29 جانفي 2023

أكمل القراءة

منبـ ... نار

تكريما لروحك يا “جاد”… أعلِنُك رئيسا رمزيا

نشرت

في

Ouvrir la photo

توفيق العيادي:

كان جاد نصيرا للمرضى والعجّز والفقراء ولم يطلب يوْما نصرتهم لكسْب أو منصب أو مغنمٍ له، وقد هبّ الناس لتوديعه لأنهم أحسّوا فعلا بعظيم خسارتهم في موته.

Ouvrir la photo
توفيق العيادي

لم أعرف جاد الهنشيري إلا عن طريق الصدفة ومن خلال برامج تلفزية دُعِيَ لها ضيفا كممثل للأطباء الشبان، ولم ألتقه مطلقا، فقط استمعت إليه أكثر من مرّة وهو يُلقي بهمّه الذي هو همّ الفقراء على مسامع التونسيات والتونسيين، ويقطفُ من روحه أمَلاً يُرسِله لهم جميعا درْءً لأحزانهم التي فاقت كل معايير القيس وأدوات الأكيال والأوزان، وثـقُـل عليْهم حِمْلُ الهموم التي ناءتْ بها الأعناق، والمرارة على محيّا جادٍ بادية لا تُخطئها العين ويتدفّق الصدّق من بين موجات صوته المَغْصوص كَغُصَصِ كل الشباب الحالم على هذه الأرض، ولا تخلو غصّة جاد من معنىً يؤطّره مبدأ أساسيّ يشُدّ الحلم وينير الطريق ويُحفّز على المسير وتجشّم الصّعاب، مبدأ فحواه أنه : ” بمقدورنا أن نكون أفضل .. يجب أن نكون أفضل”، رغم الاستهجان والاعتراف بحجم الفساد الذي نخر معظم القطاعات والفئات في هذا الوطن.

لكَمْ نحن في حاجة ماسّة إلى شابّ جادٍّ كما “جاد” يتوهّج عزما وحبا وصدقا، ولسنا في حاجة إلى “عـتْـڤـة” قديمة كما بعض من فاق السبعين وغنِم من العهديْن ويريد اليوْم أن يستزيد … مات “جاد” رحمه الله وأغدق على أهله وصحبه الكثير من الصبر والسّلوى. لكنّ القِيَم التي حملها جادّ وحلُم بها وحمّلها لمنْ بعْدِه من الصّحْب والرّفقة، لا تزال قائمة، فأمثال جاد من الشباب الأوفياء والخلّص للوطن بكل مكوّناته سيّما البسطاء منهم، موجودون بالعشرات، بل بالآلاف وفي كل ربوعه، وما على الوطن إلاّ أن يَجِدّ في طلبهم والبحث عنهم وأن يُصدّرهم مواقع الريادة والقرار ،وإن حَجَبَهُمْ عنّا تعفّـفهم،

إذا كنا نريد فعلا المضيّ في الطريق المفضي إلى المشروع الحرّ وجبَ أن نغادر خصومات كسب العواطف واِستمالة الأهواء ونعراتِ التحامق، ونمضي في تسابق نحو كسب العقول وتهذيبها وتنظيفها من كل الشوائب العالقة بها لعهود .. ولذلك أقول للمشتغلين بالسياسة والمتكالبين على استدرار الشعب لتدبير شأنه العام والاستحكام برقابه، إن السياسيّ الناجح هو الذي يُبينُ للناس ما فيه من فضائل وما هو عليه من إقتدار وليس نجاح السياسي رهين عرض نقائص الخصم والتشنيع عليه وتعظيم مساوئه وإن كان له فيها نفع.

