تابعنا على

جور نار

عندما تنهار كفاءاتنا باكية ولكنها ترفض مغادرة الوطن

نقل لحوار تلفزي مع الجرّاح الجزائري لطفي بوبْلاطة

نشرت

في

تنبيه أوّلي: من تُرهقه القراءة، بإمكانه المرور مباشرة إلى مشاهدة الحوار كاملا على الفيديو آخر النص، ففيه متعة وامتلاء.

سأحاول في هذه الورقة تلخيص حوار شيّق وبنّاء ومؤثّر أُجري السنة الماضية مع البروفيسّور الجزائري لطفي بُوبْلاطة المختص في جراحة قاعدة المخ والأعصاب (رئيس قسم جراحة الأعصاب بقسنطينة) بثّته قناة البلاد الجزائريّة ويدوم حوالي ساعة كاملة أتى فيها على منشئه والعوامل الحاسمة في مسيرته وعلاقته بالمرضى وبالوطن وبهجرة الأدمغة.

منصف الخميري Moncef Khemiri
منصف الخميري

وإن التنويه بكفاءة طبية جزائرية شقيقة لا يُنقِص شيئا من قيمة جرّاحين تونسيين على مستوى عال وعالمي من الكفاءة أمثال الدكاترة الأجلاّء عبد الكريم بالطيّب ومنصف الخالدي (رحمهما الله) ومنذر يدعس وحافظ الجمل (لهما موفور السعادة وطول العمر)… وعديدون آخرون لا أعرف أسماءهم، لكن تقصير الإعلام التونسي في حقّ هؤلاء والتعتيم على مُنجزاتهم وعدم إتاحة الفرصة أمامهم للتحدّث إلى ملايين المشاهدين من ناحية، وطبيعة الحوار الذي دار مع بوبْلاطة وتشديده على البعد الوطني والإنساني في عمله من ناحية أخرى جعلاني أتأثّر كمشاهد بهذا الرجل وأحاول أن أسهم في التعريف به واستخلاص الدروس من تجربته.

أهم لحظات الحوار

أنا من مدينة سوق أهراس، القاعدة الشرقية للمقاومة الجزائرية ومدينة القدّيس أغسطس، مدينة أعطت الكثير من المجاهدين والشهداء، بلاد رجل المسرح مصطفى كاتب (إبن عم كاتب ياسين) ووردة الجزائرية ومحمد الشريف مساعدية (إضافتي: مدينة سوق أهراس لا تبعد أكثر من 100 كلم عن مدينتي الكاف وجندوبة على الحدود الغربية، لذلك يقول أثناء الحوار “جيت مالحدود متاع تونس”)، لي 7 إخوة ووالدي كان معلّما وساعدنا كثيرا هو ووالدتي المقرّبة منا جدا كأنها صديقة لا أمّ فحسب، على النجاح في دراستنا. والدي “دارْ الخير” في أولاد الناس، لذلك ربّي دارْ الخير في أولادو !

نعم، كنت من المتفوّقين في دراستي إلى غاية الباكالوريا ولم أفكر يوما في حياتي أن أتابع دراستي الجامعية بشعبة الطبّ… كنت أحلم دائما بأن أصبح طيّارا حربيّا. معدلي الحسابي بين الفيزياء والرياضيات والعلوم الطبيعية كان حوالي 18 لكنني لم أرغب مطلقا في دراسة الطب. ذهبتُ إلى عنّابة مع مجموعة من الأقران وأعلمونا هناك بأن كل الذين تحصلوا على معدّلات أرفع من 16/20 يُمكَّنون آليا من اختيارهم الأول. واكتشفت حينها أن طريق الوصول إلى مهنة الطيار الحربي عملية معقّدة جدا وتستوجب المرور بالمؤسسة العسكرية… وبحكم أن أغلب أصدقائي قاموا بتعمير شعبة الطب، فقد اخترت الطب…هكذا بدون اقتناع كبير…ومن هنا بدأت المغامرة.

درست السنوات السبع الأولى في عنّابة، وأذكر أنني تحصلت في الثلاثي الأول على معدل 10.58، وهو أدنى معدّل تحصلت عليه في حياتي. صُدمت كثيرا فحزمت حقيبتي وعدت إلى عائلتي مُعلنا أنني قررت التخلي عن دراسة الطب التي لم أحلم بها يوما بل بدراسة الطيران. في هذه اللحظة الفاصلة من حياتي، يتدخّل أستاذي “سي العوّادي” الذي كان يدرّسنا مادة الفيزياء سنة الباكالوريا، طلب منّي أن أرافقه إلى بيته وأدخلني مكتبته التي وجدتُ بها كل الكتب والمراجع التي كنت أسمع بها في سنتي الأولى طب ولم أعثر عليها، حملتها معي واستثمرت وقتا طويلا في مراجعتها وعدت إلى عنابة لأتحصل على معدل 15 ثم 16 في الثلاثي الثاني والثالث.

حدثان فارقان طبَعا ذاكرتي وأنا مازلت طالبا صغيرا :

أولا : في السنة الرابعة طب عندما بدأنا دراسة “الوحدات”، أول وحدة كانت الجراحة. ذات يوم كنت مُبكِّرا كعادتي، اعترضني مدير الوحدة وأنا أتمشّى في معبر المستشفى فنهرني صائحا وقال لي “تجوب المعابر، إذن تهيّأ لإعادة هذه الوحدة” (إلهي يا فتّاح يا رزّاق… أية عنجهية هذه ؟). في الأسبوع الموالي كان رئيس القسم بروفيسور شرحاوي يؤدي زيارة إلى القسم الذي أتدرّب به، فقمت بتقديم مريض عارضا حالته، أُعجب بي وقال لي “أنت مُعفى من إجراء الامتحان التطبيقي، عددك سيكون 16/20”. وكأنه بذلك يُحقّق نوعا من العدالة السماوية في تلك اللحظة…لأنني كنت صافيا وصادقا فأنصفني الله.

ثانيا : كان اعتنائي الكبير بالدروس النظرية عائقا أمام تعلّم “العلاجات التطبيقية” مثل الحقن وقيس  ضغط الدم … فقصدت ممرضة وعرضت عليها الأمر، فقالت لي “حتى تتعلم ذلك لا بدّ من التّبكير” فسألتها “ماذا تقصدين بذلك” فقالت “أن تأتي على الساعة السادسة صباحا” !  في الغد وعلى تمام الساعة السادسة صباحا كنت بباب القسم الاستشفائي الذي تعمل به هذه الممرضة. وبقيتُ أنتظر هناك إلى غاية الساعة الثامنة. أتت الممرضة وفوجئتْ بوجودي هناك فانهمرت ضحكا وتبنّتني من يومها كأنني واحد من أبنائها لأتعلّم على مدى ثلاثة أشهر كل العمليات العلاجية وخدمات التمريض.

كنت مترددا بين جراحة المخ واختصاص الانعاش الذي أعتبره العمود الفقري للطب

استقبلني في هانوفر بألمانيا البروفيسور الإيراني- الألماني مجيد سميع وهو من القامات العالمية في هذا الاختصاص الطبي الجراحي الدقيق. كان تصوّر هذا الطبيب أن التدرب لديه لا يمكن أن يقلّ عن ستّة أشهر لأنه كانت لديه فكرة أن الجزائر لا تقاليد أو تجربة لها في المجال. سافرت الى هناك، لكنني تعلمت كل شيء في أسبوعين فقط لأن سميع مكّنني من الأرشيف المُصوّر الذي يتضمّن كل العمليات التي قام بها. ساعدني كثيرا هذا التربّص والتقنيات المُستخدمة هناك، حتى أنه ولما عدت إلى الجزائر، أجرينا 260 عملية جراحية مجهريّة على مرضى جزائريين وتوصلنا الى نفس النتائج تماما كما في ألمانيا والولايات المتحدة الأمريكية.

4 أو 5 عمليات جراحية في الأسبوع، 250 عملية في السنة على امتداد 21 سنة أي ما يعدل 5000 تدخل جراحي إلى حدّ الآن.

كنت أكرّر أمام طلبتي ومساعديّ دائما أن جراحة المخ والأعصاب فيها سرّ ما، وهو نفس السرّ الذي تتأسّس عليه علاقتك بالمرأة بصفة عامة إن كانت أمك أو أختك أو زوجتك أو ابنتك، إذا حصل لديها الاقتناع التامّ بأنك تحبّها، فهي تعطيك كل شيء. يجب أن تكون علاقتك بالمرضى خاصة جدا بحيث يحدث أن تجد فريقك يبكي مريضا من شدّة الانفعال والحرص على حالته.