ونذكّر السياسي أيضا أن الجدارة بالحكم لا تتوقّف عند حدّ الفوز بالتفويض من الإرادة الشعبيّة عامة كانت أو مطلقة، كما أن النوايا الطيّبة لا تكفي لمزاولة السلطة، بل يبقى صاحب السلطة في حاجة إلى تأكيد شرعيّته بحسن إدارة الحكم الذي ينعكس وجوبا على أحوال الناس، وهذا لا يتمّ لهم بواحدٍ بل بكثيرين ومن أمثال “جاد الهنشيري” تضحية وصدقا ومروءة …

رحل جاد وبقي أثره فينا، وتكريما لروحك يا “جاد” واِنحيازا لكلّ قيَمِ الجدارة والصدق والإنسانيّة والجدوى، والتي مثّلتها باقتدار، أعْـلِنُـكَ “رئيسا” رمزيّا وشرفيّا بالغياب لهذا الوطن الحزين … ليطمئن السياسيون، فـ”جاد” لن ينهض من غيبته الأبديّة، وستكون قيمه تقضّ مضاجعكم كلّما اجتمعت لشخصٍ خشية أن يُبعثر حسابات الرّبح مِمّا تمِزّون من دماء الوطن.

أكمل القراءة

منبـ ... نار

هل تتخلص تونس من مكبلات صندوق النقد الدولي و تبحث عن مصادر بديلة؟ (2)

نشرت

في

Compétitivité des exportations en Afrique : La Tunisie classée 2 ème -  Tunisie

عرفت تونس أزمات اقتصادية ومالية متفاقمة بعيد ثورة 14 جانفي، وتتالت هذه الأزمات و امتدت آثارها السلبية الى اليوم رغم القطع مع المنظومة البائدة إثر حراك 25 جويلية.

فتحي الجميعي

إلا أن الانتهازيين و أصحاب المصالح والسابحين عكس تيار النهوض بالبلاد عطلوا عملية الإصلاح وعملوا على إفشالها وذلك بكل السبل، فبقيت تونس رهينة الديون المتراكمة والمجَدْولة، وسياسات الجذب الى الخلف كالتهريب والمضاربة وتبييض الأموال. غير أن الإرادة الصادقة، والإيمان القوي بضرورة تغيير حال البلاد إلى الأفضل جعلها لا تنحني إلى الابتزازات، ولا تخضع للشروط.

فرغم توصلها في أكتوبر 2022 الى اتفاق على مستوى الخبراء مع صندوق النقد الدولي تحصل بموجبه على تمويل بقيمة 1.9 مليار دولار، لكن الاتفاق النهائي تعثر تحت طائلة الشروط القاسية كرفع الدعم، خفض الأجور و بيع مؤسسات عامة متعثرة. ولم يقف الأمر عند ذلك الحد بل تم وضع تونس ضمن القائمة السلبية لأول مرة من قبل هذا الصندوق، الأمر الذي صعب على بلادنا النفاذ الى الأسواق المالية العالمية.

وتفاديا للوقوع في صدمات اجتماعية واقتصادية، نجحت تونس بفضل تطور صادراتها، وعائدات السياحة، وتحويلات التونسيين بالخارج، وتنويع شركائها التجاريين إضافة إلى اعتمادها على الاقتراض الداخلي، والاكتتابات المتتالية لدى بورصة تونس، وانخراط التونسيين في هذه العملية، وهو نوع من الوعي الوطني والدفاع عن حرمة تونس، و نتيجة لذلك تحقق توازن مالي لدى البلاد هذا من ناحية، و من ناحية أخرى أعطت درسا لصندوق النقد الدولي بإمكانية التخلي عن خدماته عند الاقتضاء وخاصة عند المساس بأمنها القومي.

ورغم أن الفضاء الطبيعي  لتونس هو الفضاء الإفريقي والعربي والأوروبي باعتبار أن ثلثي المبادلات التجارية معه، إلا أنها عبرت عن انفتاحها على كل الفرص التي تمكن من تسريع وتطوير مناخ الأعمال ونسق النمو في اشارة إلى مجموعة “البريكس”.

إن تونس  مازالت منفتحة على الحوار مع صندوق النقد الدولي لكن دون إملاءات أو شروط تهدد السلم الاجتماعي. وإن تعذر ذلك فتونس مستعدة للانضمام الى بريكس للحصول على التمويلات اللازمة.

أكمل القراءة

صن نار