هل يحدث أن تبكي أمام حالة مريض ؟

“نعم، موش مرة موش زوج”. سأقول لك سرّا، لماذا لم نغادر البلاد نحو الخارج ؟ علاقتنا بالمرضى هي علاقة وطن وشعب واحد، عندما يأتيك شخص صحبة ابنه أو زوجته أو حتى هو بورم في المخ، هذا المواطن يكون أمامه أنت والله فقط.

لحظة تأثر قصوى يتوقّف بموجبها الحوار.

أمام هكذا وضع، أنت مضطر للبقاء بالجزائر وما عندك فين تروح. أنا أقول “لن تتميز إلا هنا في الجزائر وأتحدى أيّا كان يقول انه باستطاعته الذهاب الى الخارج ويكون بوسعه أن يفعل ما يريد”.

هل تعرف بأن الكفاءات والخبرات في العالم اليوم لم تعد بحاجة إلى إرسال سيرة ذاتية للحصول على مركز عمل في مؤسسة بحثية أو شغليّة ما، بل يكفي التنصيص على العنوان الالكتروني والاختصاص حتى يعرف العالم مباشرة قيمتك ومكانتك “آش تسْوى”، وذلك بواسطة مؤشر “ه” Le h index sur google scholar الذي يقيس أثر المنشورات العلمية لشخص معين ويأخذ بعين الاعتبار عددها ومدى تكرّر الاستشهاد بها كمراجع. وبناءً على هذا المؤشر، يمكنك أن تفاوض أجرك الذي لا يمكن أن يقلّ (في حالتي أنا على سبيل المثال) عن 25000 ألف يورو شهريا. إذن علاقتنا بالمرضى هي علاقة خاصة جدا كما ذكرت آنفا كأنها علاقتك بأمك أو ابنك.

وما هو موقع فلسطين من كل هذا ؟

أنا أمين عام جمعية جراحي الأعصاب لدول البحر الأبيض المتوسط، وفي هذه التسمية قصة كبيرة، لأننا فرضنا ألآ تكون فيديرالية تضم كل جمعيات المتوسط (بما فيها جمعية فلسطين المحتلة التي اسمها إسرائيل) بل أن تكون التمثيلية للأشخاص الجراحين (بأسمائهم الفرديّة) وليس للجمعيات بمسمّيات دولها. ليست لديّ شخصيا أية مشاكل مع اليهود كديانة ولكن عندما يتعلّق الأمر بإسرائيليين، لا يمكن أن لا نستحضر فلسطين.

لطفي بُوبْلاطة، من بين أفضل 10 جراحين في العالم في اختصاص جراحة قاعدة المخ والأعصاب

معي 4 مساعدين شباب في قسنطينة، لو تضعهم في أكبر مركز لجراحة المخ والأعصاب في العالم سيكونون جاهزين تماما للعمل بدون أية عُقد مقارنة بنظرائهم في دول أخرى.

لكن للأسف ليست لدينا أية محفزات غير الإصرار وهذه العلاقة الخاصة بالمريض. في مستشفياتنا،  لا مكان للراحة، لا مكان للاستحمام، وأجرة الطبيب لا تكفي لأن تشتري هاتفا لائقا…

الطبيب حسب اعتقادي بحاجة إلى شيئين أساسيين اثنين : الاعتبار والكرامة. يجب أن يعيش بكرامة وأن يكون له اعتبار…فقط.

آخر سؤال : ماذا علّمت الحياة لطفي بوبلاطة ؟ (وهو عنوان البرنامج)

علّمتني الحياة أننا لا نستطيع العيش خارج الجزائر، نجاحنا هنا في الجزائر، مُحال ننجح خارج الجزائر، نطلب فقط تحسين ظروف العمل ولا نطلب شيئا آخر.

أكمل القراءة
انقر للتعليق

اترك تعليقا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

جور نار

“زيدها شويّة”… أو كيف نُواجه سعير الأرقام في تونس

(من خلال أمثلة حيّة)

نشرت

في

ذكّرني التغيير الذي حصل مؤخّرا على رأس المعهد الوطني للإحصاء (احتمالا على خلفية دكتاتورية الأرقام التي لا تُجامل ولا تُعادي) بجملة من الأحداث والوقائع التي عشتُها شخصيا في أكثر من موقع والمُثبِّتة لعقليةٍ تشكّلت في بلادنا منذ العهود السابقة.

منصف الخميري Moncef Khemiri
منصف الخميري

 مفادُ هذه العقلية  كسْر المحرار إذا باح بنتائج لا تتطابق مع انتظارات المسؤول السياسي، والهروب بصناديق الاقتراع عندما كان يتوقع طلبة التجمع الحاكم عدم الفوز  في انتخابات المجالس العلمية كما كان يحصل في الجامعة التونسية… وعقلية “زيدها شوية” هذه نجد لها أثرا أيضا في نسيج العلاقات الأسرية وفي تعاطي عموم الناس مع الظواهر المختلفة وتفاصيل حياتهم اليومية، لأن الترقيع في ثقافتنا أعلى صوتا دائما من المعالجة الجذرية لمصادر أوجاعنا، وآليات والتسكين والتخفيف والتليين والتقليل والتمسكين منوالٌ قائم بذاته في رُبوعنا.

فعلى سبيل المثال عندما يُنتهك حقّ البنت في الميراث، لا يُجمِعُ أغلب الناس على إرجاع الحق إلى أصحابه بل يجنحون إلى المحافظة على الوضع القائم مع إضافة جملة ترقيعية  “زيدها شوية ووخيّان كيف آمس كيف اليوم” … وعندما تعوجّ حيطان البنّائين المُبتدئين تجد دائما من يحاول التنسيب بشكل ماكر “ثمة شوية عوَج صحيح آما توة باللّيقة تتسوى” … وعندما يعجز بعض الأطباء عن تشخيص مرض ما بدقّة، يسقطون في ما يُشبه تقليعات التنمية البشرية  “والله ما عندك شيْ، المشكل الكل في راسك، عندك برشة هلواس. آقف قدام المراية وصيح مانيش مريض توة ترتاح”…

المثال الأول : نسب النجاح في السنة الأولى بكلية العلوم

في بداية الألفية الجديدة، طلب المسؤول الأول عن مكتب الدراسات والتخطيط والبرمجة التابع للديوان بوزارة التعليم العالي، من رئيس مصلحة متابعة النتائج الجامعية (السيد ت.ع وهو من روى لي تفاصيل الحادثة) مدّه بنتائج آخر السنة الجامعية بالنسبة إلى كلية العلوم بتونس، فلمّا لاحظ أن نسبة النجاح العامة (في كل الاختصاصات مجتمعة) تراجعت خلال ذلك العام من 33 إلى 27 % أشعل سيجارة وسحب منها نفسا عميقا كمن يبحث عمّا يُساعده على ابتلاع نسبة التراجع التي سيُسأل عنها أمام وزيره آنذاك…ثم قال له في شبه توسّل “لا شويّة بالكل سامحني سي فلان، من رايي تزيدها شوية”.

المثال الثاني : في نفس الوزارة

في 2007، عندما انطلق تطبيق منظومة إمد على مراحل وكانت شهادة الأستاذية ماتزال قائمة جزئيا ريثما تحلّ محلّها شهادة الإجازة، طلب الوزير من المدير العام للشؤون الطالبية مدّه بإحصائيات حول مدى إقبال التلاميذ الناجحين الجدد في الباكالوريا على الإجازات الجديدة مقارنة بإقبالهم على الأستاذيات. ولمّا كانت النتائج الأوّلية مؤكدة لتوجّه الناجحين في الباكالوريا أغلبيّا نحو اختيار شهادة الأستاذية بدلا من الإجازة الجديدة، وبالتالي مُخيّبة لآمال من كان يتوقّع أن “إصلاح إمد” سيُعطي أُكله مباشرة بعد الشروع في إنفاذه بما يبرّر وجاهة الاختيار وسلامته، تمّ التشكيك في سلامة الأرقام فأعيد الاحتساب من جديد لتستقر نتائجه على نفس ما عبّر عنه المسح الأوّل، فلم تبق لديهم أية ذريعة سوى تسجيل ذلك على حساب ضعف الإعلام وجهل الأغلبية الساحقة من الأولياء بمزايا النظام الجديد… “وعلى أية حال توة نزيدوها شوية نسبة الإقبال على الإجازات في التدخلات الإعلامية دون تقديم أرقام دقيقة حول المسألة” … كانت هذه هي الفتوى التي أوجدوها للخروج من المأزق.

المثال الثالث : مشاركة التلاميذ التونسيين في تقييم “بيزا”  الدولي

كانت تونس من أولى الدول العربية التي تشارك في البرنامج الدولي لتقييم الطلاب “بيزا”، وذلك منذ سنة 2003، وهو تقييم دولي لقيس قدرة الطلاب في سن 15 عامًا (أي نهاية السنة التاسعة أساسي لدينا) على استخدام معارفهم ومهاراتهم في القراءة والرياضيات والعلوم لمواجهة تحديات الحياة الواقعية كل 3 سنوات. سنة 2015 احتلت تونس المرتبة 65 على 70 دولة مشاركة في الاختبارات (رتبة تقاسمتها تونس مع لبنان ضمن هذا التقييم الذي شمل عيّنة من 540 ألف تلميذ من مختلف أنحاء العالم).

وبدلا من مُواجهة الأسباب العميقة التي أدّت إلى تصنيف تلاميذنا التونسيين في ذيل الترتيب العالمي وهو مؤشر تُنكّس له الأعلام الوطنية لأنه يعكس وضع الوهن الموجع الذي باتت عليه منظومتنا التربوية، اختارت دولتنا أن تُقاطع هذه المحطة التقييمية الكونية مُفرغةً المحرار من زئبقه وضخّه ضمن خطابها الرسمي القائل بأن المؤشرات التي ينبني عليها التقييم صُنعت على مقاس التلميذ الأوروبي والسنغافوري والياباني وليس على مقاس التلميذ التونسي الذي يدرس ضمن بيئة خصوصية ووفق برامج ومناهج خصوصية !

المثال الرابع : 0.4 نسبة نموّ ليست من شِيمنا

دوّن المؤرّخ الجامعي نورالدين الدڨي على صفحته الرسمية يوم 23 مارس ما يلي :

“المعلوم أن المعهد الوطني للإحصاء لا يستنبط الأرقام؛ وليس مطلوبا منه تزويقها؛ فمهمته حسب نصوصه الـتأسيسية : “جمع المعلومات الإحصائية الخاصة بالبلاد و معالجتها و تحليلها و نشرها بالتنسيق مع الهياكل العمومية الأخرى”، وما نشره المعهد مؤخرا عن نسبة النمو الاقتصادي بتونس لسنة 2023 التي حددها ب 4 .0 بالمائة، وعن نسب البطالة : 4 .16 بالمائة، هو انعكاس أمين لقدرات الجهاز الإنتاجي الوطني…”

لكن وكما أسلفنا بالنسبة إلى الأمثلة السابقة، بدلا من مُعالجةٍ رصينة ومتأنية للأسباب الحقيقية والعميقة التي أدّت إلى هذه النتائج الموضوعية، تمّ اللجوء إلى إجراء تحوير على رأس هذه المؤسسة الوطنية ذات الطابع التقني والخِبري الصرف التي ظلّت علاقتها بصاحب القرار السياسي على مرّ السنوات منذ تأسيسها سنة 1969 مُتأرجحة بين نشر الأرقام كما هي أو في أسوإ الأحوال التعتيم عليها وعدم الإدلاء بها قصد التداول العام ولكن (وحسب شهادة عديد الكفاءات التي مرّت بنهج الشّام وتعمل اليوم بمؤسسات دولية وإقليمية مرموقة) لم يحدث أن تمّ تزوير الأرقام أو التلاعب بها.

أستعيد في النهاية ما قاله أحد المفكّرين “يمكنك أن تراوغ رجال الشرطة لكنه من الصعب جدا مراوغة بداهة الإحصائيات”.

.

أكمل القراءة

جور نار

إنت وما جاب العود… عن مسلسلات رمضان

نشرت

في

أخبار مسلسلات رمضان 2024: مواعيد عرض مسلسل فلوجة 2 بطولة ريم الرياحي في  رمضان 2024 والقنوات الناقلة - المشهد

عبد القادر المقري:

لي شبه يقين أن مسلسلاتنا التونسية (تماما كسينمائنا) محظوظة حظا يكسر الحجر كما يقال … فهي أقرب ما تكون إلى تلاميذ ذات فترة من عمر وزارة التربية، وهي تجربة المقاربة بالكفايات … لا أحد يأخذ صفرا، لا أحد يسقط في امتحان، لا أحد يعيد عامه، ولا أحد يتم طرده لضعف النتائج …

عبد القادر المقري Makri Abdelkader
عبد القادر المقري

بل لا قياس أساسا لأي جهد … الكل ناجح، والكل ممتاز، والكل متفوق، والكل نابغة بني ذبيان … والدليل أننا عند نهاية مهرجان من مهرجاناتنا أو عرض فيلم من أفلامنا، لا تسمع سوى الشكر، ولا تقرأ سوى المدح، و لا ترى سوى الحمد على نعمة السينما والذين أدخلوها إلى تونس … تماما كما يحصل عقب كل رمضان مع أعمالنا الدرامية، إن وُجدت … فدائما عندك جوائز لأحسن عمل، وأفضل مخرج، وأبرع ممثل، و أقوى سيناريو، وأكبر وأجمل وأبهى وأمتع وأروع … يا دين الزكش، كما يقول صديقي سلامة حجازي … يعني كل بلاد العالم (بما فيها هوليوود وبوليوود وقاهرة وود ودمشق وود) تنجح فيها أعمال وتفشل أعمال، إلا عندنا فيبدو أننا الفرقة الناجية …

… أو فرقة ناجي عطا الله !

هذه السنة، أتاح لي زميل مسؤول بإحدى الإذاعات أن أتفرج على قسم كبير من مسلسلين تونسيين مرة واحدة… قلت أتاح لي بعد أن رجاني مشكورا أن أدلي برأيي في هذا وذاك، وأنا اليائس منذ أعوام من مستوى مسلسلاتنا خاصة حين جنح معظمها إلى تقليد عمل أعتبره كارثة فنية بكل المقاييس، وهو مسلسل “مكتوب” … وصار الكل يستنسخ منه استنساخ أهل الغناء والمسرح لعرضي النوبة والحضرة طوال الثلاثين سنة الأخيرة … وكيف لا يفعلون وهم وجدوا الوصفة السهلة التي لا تكلّف تعبا ولا وجع رأس … فمثلما بإمكانك أنجاز “عرض” فني لا نص فيه ولا فكرة مبتكرة بل تكديس جملة من أغاني التراث وإلصاق بعضها ببعض، بإمكان الواحد أن “يبيض” مسلسلا لا قصة فيه ولا حوار ولا سيناريو… فقط عندك ركام من عارضي وعارضات الأزياء، يقولون في ما بينهم كلاما من الحزام فما أدنى منه، ويعيشون في بذخ لا تحلم به أميرة خليجية، ويستبيحون القوانين أصغرها وأكبرها، ولا قيم توقفهم ولا منطق ولا نواميس مجتمع … عكعك وهي حالّة معك، كما يردد شباب هذه الأيام …

إذن أخذا بخاطر صديقي، تفرجت صاغرا في اثنين من أعمالنا المعروضة لرمضان هذا العام، قائلا لعل الأمور تحسنت عمّا تركتها، وربما ظلمت مبدعينا الفتيان وهم يفتحون البلدان ويغزون الفضاء في غفلة مني … وبما أن ذلك فاتني على المباشر، فقد لجأت إلى التساجيل التي تبث على الإنترنت، وأطوي الأرض طيا حتى أرى أكثر ما يمكن ولا أتسرع في الحكم على أحد … رأيت إذن جزءا كبيرا من مسلسل “فلوجة 2” على الحوار التونسي، وجزءا مماثلا من “رقوج 1” (بما أنهم يبرمجون لجزء ثان على ما سمعت) … وأعطيت رأيي في حدود ما شاهدت، وواصلت بعد ذلك باقي الحلقات حتى تكتمل الفكرة وأكون بدوري من المحتفلين ختاما بأفضل عمل وممثلين ومخرجين إلى آخر الليستة … وعلى حق …

نبدأ بفلّوجة … هو أولا استمرار لقصة السنة الماضية التي أثارت أكثر من ضجة لدى رجال التعليم ونسائه … والسبب أن احداث المسلسل تدور في وحوالي معهد ثانوي فيه كل شيء إلا الدراسة … مخدرات في قارعة الطريق، علاقات جنسية بوها كلب بين الجميع والجميع، ولادات خارج إطار الزواج وغير ذلك … والعجيب أن احتجاج المربين قابلته عاصفة تبريرية كانت دائما السند الرئيسي لسامي الفهري ومسلسلاته … من نوع: أليس هذا واقعنا؟ ألا تحدث يوميا مثل هذه الفضائح؟ هل ما زال عندنا تعليم؟ ألم يهبط مستوى مؤسساتنا التربوية منذ زمن؟ هل نغطي عين الشمس بالغربال؟ أما كفاكم نفاقا؟؟ … ويصل التبرير إلى ذروته بالتهجم على الأساتذة أنفسهم … “ماهي جرايركم” … “ما هو من جرة” انغماسكم في الدروس الخصوصية وإهمالكم لعملكم الأصلي … “ماهي نقاباتكم” وإضراباتكم ومطالبكم وزياداتكم المتلاحقة، وبسببها أفلست المعاهد وصارت بؤرا فاسدة، فيما هرب الجميع إلى التعليم الخاص… وغير ذلك وغير ذلك …

ولم يقل أحد من هؤلاء لسامي الفهري: وأنت، ما غايتك من الترويج لهذه المظاهر؟

وبقطع النظر عن صحة كل هذا في المطلق، والإحصائيات التي ما زالت لصالح التعليم العمومي في الباكالوريا وغيرها مهما حصل … فإن هذا التعميم يظلم كثيرا من أهل التعليم الأوفياء وجهدهم في إنجاح تلاميذهم وتمكينهم من مستوى جيد دون مقابل عدا مرتب شهري بعرق الجبين … كما يحط هذا التقييم الشمولي من قدر أبنائنا وبناتنا المربين والمربيات الأشراف وأغلبهم يتمسك بفضائلنا وأخلاقنا … فهل كل أساتذتنا متحرشون بتلميذاتهم كما في المسلسل، وهل كل أستاذاتنا ومديرات معاهدنا شغلهن الشاغل إقامة علاقات جنسية مع هذا التلميذ أو ذاك الرجل العابر؟ …

وحتى إن حصلت بعض حالات فماذا تمثل نسبتها؟ 1 بالمائة؟ اثنان؟ ثلاثة بالمائة ولا أعتقد ذلك وسط مئات آلاف من منظوري وزارة التربية … ومن يقول أكثر عليه بإجبار الوزارة على التحقيق العاجل ويكون معها فيه، ثم أين منظمات الأولياء والتربية والأسرة؟ لو كانت معاهدنا على شاكلة معهد سامي الفهري، فمن الأحرى غلق مؤسساتنا التعليمية وإحالة ميزانية الوزارة نحو قطاعات أكثر احتياجا كالشؤون الاجتماعية أو الثقافة أوالفلاحة والصيد البحري … بل ربما نضع كل ما نملك بين يدي الأمن والقضاء حتى يقضيا القضاء المبرم على الداء الذي استفحل ويهدد بنسفنا من الجذور …

فلوجة في جرئه الثاني لم يشذ عنه في الجزء الأول … لا بل هو يستمر في شذوذه الآخر … عن كل ما هو مجتمع وأعراف وقيم ولنقُلْ أيضا، مسؤولية … فالعمل الدرامي ليس مجرد نقل للواقع (هذا إذا كان واقعا) بل فيه طرح ورسالة وتأثير مباشر خاصة مع طغيان الصورة ووسائل الاتصال الحديثة … الفهري ومرؤوسته سوسن الجمني، يتملّحان طولا وعرضا بما يمكن أن ينتج في مجتمعنا من تغيير سلوكات جراء ما يعرضانه في كل مسلسل …

ـ يتبع ـ

أكمل القراءة

جور نار

هل ستقع المواجهة بين إيران والكيان الصهيوني؟

نشرت

في

الرابطة الدولية للخبراء والمحللين السياسيين - هل تملك اسرائيل ان توجه  ضربتها الى إيران؟

لم تكن التهديدات من هذا الطرف او ذاك توحي بخطر شن حرب بين إيران و اسرائيل، ذلك ان طهران كانت عمليا تتفادى مواجهة مباشرة مع اسرائيل المدعومة من الولايات المتحدة وتعي بان الكيان اللقيط لا يعدو أن يكون إحدى ثكنات القوة الأعظم.

محمد الزمزاري Mohamed Zemzari
محمد الزمزاري

و لم يتهور الايرانيون المعروف عنهم العمل بصمت و عقلانية و تقبل بعض الخسائر المفترضة و المنتظرة مقابل تنويع مواطىء اقدامهم و تركيز مواقع قد تخدمهم لاحقا دون أي تسرع عاطفي ممثل في رد فعل غير محسوب الهدف او النتائج … لقد دفعت إيران قرابين كثيرة منذ التسعينات ضحايا لاغتيالات الموساد و المخابرات الأمريكية المتعاونة من تفجير مراكز نووية إلى اغتيال علماء او قيادات عسكرية هامة و الظاهر ان الإيرانيين يرسمون أهدافهم الاستراتيجية على المدى الطويل والتي يعتبرونها اهم بكثير من صراعهم مع الكيان الصهيوني… وقد نجحت لحد الان السياسة الإيرانية في تركيز اذرع في عدد من البلدان العربية ذات مكانة استراتيجية هامة مثل سوريا و العراق ولبنان و اليمن، وهي ساعية اليوم لغرس امتداد لها بالأردن، كما عمدت خلال هذه الأسابيع إلى دعم حكومة السودان ومدها بالطائرات المسيرة التي قلبت موازين المعارك ضد قوى الدعم السريع.

لكن الحدث الذي جد اخيرا و الذي تمثل في ضرب الصهاينة للقنصلية الإيرانية بسوريا والقضاء على واحد من اكبر القيادات الحربية و التنسيقية قد يؤجج ما كان كامنا بين الكيان وطهران. فإسرائيل ترغب منذ سنوات في توريط حلفائها الأمريكان في حرب ضد إيران وقد تراءت لنتنياهو فرصة سانحة للدفع نحو هذه الحرب المرغوب فيها اولا و لتمديد بقائه في الحكم و إتمام خططه النازية من تهجير و مجازر و تدمير لغزة و لاحقا للضفة الغربية، وهنا لم يبق لإيران بد من رد فعل قوي لحفظ ماء الوجه و تأديب الكيان الذي تجاوز الخطوط الحمراء و ضرب القنصلية الإيرانية التي تمثل سيادتها و صورة قوتها أمام الجميع وخاصة لدى اذرعها وأنصارها في المنطقة.

ومنذ ساعات أعلنت المخابرات الروسية عن تحديد ضربات او حرب خاطفة ممكنة الوقوع قريبا جدا و دعت مواطنيها لملازمة الحذر بالشرق الأوسط وخاصة بالكيان الصهيوني و منذ اكثر من ساعة دعت الولايات المتحدة مواطنيها في الأرض المحتلة وتل أبيب خاصة الى نفس الحذر. اذن فالوضع قابل جدا لوقوع حدث هام مدمر ليس باسرائيل فقط لكن أيضا بايران اعتمادا على ان الكيان الصهيوني يرغب فعليا في خلق مواجهة مع ظهران ستقودها الولايات المتحدة دون شك.

هل ستصدر الضربة الإيرانية انطلاقا من قاعدة احد اذرعها؟ هل سيكون الهدف محطة ديمونة النووية او ايلات او تل ابيب؟ اظن ان ضرب تل أبيب مستبعد مما يبعث على الظن بان الهدف المحتمل هو: إما إحدى السفارات الاسرائيلية في بلد خليجي او قصف إحدى المدن او المطارات الكبرى بالكيان الصهيوني. فيما يبدو أن الولايات المتحدة لا ترغب حاليا في خلق بؤرة حرب جديدة مكلفة قبل انتخابات نوفمبر القادم و لن تصل اية ضربة مهما كانت صدمتها إلى دفع بايدن إلى رد فعل ضد إيران …

أكمل القراءة

صن نار